فى البداية تعرفت عليه على أنه أحد الفنانين الهواة، الذين لا يملكون إلا الموهبة فقط، مع إجادتهم لإستخدام الوسائل التكنولوجية التى تيسر الكثير من العمليات المعقدة فى التأليف والتوزيع الموسيقى، ثم يستعينون بمتخصصين كى يكملون لهم الجانب المنقوص، فيكتبون ويصيغون لهم ألحانهم، كى يتم تقديمها بشكل محترف!..
ولكن فوجئت حين وجدته فنانا محترفا، يحرز أهدافا فى ملعب الكبار، وهو خريج كلية التجارة، ولم ينتم فى يوم من الأيام لأى مؤسسة تعليم موسيقى!.. فيتم تكليفه من كبار المتخصصين وأمهرهم بالتوزيع الأوركسترالى، فى مناسبات هامة يمثلون فيها إسم مصر!.. وتعجبت حين تناقشت معه ووجدته مدركا لأدق التفاصيل الفنية، والتى قد تغيب عن الدارسين، بسبب الإستسهال!.. ولأننى أدرك حتمية الدراسة فى هذه المجالات، وأن الموهبة وحدها لا تكف، كنت على يقين بأنه درس وتعلم، ولكن لم أتخيل أن يكون قد حصل هذا العلم بالجهد الذاتى!..وأنه لم يملك سوى الشغف والدأب، دون أن تتوفر له أى إمكانيات!..ورغم أنه لا يزال فى أوج عطائه الفنى والمهنى، إلا أن رحلة كفاحه ونجاحه أبهرتنى، ووجدتها قصة ملهمة، وخاصة فى زمننا الذى أصبح فيه الأغلبية يبحثون عن النجاح السريع، ويتعجلون النتائج دون أن يأتون بكل الأسباب!..ولد
محمد العشى فى مدينة السويس الباسلة فى عام١٩٧٧، فى أسرة مثقفة، ولكن ليس لديها إهتمامات موسيقية.. فوالده هو الكاتب الصحفى حسين العشى الذى لقب بمؤرخ المقاومة الشعبية بالسويس، والذى أسس جريدة (الوعى)عام١٩٦٦، وقام بتأليف العديد من الكتب الهامة، وعمل أيضا رسام كاريكاتير، وكان له كتابات شعرية بالعامية، وعدة أغاني في الإذاعة المصرية.. وفى نفس الوقت عمل مديرًا عامًا لشركة بتروجاس بالسويس، ثم مساعدا لرئيس الشركة القابضة للغازات)..وكان نائبا بمجلس الشورى، ورئيسا لمجلس إدارة نادي منتخب السويس..أنجب حسين العشى محمد ووفاء، ونشأ الطفلان على الثقافة والأدب وفن الكاريكاتير، وسماع عبد الوهاب وأم كلثوم وغيرهما من أساطين الغناء.. ولكن لم يزد إهتمام الأسرة الموسيقى عن المتبع فى أغلب البيوت المصرية التقليدية، فلم تتفتح عين الأبناء على آلات موسيقية من حولهما مثلا، أو يجدوا إهتماما بإقتناء إسطوانات للموسيقى العالمية..ولكن لحسن الحظ إلتحق محمد بمدرسة، كانت هى الوحيدة بالسويس التى تملك غرفة مخصصة للموسيقى، وبمجرد دخوله لغرفة الموسيقى لأول مرة، شعر بإنجذاب جارف للبيانو، وأصبح يقتنص الثوانى والدقائق، كى يداعب البيانو بأصابعه ويسمع نغماته، وتطور حبه للموسيقى وأصبح يقضى ساعات فى محاولة عزف بعض الألحان التى يحبها، وكانت المفاجأة حين أهداه والده أورج صغير بعد عودته من الحج..ولكن رغم ثقافة الأب ووعيه وسعة أفقه، إلا أنه بمجرد أن شعر بتعلق إبنه البكرى بالموسيقى وميله الكبير لها، رفض ذلك وحارب موهبته بكل قوة، وكان دائم الخلاف معه، وخاصة لصرامته الشديدة معه، كما هو متبع من الكثير من الآباء، والذين يظنون أن ذلك هو الطريق كى يرث أبناؤهم منهم القوة والصلابة.. ولم يجد الإبن سوى حضن جدته لأمه، والتى كانت تشجعه وتدعمه بقوة وتحميه، فكان بيتها هو ملاذه الآمن، وقضى فى غرفته فى منزلها -والتى ولد بها أيضا- أجمل سنوات عمره..كان حزنه شديدا عندما فقد الأورج الذى يقتنيه، ولم يستطع شراء غيره، ولم يجد أمامه سوى رسم مفاتيح الأورج على المكتب، وكان يقضى الساعات وهو يقوم بتدريب أصابعه على المكتب وكأنه بيانو!..كان محمد شغوفا بالموسيقى، محبا لكل ما يتعلق بها، فأخذ المناهج الموسيقية المقررة فى التعليم الأساسي على محمل الجد، وبدأ يتعلم قراءة النغمات والإيقاعات، ويحاول تطبيق ما يتعلمه على الأغانى التى يعرفها..وفجأة قرر أن يدخل مسابقة تابعة لوزارة التربية والتعليم عن المحافظة، فحقق المركز الثانى وهو فى الصف الأول الإعدادى، ثم المركز الأول فى السنتين التاليتين، وعلم نفسه عزف الماندولين، والجيتار، وحاول أيضا تعلم الفيولينة.. وحين أصبح فى الصف الأول الثانوى أصبحت وزارة التربية والتعليم تستعين به لتدريب الطلاب فى مدارس أخرى بالسويس، وكان يتقاضى ثلاث جنيهات عن الحصة!..