بقلم  / صفوان باقيس

 

الإجابة على هذا السؤال يتطلب معرفة تاريخ أمريكا في الحروب و الصراعات فهي ضربت هوريشما و نجازاكي بالسلاح النووي فوق مدنيين عزل، فليكن غلطة قبل توقيع معاهدات الحرب و السلام بعد الحرب العالمية الثانية كمعاهدات جنيف الأربع بالرغم ان بنسختها الأولى في أواخر القرن التاسع عشر تعتبر إستهداف المدنيين جرائم ضد الإنسانية.

أيضا تسببت بشكل مباشر او غير مباشر بجرائم حرب و بإبادات جماعية ضد المدنيين الأبرياء سواء بدعم الانقلابات العسكرية او التورط المباشر مثلما فعلت في فيتنام الذي تركت فيه اكثر من ٣ ملايين قتيل في صفوف الشعب الفيتنامي او حصار العراق ثم غزوه بالرغم من عدم وجود شرعية وفق القانون الدولي لهذا الاحتلال و كلنا يدرك حجم المعانات الإنسانية التي تركت في العراق و أفغانستان و بنما وغيرهم الكثير.

 

تورطت الولايات المتحدة تقريبا في كل الصراعات المحلية و الإقليمية في العالم، فهي إمبراطورية ربما الأقوى في تاريخ البشرية من حيث الإمكانيات المادية من رأس مال إلى قواعد عسكرية ممتدة تقريبا في كل ارجاء كوكب الأرض. من حيث السيطرة تفوقت على نفوذ الإمبراطورية البريطانية في اوج قوتها.

 

في زمن الحرب الباردة كانت الانظمة من حيث الكم تتبع المعسكر الشرقي من الهند و شرق آسيا و الشرق الأوسط و أفريقيا إلى جنوب أمريكا، فشل المعسكر الشرقي بإستثناء الصين لأنهم تطرفوا ايدلوجيا فلذلك فشلت الانظمة في تقديم نموذج سياسي إقتصادي مستقر قابل للاستمرار. لم تهتم أمريكا حينها بالرأي العام العالمي بل اعتبرته انذاك صراع بين الخير و الشر.

 

بل لم تكترث الولايات المتحدة بسمعتها او مركزها الأخلاقي على الإطلاق في كل تاريخ و جودها منذ تأسيسها بل وجودها كان جريمة أخلاقية بحد ذاته. كل ما يهمها هو السيطرة و التفوق العسكري و الإقتصادي يمكن أن توصف بتكتل راس مال ابيض عنصري يؤمن بتفوق العرق الأبيض تأسست على العبودية و الابادة الجماعية. فهي إلى اليوم لا تعترف بحق السكان الأصليين داخل حدودها بالوجود.

 

اعتمدت بشكل أساسي على الدعاية الإعلامية بتقديم نفسها كنبراس العدالة في العالم و كذلك استخدمت كل الوسائل في تقديم غير الأبيض على إنه غير حضاري على سبيل المثال إلى اليوم تصور هوليود الإنسان غير الأبيض بالهمجي و المجرم خصوصا العرب و السكان الأصليين الذي تم نعتهم بالهنود الحمر.

 

أمريكا أعطت نتنياهو شيك على بياض في الحرب على غزة و قدمت له كل الإمكانيات المتاحة المسخرة في حلف الناتو العسكري من تجسس و استطلاع حربي و الذخائر مع دعم الإقتصاد و توفير السيولة النقدية و سن التشريعات التي تجرم نقد الصهيونية وتحريم التعاطف مع حق الشعب الفلسطيني في الدفاع عن أرضه و كرامته وكذلك الدعم السياسي في مجلس الأمن و عرقلة اي قرار ضد إسرائيل يصدر منذ إعلان تأسيس الكيان و كان آخرها الفيتو ضد اي قرار لوقف الحرب على غزة.

 

أمريكا لا تكترث و لا تستحي و لا تحترم احد حتى الشعب الأمريكي نفسه فهي تحكمها مافيا راس المال و ايدلوجيا دينية عنصرية تؤمن بتفوق المسيحية كنتاج ثقافي للرجل الأبيض.

