المؤرخ الفلسطيني حسام أبو النصر يكتب: غزة تفقد تاريخها
تاريخ النشر: 15th, December 2023 GMT
ما إن دخلت الهدنة ساعاتها الأولى ووضعت الحرب أوزارها، حتى بدأ مَن يستطيع الوصول إلى منطقته، فى تفقُّد ما تبقى من بقايا المنازل، وبقايا الذكريات، وبقايا جثث الشهداء الملقاة على الأزقة وتحت الركام، ليتكشف لنا الجانب الآخر من العدوان والذى أظهر استهداف التاريخ والهوية وليس الإنسان فقط.
ولقد بدأتُ العمل منذ أول يوم للحرب فى متابعة ورصد استهداف المواقع الأثرية والتاريخية فى ظل غياب متابعة ذلك وانتباه العالم لحجم العدوان على الإنسان، فكان لا بد أيضاً من التركيز على هذا الجانب، فتبين خلال تقرير أعددته حول العدوان على الآثار استهداف أكثر من ٣٠ موقعاً أثرياً بين دمار كلى وجزئى، منها الجامع العمرى فى جباليا، وجامع سليم أبومسلم واللذان دُمرا بالكامل، فى حين تم استهدف المستشفى المعمدانى ودُمرت أجزاء منه، وكنيسة بروفيريوس حيث دمِّر مجلس وكلاء الكنيسة بالكامل، وبيت السقا الأثرى بالكامل، فيما تم إلحاق أضرار كبيرة بخمسة متاحف: الخضرى، والعقاد، وقصر الباشا الأثرى، وشهوان، متحف خان يونس، والتى تضم قطعاً أثرية تعود للعهد الكنعانى، واليونانى والرومانى، والبيزنطى، والإسلامى، فيما لم تسلم أهم مكتبات غزة من هذا العدوان الذى يذكّرنا بزمن المغول والتتار، فأحرقت مكتبة جامعة الأزهر، ومكتبة الجامعة الإسلامية، ودُمّر جزء من مكتبة مركز التخطيط التى تأسست ١٩٦٥م، ومكتبة العباس التى تضم كتباً حجرية وبعض المخطوطات التاريخية، فيما شمل القصف الجامع العمرى فى غزة الذى يضم المكتبة العمرية ولا يُعرف مصيرها حتى الآن، فى مشهد يحيلنا إلى العصور الوسطى، لتُدفن الكتب مع الشهداء، وترثى الكلمات الكلمات، وسط صمت عالمى على كل هذه الجرائم التى لم تشفع ولم توقف سقوط ١٤ ألف شهيد.
فكيف للقوانين الدولية أن تمنع أيضاً وقف تدمير كل ما يشكل دليلاً على الوجود الحضارى والإنسانى لشعب فلسطين الكنعانى، الذى أثبت تجذُّره على مر العصور، وقد أشارت إلى ذلك مخطوطات تل العمارنة المصرية التى خلَّدت اسم ١١٩ مدينة كنعانية، وأيضاً التوابيت التى سُرقت بعد عام ١٩٦٧ وأشرف على ذلك «ديان» ضمن حفريات دوثان فى منطقة دير البلح ونُقلت للمتاحف الإسرائيلية، وتبقى منها بقايا قناع كنعانى على الطراز الفرعونى، الذى تعرض أيضاً للعدوان بعد حرب أكتوبر، فيما الحلى والأدوات التى وُجدت تدل على العلاقة الكنعانية الفرعونية، والنتيجة أن إسرائيل استباحت كل ما هو فلسطينى فى غزة، ولم تحترم اتفاقيات جنيف الدولية، حتى القصف طال كلاً من جهاد المصرى وهو مؤرخ فلسطينى، وعائد أبوجياب ورمزى حمودة ممن يعملون فى مجال الأبحاث التاريخية، فى بيت القدس للدراسات والبحوث الفلسطينية، ومروان ترزى وهو مؤرشف فوتوغرافى لتاريخ فلسطين وخاصة غزة، بل واستشهد الشعراء والأدباء والكُتاب والفنانون، ولقد طال القصف نصباً تذكارياً لشهداء مصريين وآثارهم فى غزة، ولم تسلم مواقع تل رفح وميناء أندوثيون فى الشاطئ من العدوان، وهما من أقدم المواقع الأثرية، وعلى مر العصور تعرضت غزة للتدمير والغزو، ولكن لم تشهد أبداً من قبل حجم هذا الدمار الذى يعادل أكثر من قنبلة ذرية، هدم أكثر من ٤٥% من مبانى القطاع، كل ذلك يؤكد محاولات الاحتلال مسح غزة عن الخارطة، كما تمنوا يوماً أن يبتلعها البحر، لكن ظلت عصيةً عليهم، لتكتب دماء الشهداء من جديد تاريخ فلسطين الذين حاولوا طمسه لصالح الرواية الإسرائيلية واستكمالاً للاستعمار الذى يشمل تهويد التاريخ والثقافة والإرث الفلسطينى.
