الكتاب: إعمال مقاصد الشريعة في صناعة الفتوى
المؤلف: ونيس المبروك الفسيي
الناشر: دار الأصالة


اتفقت كلمة المحققين من العلماء ـ سلفا وخلفا ـ على أن اعتبار المقاصد والكُليات في مناهج الاستدلال والاستنباط والإفتاء، هو نزولٌ عند مراد الشارع من بعثة الرسل وتشريع الأحكام، وعدّها كثيرٌ منهم شرطاً من شرائط الاجتهاد، حتى وسمها الإمام الغزالي رحمه الله، "قبلة المجتهدين" التي لا يستقيم استنباطُهم إلا إذا ولوا وجوهَهُم شطرَها .



وقد عرَفت الدراسات المقاصدية نمواً سريعاً متعدد المسارات، بخاصة منذ نُشر كتاب الموافقات للإمام للشاطبي، ثم دعوة الإمام الطاهر بن عاشور إلى تأسيس علم مقاصد الشريعة، الذي تناولَه العلماءُ بالتأليف، والنظم، والبسط، والاختصار، حتى استقر فناً وعلما، وانتقل ـ كما قال أستاذنا الجليل فضيلة الدكتور  أحمد الريسوني ـ من الولادة الكامنة إلى الولادة الكاملة.

إلا أن مجالات الإعمال والتفعيل لازالت تعاني من حاجةٍ إلى بحوث تُثريها؛ ودراساتٍ تبينُ أهمَ مسالكِها وتُنميها، وتطبيقات وشواهد على تلكم المسالك تُرسيها؛ ومن هنا جاءت هذه الدراسة تحت  عنوان "إعمالُ مقاصدِ الشريعةِ في صناعة الفتوى والأحكام".

إن المفتي لا يمكن أن يقتصر على ما يحفظه من مسائل الفروع في المدونة الفقهية، وإن تكلّف التخريج عليها! بل يجب عليه معرفة واستيعاب مقاصد الشريعة وكلياتها، ومعرفة طرائق ومسالك الاستدلال بها، وتفعيلها وتنزيلها، وكيفية إعمال المقاصد في الترجيح  بين الاختيارات الفقهية، لأن جهل المفتي بمقاصد الشريعة، وتعليل الأحكام، ومآلات الأفعال، ومراعاة تغير الزمان والمكان؛ يتسبب في اضطراب نتائج الاستنباط، وثمرات الإفتاء، وحيرة وتناقض المفتي على حدٍ سواء، بخاصة في هذا العصر الذي يمور بالحركة الدؤوب، والتمدد والتجدد، والتماهي، والتداخل بين أنظمته الاقتصادية وقوانينه المحليةوالدولية، وأعراف مجتمعاته التي قرّبت بينها وسائلُ التواصل العصرية، بشكل لم يكن معهودا من قبل.

ولما كانت المصطلحات والمفاهيم من أهم مفاتيح العلوم، وأوعية المعارف، والغموض أو التعثر فيها تعثرٌ عند أبواب العلماء، ومن تعثّر على باب الشيء، عسُر عليه فهمه، والولوج إلى فنونه وأفنانه، ولذا، فقد جعلت فاتحة البحث فصلا تمهيديا؛ تناولت فيه أهم مصطلحات ومفاهيم الدراسة،وبينت أوجه الشبه والاختلاف بين بعضها.

وقسّمته إلى بابين أساسيين، جعلت الأول للشق النظري التأصيلي الذي يبين مفهوم صناعة الفتوى، ومسالك إعمال المقاصد، وضوابط تلك المسالك ، وقد سلكت فيه منهجا استقرائيا في الأعم الأغلب.

ثم جعلت الباب الثاني للشق التطبيقي الذي يظهر جملة الشواهد والدلائل على إعمال المقاصد في هذه الصناعة الثقيلة.

