مصائد النحل تتحدى التضاريس في جبل “أحد ثربان”
تاريخ النشر: 14th, December 2023 GMT
البلاد ــ أبها
رغم مرور أكثر من 8 عقود على تقلّص الاهتمام بمهنة جمع العسل الجبلي من خلايا النحل البرية التي تبني خلاياها في معظم الجبال الشاهقة بمنطقة عسير، إلا أن آثار وأدوات تلك المهنة الشاقة والمربحة في الوقت نفسه، ما زالت شاهدة عيان على قوة وعزم الرجال الذين كانوا يجنون العسل من مواقع شاهقة الارتفاع وذات انحدارات شديدة.
وفي مركز “أحد ثربان” الواقع غرب محافظة “المجاردة”، نجد خلايا نحل خشبية “عيدان” تعود لعشرات السنين، وضعت في أعالي الجبال وفي مواقع وعرة جداً لاستقطاب جموع النحل المهاجرة من مواقع مختلفة أو تلك المغادرة من المناحل المنزلية والتي يطلق عليها محلياً ” الفرعان”.
وأكد أحد سكان أحد ثربان موسى الشهري، أن معظم تلك المناحل تعود لفترات زمنية قديمة، وبعضها لا يٌعرف متى وضعتْ ولا كيف تم الوصول إلى تلك الأماكن الوعرة، لكنهم يشيرون إلى أن الهدف من وضعها هو جلب جموع النحل المهاجرة التي تفضل ـ بفطرتها – الأماكن المحصنة في الجبال والكهوف الصغيرة إضافة إلى حماية ” العيدان” من التلف أو الاعتداء من الحيوانات أو السرقة.
وأوضح “الشهري” أن هذه المناحل كانت تعد من أبرز الموارد الاقتصادية للأهالي، فقد تُباع كمية قليلة من العسل المستخلص منها بأثمان غالية في تلك الأزمان، نظراً لجودة العسل العالية وندرته.
و”أحد ثربان” من المواقع السياحية والزراعية الجاذبة حيث يتميز بالأراضي الزراعية والرعوية الخصبة التي يسقيها ” وادي يبه” و”وادي الأحسر”.
واشتهر المركز بوجود “العين الحارة” التي يشير الباحث بلقاسم الربيع في كتابه ” المعالم التاريخية والسياحية في المجاردة” إلى أن هذه العين تقع غرب محافظة المجاردة بمسافة تقدر بنحو 45 كليو متراً وتبعد عن ” أحد ثربان” جنوباً بحوالي 8 كم والطريق الموصل إليها معبد وهي عبارة عن عين فوارة بحرارة مرتفعة ذات مادة كبريتية يرتادها الزوار من جميع أنحاء المملكة وأبناء دول الخليج.
وقد قامت بلدية “المجاردة” بتحسين مكونات العين والبيئة المحيطة بها إضافة إلى نصب مجموعة كبيرة من المظلات لخدمة المتنزهين.
ومن أبرز ما يلفت أنظار الزائرين لجبل “أحد ثربان” المباني الحجرية الصغيرة التي تعلو الصخور النارية المساء الضخمة والمنتشرة في أعالي الجبل ، ويشير الشهري في حديثه لـ”واس” إلى أنها تسمى محلياً ” المغُلقة” وقد شيدت قديماً لحفظ الحبوب بعد حصادها من المزارع، حيث يسهم المكان المرتفع والأرضية الصلبة التي تمثلها الصخور النارية في حفظ الذرة أو الشعير أو السمسم وجميع الأنواع الأخرى من التلف لأول مدة ممكنة.
وتأخذ هذه المباني شكل المنزل الحجري وتحتوي على باب صغير يغلق عندما تمتلئ بالحبوب بشكل محكم وعادة لا تحتوي على نوافذ لضمان عدم تسرب الرطوبة إلى داخلها.
وعلى الرغم من انقراض الكثير من الأشجار المعمرة التي كانت لها استعمالات طبية وغذائية متنوعة، إلا أن “أحد ثربان” لا زالت تضم العديد من الأشجار النادرة مثل شجرة” المُر” التي كانت قديماً من أهم مصادر علاج الجروح، ويبلغ معدّل ارتفاع الشجرة ثلاثة أمتار، ولها أغصان شائكة. حيث تستخرج مادة “المر” من السيقان من خلال جرح الساق فتخرج منه هذه العصارة المعروفة بالمر.
ويُعد مركز” أحد ثربان” الحد الفاصل لمنطقة عسير مع حدود منطقة مكة المكرمة في جانبه الشمالي الغربي ويرتبط بالمحافظة عبر طريق عام مسفلت بطول 55 كم تقريباً ويحده من الشمال مركز حرب ومركز بني عيسى التابعان لمحافظة القنفذة ومن الجنوب مركز جمعة ربيعة ومن شرق مركز ثربان ومن الغرب مركز جمعة ربيعة والحدود الإدارية لمنطقة مكة المكرمة.
