الياس فاخوري من صن تزو الى ديفيد بترايوس، ومن جين بينغ الى جو بايدن وبينهما جانيت يلين! في مقدمة النسخة الانكليزية لكتاب “فن الحرب – The Art of War” لمؤلفه الجنرال العسكري والخبير الاستراتيجي الفيلسوف الصيني صن تزو Sun Tzu المعروف ايضاً ب Master Sun، كتب الجنرال الأميركي ديفيد بترايوس: “انه من أكثر الكتب في العالم تأثيراً في الاستراتيجية العسكرية، ويُدرّس في الأكاديميات المتخصصة على امتداد الكرة الأرضية” رغم ان تاريخه يعود للقرن الخامس قبل الميلاد حسب ال Wikipedia! وهنا لا بد من العودة للعام 1974 حيث تم اكتشاف حوالي 8000 تمثال لجنود (مع العربات والخيول)، عُهد اليهم بحراسة قبر الأمبراطور تشي سي هوانغ (222 ـ 207 قبل الميلاد)، الذي وحّد الصين وأنشأ جيشاً عظيماً بمعايير ذاك الزمان .
. ولنذكر اليوم سور الصين العظيم وكيف تم بناؤه إتقاءً لغزوات البدو والتتار، وحرب الأفيون الأولى والثانية ودخول اليابان واحتلالها الصين، ودخول فرنسا وبعدها الولايات المتحدة الأميركية بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، ومساندتها قوات الكومنتانغ بقيادة شانكاي تشك ضدّ الشيوعيين بقيادة ماوتسيتونغ، حيث انتتصر الشيوعيون عام 1949، وتمكنوا من طرد الكومنتنغ الى جزيزرة فورموزا، أو ما يُعرف في يومنا هذا بتايوان، خارج الـَبر الصيني .. ولنذكر أيضاً راهنية وأهمية البعد الأخلاقي والوجداني والمعنوي الذي تمنحه الكونفوشية لحضور الصين في الحضارة الإنسانية المعاصرة وكيف أدرك العقل الصيني حقيقة انّ الحضور في العالم يقوم على مبدأ الانسجام والتكافؤ مع الأمم العالمية لا وفق منطق الغلبة والهيمنة التي تمرست بها امريكا وامتهنها الغرب على امتداد قرنين كاملين. وماذا عن الهحرة من منظمة التجارة العالمية والدولار إلى مجموعة بريكس (5 + 13) والعملة الوطنية .. ومن هيروشيما في اليابان الى شيآن (تشانغان) في الصين، كما أسلفنا في عدة مقالات!؟ فهل تُعاد امريكا الى مبدأ مونرو (1823 )، بسياسة الأبواب المقفلة سيما وان دولاً بحجم السعودية مالياً وسياسياً تتجه للالتحاق بمجموعة “بريكس”!؟ ومن الطبيعي ان تناقش السعودية وبلدان الخليج جدوى عقود من الارتباط الاستراتيجي الذي ربما سهّل لهم الاقتصاد الريعي ليبعدهم عن الصناعة والتكنولوجيا التي اعتمدها نمور جنوب شرق آسيا، مثلاً! وماذا عن اتفاق بكين بين السعودية وإيران؟ ثم كيف للهند بديموغرافيتها والتكنولوجيا ان تبقى اسيرة السياسات الأميركية التي ما فتئت تدفعها للعداء مع الصين التي ربما يفتح التعاون معها أبواب ونوافذ معالجة العديد من الفجوات الاقتصادية والاجتماعية حيث نرى الفقر يضغط بقوة على الايقاع السياسي، والفكري الايديولوجي للبلاد!؟ اما في باكستان، فماذا أثمرت عقود التبعية لواشنطن غير الكوارث والعثرات الاقتصادية، والتصدعات السياسية، والانقلابات العسكرية بادارة وكالة الاستخبارات المركزية الامريكية!؟ فهل جاءت زيارة وزيرة الخزانة الأميركية جانيت يلين، وهي القادمة من رئاسة مجلس الاحتياط الفديرالي (البنك المركزي الامريكي)، الى بكين ضمن هذا السياق فكادت ان تنطق بالآية الكريمة 64 من سورة آل عمران لتعلن، بلغة هي اقرب للغة نزار قباني في غزلياته، عن استحالة الطلاق بين الاقتصادين الامريكي والصيني لتلاقي جورج سوروس في اعتقاده واعتتاده ان “وول ستريت” هي “كاتدرائيتنا العظمى” وهي “ليست فقط الدماغ المالي للعالم، بل هي روح العالم”؟! وهل يغيّر هذا من نظرة أنتوني بلينكن ولويد أوستن، وجورج سوروس نفسه، للصين لتحل لغة الأرقام محل لغة القبضات الحديدية فالاقتصاد هو كل شيء في أميركا – هو البداية وهو النهاية .. وهل تُقنعهم يلين بعبثية الصراع العسكري والاقتصادي وبدعوتها الى “السوبربراغماتية” في التعامل مع التنين حيث تستمر الصين في قفزها من ابداع الى ابداع وحيث تحتاج الصين الى الاسواق الأميركية مثلما تحتاج امريكا الى المنتجات الصينية، وعليه لم تبع السيدة جانيت جلد امريكا للتنين كما صرخت قناة “فوكس نيوز”!؟ وهنا تطرح “النيويورك تايمز – The New York Times” تساؤلها، وقد لاحظت القفزات الصينية: هل كانت العقوبات التي فرضتها امريكا على المنتجات الصينية لمصلحة أميركا أم لمصلحة الصين؟ ربما جاء هذا التشكيك بجدوى العقوبات من ملاحظة كيف اصبح الصينيون أكثر شراسة في خوض التحدي فتقدموا على الأميركيين بـ 37 نوعاً من أصل 44 في مجال التكنولوجيا الحساسة .. وسيواصل الاقتصاد الصيني ارتفاعه التصاعدي ليتصدر الاقتصاد العالمي بحلول منتصف القرن! الا يفسّر ذلك ما تعانيه دول المحور الصهيواوروبيكي من تخبط ويؤكد تراجعها امام دول المحور الصيني الروسي الإيراني العراقي السوري؟ انه التراجع التدريجي للجيوبوليتيك الأميركي في المنطقة: يريدون إيقافه فخسارة إدلب، مثلا، تشكل انكشافا عسكريا لاحتلال أراض سورية شرق الفرات (الأميركيون والأوروبيون) وشمال سوريا (الأتراك) .. مهزومون لا يريدون الاستسلام فيتوسلون حصار ايران ويعرقلون إتمام السيادة السورية، ومنتصرون من حقهم حصاد النتائج .. ولعلهم جميعا باتوا يدركون أنّ مشروع الرئيس الأسد للتعاون والتشبيك تحول من مجرد رؤية استراتيجية الى أمر واقع .. تذكرون هذا المشروع الذي اقترحه الرئيس بشار الأسد في مطلع العقد الأول من القرن الحالي (أبيض، أحمر، خليج، قزوين، أسود – منظومة البحار الخمس) استثمارا لموقع سوريا الجغرافي، ووضعها في مركز شبكة الطاقة والنقل الإقليمية .. مشروع يضم روسيا والصين وايران وتركيا ومصر والسعودية والعراق وسوريا والجزائر واليمن تكاملا مع اوروبا المتوسطية .. أرادها منطقة خالية من أسلحة الدمار الشامل تعمل بالتفاوض لحل النزاعات وبالتعاون للتنمية والتقدم الاقتصادي ولضمان أمن الطاقة والملاحة .. مشروع يقوم على شراكة استراتيجية في الشرق الجديد! وهكذا يمكننا فهم المعنى التاريخي للمعارك والحروب والانتفاضات بوصفها تراكمات كمية تؤدي الى تغيير كيفي ينطوي على ازالة العدوان برمته لا مجرد اثاره .. وهذا ما بات يدركه المحور الصهيواوروبيكي متيقنا ان انتكاساته المتراكمة ليست مسألة “نحس” او سوء حظ وحسب، بل مسار سيصل ذروته وتبدأ عملية التطور النوعي فتزول اسرائيل وتعود فلسطين بكليتها من البحر الى النهر ومن الناقورة الى ام الرشراش، وتعود للأمة كرامتها .. من دمشق فبغداد فعمان الى اليمن فالقدس .. ومن “الكم” الى “الكيف” .. من التراكمات الكمية الى التغييرات الكيفية! والانتصارات الاستراتيجية مافتئت تتراكم على أيدي الجيش العربي السوري وابناء الله في الميدان .. اما