تجدر الإشارة إلى أهمية فعل القراءة وهى تجرى تحت مظلة القيم العليا؛ فالقراءة فى حدّ ذاتها قيمة معرفيّة، وستظل قيمة معرفيّة كائنةً ما كانت تلك المعرفة، سواء تمثلت فى ثقافة العقيدة والدين أو ثقافة العقل والفلسفة. ولم يكن الأمر الإلهى بكلمة (اقرأ) بالأمر الهين البسيط الذى يُستغنى عنه مع الغفلة والتردى وسقوط القيم، ولكنه كان أمراً، ولا يزال، ذا دلالة تندرج فى ذاتها فى وعى معرفى تام؛ لتشكل نظام القيم، ثم لتصبح هذه القيم فاعلة فينا أولاً، ثم تكون أفعل فى حياتنا تباعاً، ذات أثر بيّن ظاهر فى السلوك وفى الحركة وفى الحياة، لا لتنعزل بالتجاهل أو بالإهمال عن حاضراتنا الواقعيّة.
لم يكن الأمر الإلهى «اقرأ» مُجرد كلمة عابرة وكفى، ولكنه نظام معرفى موثوق بمعطيات القيم العليا، متصل شديد الاتصال بنظمها العلوية الباقية.
قد لا نتجاوز الصواب إذا نحن قلنا إنّ مردّ جرثومة التخلف فى بلادنا إلى إهمال الأمر الإلهى «اقرأ»، فكأنما الأمر يقول : اقرأ كيما تعرف؛ لأنه لو أطيع الأمر الإلهى بالقراءة، لكانت المعرفة على اختلاف مطالبها وفروعها مُحققة لدى القارئ، وتحقيقها هو العرفان (أن تعرف)، ولا مناصّ منه مع فعل القراءة على اختلاف توجهاتها وميادين النظر فيها، وتسخيرها للعقل، وتسخير العقل لها، ولكل ما يعلوها، ويعلو بالإنسان مع المعرفة، ومع القراءة، ومع العلم فى كل حال.
إمّا أن نقرأ فنعرف، وإمّا أن لا نقرأ، فتنطمس أبصارنا وبصائرنا؛ فنتخلف ويقودنا التخلف إلى أدنى درجات التّسفل والانحطاط، وليس من وسط بين طرفين.
هذه واحدة. أمّا الثانية؛ فإنّ القراءة تأتى بمعنى التحليل النقدى أو النقد التحليلي، وكلاهما قراءة على قراءة، لكن الفارق فيما يبدو أن الأول يشمل تحليل النّص المكتوب ونقد متونه وفحص إشاراته ورموزه.
والثانى: تصحيحُ لمسارات العقل فى أعماله من جهة كاتب النّص نفسه، ولذلك يتقدّم النقد فى هذه الحالة على التحليل، والمُرادُ به نقد الأدوات المعرفيّة، وأهمها وأولاها: تلافى القصور فى عملية القراءة نفسها وتصحيح مسار الذهن عن انحرافه بإزائها، ووضع الأطر التى تقوّمه فى طريقه بغير اعوجاج أو انحراف، الأمر الذى يترتب على هذا كله، أهمية التفسير من جهة وقدرة العقل على التأويل ثم التنوع فيهما بمقدار الكفاءة العقلية وتذوق المقروء والمكتوب.
وعليه؛ تصبح القراءة هى القاعدة التى يقوم عليها أساس البناء المعرفى بكل ما يصدر عنه من تفسيرات وتأويلات وتخريجات، تنصب فى النهاية فى خدمة ضروب المعرفة، وخدمة النصوص المُراد تصريفها وفق قدرات العقل فى التفسير والتأويل والتخريج. وليس بالإمكان أن يقوم النقد فى مجال من المجالات بغير قراءة واعية. فكما لا تقوم المعرفة العقلية الحصيفة بغير قراءة دائمة ينشط فيها العقل؛ فكذلك النقد الفاعل المؤثر لا يقوم إلا على شعلة القراءة ووهج العناء فيها. والناقد الجيد قارئ جيد بامتياز. والقراءة الناقدة بديهة حاضرة لا تخفى على أحد: هى ألزم سمات المنهج بإطلاق.
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: القراءة والمعرفة تجدر الإشارة اقرأ
إقرأ أيضاً:
الذكاء الاصطناعي والتعلم.. متى يكون مساعدًا ومتى يحتاج العقل البشري للتدخل؟
منذ إطلاق "تشات جي بي تي" في نهاية عام 2022، اتجه ملايين المستخدمين إلى نماذج اللغة المتقدمة للحصول على المعلومات بسرعة وسهولة. ولا عجب في ذلك؛ فمجرد طرح سؤال واحد يمنحك إجابة جاهزة ومصاغة بعناية، لتواصل يومك وكأنك تعلّمت دون أي عناء.