 

المعيار الرئيس الذي تفهمه أمريكا هو المصالح المادية حينها ستنقلب حمل وديع، فقط عندما تدرك ان مصالحها الاستراتيجية في خطر لأنها تتحرك وفق العقلية الراسمالية بحساب الربح و الخسارة. لذلك إغلاق باب المندب كليا لمدة زمنية طويلة سوف يشكل اضطراب في السوق غير مسبوق بحيث لا يمكن توقع نتائجه على إقتصاد العالم و نظام السوق. لن تخسر أمريكا نفوذها الجيوسياسي في العالم فحسب بل لن تتمكن حتى من الحفاظ على وحدتها الفدرالية في ظل مجتمع غير متجانس عرقيا و غير متجانس ثقافيا يعيش صراع طبقي حقوقي إجتماعي خطير مع حرية إمتلاك السلاح و بوادر تأسيس تنظيمات شبه عسكرية وكذلك مع وجود فجوة فكرية حادة بين اليمين و اليسار.

 

يمكن وصف أمريكا اليوم بالعملاق المريض المتخبط الذي يتصرف بعقلية نظام العولمة الذي تفردت فيه منذ إنهيار المعسكر الشرقي وقبول معظم دول العالم نموذج السوق الحر الذي من خلاله تم تعويم العملات المحلية و ربطها بعملة لا تستند على غطاء ذهب في أكبر عملية نصب جماعي على مستوى دول في تاريخ الإنسانية.

 

١٣ – ديسمبر – ٢٠٢٣

المصدر: موقع حيروت الإخباري

إقرأ أيضاً:

ترامب الذي انتصر أم هوليوود التي هزمت؟

ما دمنا لم نفارق بعد نظام القطب الواحد المهيمن على العالم تظل النظرية القديمة التي نقول إن الشعب الأمريكي عندما يختار رئيسه فهو يختار أيضا رئيسا للعالم نظرية صحيحة. ويصبح لتوجه هذا الرئيس في فترة حكمه تأثير حاسم على نظام العلاقات الدولية وحالة الحرب والسلم في العالم كله.

ولهذا فإن فوز دونالد ترامب اليميني الإنجيلي القومي المتشدد يتجاوز مغزاه الساحة الداخلية الأمريكي وحصره في أنه يمثل هزيمة تاريخية للحزب الديمقراطي أمام الحزب الجمهوري تجعله عاجزا تقريبا لمدة ٤ أعوام قادمة عن منع ترامب من تمرير أي سياسة في كونجرس يسيطر تماما على مجلسيه.

هذا المقال يتفق بالتالي مع وجهة النظر التي تقول إن اختيار الشعب الأمريكي لدونالد ترامب رئيسا للمرة الثانية ـ رغم خطابه السياسي المتطرف ـ هو دليل على أن التيار الذي يعبر عنه هو تيار رئيسي متجذر متنامٍ في المجتمع الأمريكي وليس تيارا هامشيا.

فكرة الصدفة أو الخروج عن المألوف التي روج لها الديمقراطيون عن فوز ترامب في المرة الأولى ٢٠١٦ ثبت خطأها الفادح بعد أن حصل في ٢٠٢٤ على تفويض سلطة شبه مطلق واستثنائي في الانتخابات الأخيرة بعد فوزه بالتصويت الشعبي وتصويت المجمع الانتخابي وبفارق مخيف.

لكن الذي يطرح الأسئلة الكبرى عن أمريكا والعالم هو ليس بأي فارق من الأصوات فاز ترامب ولكن كيف فاز ترامب؟ بعبارة أوضح أن الأهم من الـ٧٥ مليون صوت الشعبية والـ٣١٢ التي حصل عليها في المجمع الانتخابي هو السياق الاجتماعي الثقافي الذي أعاد ترامب إلى البيت الأبيض في واقعة لم تتكرر كثيرا في التاريخ الأمريكي.