جاء الباب الأول في فصلين وأربعة مباحث، تكلمت في المبحث الأول عن  الفتوى وأدواتها وآدابها، كشرائط لمن خاض هذا الفن، وتطّلع لهذا المقام،  واخترت مصطلح "الصناعة" لأن الفتوى عبارة عن منتج ذهني صناعي مركب، ناتج عن عناصرَ عدة منها: الدليل والواقع والواقعة، والعلاقة بين الدليل بمراتبه ومصادره المختلفة، وبين الواقع بتغيراته وتعقيداته ومآلاته، وهي قضيةٌ مركبة، تقترن بمقدمات كبرى وصغرى، وتمر عبر مراحل للوصول إلى الحكم الشرعي في صيغته النهائية...

ثم تكلمت في المبحث الثاني عن قضية أساسية في صناعة الإفتاء وهي المراحل التي تتشكل فيها الفتوى وتمر بها تلكم الصناعة؛ من تصوير  للمسألة في ذهن المفتي، ثم التكييف، والاستدلال، والتخريج، ، والتقصيد، والتنزيل.. وقد تعرضت في بحثي لتفصيل كل مرحلة من  تلك المراحل، وأشرت إلى أهميتها في صناعة الإفتاء.

حتى تمتزجَ الأصالةُ بالمعاصرة وتقتربَ التطبيقات الفقهية من واقعنا المعاصر، فقد اخترت نماذج من فتاوى كبار العلماء الذين اشتهروا بالإفتاء في العصر الحديث، مبينا وجه إعمالهم للمقاصد في فتواهم، معقبا على فتواهم إذا اقتضى الأمر .ولما كان التشعب مدعاة لوضع القوانين والضوابط، فقد أتبعت كلَ مرحلةٍ بأهم الضوابط التي تخفف من الأخطاء، وتحوط ذهن المشتغل بالفتوى من الزلل عند تصوير المسألة أو تخريجها وتنزيلها وإخبار المستفتي بها .

وإعمال المقاصد وتفعيلها شأنه شأن كثير من النظريات التي تختلف حولها وفيها أنظارُ الباحثين والعلماء، بل لم يخل هذا العلم من منتحلين ومبطلين راموا تحريفَه، أو توظيفه لأغراض مشبوهة، وجعلوها مدخلا لتعطيل النصوص ودلالتها، وانحيازا للفلسفة النفعية المادية باسم مصالح الشريعة؛ ولهذا فقد جعلت المبحثَ الأول من الفصل الثاني في موضوع اختلاف المدارس والمذاهب حول إعمال مقاصد الشريعة، وتناولت فيه المدارس الأساسية الثلاث، وهي المدرسة النصية الظاهرية، والمدرسة المتكلفة التقويلية، والمدرسة الأصولية المقاصدية، وبينت ملامح كل مدرسة، وذكرت بعض حججها أو شبهاتها ، وناقشت بعضها.

وإن كانت المقاصد في بعدها الأصولي ـ كما قال الدكتور محمد كمال الدين إمام ـ هي أداة استنباط ومنهج تفسير وقواعد ترجيح"، فقد جاء المبحث الثاني ـ وهو من أهم مباحث هذه الدراسة ـ للحديث عن "مسالك إعمال المقاصد" وضوابط تلك المسالك، حيث بيّنت في هذا المبحث أن لإعمال المقاصد وتفعيلها، مسالك وطرائق، كان من أهمها: مسلك الترجيح بين الأدلة عند التعارض، وكذلك مسلك التقريب والتغليب، ثم تناولت أثر المقاصد في تفسير النص تفسيرا صحيحا لا يناقض الكليات التي تضافرت آحاد النصوص على اعتبارها، ثم مسلك التنويط والتنزيل، ثم مسلك رعاية المآل أو فقه التوقع، ثم مسلك رعاية قصد المكلف، ثم مسلك ترتيب الأولويات... وقد أتبعت تلك المسالك أيضا بضوابط لكل مسلك من هذه المسالك.

