الدكتور هيثم عبدالكريم احمد الربابعة منذ إنتهاج سياسات تحرير السوق النيوليبرالية في أوائل الثمانينيات، أصبحت الجامعة أكثر فأكثر موضوعاً لمبادرات الإصلاح المتتالية، مع التركيز المتزايد على قابلية توظيف الخريجين بدل إحتضان الحركات الداعمة لقضايا الحراك الإجتماعي والمرفق العمومي، والمعتمدة على منهجيات النقد الفكري.

وعلى ضوء ذلك، جرت التضحية بالمبادئ الأساسية التي تحكم الجامعة كفضاء لحرية البحث يساهم في الصالح العام والجدلية العلمية والأصالة والتفكير الناقد، لتطوير سوقٍ للإستشارة يلجأ إلى خدمات الخبراء، أو عبر خلق هياكل خارج الجامعات تمارس النشاط البحثي . وقد هُيئ لذلك بالترويج في المنابر الإعلامية ذات الطابع الرسمي للأزمة البنيوية للجامعات الأردنية وعدم إنسجام المعرفة المدرّسة في الجامعات مع متطلبات السوق. كما أنّ مشاهد الإعتصامات وإحباط الخطة التدريسية غذت الشعور لدى الفاعلين السياسيين بأّن إستمرار الجامعة كساحة للنضال وكمعقل للمعارضة الفكرية يعمق الإشكالات الإجتماعية، وبأنّ إعتماد المسارات المهنية والشهادات الموجهة للسوق يعتبر مفيداً للنخبة الحاكمة، لضبط وتوجيه توجهات الطلاب والباحثين على حد سواء. من الواضح أنّ كثيراً من المثالب تعتري البحث العلمي وموارده المالية، حيث أنفق الأردن حوالي .30 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي على البحث العلمي على مدار عشرة أعوام خلت، وهي ميزانية هزيلة بمقياس المعايير الدولية(IRES, 2019) . كما أنّ الميزانية المخصصة لمشاريع البحث في مجال العلوم والتقنيات من المركز الوطني للبحث العلمي والتقني تفوق عشر مرات التمويل المخصص لمشاريع البحث في العلوم الاجتماعية والإنسانية سنة 2020. وتفاقم هزالة التمويل النقص في المختبرات الجادة والمعدات المسخّرة للبحث، وكذلك في المجلات العلمية الرصينة. كما تؤكد تكلفة نشر الكتب والوضعية السيئة لمكتبات الجامعة على تهميش دور الجامعة وإجهاض المبادرات البحثية، حيث يضطر كثير من أعضاء هيئة التدريس للذهاب إلى المكتبة الوطنية في عمان أو إلى مكتبة الجامعة الأردنية للحصول على المراجع والمطبوعات إن وجدت. ولعل من المناسب أن نشير إلى أنّ تقرير “البحث العلمي في الأردن” سنة 2017 خلص إلى أنّ إنتاج أبحاث العلوم الإجتماعية يعتمد على جهود الباحثين الفردية، بدل الإشتغال ضمن فرق بحث منظمة. كما أنّ الأساتذة البارزين في مجال البحث العلمي يهملون تكوين الأجيال الصاعدة من الطلبة الباحثين، مفضلين التوجه نحو خدمات الإستشارة لقاء مقابل مادي، لتلبية حاجياتهم الوظيفية والخاصة ولتوفير موارد العيش والرفاه لأسرهم، ما يعمق الإنفصام بين جهود التفكير والفضاء الجامعي المبني على المساواة والمعرفة للجميع. كما أنّ ضخامة الإلتزامات التدريسية وإكتظاظ المدرجات بالطلبة يحدّان من مردودية هيئة التدريس، ويعيقان إجراء الأبحاث ونشرها. وهنا لا بد من الإشارة إلى أنّ محاور إهتمام باحثي العلوم الإجتماعية ترتبط بـعدد محدود من الموضوعات التي يتم تناولها عادة في المؤتمرات والندوات: الحوكمة، التنمية، النوع الإجتماعي، السياسات العمومية، المجتمع المدني وحقوق الإنسان. والواقع أنّه منذ التسعينات، همشت الدراسات الأكثر تعقيدًا والمتعددة التخصصات، وأهمل تمويل العلوم الاجتماعية. وفي المقابل، يحيل إنشاء الجامعات الخاصة، كما هو حال جامعة الحسين المتعددة التخصصات التقنية، إلى تحويل التعليم، وفق نطاق السوق، نحو المقاولة والإبتكار والبعد الآسيوي للأردن من بين مجالات أخرى. كما تستقطب هذه الجامعة