ازدواجية معايير أم صراع حضارات.. كيف نفسر سلوك الغرب تجاه المشرق في ضؤ الحرب؟
تاريخ النشر: 14th, December 2023 GMT
تشكِّل الحرب الدامية على غزة- والتي تجاوزت حتى الآن أكثر من شهرين- اختبارًا حقيقيًا لمواقف عدد من الدول في الانتصار للقيم الإنسانيَّة الكبرى في الحرية والعدالة والمساواة، مما غذَّى المنظور السائد بالانتقائية في التضامن والتعاطف، وازدواجية المعايير في الحكم والموقف من الأحداث التي تجري في الشرق والغرب، إذ يكون الحافز فيها، عادة، خاضعًا للمصالح على حساب المبادئ، تلك المبادئ والقيم التي تعتبر دستور العصر في تقرير المصير وحقوق الإنسان.
الإنسان بمعناه المطلق، حيثما كان ومهما كانت خلفيته الدينية والثقافية والعِرقية؛ كما هو متداول، خطابيًا على الأقلّ، في الفكر والمواثيق الدولية.
انكشفَ على مدار هذين الشهرين حجمُ التناقض- إن لم نقل الزيف- الذي يعتري هذه القيم الإنسانية الغربية؛ ذلك أن الناظر لما تمت مراكمته في مدونة حقوق الإنسان وفلسفة الحريات والمساواة والعدالة مع نموذج الديمقراطية الليبرالية في أميركا وأوروبا، انهار تمامًا على مستوى التجليات في الواقع العملي، حيث تسود المصلحة الخالية من القيمة، والقوة العارية من الأخلاق، ليس في رؤية الشعوب العربية والإسلامية وحسب- والتي لها تجارب مريرة مع أشكال القوة والاستعمار والخراب باسم تلك الشعارات نفسها – وإنما لدى لفيف عريض من الرأي العام الغربي نفسه.
استيقظ الرأي العام الغربي على رسالة معمّدة بشلال الدم في غزة، مصحوبة بمواقف سياسية عبَّرت عن انتكاسة أخلاقية عميقة، قد تكون لها آثارٌ ممتدة على مدى الزمن في المواقف النفسية والمعرفية للشعوب العربية والإسلامية، من هذه الدول التي لم تتخلص من عقدة الاستعلاء في النظر إلى الآخر، حضارة وثقافة وشعوبًا، مما قد يدفع للواجهة حدة التباين بين الشرق والغرب، ويذكي الاختلاف والتمايز على أساس ثقافي وحضاري.
فهل يمكن أن تدفع مواقف أوروبا وأميركا- المنحازة لإسرائيل انحيازًا مطلقًا- إلى رسم خريطة جديدة للعالم على أسس ثقافية حادة، ومن ثم تعميق الهوة بين الغرب والشرق؟ أم أن يقظة الضمير لدى الرأي العام الغربي- والتي تجلت في تعاظم التعاطف مع القضية الفلسطينية- يمكن أن تحدث توازنًا في الأمد المنظور، ومن ثم الدفع بالسردية السائدة إلى التغيير؟
كانت رؤية هنتغتون الصدامية للحضارات والثقافات قائمة على تغذية النزاع والصراع على أسس ثقافية حادة بين الشرق والغرب، تقدم الإسلام والثقافة العربية والإسلامية في صبغة العنف المستلهم من الأصول الدينية
عودة الانقسام الحاد بين الغرب والشرقلم يكن بالنسبة للرأي العام العربي والإسلامي- وهو يتابع مواقف عدد من الدول الغربية الكبرى، وتقديمها الدعم السياسي والعسكري لإسرائيل – أن يفهم ذلك بعيدًا عن التحالف بصبغة حضارية وثقافية، بالإضافة إلى المصالح المشتبكة من حيث الدور الوظيفيّ الذي تقوم به في الشرق الأوسط.
كان الأمر مريبًا بالنسبة للبعض، وهو يشهد زيارات الدعم والمساندة، والتماهي مع الرواية الإسرائيلية وتوفير الغطاء السياسي التام لعملية عسكرية أودت بحياة الآلاف من الأطفال، منهم الخدج، والنساء والشيوخ، مع التهجير القسري، وتدمير المستشفيات ودور العبادة؛ من مساجد وكنائس على من فيها من الراغبين في الاحتماء بقدسية أماكن العبادة والرعاية الصحية.