أما الباب الثاني من هذه الدراسة فقد خُصص للجانب التطبيقي لهذه النظرية، وشواهد إعمال مقاصد الشريعة عبر أهم عصور التشريع والتدوين، لأن دراسة التطبيقات المقاصدية على فروع الفقه، هي خير دليل استقرائي على صحة الدعوى، وهي أصدق شاهد على حضور المقاصد كدليل كلي من أدلة الاستنباط والإفتاء، وهي أنجد زاد لطلبة العلم والباحثين، من أجل التدريب العملي التطبيقي على البحث المقاصدي، ومعرفة طرائق الاستدلال، كما أنها تبصر المفتي بطرق إلحاق المسائل بمقاصدها، وتخريج الفروع على نظم أصولها..

وقد خصصت المبحث الثالث لفتاوى بعض فقهاء الصحابة الكرام رضي الله عنهم أجمعين ، ثم جعلت الفصل الثاني لبعض شواهد إعمال المقاصد في كتب فروع المذاهب السنية الأربعة" الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة" مرورا بفتاوى أئمة تلك المذاهب رحمهم الله جميعا ، مبينا خصائص كل مذهب، وعلاقة أصوله بالمقاصد فهما وتنزيلا.

وحتى تمتزجَ الأصالةُ بالمعاصرة وتقتربَ التطبيقات الفقهية من واقعنا المعاصر، فقد اخترت نماذج من فتاوى كبار العلماء الذين اشتهروا بالإفتاء في العصر الحديث، مبينا وجه إعمالهم للمقاصد في فتواهم، معقبا على فتواهم إذا اقتضى الأمر .

ونظرا لأهمية العمل المؤسسي والإفتاء الجماعي فإني خصصت المبحث الثاني لشواهد من اعتبار المقاصد في قرارات وفتاوى بعض المجامع العلمية المشتهرة .

وقد خلصتُ عبر مسيرة هذه البحث إلى خلاصات ونتائج، يجدها القارىء في نهاية كتابي، ملتمسا وراجيا من كل عالم أو طالب علم قرأ هذا الكتاب؛ أن يرسل إلى بملاحظاته العلمية والمنهجية، لعلي أستدرك به الخلل، أو أكمل بها ما اعترى البحث من زلل .

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي أفكار كتب تقارير كتب الكتاب مقاصد الدين فتاوى كتاب دين فتاوى مقاصد كتب كتب كتب كتب كتب كتب أفكار أفكار أفكار سياسة سياسة أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة مقاصد الشریعة المقاصد فی فی صناعة

إقرأ أيضاً:

كتاب: تاريخ البعثات الدبلوماسية

بقلم: كمال فتاح حيدر ..

