وفي الليلة الظلماء تُفتقد “أنقذوا دارفور”
تاريخ النشر: 14th, December 2023 GMT
وفي الليلة الظلماء تُفتقد “أنقذوا دارفور” (2004) (1-2)
عبد الله علي إبراهيم
قال المحرر في “نيويورك تايمز”، مؤلف كتاب “مدفعيات الصحافة” (عام 1967)، جيمس روستن، إن الخبر ليس خبراً مجرداً إلا في مساقطه بين العالمين، أما في موطن نشأته فهو علم اجتماع. أي إن الخبر يخرج للعالم من صلب كيان اجتماعي وعليه بصمة من علائق هذا الكيان.
ولا أعرف مثل الأكاديمي اليوغندي محمود ممداني من طرق هذه التفرقة بين الخبر وعلم اجتماعه في كتابه “منقِذون ومنقَذون: دارفور، السياسة، والحرب على الإرهاب” (عام 2009). فأخضع نوعية المعرفة بدارفور من وراء نشاط منظمة “أنقذوا دارفور” الأميركية، التي خرجت في 2004 للتضامن مع دارفور في نكبتها الأولى، لاختبار المفارقة بين الخبر في منشئه والخبر في مساقطه في العالمين. وستجده أصاب كثيراً.
نبدأ بحصر ما نهضت به المنظمة من نشاطات حسب رصد ممداني لها.
كانت حملة “أنقذوا دارفور” التي عبأتها المنظمة من أنجح الحملات الأميركية الجماهيرية للوقفة مع قضية عامة بعد الحملة المناوئة لحرب فيتنام. فأجادت المنظمة فن التحشيد للقضية. فأنشأت موقعاً على الإنترنت. وعبأت من موارد سخية الإعلان في الصحف والتلفزيون ولوحات الإعلان. ووظفت البطاقات البريدية تدعو لـ”مليون صوت لدارفور”. ووزعت ملصقات صفراء عليها الأرقام من واحد إلى 400 ألف، والرقم الأخير هو إحصائية لمن قتلوا في دارفور. وجعلت يوماً من أبريل (نيسان) عام 2006 يوماً عالمياً لدارفور تجمع حشده في حدائق “سنترال بارك” بنيويورك مطالباً بتدخل الأمم المتحدة في الإقليم السوداني. وتكرر إعلان ملء صفحة على “نيويورك تايمز” يدعو إلى التدخل الدولي لمنع المقتلة في دارفور، ورخص للمتدخلين إطلاق الرصاص والقضاء على المتسببين في محرقة دارفور في سياق مطلب المنظمة بأن يفرض مجلس الأمن عدم تحليق الطيران من فوق سماء دارفور، وأن يعين “الناتو” بعثة الاتحاد الأفريقي في السودان لفرض ذلك الحظر. بل كانت دعوة المنظمة بوجه حرب أميركا في العراق التي وقعت في ذلك الوقت نفسه “اتركوا العراق، ولتطأ أحذية الجند دارفور”. وحين فرض الرئيس جورج بوش الابن المقاطعة على السودان لم يتفق ذلك لـ”أنقذوا دارفور” وقالت إنه ليس قليلاً فحسب، بل تأخر كثيراً أيضاً.
ووجدت “أنقذوا دارفور” إقبالاً وسط الطلاب. وكانت بدأت تلك التعبئة في أوساطهم باجتماع بمتحف الهولوكوست بواشنطن مع نفر منهم في سبتمبر (أيلول) 2004 سرت منه الطاقة في سائر الجسد الطلابي حتى أنهم كونوا منظمتهم المستقلة لإنقاذ دارفور في جامعة هارفرد في 2005 لتمتد إلى 26 جامعة أخرى، ولتبني 600 فرع لها. كما انبثقت من همة “أنقذوا دارفور” منظمة تخصصت في مقاطعة الشركات دون الاستثمار في السودان. وتقاطر عليها النجوم من الفنانين. فتبرعت أنجلينا جولي وبراد بيت بمليون دولار لجمعيات أعمال خير في دارفور. وأنشأ كل من جورج كلوني وبراد بيت ومات ديمون جمعية تدعو إلى المبادرة لوقف المذابح في دارفور باسم “ليس خلال نبطشيتنا”. وزار كلوني ووالده دارفور وعاد كلوني ليتحدث عن زيارته لأوبرا وينفري. بل ودعت أميركا كلوني ليخاطب الأمم المتحدة عن محنة دارفور. وبفضل قوة الحملة على الرأي العام جعل الكونغرس الأميركي يومي 16 و17 من يوليو (تموز) 2005 نهاية وطنية للأسبوع للصلاة لأجل دارفور والتأمل في محنتها.