جرت العادة والعرف الأخلاقي في الحروب وحسب المواثيق والقوانين، أن لكل حرب حدودًا أخلاقية لا تتجاوزها، وأماكن لا يُتجرَّأ عليها، لكن الذي حدث على مرأى من العالم هو نقيض ذلك تمامًا، كل ذلك والدول التي أبدعت في صياغة المفاهيم والنظم الأخلاقية المعاصرة، توفر الغطاء لانتهاك هذه المفاهيم والنظم، مما يرسخ حالة الازدواجية والتناقض.
يكشف ذلك أنّ المواقف في كثير من الأحيان، تتحدد على أرضية بعيدة عن الدوافع الأخلاقية والقيمية، وهو ما عززته سردية الخطاب السياسي والإعلامي الذي يبرّر الحرب، ويعتبر كل نقد سياسي وأخلاقي- يذكر بمشكلة الاحتلال والاستيطان وهضم حقوق الشعب الفلسطيني- معاداةً للسامية، تستوجب التجريم قانونًا، وتحاصر على مستوى الإعلام وفي الواقع.
لم يتم الانتباه إلى أن طبيعة هذا الانزياح- في المواقف والسياسات الداعمة للتطهير العِرقي والتنكيل بالفلسطينيين بأكثر الأنماط بشاعة ودموية في التاريخ- ستزيد من الهوّة بين الشرق والغرب، وتعمق الاختلافات على أسس حادة وتهدم جسورًا من علاقات هذه الدول مع شعوب العالم العربي والإسلامي، التي تحتفظ في وجدانها وثقافتها وتاريخها بمكانة خاصة لفلسطين والمسجد الأقصى.
بل إنّ الاختلالَ على مستوى المعايير المحددة للمواقف السلبية والاصطفافات التي جرت على بساط الدم الفلسطيني، هو تاريخٌ من الاصطفافات المشابهة، سواء مع محنة الشعب الفلسطيني الممتدة، أو مع أحداث مشابهة عديدة منذ زمن المد الاستعماري، والتي تكون فيها الديناميات والبواعث للمواقف- كما هو متداول في حديث الساسة والإعلاميين ــ قائمةً على الـ "نحن" والـ"هم"، بخلفية تتداخل فيها الثقافة بالسياسة بالجوانب الحضارية والدينيّة العامة، بكثير من التعميم والحدية، بعيدًا عن الحس الأخلاقي والعقلاني، مما يستدعي جذورًا للصراع تشكل خطرًا على المستقبل.
ينتعش الصدام الحضاري حينما تنعدم المعايير الإنسانية والأخلاقيةأعاد الاصطفاف لدى معظم الدول الغربية- في الموقف الرسمي مما يجري من الحرب على غزة- إلى الأذهان طبيعة العلاقة بين الغرب والشرق، التي اتسمت تاريخيًا بكثير من أوجه المد والجزر: التوافق حينًا والصدام أحيانًا أخرى، وقد كانت أوجه النزاع السياسي والعسكري، بشكل مستمر، عاملًا رئيسيًا في تغذية التباين الثقافي وإبراز عناصر الاختلاف الديني والحضاري.
وعلى الرغم من أن الغرب ليس كتلة واحدة، وإنما هو كتل متنوعة متداخلة، والشرق ليس كما هو متخيل لدى العديد من الساسة والمثقفين الغربيين، فإن الموقف الحاد الذي تشكل من حضارة العرب والمسلمين- على مسرح التاريخ منذ القرون الوسطى إلى الأندلس، ثم الاستعمار لاحقًا – جعل العلاقة مضطربة، ومنح الاختلاف والتباين أولوية على محاولات التواصل والتعاون.
أخذ هذا التوجه الجيوسياسي في التشكل عقب انهيار الاتحاد السوفياتي، مع هندسة خريطة العالم على أسس ثقافية وحضارية، من طرف من يحملون هذه النزعة الثقافية، من أمثال: برنارد لويس، وصامويل هنتغتون.
وذلك من خلال تجسيد التحدي الجديد أمام الولايات المتحدة الأميركية في الأيديولوجيا التي يحملها الإسلام، تجسيدًا يتسم بالتعميم المخلّ والسطحي وينظر للعالم على أسس وقوالب حضارية وثقافية أحادية وجامدة، وليس على محددات ديناميكية تعددية ومتفاعلة تستطيع أن تنمي جسور التواصل بعدالة وإنصاف، والتشبيك بين الثقافات والشعوب على أسس وقواعد من الفهم والاحترام المتبادل.