ويوجد بمركز ” أحد ثربان” سوق شعبية تقام يوم الأحد من كل أسبوع سمي المركز باسمها ويتبعه العديد من القرى والتجمعات السكانية.
المصدر: صحيفة البلاد
إقرأ أيضاً:
وادي محرم.. البلاد التي نُغادرها ولا تُغـادرنا
في أحضان ولاية سمائل العريقة، حيث يمتزج عبق التاريخ بسحر الطبيعة، يحتضن وادي محرم أسراره بين ثنايا الجبال الشامخة والنخيل الوارفة. هذا الوادي، الذي كأنه قصيدة نسجتها الرياح بين الصخور، يروي حكايات من الماضي العريق، حيث تتدفق مياهه رقراقة بين البساتين، ناشرةً الحياة في كل زاوية من زواياه.
هنا، في وادي محرم، يعانق الضباب قمم الجبال في الصباح الباكر، وتُطرّز الشمس الأفق بخيوطها الذهبية عند المغيب، فتتحول السماء إلى لوحة من الألوان الزاهية، تعكس سحر هذا المكان الأخّاذ. أما في الليالي القمرية، فتهمس النخيل بأسرارها للنسيم العليل، وتتحول الأزقة الضيقة إلى مسارات للحكايات التي تتوارثها الأجيال جيلًا بعد جيل.
أما البيوت الطينية العتيقة، فتبقى شاهدة على أصالة الحياة وجمال التقاليد التي لا تزال تنبض في قلب وادي محرم، حيث الألفة تجمع القلوب، والكرم العماني الأصيل يفيض من كل بيت ودار. إنه المكان الذي تنحني له الكلمات احترامًا، وتستسلم له الأرواح عشقًا، ليبقى وادي محرم درةً تتلألأ في سماء سمائل، وملاذًا للروح الباحثة عن الصفاء والجمال.
في قلب وادي محرم، حيث تنساب الحياة بهدوء بين الجبال والسهول والمسطحات الخضراء، يتربع منزل الشاعر أبو مسلم البهلاني كقطعةٍ من الجنة تحتضنها الطبيعة. هذا المنزل، الذي يمتد كحكايةٍ قديمةٍ بين ضفتي الزمن، يقف شامخًا على حافة جبل يُطل مباشرةً على تدفق الوادي، وتحيط به، وبالمنازل التي تُجاوره في حجرة الحصن، نخيلٌ باسقة من ثلاث جهات، مُشكِّلةً بدورها سورًا، كأنها تظلله بأوراقها وتحرس إرثه الشعري من غبار السنين.
حين ينبض الماضي بالحاضر، تنبض الصورة بالحياة. فالتقاء حجرة الحصن ببيوتها العتيقة وأزقتها الضيقة بحلة العوامر التي تزهو بمنازلها الحديثة قد شكّل لوحة بانوراميةً مذهلةً، كأن الزمن قد جمع بين صفحتيه قصتين متناقضتين في الشكل، متكاملتين في الروح. هناك، تتعانق الجدران الطينية التي تحكي تاريخ الأجداد مع الواجهات الحديثة التي تعكس تطلعات الأبناء. تجاور الأزقة الضيقة، التي خطتها الأقدام منذ عقود، الشوارع المتسعة التي تفتح أبوابها للمستقبل، في مشهد يروي حكاية التطور دون أن يطمس ملامح الأصالة. في هذا التلاحم الفريد، تتراءى روح وادي محرم، حيث لا يغيب القديم عن ملامح المكان، ولا ينفصل الحديث عن جذوره، بل يمضي كلاهما في نسيجٍ متناغم، كأن الأرض قد اختارت أن تجمع بين عبق الماضي وحداثة الحاضر في مشهد لا تمله العين، ولا يمله القلب.
لطالما تساءلت منذ طفولتي عن سر جريان الماء في الوادي أسفل منزل أبي مسلم، رغم أن منبعه في وادي العيينة وحلي ولتام قد جف منذ زمن، أهي معجزةٌ ما؟ أم أن هناك سرًا دفينًا يحمله هذا المكان؟! ربما هي دعوات الشيخ الجليل، ناصر بن سالم البهلاني، التي رفعها ذات ليلة عندما كان يخط أبياته تحت ضوء القمر، فاستجابت لها الأقدار، وظل أثرها ممتدًا حتى يومنا هذا. كأن صوته، الذي تردد في جنبات هذا الوادي، قد أرسل صداه لأبواب السماء، ليعودَ لنا على هيئة ماءٍ يتجدد، يسقي الأرض ويحيي القلوب، كما كان شعره يروي الأرواح العطشى للأدب والجمال، وما زال.
