كتاب في المقاصد والكُليات في مناهج الاستدلال والاستنباط والإفتاء
تاريخ النشر: 14th, December 2023 GMT
الكتاب: إعمال مقاصد الشريعة في صناعة الفتوى
المؤلف: ونيس المبروك الفسيي
الناشر: دار الأصالة
اتفقت كلمة المحققين من العلماء ـ سلفا وخلفا ـ على أن اعتبار المقاصد والكُليات في مناهج الاستدلال والاستنباط والإفتاء، هو نزولٌ عند مراد الشارع من بعثة الرسل وتشريع الأحكام، وعدّها كثيرٌ منهم شرطاً من شرائط الاجتهاد، حتى وسمها الإمام الغزالي رحمه الله، "قبلة المجتهدين" التي لا يستقيم استنباطُهم إلا إذا ولوا وجوهَهُم شطرَها .
وقد عرَفت الدراسات المقاصدية نمواً سريعاً متعدد المسارات، بخاصة منذ نُشر كتاب الموافقات للإمام للشاطبي، ثم دعوة الإمام الطاهر بن عاشور إلى تأسيس علم مقاصد الشريعة، الذي تناولَه العلماءُ بالتأليف، والنظم، والبسط، والاختصار، حتى استقر فناً وعلما، وانتقل ـ كما قال أستاذنا الجليل فضيلة الدكتور أحمد الريسوني ـ من الولادة الكامنة إلى الولادة الكاملة.
إلا أن مجالات الإعمال والتفعيل لازالت تعاني من حاجةٍ إلى بحوث تُثريها؛ ودراساتٍ تبينُ أهمَ مسالكِها وتُنميها، وتطبيقات وشواهد على تلكم المسالك تُرسيها؛ ومن هنا جاءت هذه الدراسة تحت عنوان "إعمالُ مقاصدِ الشريعةِ في صناعة الفتوى والأحكام".
إن المفتي لا يمكن أن يقتصر على ما يحفظه من مسائل الفروع في المدونة الفقهية، وإن تكلّف التخريج عليها! بل يجب عليه معرفة واستيعاب مقاصد الشريعة وكلياتها، ومعرفة طرائق ومسالك الاستدلال بها، وتفعيلها وتنزيلها، وكيفية إعمال المقاصد في الترجيح بين الاختيارات الفقهية، لأن جهل المفتي بمقاصد الشريعة، وتعليل الأحكام، ومآلات الأفعال، ومراعاة تغير الزمان والمكان؛ يتسبب في اضطراب نتائج الاستنباط، وثمرات الإفتاء، وحيرة وتناقض المفتي على حدٍ سواء، بخاصة في هذا العصر الذي يمور بالحركة الدؤوب، والتمدد والتجدد، والتماهي، والتداخل بين أنظمته الاقتصادية وقوانينه المحليةوالدولية، وأعراف مجتمعاته التي قرّبت بينها وسائلُ التواصل العصرية، بشكل لم يكن معهودا من قبل.
ولما كانت المصطلحات والمفاهيم من أهم مفاتيح العلوم، وأوعية المعارف، والغموض أو التعثر فيها تعثرٌ عند أبواب العلماء، ومن تعثّر على باب الشيء، عسُر عليه فهمه، والولوج إلى فنونه وأفنانه، ولذا، فقد جعلت فاتحة البحث فصلا تمهيديا؛ تناولت فيه أهم مصطلحات ومفاهيم الدراسة،وبينت أوجه الشبه والاختلاف بين بعضها.
وقسّمته إلى بابين أساسيين، جعلت الأول للشق النظري التأصيلي الذي يبين مفهوم صناعة الفتوى، ومسالك إعمال المقاصد، وضوابط تلك المسالك ، وقد سلكت فيه منهجا استقرائيا في الأعم الأغلب.
ثم جعلت الباب الثاني للشق التطبيقي الذي يظهر جملة الشواهد والدلائل على إعمال المقاصد في هذه الصناعة الثقيلة.