مشروع الشر الصهيواوروبيكي فما فتئ يتهاوى – من هزيمة الى سقوط لتجدد قوانين المادية الجدلية والمادية التاريخية صدقيتها وتؤكد مصداقيتها بانتصارات ما فتئت تتوالى من سوريا فالعراق الى اليمن ففلسطين .. وهم، في المحور الصهيواوروبيكي، يتساقطون على الطريق من اليمن الى العراق بعد سوريا وفلسطين. قلناها سابقآ، أيآ كانت السيناريوهات، أن الاتفاق النووي مع ايران – ودخولها عصر القنبلة الاقتصادية وسوق الذهب الأسود والأسواق العالمية عامة – يأتي ضمن السياق الأمريكي الصيني حيث تقود الصين الهجمة الاقتصادية الى جانب المنافسة السياسية والعسكرية المتنامية التي يخوضها بوتين ورفاقه رفضآ للتفرد الأمريكي يردفها تكتل البريكس في تصديه للاحتكارات الأمريكية وهيمنتها على الأسواق والأسعار والثروات .. انها التحولات الجيوستراتيجية في العالم واصطفاف المصالح السياسية الجيوستراتيجية لكل من روسيا والصين وايران وبالتالي لدول اسيا الوسطی – كما كررت مرارا .. وكما اشارت “ديانا فاخوري” عدة مرات ومنذ عدة سنوات، ها هي مبادرة “الحزام والطريق” الصينية تلتقي مع مبادرة ” الاتحاد الاقتصادي الاوراسي” الروسية والموقع الايراني الاستراتيجي كمركز للتجارة والطاقة، وكحصن منيع في مجابهة الجهادية التكفيرية التي يتلاعب بها الغرب! وعليه جاءت مجموعة من الاستدارات لتتوائم مع مبادرتي “الحزام والطريق” و”الكتلة الاوراسية” الامر الذي يملي “سوريا عربية علمانية موحدة” تضم الی حضنها لواء الاسكندرون، شاء من شاء وابى من ابى .. فسوريا هي خالقة الأزل، وهي محكومة بالمقاومة والممانعة منذ الأزل، وهي تصنع مستقبلها ومستقبل المنطقة برمتها! لعل “ديانا” قد لبست عباءةً من ريش العصافيرْ وحلّقت ليذكرها الزمـانُ، “ولـم يَزلْ للدِّهــرِ إِنصــافٌ وحسـنُ جـزاءِ”، كما اكّد شوقي .. الدائم هو الله، ودائم هو الأردن العربي، ودائمة هي فلسطين .. نصركم دائم .. الا أنكم أنتم المفلحون الغالبون .. كاتب عربي أردني
المصدر: رأي اليوم
إقرأ أيضاً:
ديمقراطية أميركا..من أيزنهاور إلى بايدن
هل باتت الديمقراطية الأمريكية في خطر من جراء مجمعين يكادان يطبقان عليها، لتخسر الولايات المتحدة، درَّة التاج، في تكوينها وجوهرها، منذ إعلان الاستقلال وحتى اليوم؟
لطالما فاخر وجاهر الأمريكيون بالنسق القيمي الليبرالي،
الذي عُدَّت الديمقراطية فيه حجر الزاوية، وعليه قام هذا البناء الجمهوري الشاهق، غير أنه وخلال العقود الستة المنصرمة، بدت روح أمريكا في أزمة حقيقية، من جراء نشوء وارتقاء مجمعات أقل ما توصف به أنها ضد الديمقراطية.
جاء خطاب وداع الرئيس جو
بايدن ليعيد تذكير الأمة الأمريكية بالخطر الذي نبّه منه الرئيس دوايت أيزنهاور عام 1961، والمؤكد أن بايدن لم يذكّر الأمريكيين بالمجمع الصناعي العسكري، ذاك الذي لفت إليه أيزنهاور فحسب، بل وضعهم أمام استحقاقات مجمع جديد قادم بقوة كالتسونامي الهادر في الطريق، لا شيء يوقفه، وما من أحد قادر على التنبؤ بأبعاد سيطرته على مستقبل الديمقراطية في الداخل الأميركي.
في السابع عشر من يناير (كانون الثاني) من عام 1961 ألقى أيزنهاور خطاباً وداعيّاً متلفزاً من مكتبه الرسمي، وبطريقة لا تُنسى، حذَّر فيه من أن تتحول "الصناعة
العسكرية المعقدة" في بلده إلى قوة عنيفة.