المصدر: الوطن
كلمات دلالية: انتهاكات الاحتلال الإسرائيلى التراث الفلسطينى 7 أكتوبر اليونيسكو
إقرأ أيضاً:
فيما القسام تنشر فيديو “الوقت ينفد”.. حكومة نتنياهو تتقدّم خطوة وتتراجع خطوتين
يمانيون/ تقارير يحل شهر رمضان المبارك مجدّدًا ضيفًا على غزة والضفة؛ وسط الجوع والخوف وانعدام الأمن، والعالم يراقب بصمتٍ مريب، ورغم الظروف المأساوية التي خلّفها العدوان الصهيوني المتواصل منذ 511 يومًا، تصر غزة على المقاومة والكرامة، وتستمر المقاومة بأشكالٍ مختلفة، مهدّدة العدوّ بكلمة: “الوقت ينفد.. لن يعودوا إلا بصفقة”.
وفيما تواصل قوات الاحتلال الإسرائيلي تدمير غزة والضفة، مستبدلة العدوان العسكري على غزة بعملياتٍ في الضفة، في انتهاك صارخ لوقف إطلاق النار، وكل الاتّفاقات الموقعة يطالب الكيان حماس بتنازلات إضافية، متجاهلًا كُـلّ خروقاته.
وفي خطوةٍ عدَّها مراقبون بأنها تستهدف دول الطوق العربية، يحاول كيان الاحتلال إخلاء ثلاث مخيمات شمالي الضفة الغربية المحتلّة، ويسعى لوقف أنشطة “الأونروا” هناك، ضمن مخطّط يستهدف تصفية القضية الفلسطينية، في إطار حملة واسعة لتهجير غزة وضم الضفة؛ ما يعكس استراتيجية لإنهاء قضية اللاجئين.
مرحلة “عض الأصابع” والمزيد من الرسائل النفسية:
في السياق؛ شهد الأمس القريب واحدة من أهم صفقات تبادل الأسرى مع الاحتلال، حَيثُ أُجبر على الإفراج عن معتقلين محكومين بالمؤبد، وباتت المرحلة الثانية أكثر حساسية بالنسبة له، وفيما يحاول الالتفاف على الاتّفاق بدعمٍ أمريكي، يبقى التحدي الأكبر في إدارة المراحل المقبلة حاضرًا لتحقيق أقصى المكاسب للمقاومة.
وبينما تدخل المقاومة والاحتلال في مرحلة “عض الأصابع”، يرى مراقبون أنها قد تؤدي إلى تصعيدٍ ميداني خطير؛ فمصير الجنود الصهاينة يظل نقطة خلاف أَسَاسية تحاول المقاومة استغلالها للضغط النفسي والجماهيري على حكومة المجرم “نتنياهو”، وجره بالقوة إلى طاولة التفاوض.
في هذا الإطار؛ نشرت كتائب القسام الجناح العسكري لحركة حماس، مساء السبت، فيديو جديدًا لأسرى صهاينة، بعنوان: “أخرجوا الجميع ولا تفرقوا بين العائلات.. لا تدمّـروا حياتنا جميعًا”.
وظهر في الفيديو الأسير “إيتان هورن” وهو يودّع شقيقه “يائير” الذي أفرجت الكتائب عنه من الأسر سابقًا، فيما بقي هو في أسر المقاومة بانتظار إنجاز مراحل اتّفاق وقف إطلاق النار مع المقاومة الفلسطينية.
وقال الأسير “هورن” وهو يودع شقيقه باكيًا: “أنا سعيد أن أخي سيتحرّر غدًا، لكن هذا غير منطقي بأي شكلٍ من الأشكال.. أخرجوا الجميع ولا تفرقوا بين العائلات.. لا تدمّـروا حياتنا جميعًا”.
بدوره، قال شقيقه “يائير” مخاطبًا حكومة الاحتلال: “هل تريدون ترك أخي الصغير ليموت؟”، وحمّل “هورن” شقيقه رسالة لأبيه وأمه والجميع بأن يستمروا في التظاهرات ولا يتوقفوا، وأن توقع الحكومة على المرحلة الثانية من الصفقة، بما يسمح بعودة جميع الأسرى لدى المقاومة.
وخاطب حكومته بالقول: “لا أريد أن أسمع أنكم لا تريدون الاستكمال للمرحلة الثانية”، وعبَّر عن استغرابه كيف قبلت حكومته بأن يتحرّر شقيقه وتركه هو وبقية الأسرى منذ سنة ونصف، متسائلًا: “ماذا فعلتم منذ سنة ونصف؟ كم شخصًا تريدون أن تقتلوا بعدُ؟”.
وحضَّ حكومته، بالقول: “وقّعوا على المرحلة الثانية والثالثة.. كفى للحرب.. كفى موتاً كفى تدمير حياة الآخرين”، مُشيرًا إلى أنه يأكل ويشرب وأحيانًا يكون بخير وأحيانًا أُخرى لا يكون بخير، لكني هنا أنا لست بخير”، مؤكّـدًا أن “حماس تحافظ علينا، لكن كفى، أخرجوني من هنا.. أخرجوا الجميع.. أنا لا أستطيع البقاء”.