مثلت رؤية هنتغتون الصدامية للحضارات والثقافات- والتي هيمنت على وعي المحافظين الجدد مدة من الزمن- تعبيرًا عن توجّه إستراتيجي لدى الولايات المتحدة الأميركية حينها، وهي رؤية قائمة على تغذية النزاع والصراع على أسس ثقافية حادة بين الشرق والغرب، تقدم الإسلام والثقافة العربية والإسلامية في صبغة العنف المستلهم من الأصول الدينية.
على الرغم من اندثار هذا الرأي على المستوى الخطابي لدى الأكاديميين والسياسيين، فإن الممارسات التي يشهدها النزاع الحالي في فلسطين اليوم، أعادت هذا الرأي إلى الواجهة من جديد.
بل إن البعض اتّجه رأسًا إلى الحديث عن ضرورة تعديل مناهج التربية والتعليم من أجل نزع بذور العنف من وعي الفلسطينيين، وإلى تصوير الصراع كأنه صراع ديني صرف، وفي ذلك أمران جديران بالملاحظة:
أولًا: إغفال حقيقة الدين الإسلامي ومدى ما تستبطنه قيمه ونصوصه وتجربته الحضارية من تأسيس للتعايش والتسامح والرحمة على أسس أخلاقية متينة. ثانيًا: هذا فيه نوع من الالتفاف والتعمية على أصل المشكلة التي أصبحت موضع تعاطف إنساني شامل بمن فيهم ساسة دول غربية.وأصل المشكلة قائمٌ في الاحتلال والاستيطان والفشل الأممي في تحقيق العدالة للشعب الفلسطيني وَفق ما نصت عليه واعترفت به القرارات الأممية كحد أدنى وإلزام إسرائيل باحترام القانون الدولي، وضرورة رفع الحصار عن مليوني إنسان في غزة على المدى الطويل.
ما يتوجب القيام به الآن، إنقاذ غزة من لهيب النار ومن آلاف الأطنان من المتفجرات التي تدمر العمران وتحرق الإنسان أمام مرأى ومسمع من العالم.
إن ما نشهده من قلب للحقائق وتزييف الوعي يجعل، من هذا الحجم من الدم المتدفق دون مراعاة لحرمة الإنسان وقدسيته وحقه في الحياة وتقرير مصيره، واحدة من أبشع ما مر على الإنسانية من جرائم.
كان الأحرى بالوعي الإنساني أن يستيقظ حينما اعتبر وزير في حكومة الحرب، أن الفلسطينيين مجرد حيوانات بشرية، فالوصف بما هو دون الإنسان، أو نزع صفة الإنسانية والآدمية، هو مقدمة لممارسة عملية تطهير وقتل جماعي.
لكن هذا التصريح ورد في سياق كان فيه التسابق جماعيًا لتقديم الغطاء لما نرى فصوله من مأساة راهنة، ستكون آثارها عميقة على العلاقة بين الشرق والغرب على المدى الإستراتيجي إذا لم يتم وقف آلة القتل، بل إن نتيجة التضامن الإنساني في كل العالم، ستجعل من الانعكاس ممتدًا للتأثير في دول كبرى.
ختامًا: تتشكل المواقف الحساسة للشعوب في معين الأزمات والنزاعات وفي سياقات الضغط بفعل ديناميات سيكولوجية ومعرفية وسياسية، ونظرًا لرمزية فلسطين في الوعي العربي والإسلامي، فإن ما يجري بها يمتد أثره إلى كل جغرافيا العالم الإسلامي.
كان الاصطفاف في الحرب على غزة تحت مسمى الدفاع عن النفس، دون النظر في الحق الفلسطيني المُهدَر، تعبيرًا عن خلل فادح في المنظومة السياسية الغربية والوعي الذي تتشكل على أساسه وعلائقها التي تعيد التذكير بجذور مشكلة وثقافة الاستعمار، ما قد يعمق الشرخ ويذكي الهوة على أسس ثقافية وحضارية حادة بين الغرب والشرق، تزيد من تخليق المشاكل في المستقبل إذا لم يتم الانزياح عن هذا الموقف الذي يعبر عن انتكاسة أخلاقية.