جاء الباب الأول في فصلين وأربعة مباحث، تكلمت في المبحث الأول عن الفتوى وأدواتها وآدابها، كشرائط لمن خاض هذا الفن، وتطّلع لهذا المقام، واخترت مصطلح "الصناعة" لأن الفتوى عبارة عن منتج ذهني صناعي مركب، ناتج عن عناصرَ عدة منها: الدليل والواقع والواقعة، والعلاقة بين الدليل بمراتبه ومصادره المختلفة، وبين الواقع بتغيراته وتعقيداته ومآلاته، وهي قضيةٌ مركبة، تقترن بمقدمات كبرى وصغرى، وتمر عبر مراحل للوصول إلى الحكم الشرعي في صيغته النهائية...
ثم تكلمت في المبحث الثاني عن قضية أساسية في صناعة الإفتاء وهي المراحل التي تتشكل فيها الفتوى وتمر بها تلكم الصناعة؛ من تصوير للمسألة في ذهن المفتي، ثم التكييف، والاستدلال، والتخريج، ، والتقصيد، والتنزيل.. وقد تعرضت في بحثي لتفصيل كل مرحلة من تلك المراحل، وأشرت إلى أهميتها في صناعة الإفتاء.
حتى تمتزجَ الأصالةُ بالمعاصرة وتقتربَ التطبيقات الفقهية من واقعنا المعاصر، فقد اخترت نماذج من فتاوى كبار العلماء الذين اشتهروا بالإفتاء في العصر الحديث، مبينا وجه إعمالهم للمقاصد في فتواهم، معقبا على فتواهم إذا اقتضى الأمر .ولما كان التشعب مدعاة لوضع القوانين والضوابط، فقد أتبعت كلَ مرحلةٍ بأهم الضوابط التي تخفف من الأخطاء، وتحوط ذهن المشتغل بالفتوى من الزلل عند تصوير المسألة أو تخريجها وتنزيلها وإخبار المستفتي بها .
وإعمال المقاصد وتفعيلها شأنه شأن كثير من النظريات التي تختلف حولها وفيها أنظارُ الباحثين والعلماء، بل لم يخل هذا العلم من منتحلين ومبطلين راموا تحريفَه، أو توظيفه لأغراض مشبوهة، وجعلوها مدخلا لتعطيل النصوص ودلالتها، وانحيازا للفلسفة النفعية المادية باسم مصالح الشريعة؛ ولهذا فقد جعلت المبحثَ الأول من الفصل الثاني في موضوع اختلاف المدارس والمذاهب حول إعمال مقاصد الشريعة، وتناولت فيه المدارس الأساسية الثلاث، وهي المدرسة النصية الظاهرية، والمدرسة المتكلفة التقويلية، والمدرسة الأصولية المقاصدية، وبينت ملامح كل مدرسة، وذكرت بعض حججها أو شبهاتها ، وناقشت بعضها.
وإن كانت المقاصد في بعدها الأصولي ـ كما قال الدكتور محمد كمال الدين إمام ـ هي أداة استنباط ومنهج تفسير وقواعد ترجيح"، فقد جاء المبحث الثاني ـ وهو من أهم مباحث هذه الدراسة ـ للحديث عن "مسالك إعمال المقاصد" وضوابط تلك المسالك، حيث بيّنت في هذا المبحث أن لإعمال المقاصد وتفعيلها، مسالك وطرائق، كان من أهمها: مسلك الترجيح بين الأدلة عند التعارض، وكذلك مسلك التقريب والتغليب، ثم تناولت أثر المقاصد في تفسير النص تفسيرا صحيحا لا يناقض الكليات التي تضافرت آحاد النصوص على اعتبارها، ثم مسلك التنويط والتنزيل، ثم مسلك رعاية المآل أو فقه التوقع، ثم مسلك رعاية قصد المكلف، ثم مسلك ترتيب الأولويات... وقد أتبعت تلك المسالك أيضا بضوابط لكل مسلك من هذه المسالك.