الخاصة مجموعة من الباحثين. غير أنّ انتقائيتها وتبعيتها للقطاع الخاص، من شأنهما أن يعززا نخبوية التعليم وازدواجيته (تعليم النخبة وتعليم الطبقات المسحوقة) التي بزغت في فترة قريبة، بدل إرساء المساواة والإستقطاب المفتوح. كما أنّ خصخصة البحث العلمي والإفتقار إلى التمويل اللازم للأبحاث الجامعية العمومية قد حدثا بالتوازي مع الإنتشار الكبير للكليات المهنية الخاصة. وقد بُرّر ذلك بجودة التدريس مقارنة بالجامعات العمومية، لكن الملاحظ أنّ المؤسسات الخاصة دائماً ما تفتقر هي أيضاً إلى برامج أبحاث واضحة، بإستثناءات معدودة. إنّ منطق هذا النموذج هو منطق إقتصادي في الأساس. وهو ينظر إلى المعرفة على أنّها رصيد إقتصادي نادر، له تكلفة فردية وإجتماعية وعوائد، ويعاملها أساساً بإعتبارها “سلعة” في “إقتصاد المعرفة”، حيث تنتَج المعرفة وتنشَر لأغراض إقتصادية، وتسخر لخدمة القدرة التنافسية للمنشآت الإقتصادية، ما يؤدي إلى إعادة تنظيم شاملة لإنتاج ونشر المعرفة وفقاً لمعيار السوق ومنطق الشركة. إنّ الأولوية المعطاة للبحث التطبيقي والمسارات المهنية، وكذلك التركيز المتزايد لسياسات التدريب والتعليم العالي على التسويق والمعلوماتية والتدبير الإداري، يؤديان أيضاً إلى التركيز على المجالات ذات الأهمية القصيرة المدى (تغليب المصلحة الفورية). ويمكن القول إنّ واحدة من أهم المشكلات الناتجة عن خصخصة مراكز البحث تتجلى في أنّ الأبحاث المنتجة توفر بيانات محدودة ليس لها مرجعيات وأطر نظرية، تستطيع توليد أفكار وسياسات بديلة. إنّ إعتماد إتجاهات خصخصة التعليم العالي والبحث العلمي ليست حكراً على الأردن. ففي معظم دول العالم، يشهد البحث في العلوم الإجتماعية تحولات جذرية في ظل “الروح الجديدة للرأسمالية” والتي تُظهر مدى هيمنة الحقلين الإقتصادي والسياسي. فسياسات البحث التي تضعها الجهات الحكومية ومؤسسات التعاون الأجنبية تعكس إهتمامات الممولين الدولية والتجارية. ومن ثم، فقيام الجامعة بدورها الإجتماعي باستقلالية رهين بتقلبات السياسة الدولية أيضاً. كما أنّه يتعزز في منطقة الشرق الأوسط الإفتراض بنهاية الجامعة كفضاء عمومي . حيث يطغى النموذج السياسي على حوكمة الجامعات العربية بشكل عام وتنحسر الحريات الأكاديمية وتضيق آفاق المشاركة، وتتعثر سبل توليد الأفـكـار الجديدة الـضـروريـة للتغيير الاجـتـمـاعـي. الخاتمة: من خلال التطرق إلى أدوار مراكز البحث في الأردن في إنتاج المعرفة، يمكننا القول مبدئيا إنّ واقع هذه المراكز يعبّر عن واقع البحث العلمي والمعرفي في الأردن، وهو واقع يشكو خصاصةً في الحرية والإستقلالية. ذلك أنّ جلّ المراكز التي تشتغل في مجال السياسة الخارجية تتلقى توجيهات من الدبلوماسية الرسمية بإعتبار أنّ مجال السياسة الخارجية الأردنية يظل مجالاً خاصاً ومحفوظاً للملك، لتنحصر أدوار هذه المراكز في خدمة توجهات الدبلوماسية الرسمية ومساندتها وخلق نمط وحيد من المعرفة. وبإشراك هذه المراكز في قرارات السياسة الخارجية، يتم التأكيد على دور الخبرة التكنوقراطية التي تخضع لمراقبة الدبلوماسية الرسمية. إلى جانب الإشكالات التي تعتري عمل مراكز البحث في الأردن، تعرف الجامعات الأردنية  عدة معيقات ساهمت في تهميش دورها في إنتاج المعرفة، وهو دور يعتمد على جهود الباحثين الفردية، بدل الإشتغال ضمن فرق بحث منظمة. كما أنّ خصخصة البحث العلمي والإفتقار إلى التمويل اللازم للأبحاث الجامعية العمومية عاملان ساهما في إنتاج معطيات مجردة من المرجعيات والأطر النظرية، القادرة على توليد أفكار وسياسات بديلة.