لكن في صلب هذه المأساة استطاعت القضية الفلسطينية أن تخلق دينامية جديدة في صفوف الرأي العام الغربي نفسه، الذي أحدث توازنًا مع الموقف السياسي السلبي لعدد من الدول، ويرجح آفاق التعاون على أسس أخلاقية وإنسانية. وذلك موضوع المقالة المقبلة.
aj-logoaj-logoaj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معناأعلن معنارابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinerssالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: العربیة والإسلامیة الرأی العام الغربی بین الشرق والغرب
إقرأ أيضاً:
اختلافات منهجية بين المشرق والمغرب.. تحليل لتفسيري الطبري وابن عطية
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
يُعد تفسير القرآن الكريم عملية معقدة تتأثر بالبيئة الثقافية والاجتماعية والسياسية لكل مفسر، حيث يختلف المنهج والأسلوب باختلاف المدارس الفكرية والمناخات التاريخية التي نشأ فيها كل مفسر.
انعكس هذا التباين بوضوح عند مقارنة تفاسير علماء المشرق والمغرب العربي، إذ تأثر كلٌّ منهم بواقعه المعرفي ومحيطه الاجتماعي، مما أوجد تباينات في الفهم والتفسير لبعض القضايا المركزية في الإسلام.
يعد الإمام الطبري أحد أبرز مفسري المشرق العربي، حيث اتسم تفسيره بالنقل والرواية والاعتماد على أقوال السلف، متأثرًا ببيئة بغداد التي كانت مركزًا للعلوم النقلية والعقلية في عصره. في المقابل، يمثل ابن عطية الأندلسي المدرسة التفسيرية في المغرب العربي، والتي تميزت بمزج التفسير بالمأثور مع الاجتهاد العقلي، مستفيدةً من المناخ العلمي المتأثر بالفكر الفلسفي في الأندلس.
تهدف هذه الدراسة إلى تحليل الفروق المنهجية بين تفسير الطبري وابن عطية من خلال ثلاثة موضوعات رئيسية ذات أهمية كبرى في الفكر الإسلامي: الجهاد، الإمامة، والمرأة. من خلال هذه المقارنة، نسعى إلى فهم تأثير العوامل البيئية والثقافية على تفسير النصوص القرآنية واستكشاف كيفية تشكيل السياقات التاريخية للفهم الديني عبر العصور.
الخصائص العامة لتفسير الطبري وابن عطيةتفسير الطبري
يتسم تفسير الطبري بمنهج الرواية، حيث يعتمد على أقوال السلف والنقل عن الصحابة والتابعين. كان لهذا المنهج دورٌ أساسي في تقديم تفسير يقوم على الموروث الديني ويبتعد عن التأويل الشخصي أو الاجتهاد المستقل، مما جعله مرجعًا أساسياً في التفسير بالمأثور.
اعتمد الطبري على جمع الروايات المختلفة ونقلها بأسانيدها، الأمر الذي وفر للباحثين مادة غنية لمعرفة كيفية فهم السلف للقرآن الكريم.
لم يكن الطبري مجرد ناقل للروايات، بل كان يُحكّم في صحة الأسانيد ويُرجّح بين الأقوال، وهذا يدل على منهج نقدي داخل التفسير بالمأثور. كما أن اعتماده على أقوال الصحابة والتابعين يعكس اهتمامه بتفسير القرآن بالقرآن والسنة، متجنبًا الانحرافات التأويلية التي قد تخرج التفسير عن معناه الأصلي.
يستخدم الطبري الترجيح بين الأقوال، ويميل إلى التفسير بالمأثور. لم يكن الطبري يقتصر على جمع الروايات المختلفة، بل كان يُمارس منهج الترجيح بينها وفق معايير علمية دقيقة. فقد كان يرجّح الرواية الأقرب إلى اللغة العربية والسياق القرآني، وأحيانًا يعتمد على إجماع الصحابة والتابعين عند وجود تعارض بين الروايات. هذا الأسلوب جعله من أكثر المفسرين دقة في تقديم فهم متماسك للآيات.
إضافة إلى ذلك، يبتعد الطبري في تفسيره عن استخدام التأويلات الفلسفية والكلامية التي انتشرت في عصره، مكتفيًا بالاعتماد على النقل الموثوق والتحليل اللغوي. وقد أدى ذلك إلى ترسيخ مدرسته التفسيرية التي تقوم على أساس علم الحديث، مما جعله من أبرز المفسرين الذين حافظوا على منهج السلف.