أما الباب الثاني من هذه الدراسة فقد خُصص للجانب التطبيقي لهذه النظرية، وشواهد إعمال مقاصد الشريعة عبر أهم عصور التشريع والتدوين، لأن دراسة التطبيقات المقاصدية على فروع الفقه، هي خير دليل استقرائي على صحة الدعوى، وهي أصدق شاهد على حضور المقاصد كدليل كلي من أدلة الاستنباط والإفتاء، وهي أنجد زاد لطلبة العلم والباحثين، من أجل التدريب العملي التطبيقي على البحث المقاصدي، ومعرفة طرائق الاستدلال، كما أنها تبصر المفتي بطرق إلحاق المسائل بمقاصدها، وتخريج الفروع على نظم أصولها..
وقد خصصت المبحث الثالث لفتاوى بعض فقهاء الصحابة الكرام رضي الله عنهم أجمعين ، ثم جعلت الفصل الثاني لبعض شواهد إعمال المقاصد في كتب فروع المذاهب السنية الأربعة" الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة" مرورا بفتاوى أئمة تلك المذاهب رحمهم الله جميعا ، مبينا خصائص كل مذهب، وعلاقة أصوله بالمقاصد فهما وتنزيلا.
وحتى تمتزجَ الأصالةُ بالمعاصرة وتقتربَ التطبيقات الفقهية من واقعنا المعاصر، فقد اخترت نماذج من فتاوى كبار العلماء الذين اشتهروا بالإفتاء في العصر الحديث، مبينا وجه إعمالهم للمقاصد في فتواهم، معقبا على فتواهم إذا اقتضى الأمر .
ونظرا لأهمية العمل المؤسسي والإفتاء الجماعي فإني خصصت المبحث الثاني لشواهد من اعتبار المقاصد في قرارات وفتاوى بعض المجامع العلمية المشتهرة .
وقد خلصتُ عبر مسيرة هذه البحث إلى خلاصات ونتائج، يجدها القارىء في نهاية كتابي، ملتمسا وراجيا من كل عالم أو طالب علم قرأ هذا الكتاب؛ أن يرسل إلى بملاحظاته العلمية والمنهجية، لعلي أستدرك به الخلل، أو أكمل بها ما اعترى البحث من زلل .
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي أفكار كتب تقارير كتب الكتاب مقاصد الدين فتاوى كتاب دين فتاوى مقاصد كتب كتب كتب كتب كتب كتب أفكار أفكار أفكار سياسة سياسة أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة مقاصد الشریعة المقاصد فی فی صناعة
إقرأ أيضاً:
الحلقة الثانية من كتاب ..عدسات على الطريق .. !!
بقلم : حسين الذكر ..
تلاشت الحركة العامة وخفة زحمة المرور وانقطع وقع آثار زحف المارة ، بعد أن اغلقت المتاجر والأسواق ،وصرير أبوابها ملأ المسامع . لم يتبق في المحطة الا شخصين احدهما بعنفوان الشباب ،كان يتلفت يمينا وشمالا ويدون بين الحين والآخر بعض الملاحظات بدفتر كان يحمله ، أما الآخر فرجل عجوز تبسمر باحدى زوايا المحطة ، أبيض الشعر أحدب الظهر، عميق التجاعيد ، إنفرد بزيه الموغل بالقدم ، حتى صار دالاً عليه ، يضع على عينيه نظارات ذات عدسات كبيرة مدورة ،يغطي رأسه بقبعة فرو لا تفارقه ابداً ، يدعى العم كاظم الحزين ، هو لقب أطلقه عليه أصدقاؤه في العمل ممن لم يشاهدوه يوماً والابتسامة تعلو شفتيه ، جلس كأنه كتلة لحم جامدة ، لمّ يديه تحت ساقيه واخذ يحرك ركبتيه بلطف بين الحين والاخر ، كان يضع كيساً من القش أمامه يحمل فيه بعض بضاعته التي يعمل بها ، بعد ان تقاعد من سلك التعليم منذ مدة طويلة ، فيما راتبه التقاعدي لا يسد رمق عائلته لأكثر من اسبوع في احسن الاحوال ، اذ بلغ التضخم أعلى درجاته تحت ويل الحصار واجراءات التقشف الحكومية التي عانى من آثارها واكتوى بنيرانها الفقراء والموظفون وكل أصحاب الدخل المحدود ، وقد أنهكته السنين الحبلى بمسلسل المصاعب ، ظل يعمل في بيع وشراء الكتب القديمة على إحدى أرصفة ساحة الميدان التي تكتظ ارصفتها بانواع البضائع القديمة والمستهلكة والمسروقة والتالفة التي كانت تعرض على شكل مجموعات من الانقاض والمتروكات ، لا تفرق بينها وبين حال من يبيعها ،اذ كان الباعة من ضعاف الحال ، سيماؤهم يعلوها التعب والملل واليأس بعد أن رمت بهم الضرورة القسرية وسوء الأوضاع بهذا المستنقع الوحل . ظل وحيداً تحت خيمة المحطة غير مكترث بما يدور غير آبه لما هو آت .