 

أستاذ اللسانيات الحديثة المقارنة والتخطيط اللغوي

المصدر: رأي اليوم

كلمات دلالية: البحث العلمی فی الأردن البحث فی کما أن

إقرأ أيضاً:

بـ تصنيف شنغهاي.. بني سويف بقائمة أفضل 500 جامعة عالميا في العلوم البيطرية

 

أعلن الدكتورمنصور حسن رئيس جامعة بني سويف، اليوم، أن الجامعة ضمن أفضل 500 جامعة عالميا  حيث حققت المرتبة 151-200 عالميا في العلوم البيطرية و المرتبة 301-400 عالميا في العلوم الصيدلانية  ، كما حققت المرتبة 401-500 عالميا في العلوم الزراعية، وذلك وفقاً لتصنيف شنغهاي للتخصصات الأكاديمية "Global Ranking of Academic Subjects, GRAS" لعام 2024.

محافظ بني سويف: إقامة 10 منافذ لبيع البيض بسعر 150 جنيها للكرتونة محافظ بني سويف يطالب باستمرار روح الفريق الواحد لتحقيق المزيد من الانجازات

 

وأضاف رئيس الجامعة ، أن تصنيف شنغهاى للتخصصات الأكاديمية يعتمد على عدد من المؤشرات لقياس الأداء وهي عدد الأبحاث المنشورة في مجلات الربع الأول المؤثرة (Q1)٬ تأثير الاقتباس CNCI ويعتمد علي نسبة الاستشهادات بالمقالات المنشورة في موضوع ما إلى متوسط عدد الاستشهادات في هذا الموضوع٬ مستوى التعاون الدولي (International Collaboration)، عدد المقالات المنشورة في أفضل المجلات في التخصص الأكاديمي (TOP) والجوائز الهامة التي حصل عليها الباحثون بالكلية (AWARDS).

فيما أشارت الدكتورة سما الدق مدير مكتب التصنيف الدولي والتنمية المستدامة أن تقدم الجامعة في التصنيفات الدولية المختلفة  يرجع للإجراءات الإيجابية خلال الفترة الماضية، أهمها دعم البحث العلمي للجامعة ودعم الباحثين ، وكذلك التدريب على النشر الدولي، بالإضافة إلى ما تقوم به الجامعة من تحفيز للباحثين بكافة الدرجات العلمية للنشر في المجلات الدولية المتميزة، وإتاحة مصادر المعلومات للباحثين عبر شبكة الإنترنت، والتعاون مع بنك المعرفة المصري

مقالات مشابهة

  • لقاء الأردن التاريخي رؤية الحراك التهامي السلمي في تعزيز مكانة تهامة إقليميا ودوليا وذات أبعاد استراتيجية .
  • جامعة عين شمس تعرض إنجازاتها فى مجال حساب البصمة الكربونية بمؤتمر COP29
  • أ.د بني سلامة يعلّق على إنجاز اليرموك الرائد في علاج السرطان
  • اليرموك تُسجل براءة اختراع لتركيبات صيدلانية
  • مجدي بدران: الدولة تهتم بمجال الرعاية الصحية عبر دعم البحث العلمي
  • “الغويل” يكرم رئيس ديوان مجلس النواب تقديرًا لجهوده في دعم البحث العلمي
  • بـ تصنيف شنغهاي.. بني سويف بقائمة أفضل 500 جامعة عالميا في العلوم البيطرية
  • إدراج جامعة بني سويف ضمن أفضل 500 جامعة عالمية في تصنيف شنغهاي
  • إطلاق مبادرة الباحث الصغير لتنمية البحث العلمي لدى الطلاب بجامعة بنها
  • رئيس جامعة بنها: إطلاق مبادرة الباحث الصغير لتنمية البحث العلمي لدى الطلاب