ورشحت حملة “أنقذوا دارفور” على الصين التي كانت قد ارتكبت لوقتها فظائعها في التيبت. فارتبطت المنظمة بقضية التيبت إفحاماً للصين التي كانت نظمت دورة لأولمبياد الشتاء في 2006. وتبرع من أثر الحملة أحد نجوم الأولمبياد الأميركيين بجائزة نالها للاجئين من دارفور. وسمت النجمة ماي فرو، التي زارت دارفور، أولمبياد الشتاء بأولمبياد المحرقة. وتلاشت الحملة ضد الصين لوقفتها القوية عند أن ما جرى في التيبت شأن داخلي لا شأن لغيرها به.
إذا أردت اليوم، ودارفور في هذا العسر من أمرها، أن ترى ما تراها منظمة “أنقذوا دارفور” فاعلة معها وجدت موقعها لا يزال على الشبكة، ولكنه، في قول أهله، غير مفعل. فبينما بقي علم اجتماع محنة دارفور بشرورها جميعاً كما رأينا في هذه الحرب الآثمة فيها تبدد الخبر. وهذا علم اجتماع آخر عمن أضربوا هذه المرة عن إنقاذ دارفور.
ونواصل
حشد لأنقذوا دارفور بالسنترال بارك نيويورك 7 ديسمبر 2007
وفي الليلة الظلماء تُفتقد “أنقذوا دارفور” (2004) (2-2)
عبد الله علي إبراهيم
“إذا أردت اليوم، ودارفور في هذا العسر من أمرها، أن ترى ما تراها منظمة “أنقذوا دارفور” فاعلة معها وجدت موقعها لا يزال على الشبكة، ولكنه، في قول أهله، غير مفعل”.
قال المحرر في “نيويورك تايمز”، مؤلف كتاب “مدفعيات الصحافة” (عام 1967)، جيمس روستن، إن الخبر ليس خبراً مجرداً إلا في مساقطه بين العالمين، أما في موطن نشأته فهو علم اجتماع. أي إن الخبر يخرج للعالم من صلب كيان اجتماعي وعليه بصمة من علائق هذا الكيان. ولكن تنسلخ هذه السياقات عنه حيث بلغ المسامع ويستبدل بها ربما أخرى من علم اجتماع من تلقوه من الوسائط.
ولا أعرف مثل الأكاديمي اليوغندي محمود ممداني من طرق هذه التفرقة بين الخبر وعلم اجتماعه في كتابه “منقِذون ومنقَذون: دارفور، السياسة، والحرب على الإرهاب” (عام 2009). فأخضع نوعية المعرفة بدارفور من وراء نشاط منظمة “أنقذوا دارفور” الأميركية، التي خرجت في 2004 للتضامن مع دارفور في نكبتها الأولى، لاختبار المفارقة بين الخبر في منشئه والخبر في مساقطه في العالمين. وستجده أصاب كثيراً.
جاء ممداني في كتابه إلى مسألة دارفور بقريب مما رأينا روستون يفعل. فرأى مثله بعد البون ما بين الواقعة في موطنها ومساقط خبرها بين العالمين. فكانت واقعة دارفور، حيث انتهت إلى منظمة “أنقذوا دارفور” هي عن صراع استئصالي يقوم به الجنجويد العرب، مدعومين بنظام إسلامي عروبي، على الجماعات الأفريقية، الزرقة في المصطلح المحلي، بينما كان رأي محمداني أنه، حيث وقع، نزاع بين بين مالكي الحاكورة (تملك جماعة ما أرضاً حصرياً عليها) ومن لا يملكونها بغض النظر عن الأعراق. فمن ملكوا الحواكير في دارفور أفارقة وعرب سواء. وبين من خلت يدهم عنها عرب وأفارقة كذلك. والصراع بوجه آخر نزاع على الموارد بين الرعاة والمزارعين صدف أن كانت غالبية الرعاة من العرب وإن لم تخل قائمتهم من الأفارقة.
ولا تختلف الصحافية والسينمائية جولي فلنت عن ممداني في كتابها اللاحق لكتابه “الحرب الأخرى: حروب العرب البينية في دارفور” (عام 2010). فأهم ما خرجت به في كتابها أن العرب، الذين ارتكبوا الجرائم في حق أفارقة دارفور خدمة لنظام “الإنقاذ” حتى اتهموا بـ”التطهير الإثني”، كانوا في الأثناء قاتل بعضهم بعضاً طويلاً وبضراوة ودموية. وزادت بأن وقائع “داحس وغبراء” العرب تلك تخلفت في مواطنها، ولم تبلغ أسماع أهل الخبر عبر المحيطات، أو أنهم أسقطوها عمداً حتى لا تعكر صفاء الصراع محض بين العرب والأفارقة. وهو الصراع الذي كان من وراء استثارة المنظمة للحملة أول أمرها في قول ممداني. فغاية “أنقذوا دارفور”، في قوله، هي “تعريب” العنف في سياق الحملات ضد الإرهاب، والعرب موئله، القائمة على قدم وساق. فحملة إسعاف دارفور في أشرق جوانبها، في قوله، هي رومانس مدفوع برغبة في إشباع إنسانية مروعة عجلى لعلاج لمشكلة مؤرقة للضمير، أما في أسوأ حالاتها فهي نشاط متقن مدجج بالصحافة مصمم لتوزير العرب كجماعة مزهوة سكرى بعرقها مصممة على استئصال الأفارقة عن بكرة أبيهم.