إستغرب الشاب متسائلا في قرارة نفسه !
لِمَ يجلس بهذه الحالة اليائسة ؟ آه كم جميل منظر هذا العجوز .. كأنه أسد كبير ، يتطلع ويتأمل من على قمة جبل شاهق ، غابته المحترقة التي تجري فيها الحيوانات هائمة على وجوهها من كل ناحية ولا يدري ماذا يفعل لأجلها ، على الرغم مما هو فيه ، إلا ان هيبته آخذة للعيان .. (دعني اقترب مسلماً عليه سائلاً عن أحواله ، إذا أمكن ذلك ..) ؟
خطا الشاب خطوات متأنية أمام العجوز وأطلق كلمات مرتبكة : مرحباً يا عم .
رفع العجوز رأسه ووضع سبابته وسط نظارته ، ثم نظر شزراً باتجاه الشاب وقال : أهلاً . ( إنه جواب لا ينم عن كثير من الارتياح وقد لا يشجع على المواصلة ، لكن لا يهم إنها البداية وغالباً ما تكون البدايات متعثرة . سأكرر عليه ). يا عم أنا طالب دراسات عليا وأُعد بحثاً عن الشرائح الاجتماعية العراقية وسط صعوبات الحصار الاقتصادي ، واني أراك رجلاً مسناً ، سطرت حكمته الايام وصقلها الدهر فأرجو ان لا تبخل عليّ بما ينفع من اجابات ، وآمل ان تجود بما في قريحتك .. اذا لم يضايقك ذلك ؟.
تبسم العجوز ، وأومأ اليه بالجلوس .. ان الدنيا حبلى ، بما لا نعلم ، لعل فيك مايؤنسنا وينسينا ! شكراً ياعم ، هذا لطف منك ، قبل كل شيء أرجو الاجابة وتفسير ما أنت فيه الآن ، لماذا انت هنا حتى هذه الساعة وقد أطبق الليل فكيه . تنفس العجوز عميقا وهز رأسه قليلاً ثم قال :-
ــ إني أعمل هنا في بيع وشراء الكتب القديمة ، وأنا من أصحاب الدخل المحدود جداً ، إذ أن راتبي التقاعدي لم يعد يكفي لسد رمقي الشخصي ، فكيف برب أسرة مثلي ، والحصار كما نراه ونتحسسه وحشاً ظالماً ، وقع شره وأثره علينا نحن الفقراء ، وأنا لا أملك غير هذه البطاقة التي توزعها المنشأة العامة لمصلحة نقل الركاب ، بأسعار زهيدة تكون عوناً لي وأمثالي لتخفيف حدة تكاليف وسائط النقل المكلفة جداً ، لاسيما الخاصة منها ، التي كما اظنك تعلم بأنها لا تناسبنا ولا نمتلك القدرة على استخدامها واستئجارها . إني آسف جداً .. هون عليك ذلك .. سنجد مخرجاً فيما بعد .. ولكن جلوسك هنا بهذه الحالة السلبية ، لا يعد اجراء صحيحاً لحل المشكلة ، وكان الأجدر بك أن تحاول الوصول الى دارك ،كما فعل بقية المواطنين ممن كانت تكتظ بهم المنطقة قبل ساعات بأي طريقة .. المهم أن تصل وتخرج مما أنت فيه !