هذه فرصة مناسبة لتصفح الكتاب الموسوم (Outposts of Diplomacy)، والذي يعني البؤر الاستيطانية للدبلوماسية، أو المواقع المتقدمة للدبلوماسية، لكن ترجمة عنوان الكتاب إلى العربية لا تتوافق هنا مع فصوله التي يتناول فيها المؤلف تاريخ التمثيل الدبلوماسي، والعلاقات الثنائية بين البلدان، والمهام المكلفة بها السفارات والقنصليات حول العالم. وبالتالي فان الكتاب يتحدث عن تاريخ البعثات الدبلوماسية الدائمة، والنشاطات المنوطة بها. وهو من تأليف: G.R. Berridge من إصدارات 2024 باللغة الإنجليزية، ويقع في 256 صفحة. .
يرى المؤلف ان البعثات الدبلوماسية بدأت في عصر النهضة، عندما اختارت الدولة الإيطالية مجموعة منتخبة من وجهاء القوم لتمثيلها في بعض المدن الأوروبية البعيدة. .
يتساءل الناس الآن: هل يجب أن يكون السفير بهذه العظمة ؟. وهل ينبغي أن يعيش في مبنى باهظ الثمن ؟. ألا يمكن إنجاز الأعمال المكلف بها بإرسال أشخاص للقيام بزيارات خاطفة وجولات سريعة ومحدودة والعودة ثانية إلى الوطن الأم ؟. .
للإجابة، لا بد من العودة إلى الأساسيات. فالحكومات تحتاج دائما إلى نقل مخاطباتها إلى نظرائها بأمان، وتحتاج إلى فهم الردود. قد يبدو الأمر بسيطاً، لكنه ليس كذلك. لا يدرك السياسيون كيف يفكر الأجانب. قد تبدو الرسائل مفهومة للطرف الاول لكنها ربما تكون غير مفهومة ومشوشة للطرف الثاني. فالحكومات بحاجة إلى شخص يضمن فهم كل طرف للآخر، ويحبس دموعه عندما تسوء الأمور (وهذا ما يفعلونه في الغالب). وقد يكون السفير نفسه عبارة عن كبش فداء تم اختياره لمهمة صعبة قد لا يعود منها سالماً. .
باستطاعة السفراء اكتساب مهارات استثنائية على أفضل وجه من خلال معايشة الشعوب التي يتعاملون معها، والتعرف على طباعهم ومخاوفهم، ونزاعاتهم الداخلية، ونواياهم المحتملة. .
يرى المؤلف ان الدبلوماسية زهيدة الثمن مقارنة بغيرها من طرق إدارة العلاقات بين الدول. يُقال إن ديفيد فروست David Frost وصفها بأنها: (فن ترك الآخرين يتصرفون كما يحلو لهم). أما السير هنري ووتون Henry Wotton فقد عبر عن ذلك بشكل مختلف، واصفا السفير بأنه: (رجل نزيه أُرسل ليكذب في الخارج من أجل بلاده). أو: (honest man sent to lie abroad for his country)، فالكذب من ابسط الأساليب التي تستخدمها البلدان لتحقيق أهدافها، ولا يمكن للسفراء تجنب الوقوع في فخ الاحتيال. عادة ما يعتبر السكان المحليون حتى أكثر الطرق البريئة لجمع المعلومات تجسسا. وبخاصة في البلدان النامية. .
يحتاج السفراء إلى الحماية لضمان استمرارهم في أداء مهامهم، ولابد من توفر ارصدة من الحصانات والتفاهمات التي نمت على مر القرون. .
توجد الآن فيالق من الدبلوماسيين أكثر من أي وقت مضى، فقد تزايدت اعداد البلدان بشكل كبير منذ عام 1945. ولم يعد السفراء من الكائنات المهددة بالانقراض. اما إذا كنت ترغب في معرفة تفاصيل حياتهم، فينصح المؤلف بمشاهدة المسلسل التلفزيوني (سفراء Ambassadors) وهو من إنتاج بي بي سي، والذي يدور حول سفارة بريطانية في دولة خيالية في آسيا الوسطى (لا وجود لها)، هي طازبكستان Tazbekistan. .
يضع المؤلف في الختام تعريفاً موجزاً للدبلوماسية على أنها حزمة من الجهود المتعددة يرعاها الطرف الاول من خلال التواصل المباشر مع مؤسسات الطرف الثاني، لإقامة حوار مدروس يدعم الأهداف الإستراتيجية ويعزز المصالح المشتركة للطرفين. .

د. كمال فتاح حيدر

مقالات مشابهة

  • البابا تواضروس الثاني عن الأنبا باخوميوس: كان نموذجًا في الوداعة والمحبة
  • عمر مرموش يسجل الهدف الثاني لـ مانشستر سيتي أمام بورنموث
  • كيف تفاعل غزيون مع حلول عيد الفطر للعام الثاني تحت القصف؟
  • الفنان حمزة العيلى يتساءل عن اختلاف الأهلة بين مصر والسعودية.. والإفتاء المصرية تُجيب
  • أصوم ولا أفطر؟ حمزة العيلي يتساءل والإفتاء تجيب
  • مصر بلدنا الثاني.. إفطار السودانيين في شارع فيصل.. صور وفيديو
  • كتاب: تاريخ البعثات الدبلوماسية
  • ملتقى الأزهر: الشريعة الإسلامية تحمل رسائل طمأنة وتحصين وتمكين للإنسانية
  • «محمد بن راشد للمعرفة» توزِّع 50 ألف كتاب
  • وفاة إمرأة سقطت من الطابق الثاني بتلمسان