يعكس تفسير الطبري بيئة بغداد التي كانت مركزًا للعلوم النقلية والعقلية، ويظهر تأثره بعلم الحديث والكلام. كانت بغداد في عصر الطبري مركزًا علميًا مهمًا، حيث ازدهرت علوم الحديث والتفسير والفقه والكلام. أثّر هذا المناخ الثقافي على تفسير الطبري، حيث تبنى أسلوبًا علميًا قائمًا على الجمع والتحليل النقدي للمرويات، مع الإلمام بالنقاشات الفكرية الدائرة في عصره.
كما أن تأثره بعلم الحديث يظهر في طريقته في توثيق الأسانيد وتحليلها، إذ كان يهتم بصحة الروايات قبل الاستشهاد بها، مما أكسب تفسيره موثوقية كبيرة بين العلماء. ورغم انفتاح بغداد على التيارات الفلسفية والكلامية، إلا أن الطبري تجنب إدخالها في تفسيره، وفضل الاقتصار على المنهج النقلي، مع إشارات محدودة إلى القضايا الكلامية عند الحاجة لتوضيح مفهوم معين.
تفسير ابن عطية
يمزج ابن عطية بين التفسير بالمأثور والتفسير بالرأي، متأثرًا بالمنهج المالكي والأشعري. اعتمد ابن عطية على الجمع بين التفسير النقلي والتفسير العقلي، حيث كان يميل إلى الاستفادة من أقوال الصحابة والتابعين، لكنه في الوقت ذاته لم يكن يتردد في إعمال العقل والترجيح بين الأقوال. كان ذلك انعكاسًا للمنهج الفقهي المالكي، الذي يوازن بين الرواية والاجتهاد، بالإضافة إلى العقيدة الأشعرية التي تبنت منهجًا عقلانيًا معتدلًا في فهم النصوص الدينية.
و كان تأثره بالفقه المالكي ظاهرًا في طريقته في التعامل مع الأحكام الشرعية، حيث كان يفسر الآيات بناءً على أصول المذهب المالكي، مع الحرص على تقديم فهم فقهي متماسك. كما يظهر أثر العقيدة الأشعرية في اهتمامه بتفسير الآيات المتعلقة بالعقيدة، حيث كان يميل إلى التأويل الذي ينسجم مع أسس المذهب الأشعري، بعيدًا عن التفسير الحرفي للنصوص.
يتميز ابن عطية بالدقة اللغوية والاهتمام بالسياق البلاغي. كان ابن عطية شديد العناية باللغة العربية وقواعدها، حيث أولى اهتمامًا كبيرًا بالإعجاز البياني في القرآن، واستعرض المعاني المحتملة للألفاظ والعبارات بدقة. اعتمد في تفسيره على التحليل النحوي والبلاغي، مما ساعده على تقديم فهم أكثر عمقًا للنصوص القرآنية، بعيدًا عن التفسيرات السطحية.
كما كان يهتم بالسياق العام للآية، محاولًا فهم النص ضمن سياقه التاريخي والموضوعي، وهو ما جعله يقترب في بعض المواضع من التفسير التحليلي الحديث. لم يكن يعتمد فقط على التفسير اللفظي، بل كان يبحث في الترابط بين الآيات واستنتاج المعاني وفق سياقاتها المختلفة، مما أضفى على تفسيره طابعًا تحليليًا متقدمًا.
يتأثر ابن عطية بالبيئة الأندلسية التي شهدت تفاعلًا بين العلوم الإسلامية والفكر الفلسفي العقلاني. عاش ابن عطية في بيئة فكرية متطورة حيث كانت الأندلس مركزًا علميًا هامًا يجمع بين العلوم الإسلامية والعلوم العقلية مثل الفلسفة والمنطق. هذا التأثير انعكس في تفسيره، حيث كان أكثر انفتاحًا على التفسيرات العقلانية، مع محاولته التوفيق بين النصوص الشرعية والفكر الفلسفي السائد في عصره.
كما أن وجوده في بيئة شهدت احتكاكًا بين المسلمين والمسيحيين أثر في أسلوبه التفسيري، حيث كان يحرص على تقديم صورة متماسكة للفكر الإسلامي قادرة على مواجهة التحديات الفكرية والدينية. ولذلك، كان يتعامل مع القضايا الجدلية في التفسير بحذر، محاولًا تقديم فهم متزن يجمع بين التراث الإسلامي والوعي الفلسفي العقلاني.