ووجّه كلامه لرئيس حكومة الاحتلال “نتنياهو” دعاه للإسراع بتوقيع المرحلة الثانية من الاتّفاق، وقال: “وقّع يا نتنياهو، لو لديك قلبٌ والقليل من الضمير وقّع.. وقِّع اليوم”.
وكان من مفاعيل فيديو القسام الجديد أن قام المستوطنون الصهاينة وفي غضون ساعة بالتظاهر العارم في “تل أبيب”، والداخل المحتلّ لمطالبة حكومة المجرم “نتنياهو” بإتمام صفقة التبادل كاملةً.
معادلة العدوّ المألوفة ومراوغته المفضوحة:
وفيما تنتهي مساء السبت، المرحلة الأولى من اتّفاق وقف إطلاق النار في قطاع غزة، والتي دخلت حيز التنفيذ في الـ 19 من يناير الماضي، واستمر 42 يومًا، أكّـدت مصادر فلسطينية مُطلعة أن الاحتلال يرفض الدخول في المرحلة الثانية من الاتّفاق مع المقاومة أَو بدء المفاوضات حولها.
ونقلت وكالات الأنباء، عن مصادر أن الاحتلال يُطالب بتمديد المرحلة الأولى من اتّفاق وقف إطلاق النار بغزة، ويشترط تسليم عددٍ من الأسرى الأحياء والجثامين مقابل كُـلّ أسبوع تمديد، في المقابل ترفض المقاومة شروط الاحتلال وتُشدّد على التزام “تل أبيب” بالاتّفاق والدخول للمرحلة الثانية من وقف إطلاق النار.
وبحسب مراقبين، ففي مفاوضات غزة، تمضي حكومةُ كيان العدوّ الإسرائيلي وفق معادلة مألوفة، وهي خطوةٌ إلى الأمام في قاعات التفاوض، وخطوتان إلى الخلف على الأرض، إرسال الوفد الصهيوني إلى القاهرة يوحي بتقدم، لكنه في الواقع ليس إلا غطاء لمزيد من التراجع عن الالتزامات.
ويلفت المراقبون، إلى أن العدوّ يستخدم تكتيكَ المراوَغةِ المفضوحة فما يظهر في إعلان التراجع عن الانسحاب من “محور صلاح الدين”، الذي يعد انتهاكًا مباشرًا لبنود الاتّفاق، غير أن المقاومة تدركُ هذا التكتيك، لتؤكّـدَ جاهزيتها للمرحلة الثانية، وتراكم نقاط قوتها من تنفيذ المرحلة الأولى.
بدوره؛ قال المتحدث باسم حركة حماس “حازم قاسم”: إنّه “لا توجد الآن أية مفاوضات مع الحركة بشأن المرحلة الثانية من اتّفاق وقف إطلاق النار”، مشدّدًا على أنّ “الاحتلالَ يتحمّل مسؤولية عدم بدء مفاوضات المرحلة الثانية من الاتّفاق”، مُشيرًا إلى أنّ “تمديد المرحلة الأولى بالصيغة التي يطرحُها الاحتلالُ مرفوضٌ بالنسبة لحركة حماس”.
وأكّـد قاسم أنّ “الاحتلال يتهرب من الالتزام بإنهاء الحرب والانسحاب الكامل من غزة”، لافتًا إلى أنّه يريد استعادة أسراه مع إمْكَانية استئناف العدوان على القطاع، مُشيرًا إلى أنّ “الاحتلال يحاول إعادة الأمور إلى نقطة الصفر من خلال خلط الأوراق”.
وانتهت المرحلة الأولى من صفقة تبادل الأسرى بين المقاومة وكيان العدوّ، الساعة الـ 12 ليل السبت، لكن الاحتلال يسعى إلى تمديدها لاستعادة أكثر من 60 أسيرًا ما زالوا في قطاع غزة، حَــدّ زعم قادته.
وفيما يحاول المراقبون توقع ما إذَا سيسمح الوسطاء والداعمون للاتّفاق باستمرار هذه اللعبة والتراجع الإسرائيلي المتكرّر الذي سيؤدي إلى انهيار الاتّفاق بأكمله، يعتقدون أن الوصول لسيناريو التمديد قد يلبي احتياجات حكومة “نتنياهو”؛ لأَنَّ الحرب أَسَاسًا لم تتوقف، وهناك وفي كُـلّ يوم يرتقي شهداء.
وعليه؛ يمكن الجزم بأن نظرية الحرب الشاملة قد جرَّبها الاحتلال لـ 15 شهرًا، ولم تنفعه في شيء، بل تجرع خلالها أكبر الخسائر له منذ نشأته، وباتت عصاباتُه الإجرامية مُنهكة وغير مستعدة، كما يواجه ضغوطَ عائلات الأسرى الصهاينة والتي تتزايد يومًا عن يوم، أضف إليه أن المقاومةَ جاهزة أكبر مما كانت عليه قبل انتهاء الحرب والاحتلال يدركُ ذلك جيِّدًا.
نقلا عن المسيرة نت