وأخذ ممداني على “أنقذوا دارفور” مطابقة تضامنهم مع أفارقة دارفور مع التضامن الذي سبق لهم مع قضية أفارقة جنوب السودان. وهذا إبعاد في النجعة. فبينما ربما صح القول إن المواجهة في الجنوب كانت بين دولة مركزية سيطر عليها عرب مسلمون، إلا أن الصراع في دارفور خلا من هذا الصفاء كما تقدم. فهو بين عرب وعرب، وعرب وأفارقة، وأفارقة وأفارقة، ناهيك بأنه لم تكن لعرب دارفور وقتها شوكة عرب المركز الحاكم في الخرطوم. علاوة على أن حرب الجنوب كانت “تمرداً” ضد الدولة بينما دارفور حرب أهلية بين المزارعين المستقرين والرعاة عائدة إلى سنوات آخر الثمانينيات.
ويرى ممداني أن الخبر عن دارفور، الذي سماه “أثر السي أن أن” غطى على سياقه حيث وقع. فنشطاء “أنقذوا دارفور” جمعوا، في قوله، بين نهج يستحقر المعرفة عما هم بصدد التضامن معه إلى تذرع بأنه يكفيهم حسن المقصد في نشاطهم العملي لمثل هذا التضامن. ويستغشون بثيابهم دون العلم بحقائق القضية التي نهضوا للتضامن معها لأن العلم الوثيق بها مما يعقد السردية بتفاصيل متكاثرة تغطي على الجراح النازفة في مثل محنة دارفور. وفي المقابل فهم يعتمدون على الدليل الذي يرونه بالعين المجردة ويتحاشون التطرق إلى سياق ما يرونه محاشاة العمى. فالصور لجراح دارفور النازفة والمقابلات مع من تصادف من الضحايا هي التي تتحدث إليهم دون غيرها مما فتح حركتهم جمعاء لما سماه “أثر السي أن أن”، أي تغلب الخبر على ما عداه، كما تقدم. فنشطاء “أنقذوا دارفور” نشأوا على الثقة في الصورة فوق ما عداها، وإن كان لا بد من السؤال عن محتواها، فلهذا وقته لاحقاً. وصفوة الأمر أنهم يجردون خبر دارفور و”بورنوغرافي العنف” في أرجائها من السياق. فهم كمن يستعيض بالوثوق الأخلاقي عن المعرفة الوثقى بعلم اجتماع خبره.
وقال ممداني إنه درج على أنه، ما طرأت له مسألة مثل دارفور (وسبق أن كتب عن الاستئصال العرقي في رواندا)، حتى تحرى شجرة نسبها ليعرف من أي سياق خرجت للوجود: كيف يعيننا هذا السياق في تغبيش معرفتنا بها، أو في فض مغاليقها. وقال إن هذا ما ساقه بمر الزمن إلى أن تتخذ مباحثه الطابع التاريخي لأن التاريخ سياق لا مهرب منه لفهم الواقعة حيث وقعت.
ويبدو أن الخبر سحابة صيف سرعان ما تنقشع. فإذا أردت اليوم، ودارفور في هذا العسر من أمرها، أن ترى ما تراها منظمة “أنقذوا دارفور” فاعلة معها وجدت موقعها لا يزال على الشبكة، ولكنه، في قول أهله، غير مفعل. فبينما بقيت الواقعة تبدد الخبر. وهذا علم اجتماع آخر عمن أضربوا هذه المرة عن إنقاذ دارفور.
كتبت مرة عن بشاعة استتابة العلماء لتلاميذ الأستاذ محمود محمد طه أنه لا بد أن سبحانه وتعالي يقيم في عالم غادره هؤلاء العلماء إلى الفسوق. وهذا مشهد من الجنينة في عتامير تلاشى عنها الرب.
المصدر: موقع النيلين
كلمات دلالية: علم اجتماع بین الخبر دارفور فی فی دارفور الخبر فی فی قول
إقرأ أيضاً:
فصل دارفور !