تفسير آيات الجهاد
يفسر الطبري آيات الجهاد من منطلق الروايات النبوية وأقوال الصحابة، حيث يركز على الجانب التشريعي والفقهي، معتبرًا أن الجهاد وسيلة لحماية الإسلام ونشره. من خلال تفسيره لقول الله تعالى: "وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله" (الأنفال: 39)، يرى الطبري أن هذه الآية تعبر عن وجوب استمرار الجهاد حتى يتحقق التوحيد التام، وهو ما يتماشى مع فهم الصحابة والتابعين لمفهوم الجهاد في ظل الفتوحات الإسلامية.
يتأثر تفسير الطبري للآيات القتالية بالسياق السياسي والثقافي لعصره، حيث كانت بغداد عاصمة الخلافة العباسية مركزًا للفقه الإسلامي والتنظير السياسي. لهذا، كان الطبري ميالًا إلى تقديم تفسير يتماشى مع السياسات العسكرية للخلافة، مما يظهر في تأكيده على مشروعية القتال ضد المشركين حتى يخضعوا لحكم الإسلام. كما يذكر الطبري في تفسيره لآية "فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم" (التوبة: 5) أن هذه الآية جاءت كأمر قاطع للقتال بعد انتهاء المهلة التي أُعطيت للمشركين، مستندًا إلى أقوال الصحابة في تحديد نطاق تطبيقها.
كما أن الطبري يعكس في تفسيره النزعة الفقهية المشرقية التي تميل إلى التفصيل في الأحكام، حيث يوضح شروط الجهاد، مثل إذن الإمام، تقسيم الغنائم، وحكم الأسرى، مستندًا إلى الأحاديث النبوية. هذا المنهج يعكس بيئة بغداد العلمية التي كانت تعج بالمذاهب الفقهية المتنافسة، مما جعل الطبري حريصًا على تقديم تفسير متوازن بين مختلف الآراء الفقهية.
علاوة على ذلك، يظهر في تفسير الطبري تأثره بالمفهوم التقليدي للجهاد القائم على المواجهة العسكرية، وهو ما يختلف عن توجهات بعض المفسرين في العصور اللاحقة. وهذا يفسر استخدامه لروايات الصحابة التي تتحدث عن أهمية الجهاد كوسيلة لإعلاء كلمة الله، مستشهدًا بأحاديث مثل "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله"، مما يعكس رؤية واسعة لمفهوم الجهاد تتجاوز كونه مجرد دفاع عن النفس.
يميل ابن عطية إلى تحليل سياق الآيات وربطها بواقع المسلمين في الأندلس، حيث كان الجهاد في زمنه دفاعيًا في الغالب بسبب التهديدات المستمرة من الممالك المسيحية في شمال إسبانيا. في تفسيره لآية "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم" (الأنفال: 60)، يركز ابن عطية على أهمية الاستعداد العسكري كوسيلة لردع الأعداء بدلًا من التركيز على الهجوم والفتح، وهو ما يعكس طبيعة الجهاد في الأندلس كصراع للبقاء.
تتضح البيئة الثقافية والاجتماعية للأندلس في تفسير ابن عطية من خلال اهتمامه بالجهاد كأداة دفاعية أكثر من كونه وسيلة لنشر الإسلام. في ظل تراجع الحكم الإسلامي في الأندلس وتزايد الضغوط من الممالك المسيحية، كان ابن عطية أكثر حرصًا على تقديم تفسير ينسجم مع واقع المسلمين هناك. في تفسيره لآية "لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم" (الممتحنة: 8)، يشدد على أن التعامل السلمي مع غير المسلمين جائز إذا لم يكن هناك اعتداء مباشر، مما يعكس رؤية أكثر براغماتية للجهاد مقارنةً بالطبري.
كما يظهر تأثر ابن عطية بالمنهج المالكي في تفسيره لأحكام الجهاد، حيث يولي اهتمامًا بمسألة النية والعدالة في القتال. فعند تفسيره لقوله تعالى "وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين" (البقرة: 190)، يوضح أن هذه الآية تؤكد على أن القتال يجب أن يكون ردًا على العدوان فقط، وهو ما يتماشى مع الفقه المالكي الذي يضع ضوابط صارمة لاستخدام القوة العسكرية.