يومها قال جنرال السياسة الذي نجح في قيادة قوات الحلفاء في الحرب العالمية الثانية إن "المؤسسة العسكرية الضخمة" مع "صناعة أسلحة هائلة" تعملان معاً سعياً وراء "نفوذ لا مبرر له" في "كل مدينة وكل مبنى تشريعي وكل مكتب عائد إلى الحكومة، مما قد يؤدي إلى كارثة تنبع من بروز قوة في غير محلها".
عبر ستة عقود ونيف بدا أن توقعات "الجنرال آيك" قد تحوّلت إلى واقعِ حال عبر تحالف ثلاثي الأطراف، اختصم في واقع الأمر الكثير من لمحات ومسحات الديمقراطية الأمريكية.
تمثلت أضلاع المثلث في أصحاب المصانع العسكرية الأمربكية، تلك التي تدرّ "لبناً وعسلاً وذهباً" على حَمَلة أسهمها، في السر والعلن، فيما الضلع الثاني مثَّله جنرالات وزارة الدفاع الأمريكية، الذين يقودون وعلى الدوام المعارك الأمريكية على الأرض، وغالباً ما يعودون لاحقاً بعد نهاية خدمتهم للعمل مستشارين برواتب هائلة في المؤسسات الصناعية العسكرية، بينما الجهة الثالثة يمثلها أعضاء الكونغرس، من الشيوخ والنواب، أولئك الذين يشرّعون قرارات الحروب، وعادةً ما يتلقون ملايين الدولارات تبرعات من الشركات العسكرية الكبرى، والعمل لها لاحقاً، بعد نهاية تمثيلهم التشريعي، أعضاء في مجالس إداراتها.
خلق هذا المجمع بلا شك روحاً جديدة في الداخل الأمريكي، باتت تمثل قوة ضاغطة على عملية صناعة القرار الأمريكي، وخصمت ولا شك من مساحات الديمقراطية الغنَّاء، وقدرة البروليتاريا الأمريكية العاملة المكافحة، وأقنان الأرض البؤساء، على تمثيل ذواتهم تمثيلاً عادلاً، فيما المحكمة العليا في البلاد أخفقت في حسم قضية التبرعات للمرشحين للمناصب الحكومية، من عند أصغر عمدة لمدينة أمريكية نائية على الحدود الجنوبية في تكساس، وصولاً إلى مقام الرئاسة.
جاء بايدن في خطاب تنصيبه ليشير إلى ما سمَّاه "المجمع الصناعي التقني"، الذي يبدو أنه لا يقل ضراوة عن العسكري، لا سيما أن بصماته تمتد عبر المحيطات إلى بقية أنحاء وأرجاء الكون الفسيح.
"بعد ستة عقود من الزمان ما زلت أشعر بنفس القدر من القلق إزاء الصعود المحتمل للمجمع الصناعي التكنولوجي الذي قد يشكل مخاطر حقيقية على بلدنا أيضاً"... هكذا تكلم بايدن.
بايدن لم يترك مجالاً للشك في أن الأمريكيين يُدفنون، وعلى حد تعبيره، تحت سيل من المعلومات المُضلّة والمضلِّلة، التي تُمكن من إساءة استخدام السلطة، فيما الصحافة الحرة تنهار، والمحررون يختفون، بينما وسائل التواصل الاجتماعي تتخلى عن التحقق من صحة الحقائق أو زيفها.
أظهر بايدن أن هناك مخاوف حقيقية تخيِّم فوق ديمقراطية أمريكا، من جراء تزاوج الثروة والسلطة، عبر أطراف المجمع الصناعي التقني، الذي بات يمثله رجالات من نوعية إيلون ماسك ومارك زوكربيرغ وجيف بيزوس، ومجالس إدارات شركات مثل أبل وغوغل، وأساطين رجال أعمال يتعاطون مع قرابة التريليون دولار، مما يجعل فكرة الديمقراطية المختطَفة من القلة أمراً قائماً وليس جديداً.
هل الديمقراطية الأمريكية في خطر حقيقي وليس وهمياً؟
تركيز السلطة والثروة يؤدي مباشرةً إلى تآكل الشعور بالوحدة والغرض المشترك، ويقود إلى انعدام الثقة، وحينها تصبح فكرة الديمقراطية مرهِقة ومخيِّبة للآمال، ولا يشعر الناس فيها بأنهم يتمتعون بفرصة عادلة.
يقول الراوي إن روما القديمة قد أفل نجمها حين غابت روح الديمقراطية عن حناياها ومن ثناياها... ماذا عن روما العصر؟