أهم شيء في هذا السياق هو أن ترامب لم يخض الانتخابات ضد هاريس والحزب الديمقراطي فقط بل خاضه ضد قوة أمريكا الناعمة بأكملها.. فلقد وقفت ضد ترامب أهم مؤسستين للقوة الناعمة في أمريكا بل وفي العالم كله وهما مؤسستا الإعلام ومؤسسة هوليوود لصناعة السينما. كل نجوم هوليوود الكبار، تقريبا، من الممثلين الحائزين على الأوسكار وكبار مخرجيها ومنتجيها العظام، وأساطير الغناء والحاصلين على جوائز جرامي وبروداوي وأغلبية الفائزين ببوليتزر ومعظم الأمريكيين الحائزين على نوبل كل هؤلاء كانوا ضده ومع منافسته هاريس... يمكن القول باختصار إن نحو ٩٠٪ من النخبة الأمريكية وقفت ضد ترامب واعتبرته خطرا على الديمقراطية وعنصريا وفاشيا ومستبدا سيعصف بمنجز النظام السياسي الأمريكي منذ جورج واشنطن. الأغلبية الساحقة من وسائل الإعلام الرئيسية التي شكلت عقل الأمريكيين من محطات التلفزة الكبرى إلي الصحف والمجلات والدوريات الرصينة كلها وقفت ضد ترامب وحتى وسائل التواصل الاجتماعي لم ينحز منها صراحة لترامب غير موقع إكس «تويتر سابقا». هذه القوة الناعمة ذات السحر الأسطوري عجزت عن أن تقنع الشعب الأمريكي بإسقاط ترامب. صحيح أن ترامب فاز ولكن من انهزم ليس هاريس. أتذكر إن أول تعبير قفز إلى ذهني بعد إعلان نتائج الانتخابات هو أن ترامب انتصر على هوليوود. من انهزم هم هوليوود والثقافة وصناعة الإعلام في الولايات المتحدة. لم يكن البروفيسور جوزيف ناي أحد أهم منظري القوة الناعمة في العلوم السياسية مخطئا منذ أن دق أجراس الخطر منذ ٢٠١٦ بأن نجاح ترامب في الولاية الأولى هو مؤشر خطير على تآكل حاد في القوة الناعمة الأمريكية. وعاد بعد فوزه هذا الشهر ليؤكد أنه تآكل مرشح للاستمرار بسرعة في ولايته الثانية التي تبدأ بعد سبعة أسابيع تقريبا وتستمر تقريبا حتى نهاية العقد الحالي.

وهذا هو مربط الفرس في السؤال الكبير الأول هل يدعم هذا المؤشر الخطير التيار المتزايد حتى داخل بعض دوائر الفكر والأكاديميا الأمريكية نفسها الذي يرى أن الإمبراطورية ومعها الغرب كله هو في حالة أفول تدريجي؟