إضافة إلى ذلك، يتضح تأثير الفكر الفلسفي السائد في الأندلس في طريقة ابن عطية في تحليل الجهاد من منظور سياسي وأخلاقي. فهو لا يكتفي بذكر الأحكام الفقهية، بل يناقش أبعاد الحرب والسلم في الإسلام من خلال ربطها بمفاهيم العدل والضرورة السياسية. وهذا يعكس انفتاح الفكر الأندلسي على التيارات العقلانية التي كانت منتشرة آنذاك، مما جعله يتبنى تفسيرًا أكثر تأملًا في قضايا الحرب والسلام.
تفسير آيات المرأة
يفسر الطبري آيات المرأة بناءً على المنهج النقلي الذي يعتمد على الروايات الواردة عن الصحابة والتابعين. في تفسيره لقوله تعالى "الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض" (النساء: 34)، يذهب إلى أن القوامة تكليف شرعي يجعل الرجل مسؤولًا عن المرأة بسبب تفوقه في القدرة الجسدية والمالية. يعتمد الطبري في ذلك على أقوال السلف التي تعزز فكرة القوامة بمعناها التقليدي، مستشهدًا بالأحاديث النبوية التي توضح مسؤولية الرجل في الإنفاق والرعاية.
يتأثر تفسير الطبري بالسياق الثقافي للمجتمع العباسي الذي كانت تسوده رؤية تقليدية لدور المرأة، حيث كانت القوامة مفهومًا يعكس النظام الاجتماعي القائم. في هذا السياق، يرى الطبري أن القوامة ليست مجرد تفويض للسلطة، بل هي مسؤولية تتطلب من الرجل العدل والإحسان، مما يجعله يفسر القوامة على أنها تكليف وليست تفضيلًا مطلقًا.
كما أن الطبري يفسر آيات الميراث مثل قوله تعالى "للذكر مثل حظ الأنثيين" (النساء: 11) وفق القواعد الفقهية المتبعة، مؤكدًا أن هذا التقسيم قائم على العدل وليس التمييز. يستند في ذلك إلى سياق الأحكام الشرعية التي تلزم الرجل بالنفقة، وبالتالي يرى أن التفاوت في الميراث مبرر بتفاوت المسؤوليات المالية بين الجنسين.
يتبنى ابن عطية تفسيرًا أكثر عقلانيًا لآيات المرأة، حيث يميل إلى إبراز السياق التشريعي والاجتماعي للنصوص. في تفسيره لقوله تعالى "الرجال قوامون على النساء"، يركز على مفهوم القوامة باعتبارها تنظيمًا أسريًا يهدف إلى تحقيق الاستقرار وليس تمييزًا بين الجنسين. يوضح أن القوامة تتعلق بأدوار تكاملية بين الرجل والمرأة، مستندًا إلى تفسير لغوي وبلاغي للمصطلح.
كما يظهر تأثير الفقه المالكي في تفسير ابن عطية لقضايا المرأة، حيث يؤكد على أهمية العدل والموازنة في الأحكام الشرعية. عند تفسيره لآيات الميراث، يشير إلى أن التشريع الإسلامي جاء لتنظيم الحقوق بما يحقق العدالة الاجتماعية، مع التأكيد على أن هذا التقسيم لا يقلل من مكانة المرأة، بل يعكس طبيعة التشريعات التكافلية في الإسلام.
إضافة إلى ذلك، يتضح تأثر ابن عطية بالفكر الفلسفي الأندلسي في تحليله لدور المرأة، حيث يربط الأحكام الشرعية بالسياق الاجتماعي المتغير. في تفسيره لآية الحجاب "وليضربن بخمرهن على جيوبهن" (النور: 31)، يوضح أن الهدف من التشريع هو تحقيق الحشمة وليس فرض قيود على حركة المرأة، مما يعكس انفتاح الفكر الأندلسي على تأويلات أكثر مرونة لقضايا المرأة.
تفسير آيات الإمامة
يرى الطبري أن الإمامة منصب ديني وسياسي يرتبط بتحقيق الشريعة وإقامة العدل، وهو ما يظهر في تفسيره لآية "وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إمامًا" (البقرة: 124). يفسر الطبري هذه الآية على أن الإمامة اصطفاء من الله يقتضي الطاعة والاتباع، مستندًا إلى أقوال الصحابة والتابعين.