في هذا الوادي، لا يمكن للزائر أن يعبر دون أن يشعر بعبق الماضي، حيث لا تزال البيوت الطينية القديمة تنبض بروح الأجداد، وتستظلّ تلك البيوت تحت سماءٍ من الأسقف الخشبية، تُسمى «المربع»، حيث تزينها نقوشٌ من آياتٍ قرآنية تفيض بالبركة، مثل قوله تعالى: (أدخلوها بسلامٍ آمنين)، ليبدأ أهلها رحلتهم إلى هذه المنازل بدعوةٍ من كتاب الله. وفي أرجائها، تظلّ الأسماء والتواريخ محفورة كذكرى، كأنها شاهدٌ على كل لحظةٍ مرت في تلك الأمكنة المباركة، وتقف النوافذ الخشبية المزخرفة بالنقوش العمانية كشهود على تاريخ من الأصالة والعراقة.
في الأزقة الضيقة، تسير النسائم محملة برائحة القهوة العمانية واللبان، تليها رائحة الرخال بالعسلِ والسمن.. الرخال الذي لا تجيده سوى أمُّ العُمانيّ، كأنها تدعو العابرين للجلوس في أحد المجالس المفتوحة، حيث الدفء والأحاديث التي لا تنتهي مع كبار السن.
ما زلتُ أستطيع أن أرى تلك المشاهد، حيّةً كأنها وميضُ حلمٍ لم يبهت بعد. ونحنُ صغارٌ، نركضُ حفاةً على ترابِ وحصوات الوادي، عائدين من حلقة القرآن التي كان يُقيمها جدي تحت ظلالِ الصبارة، هناك عند مدخلِ المحضر، حيث ترسو الحكمةُ في صوته، ويعانقنا دفءُ الكلماتِ السماوية. كانت الريحُ تداعبُ ثيابَنا، ونحن نتسابق، من يصل أولًا إلى بيتنا العتيق، ذلك البيت الذي تتجمعُ فيه نساء الحارة كل عصر، تُملأ جنباته برائحةِ القهوة المُرّة، وصوتِ الملاعقِ وهي تُشكّل اللقيمات والقروص بحبٍ لا مثيل له.
في ذلك المطبخ الضيق جدًا، الذي بالكاد يتسع لخطوات قليلة، كانت قلوبهنّ الواسعة تملأه رحابة. يتراصصن كتفًا بكتف، يضحكن ويتهامسن، كأن المساحة تضيق بجدرانها، لكنها تتسع بألفتهنّ، حيث الحب ينعجن مع الطحين، والدفء يتسرب مع نكهة الزعفران في القهوة.
وفي الزاويةِ، حيث الموقدُ الصغير، كنا ننتظرُ لحظةَ الظفر، نتبادل النظراتِ بترقب، من مِنّا سيحظى بأجملِ الغنائم؟ لعق ما تبقى من قدر الكاسترد، ذلك الذهبِ الحلو الذي يشعلُ صخبَ الفرح في قلوبنا الصغيرة، كأنّه جائزةٌ لمن يفوزُ بسباقِ الذكريات. يا لها من أيامٍ، بقيت عالقةً في زوايا الذاكرة، كأنّها نقشٌ على جدارِ الزمن، لا تمحوه السنين.
في طفولتي، كنتُ كلما غادرنا قريتنا متجهين إلى مسقط، نحو المتنزهات الفسيحة والأسواق الصاخبة والشواطئ الممتدة بلا نهاية، أعود ممتعضة، يملؤني التساؤل: لماذا لا ننتقل إلى المدينة؟ لمَ يُغادر الجميع بينما نبقى عالقين بين أزقة هذه القرية، البعيدة كل البعد عن الخدمات والأماكن الرائعة؟
كنتُ أراقب بيوت الطين العتيقة، التي ظل آباؤنا وأجدادنا متمسكين بها، كأنها كنزٌ ثمين، متجاهلين بريق الحداثة في المدينة، غير عابئين بصخب الحياة التي تملؤها. لكنني، وعندما غادرتُ البلاد لأول مرة، متجهة نحو سكن الجامعة، أدركتُ السر. أدركتُ أن ما كنتُ أظنه قيدًا كان جذورًا، وأن تلك البيوت العتيقة لم تكن مجرد حجارة، بل ذاكرةٌ وحنين. حينها فقط، فهمتُ لماذا بقي آباؤنا هناك، ولماذا يرفضون الانسلاخ عن أرضهم، عن طرقاتها الضيقة التي تحفظ خطواتهم، عن النخيل التي كانت شاهدةً على أعمارهم، عن جدران البيوت التي خبأت أصوات ضحكاتهم وأحاديثهم الطويلة. عرفت أنها وادي محرم، ببساطة، هي البلاد التي نغادرها ولا تغادرنا.