في أي تقدير منصف فإن هذا التآكل في قوة أمريكا الناعمة يدعم التيار الذي يؤكد أن الامبراطورية الأمريكية وربما معها الحضارة الغربية المهيمنة منذ نحو٤ قرون على البشرية هي في حالة انحدار نحو الأفول. الإمبراطورية الأمريكية تختلف عن إمبراطوريات الاستعمار القديم الأوروبية فبينما كان نفوذ الأولى (خاصة الإمبراطوريتين البريطانية والفرنسية) على العالم يبدأ بالقوة الخشنة وبالتحديد الغزو والاحتلال العسكري وبعدها يأتي وعلى المدى الطويل تأثير قوتها الناعمة ولغتها وثقافتها ونظمها الإدارية والتعليمية على شعوب المستعمرات فإن أمريكا كاستعمار إمبريالي جديد بدأ وتسلل أولا بالقوة الناعمة عبر تقدم علمي وتكنولوجي انتزع من أوروبا سبق الاختراعات الكبرى التي أفادت البشرية ومن أفلام هوليوود عرف العالم أمريكا في البداية بحريات ويلسون الأربع الديمقراطية وأفلام هوليوود وجامعات هارفارد و برينستون ومؤسسات فولبرايت وفورد التي تطبع الكتب الرخيصة وتقدم المنح وعلى عكس صورة المستعمر القبيح الأوروبي في أفريقيا وآسيا ظلت نخب وشعوب العالم الثالث حتى أوائل الخمسينات تعتقد أن أمريكا بلد تقدمي يدعم التحرر والاستقلال وتبارى بعض نخبها في تسويق الحلم الأمريكي منذ الأربعينيات مثل كتاب مصطفى أمين الشهير «أمريكا الضاحكة». وهناك اتفاق شبه عام على أن نمط الحياة الأمريكي والصورة الذهنية عن أمريكا أرض الأحلام وما تقدمه من فنون في هوليوود وبروداوي وغيرها هي شاركت في سقوط الاتحاد السوفييتي والمعسكر الشيوعي بنفس القدر الذي ساهمت به القوة العسكرية الأمريكية. إذا وضعنا الانهيار الأخلاقي والمستوى المخجل من المعايير المزدوجة في دعم حرب الإبادة الإسرائيلية الجارية للفلسطينيين واللبنانيين والاستخدام المفرط للقوة العسكرية والعقوبات الاقتصادية كأدوات قوة خشنة للإمبراطورية الأمريكية فإن واشنطن تدمر القوة الناعمة وجاذبية الحياة والنظام الأمريكيين للشعوب الأخرى وهي واحدة من أهم القواعد الأساسية التي قامت عليها إمبراطورتيها.

إضافة إلى دعم مسار الأفول للإمبراطورية وبالتالي تأكيد أن العالم آجلا أو عاجلا متجه نحو نظام متعدد الأقطاب مهما بلغت وحشية القوة العسكرية الأمريكية الساعية لمنع حدوثه.. فإن تطورا دوليا خطيرا يحمله في ثناياه فوز ترامب وتياره. خاصة عندما تلقفه الغرب ودول غنية في المنطقة. يمكن معرفة حجم خطر انتشار اليمين المتطرف ذي الجذر الديني إذا كان المجتمع الذي يصدره هو المجتمع الذي تقود دولته العالم. المسألة ليست تقديرات وتخمينات يري الجميع بأم أعينهم كيف أدي وصول ترامب في ولايته الأولى إلى صعود اليمين المتطرف في أوروبا وتمكنه في الوقت الراهن من السيطرة على حكومات العديد من الدول الأوروبية بعضها دول كبيرة مثل إيطاليا.

لهذا الصعود المحتمل لتيارات اليمين المسيحي المرتبط بالصهيونية العالمية مخاطر على السلم الدولي منها عودة سيناريوهات صراع الحضارات وتذكية نيران الحروب والصراعات الثقافية وربما العسكرية بين الحضارة الغربية وحضارات أخرى مثل الحضارة الإسلامية والصينية والروسية.. إلخ كل أطرافها تقريبا يمتلكون الأسلحة النووية!!

حسين عبد الغني كاتب وإعلامي مصري

مقالات مشابهة

  • ترامب الذي انتصر أم هوليوود التي هزمت؟
  • شيخ الأزهر يثمن مواقف كولومبيا الداعمة لوقف الإبادة الجماعية في غزة
  • بعد استشهاد عائلات بالكامل.. كيف غيرت الحرب التوزيع السكاني في غزة؟
  • “فيتو” استمرار جريمة الإبادة الجماعية
  • هذا ما نعرفه عن الصاروخ فرط الصوتي الروسي الذي أطلق لأول مرة على أوكرانيا .. خارق ولا يمكن اعتراضه ويصل أمريكا
  • يوم مشرق في تاريخ المجتمع الإنساني الدولي
  • 50 يومًا على الإبادة الجماعية والحصار شمالي القطاع
  • وقف الحرب في لبنان.. فرص الاتفاق قبل دخول ترامب البيت الأبيض
  • الفرق بين المحكمتين "الجنائية والعدل" الدوليتين.. خبير قانوني: الإبادة الجماعية القصد منها تدمير جماعة وطنية أو إثنية
  • بايدن يدفع العالم إلى حرب عالمية ثالثة قبل مغادرة البيت الأبيض