يتأثر تفسير الطبري للسياق العباسي الذي كان يعطي أهمية كبيرة لمفهوم الخلافة كنظام سياسي ديني. في تفسيره لآية "يا داوود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق" (ص: 26)، يبرز الطبري مفهوم الحاكمية المستمدة من الله، مما يعكس النظرة السائدة آنذاك التي تركز على الطاعة للخليفة باعتباره ممثلًا للشرع.
كما يؤكد الطبري على شروط الإمامة، مثل العلم والعدل والقدرة على الحكم، مما يتفق مع الفقه السياسي السائد في بغداد. عند تفسيره لقوله تعالى "أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم" (النساء: 59)، يوضح أن الطاعة لأولي الأمر واجبة ما داموا يحكمون بالشرع، مستشهدًا بأحاديث تدعو لطاعة الحكام.
إضافة إلى ذلك، يظهر في تفسير الطبري تأثره بالخلاف بين الفرق الإسلامية حول الإمامة، حيث يرفض الآراء التي ترى أن الإمامة حكر على فئة معينة، معتبرًا أن المعيار الأساسي هو القدرة على إقامة الدين.
يرى ابن عطية أن مفهوم الإمامة لا يقتصر على الجانب السياسي، بل يمتد ليشمل القيادة الدينية، وهو ما يظهر في تفسيره لآية "إني جاعلك للناس إمامًا"، حيث يشير إلى أن الإمامة مسؤولية عظيمة تتطلب التقوى والعلم.
يتأثر تفسير ابن عطية بالبيئة الأندلسية التي شهدت استقرارًا سياسيًا مختلفًا عن المشرق، مما يجعله أكثر ميلًا إلى التأكيد على الجوانب الأخلاقية والشرعية في الإمامة بدلًا من التركيز على السلطة السياسية. في تفسيره لآية "وأولي الأمر منكم"، يؤكد أن الطاعة للحكام مشروطة بإقامة العدل.
كما يتضح في تفسيره تأثره بالمنهج المالكي، حيث يركز على شروط الإمامة وفق الفقه المالكي، مثل العدل والكفاءة والعلم. في تفسيره لآية "وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون" (السجدة: 24)، يشدد على أن الإمامة يجب أن تقوم على الإرشاد والهداية.
إضافة إلى ذلك، يبرز في تفسير ابن عطية اتجاهه إلى تجنب الخلافات السياسية الكبرى التي أثرت على التفسير المشرقي، حيث يقدم فهمًا أكثر عمليًا وواقعيًا لدور الإمام في المجتمع الإسلامي.
الخاتمة
يتبين من خلال هذه الدراسة أن البيئة الثقافية والاجتماعية لكل مفسر لها دور بارز في تشكيل فهمه للنصوص القرآنية. فالطبري، الذي نشأ في بغداد، اعتمد على التفسير بالمأثور وركز على الأحكام الفقهية وفقًا للواقع السياسي والديني في عصره، بينما ابن عطية، المتأثر بالمناخ الأندلسي، دمج بين النقل والعقل ليقدم تفسيرًا أكثر تفاعلًا مع الفكر الفلسفي والاجتهاد المالكي.
كما يظهر الاختلاف جليًا في تفسير آيات الجهاد، حيث مال الطبري إلى رؤية الجهاد كأداة لنشر الإسلام وإقامة الشريعة، بينما ركز ابن عطية على البعد الدفاعي للجهاد، متأثرًا بالظروف التي عاشها المسلمون في الأندلس. أما في قضايا المرأة، فإن تفسير الطبري عكس المفاهيم الفقهية التقليدية التي تؤكد القوامة المطلقة للرجل، في حين أن ابن عطية قدم رؤية أكثر توافقًا مع الاعتبارات الاجتماعية والتشريعية.
أما في قضية الإمامة، فإن تفسير الطبري تأثر بالسياق العباسي الذي كان يعلي من شأن الخلافة الدينية والسياسية، بينما ركز ابن عطية على الشروط الأخلاقية والعلمية للإمام، مما يعكس واقع الأندلس الذي لم يكن يخضع لنظام الخلافة المركزية بنفس الدرجة.
بناءً على هذه الاختلافات، يُوصى بأن يُنظر إلى التفاسير ضمن سياقاتها الزمنية والثقافية لفهم أبعادها بشكل أعمق. كما يُقترح أن تُعزز الدراسات المقارنة بين التفسير المشرقي والمغربي لفهم تطور الفكر الإسلامي عبر العصور والاستفادة من هذا التنوع في تعزيز منهجيات التفسير الحديثة.