ولشدة شغفه بالموسيقى وتعلمها، كان يدخر مصروفه، كى يأتى إلى القاهرة يوم الجمعة بسيارة أجرة، كل أسبوعين أو ثلاثة تقريبا، ويذهب من الموقف إلى محل بابازيان فى عماد الدين على قدمه، وفقا لوصف بعض أصدقائه الأكبر سنا، ولم يكن يشعر بأى تعب، وإستمرت تلك الرحلة لثلاث سنوات تقريبا، كى يشترى بعض النوت الموسيقية العالمية والكتب التعليمية..وكان يذهب من وراء والديه، ولكن بعلم جدته ومعونتها..أدرك محمد مبكرا أن الله قد منحه موهبة، وأراد أن يثقلها، فلم يكتف بتعلم النوتة الموسيقية، بل حاول تعليم الهارمونى لنفسه، وكان يقضى ساعات محاولا تحليل ما يقتنيه من مقطوعات عالمية، كى يفهم طريقة البناء الهارمونى، وطرق التعبير دراميا بالموسيقى..وشارك فى تكوين فرق موسيقية فى السويس مع زملائه الهواة، وكان الصدام شديدا مع والده السياسي البارز فى السويس، حين يذهب إلى إحدى الحفلات أو الأفراح ويجد إبنه فى الفرقة الموسيقية!.. ورفض الأب بشكل قاطع أن يلتحق إبنه بكلية موسيقية بعد الثانوية العامة، فإلتحق بكلية التجارة، لكنه لم يستسلم، وأصر على حلمه، فكان يذهب إلى كلية التربية النوعية بجامعة قناة السويس، ليتعلم من المعيدين والاساتذة قدر إستطاعته..وكانت المرة الأولى التى يفتخر والده بموهبته، حين أُعلن فى التليفزيون فوزه بالجائزة الأولى لقصور الثقافة على مستوى الجمهوية!..فأهداه والده أورج جديد بعد كل تلك السنوات!..لم يترك محمد أى فرصة تجمعه بالموسيقى، فشارك مبكرا فى أنشطة قصور الثقافة، ووضع موسيقى لبعض المسرحيات، وشارك فى فرق الجامعة، وكان يقوم بتدريب الكورال والفرق..وحرص دائما على التعلم وإكتساب مهارات جديدة فى التأليف والتوزيع الأوركسترالى، رغم الفرص التى أتته مبكرا بالتوزيع لكبار المطربين، ووضع الموسيقى التصويرية للعديد من الأعمال الدرامية..وكان من الممكن أن تفقده شغف الإستزادة من العلم..لكنه لم يكتف بالتعلم الذاتى للعلوم الموسيقية نظريا وتطبيقيا..وإشترى المناهج الكاملة لكليات(تيرينتى وبيركلى)الموسيقية، ووجد أن تلك المناهج كان قد تعلمها بالفعل أثناء رحلته الدوؤبة!..لذلك لم يكن غريبا بعد هذه الرحلة شديدة الصعوبة، والتى بدأت بشغف العلم لتحقيق الحلم، أن نراه أحد الأسماء الهامة فى المجال الموسيقى، ونجد إسمه بارزا فى المحافل الدولية، بما إمتلكه من شغف وإصرار وإخلاص وجدية، رغم ضعف الإمكانات!
*أستاذة بأكاديمية الفنون
المصدر: البوابة نيوز
كلمات دلالية:
الوسائل التكنولوجية
إقرأ أيضاً:
نشاط مكثف فى قصور الثقافة بالإسماعيلية
نظم فرع ثقافة الإسماعيلية عددا من اللقاءات التثقيفية، ضمن أجندة فعاليات الهيئة العامة لقصور الثقافة بإشراف الكاتب محمد ناصف، نائب رئيس الهيئة، في إطار برامج وزارة الثقافة بالمبادرة الرئاسية "بداية جديدة لبناء الإنسان".
وشهدت المدرسة الثانوية الزراعية محاضرة بعنوان "ثقافة الاستهلاك.. مظاهرها وسبل مواجهتها"، ضمن نشاط ثقافة القرية، تحدث خلالها كل من د. أسماء عبد المعبود، د. سيد حجازي، ود. محمد صبري الجاويش، عن مفهوم ثقافة الاستهلاك، وأبرز مظاهرها، مع طرح حلول لمواجهة تلك الظاهرة، من أهمها نشر ثقافة الاعتدال بما يتناسب مع أهداف التنمية المستدامة.
وتواصلت الأنشطة المقامة بإقليم القناة وسيناء الثقافي، برئاسة أمل عبد الله، من خلال فرع ثقافة الإسماعيلية برئاسة شيرين عبد الرحمن، بلقاء بمدرسة القصاصين الثانوية الصناعية بعنوان "مشروع صوامع سدس"، تناول خلاله عاطف مصطفى، موجه جغرافيا، أهمية المشروع الخاص بتخزين القمح بمحافظة بني سويف ودوره في دعم الأمن الغذائي.
وأعد بيت ثقافة التل الكبير، لقاء بعنوان "تحسين الوضع البيئي للمنشآت الصناعية وعلاقته بالتحسن البيئي"، تم خلاله مناقشة الصناعات التي تؤثر على البيئة وتتسبب في استنزاف الموارد الطبيعية، مع توضيح أثر ذلك على الفرد والمجتمع.
وقدمت مكتبة السبع آبار الثقافية محاضرة بعنوان "المشروع القومي للطرق وعلاقته بالتنمية الاجتماعية والاقتصادية للدولة"، ناقش خلالها محمد صلاح، أخصائي ثقافي، خطة الدولة لتطوير الطرق من أجل تحقيق التنمية الشاملة.