ــ يا بني إن جلوسي هنا، ما هو إلا جزء من محاولتي للخروج من المأزق الذي تعرضت الى أمثاله مرات عديدة في حياتي من قبل واخرجتني عناية السماء التي اؤمن بها وأدعو لها سالما معافى . فان سبل الرحمة لا تغلق جميعها ولكن تبقي دائماً وأبداً على منفذ للخروج منه الى ذلك العالم الفسيح .
ــ لكنني لم أر منك ما يوحي بانك تصلي أو تدعو أو تعبد ربك !
ــ إن المناجاة ليس فقط بالتعبد الظاهري وفي الصلاة والصوم والقيام والقعود ، إذ ان في التأمل والتفكير والتطلع نحو السماء والتوسل بثقة في الخالق العظيم أرقى واقدس انواع المناجاة.
ــ طيب ، هل عندك فكرة عن نوع المساعدة التي سيقدمها لك الرب في هذا الظرف الصعب الذي تمر فيه .. وهل تعتقد أنه سيرسل لك باصاً خاصاً ! أم أنه سيضع في جيبك النقود ؟؟
ــ السماء حاضرة دوماً معي ، ولن تخيبني يوما ما، وما حضورك في هذه البقعة وبهذا الوقت إلا لتقديم أي نوع من المساعدة ، فهل تمتلك من الشجاعة ،ما يمكنك من مغادرة المكان دون أن تمد يد العون لي ..؟
ــ تبسم الشاب قائلا : أصبت في ذلك تماماً .. وأعلم باني اشتري مقابلتي مساعدتي لك ، بما لا يعادله ثمن !
ــ يا بني إن الإمدادات التي يتوخاها المؤمنون ، لا تنقطع غيبية كانت أم مادية ، وهذا ديدن السماء لمن يؤم وجهه إليها !
ــ ولكن كيف لرجل مسن ورب أسرة لا يمتلك مبلغا تافهاً من المال في مثل هذه الظروف .. ماذا لو تعرضت لطاريء يتطلب الكثير من المال مما لا يحمله تصورك .. حقا إني أفزع لمجرد التفكير بمثل هكذا مواقف ، ثم كيف أنك صابر على ذلك .. وأسمح لي أن أقول : إما أنت بليد ، لا تقدر عواقب الأمور ، أو أن ايمانك مثالي خيالي ، كالذي نسمع ونقرأ عنه ولا نراه على أرض الواقع !!
ــ يا ولدي لكل حادث حديث ولا شيء خارج حدود السيطرة الانسانية .. جل عمري انقضى ، صراعاً مريراً مع الدهر ، لم يحدث لي ما يرعبك .. لذا فهو غير موجود ، في الوقت الحاضر- في الاقل – ولا يستحق أن أشغل بالي فيه .. ثم ان الغالبية العظمى من أبناء بلدي ، هم مثلي أو أسوأ حالاً مني ، وهم يعيشون ، يفرحون ويحزنون يضحكون ويبكون ، أناس طيبون ، لهم مشاعر وأحاسيس وأمنيات وتطلعات وهم يمثلون السواد الأعظم من الشعب الذي أنت جزء منه !
ــ إعلم يا عم .. ان عنكبوتك أخذ ينسج حولي وحبك اخذ بتلابيبي ، دعني أكلمك بصراحة ولا تزعل مما سأدلوا فيه فقد اتضح لي أنك رجل كسول تعتمد الغيب لتبرير إخفاقاتك ، فكيف تعبر لي عن عمر وصفته بالطويل وأنت على هذه الحال الضائع ، تسرح في نهارك وتخمد في ليلك لا تفكر في تغيير أوضاعك نحو الأفضل ، ان الذي أنت فيه يدعو للعجب والسخرية ، فانت تمثل منتهى الفشل المذل والموت في الدنيا قبل موت الآخرة !