وبحسب تقرير نشره موقع "ScienceAlert" فإن هذه السهولة التي توفرها نماذج الذكاء الاصطناعي قد تكون سلاحًا ذا حدّين. إذ تكشف ورقة بحثية جديدة، أعدّها باحثون من جامعة بنسلفانيا، عن أدلة تجريبية تُظهر أن الاعتماد على الذكاء الاصطناعي في تلخيص المعلومات يؤدي إلى تكوين معرفة أقل عمقًا مقارنة بالتعلم عبر البحث التقليدي في جوجل.
وتستند نتائج الدراسة إلى سلسلة من سبع تجارب علمية شارك فيها أكثر من 10 آلاف شخص. طُلب من المشاركين تعلّم موضوع محدد، مثل كيفية إنشاء حديقة منزلية، ثم جرى توزيعهم عشوائيًا على مجموعتين:
الأولى استخدمت "تشات جي بي تي" أو نماذج لغوية مشابهة للحصول على المعلومات، بينما اعتمدت الثانية على أسلوب البحث التقليدي عبر "جوجل" والتنقل بين الروابط.
ولم يفرض الباحثون أي قيود على طريقة استخدام كل مجموعة لأدواتها؛ فالمشاركون الذين يستخدمون "جوجل" كانوا أحرارًا في استكشاف الروابط كما يشاؤون، بينما كان بإمكان مستخدمي "تشات جي بي تي" متابعة طرح الأسئلة والحصول على المزيد من التوليفات دون أي حدود.
بعد انتهاء عملية التعلم، طُلب من المشاركين كتابة نصائح لصديق حول الموضوع. أظهرت البيانات نمطًا ثابتًا: الذين تعلموا عبر نماذج الذكاء الاصطناعي شعروا أنهم تعلموا أقل، بذلوا جهدًا أقل في كتابة النصائح، وكتبوا نصوصًا أقصر، أقل دقة، وأكثر عمومية. وعندما عُرضت هذه النصائح على عينة أخرى من القراء الذين لم يعرفوا مصدر التعلم، قيّموا نصائح مستخدمي LLM بأنها أقل فائدة وأقل إقناعًا.
وللتأكد من أن المشكلة لا تتعلق فقط بنوعية المعلومات المعروضة، أجرى الباحثون تجربة إضافية قدّموا فيها للمجموعتين المعلومات نفسها حرفيًا، سواء عبر "جوجل" أو "تشات جي بي تي"، وكانت النتيجة ذاتها: التعلم من إجابة مُخلّصة وسهلة يقود إلى معرفة أضعف من تلك التي تُبنى من خلال البحث والقراءة والتحليل.
ويُفسّر الباحثون هذه الظاهرة بالعودة إلى مبدأ جوهري في عملية التعلم: كلما ازداد الجهد المبذول، تعمّق الفهم. فالبحث عبر "جوجل" يتطلب تصفح بعض الروابط، وقراءة مصادر متنوعة، والمقارنة بينها لتكوين فهم شخصي.
هذا القدر من "الاحتكاك" المعرفي ينتج معرفة أكثر رسوخًا. أما عند استخدام نماذج الذكاء الاصطناعي، فإن هذه المراحل كلها تُنجز تلقائيًا، ما يحوّل التعلم إلى تجربة سلبية وسريعة لكنها أقل عمقًا.
ومع ذلك، لا يرى الباحثون أن الحل يكمن في التخلي عن نماذج الذكاء الاصطناعي. بل يشددون على ضرورة استخدامها بحسب الهدف. فإذا كان المطلوب إجابة سريعة أو معلومات مباشرة، فإن الذكاء الاصطناعي يعدّ خيارًا مناسبًا. أما في حال كان الهدف تطوير فهم عميق وقابل للتطبيق، فإن الاعتماد على ملخصات جاهزة لن يكون الطريق الأمثل.
كما حاولت الدراسة استكشاف إمكانية جعل التعلم عبر النماذج اللغوية أكثر تفاعلية. ففي تجربة إضافية، استخدم المشاركون نموذجًا متخصصًا يعرض روابط للمصادر الأصلية إلى جانب الإجابة. لكن المفاجأة كانت أن وجود الملخص الجاهز جعل معظم المشاركين أقل رغبة في استكشاف تلك الروابط، وانتهى بهم الأمر إلى اكتساب معرفة سطحية مشابهة للنتائج السابقة.
وتشير الباحثة شيري ميلوماد إلى أنها تعمل على تطوير أدوات ذكاء اصطناعي تفرض نوعًا من "الاحتكاك الصحي" داخل عملية التعلم مثل خطوات تحليلية أو مهام تفاعلية تدفع المستخدم للغوص أعمق بدل الاعتماد على الإجابات الجاهزة. وتؤكد أن هذه الأدوات ستكون حاسمة في التعليم المدرسي، حيث يحتاج الطلاب إلى تنمية مهارات أساسية في القراءة والكتابة والتحليل، في عالم سيغدو فيه الذكاء الاصطناعي جزءًا يوميًا من واقعهم.
إسلام العبادي(أبوظبي)