مناظير السبت 16 نوفمبر، 2024
زهير السراج
manazzeer@yahoo.com
* كنتُ وما زلت وسأظل من الداعين لايقاف الحرب وانقاذ الشعب السوداني من المحنة الصعبة التي يعيشها منذ اكثر من عام ونصف بسبب حرب قذرة على السلطة والمال، لا ناقة له فيها ولا جمل ولا مصلحة!
* كما انها تهدد وجود السودان خاصة مع المطامع الخارجية الواضحة في خيراته وموراده وارضه، فضلا عن المحاولات السافرة الخبيثة للبعض لفصل إقليم دارفور عن السودان، ظناً منهم أن السودان (الموحد) يقف ضد طموحاتهم السياسية في الحكم أو العودة الى الحكم مرة أخرى، وهو بالفعل كذلك !
* ولكى اكون اكثر وضوحا فإنني أقصد قائد مليشيا الجنجويد (حميدتي) من جانب، ومن الجانب الآخر (بعض) قادة النظام البائد وحزب المؤتمر الوطني المحلول، ويتضح ذلك من الإستراتيجية التي تُدار بها الحرب والواقع الميداني، والأمنيات المعلنة لبعض قادة النظام البائد عن تكوين (دولة النهر والبحر) باعتبارها الوسيلة الوحيدة للعودة الى الحكم بعيدا عن حميدتي ودارفور !
* كما ان (حميدتي) يعلم أنه من المستحيل أن يحكم السودان بسبب الكراهية الشديدة والعداء المتنامي له ولعصابته والجرائم والانتهاكات الفظيعة التي انتهكوها ضد الشعب، وأن الوسيلة الوحيدة لتحقيق طموحه السياسي هى فصل دارفور!
* أى أن كلا الطرفين يعتقد ويؤمن، بأن الفصل هو الحل الوحيد لتحقيق طموحاته ورغبته الجامحة في الحكم، ولا أستبعد على الاطلاق أن يتفق الإثنان في أي وقت من الأوقات على هذا الحل، أو الذي (يعتقدون) انه الحل أو الوسيلة لتحقيق الطموح، خاصة أن تحقيق النصر العسكري بواسطة أي طرف شبه مستحيل في الوضع الراهن إلا إذا حدثت تطورات في المستقبل تجعله احد الاحتمالات الممكنة!
* في رأيي الشخصي أن الشئ الوحيد الذي منع الطرفين من الاتفاق على فصل دارفور هو الموقع الاستراتيجي بالغ الاهمية لمدينة (الفاشر) بالنسبة للسودان وبعض الدول الحدودية، وإصرار الجيش (تحت ضغوط خارجية قوية) على التمسك بها والزود عنها بكل ما يملك من جهد وعدم التخلي عنها لـ(حميدتي) بسهولة مثلما حدث في بقية ولايات إقليم دارفور، كما أنها الموطن لبعض الحركات المسلحة التي تحارب بجانب الجيش!
* ولولا ذلك لتخلى عنها قادة النظام البائد والمؤتمر الوطني بسهولة كما تخلوا من قبل عن إقليم جنوب السودان قبل بضعة اعوام ظنا منهم ان ذلك سيُسهِّل عليهم حكم السودان ويقوي قبضتهم على السلطة، وكلنا نذكر عبارات السخرية للمخلوع البشير التي يُظهر فيها فرحه وسروره بانفصال الجنوب مما سيتيح لهم تطبيق (الشريعة الاسلامية) بدون (جغمسة أو دغمسة) ــ بدون مواربة ــ ولم يكن يقصد بالطبع سوى تشديد قبضتهم على السلطة، وليس تطبيق الشريعة التي لم نرهم يطبقونها طيلة فترة حكمهم الفاسد الذي يتناقض مع حكم الله وعدالته، ولكن هل سيؤدى فصل دارفور لتحقيق احلام الطرفين (قادة النظام البائد وحميدتي)، ام سيكون وبالا عليهم كما كان فصل الجنوب وبالا على النظام البائد ؟!
* ولكن بعيدا عن احلام وامنيات زعيم عصابة الجنجويد وقادة النظام البائد بفصل دارفور حتى يتيسر لهما الحكم (لو حدث ذلك)، فإلى متى يظل الشعب بلا منقذ ولا حامٍ من القتل والنهب وهتك العرض والجرائم التي يتعرض لها كل يوم بل كل لحظة، ام يجب ان يهرب من وطنه ويتذوق طعم الهوان والاهانة والتشرد كما حدث لغيره، أم أن قدره أن يبيد عن بكرة أبيه حتى يرضى عنه الجيش والجنجويد وعصابة النظام البائد والمؤتمر الوطني المحلول ؟!