ــ يا ولدي .. هون عليك ولا تكن لاذعاً معي فاني شخت كما ترى ، بعد أن افنيت دهراً في ساحة الجهاد الأكبر وساحة الحرب الأبدية ، حتى آحدودب ظهري ، وما زلت في غاية الصبر والرضا أتحمل الويل والهوان في سبيل اتمام رسالتي الابوية ولن أبرح ساحة الوغى التي أراها عزاً وتكليفاً وتراها مستنقعاً للرذيلة ، حتى يغير الله أشياء كثيرة ونحن جزء منها .
ــ عجبي منك يا شيخ ، سنين طوال وحالك ترثي من وقعه حتى البهائم وأنت كما أنت ، لا تشكو ولا تهتز لنفسك وعيالك .. أين إيمانك بالله الذي تدعي ، اظنك تحسب الكسل عبادة والرضوخ إيماناً .
هنا حاول العجوز مقاطعته ، لكن الشاب أصر على تكملة الحديث .. يا عم إني جبلت على معرفة أن الله عادل ويدعونا للعدل والمساواة والعدل كل العدل أن لا نرضى بما لا يلق ببني البشر ، الذين كرمهم الخالق أحسن تكريم ، كما دعانا لمجاهدة ومحاربة سوء الحال أين ما كان وحل ، وأمرنا أن نسعى في الارض بحثاً عن الارقى لسيد الكائنات ( الانسان ) وأن لا نفعل كالنعامة التي تغطي رأسها كلما داهمها الخطر .
عندها تفتحت أسارير الشيخ وصفق قائلاً : أحسنت قولاً يا ولدي ، على ما يبدو اني اليوم أمام محاور صعب المراس ومتسلح بشكل جيد وأكبر ما يبدو من عمره .
ــ إن الأمور لا تحتاج الى الكثير من الاستعداد والتسليح ، والايمان الحق يدعوك دائماً الى الثورة والتغيير بالشكل والمضمون ، لأوضاعك السيئة التي لا تتناسب مع كرامة الانسانية التي وهبها الله لعباده وخلقه .
ــ حسن إنني رضيت بك قدوة لي ، فدعك من تبجحك هذا ، وأرني بما تشير علي في مثل هذا الظرف والوضع الذي انا فيه .
ــ عفواً ياعم ، فانا لا أقصد الإساءة وأتمنى لك حسن الحال والتوفيق ، وان لا تبقى نائماً ويائساً تنتظر الفرج يحط عليك من السماء وأنت غاط في سباتك العميق ، حتى يزيح عنك الستار ويكشف الغطاء ، ويغرقك بفيض الماء كي تصحو ، وأعلم أن مدد السماء لا ينزل على أرض الكسل والجهل .. فقم ناهضاً من فراشك نافضاً غبار الموت عن جسدك وروحك ، مستفيداً من عون السماء الذي هو في داخلك وليس بعيداً عنك كما تعتقد وتتصور متوهماً !
ــ كفاك توبيخاً ، ودعني أطلع على آرائك ( المعجزة ) فانها أعجبتني وأنا مشتاق جدا لسماعها !
تبسم الشاب ابتسامة ملؤها الامل والزهو ، ثم وقف امام المحطة ،متطلعاً للشوارع الخاوية . وقال : لقد داركنا الوقت ، فما رأيك بمعاودة الحديث يوم غد ؟
ــ أنا لا أحب التاجيل ، وأرجو منك أن تكمل ما بدأته معي !
ــ حسنا ، ما دمت مصراً على ذلك ، فدعنا نحتسي الشاي من ذلك الكشك القريب حتى نكمل بقية الحديث بمزاج أفضل .
ــ حسنا هيا انهض .. حسين الذكر