الفكر الإنساني المعاصر بين مكر التاريخ ونهايته
تاريخ النشر: 13th, December 2023 GMT
شكَّل الحديث عن نهاية التاريخ أو توقفه أو مكره اهتمامًا كبيرًا بين الفلاسفة وعلماء التاريخ وعلم الاجتماع حتى علماء السياسة أيضا؛ لما لهذه الفكرة من تأثير ورؤية للحياة ومستقبلها في ضوء التحوّلات والمتغيّرات الفكرية والسياسية في الحضارات والثقافات الإنسانية، وهذه الفكرة أو النظرة الفلسفية والتاريخية تأتي مع كل أزمة أو تغيّر في الدول أو سقوط النظم وتراجعها، أو ما تسمّى في الفكر الإسلامي بـ(النوازل)، التي تحدث في التاريخ الإنساني وتقلباته السياسية والفكرية، ومن هذه الأحداث التي تحصل يأتي الحديث عن فكرة نهاية التاريخ، أو توقفه، أو مكره غير المتوقع في مساره، فعندما تأتي حادثة كبيرة تزلزل العقل الإنساني وتربكه بالمآلات والتوقعات، من هنا تظهر النازلة كما يراها بعض الفلاسفة، فقيام الثورة الفرنسية 1975، التي فتحت المجال للفلاسفة، لطرح فلسفة التاريخ وتحوله، أو أنه أتى بنهاية التاريخ، أو توقفه عند هذه الثورة ومضامين ما طرحته من أفكار وتصورات للجمهورية الفرنسية، ومن أهم هؤلاء الفلاسفة الذين عنوا بهذه النظرة الجديدة لفلسفة التاريخ، وأعطاها المساحة المهمة في تفسيره التاريخي، الفيلسوف الألماني «فريدريك هيجل» الذي يعد من كبار الفلاسفة الغربيين المعاصرين، الذين لهم بصمات في الفكر الفلسفي الغربي، لكن رؤيته في قضية الروح، والجدل، والدولة، لا تخلو من انتقادات وملاحظات، أو هفوات كما وصفها العديد ممن عنوا بفلسفة التاريخ، ومنها أنه رأى الدولة البروسية هي كمال التاريخ أو نهايته، وهي رؤية رآها البعض بأنها نظرة منحازة بصفة عرقية.
ويرى الكاتب سفيان البراق في بحثه: (مفهوم مكر التاريخ عند هيغل): «أن هيغل تجتاحهُ نزعة عرقية أدّت به إلى تعصبٍ حضاري، هذا التعصب يندى له الجبين، ولم يكتفِ بهذا فقط، بل أقرّ -وبإقرارٍ شديد- على أنّ ألمانيا (الطبيعة الجرمانيّة) هي مركز الكون.
ابتدع هيجل في خضمِّ فلسفة التاريخ مفهومًا يحومُ حوله لبس كبير، هذا المفهوم هو «مكر التاريخ»، هكذا يُسمّى في بعض الأحيان، وحينة أخرى يُطلق عليه «دهاء العقل»، «الترجمة هي التي تُغيّر هذه المفاهيم وتخونُ الأصل خيانةً غير مشروعة».
لكن الإشكال في رؤية هذا الفيلسوف الأبرز في الغرب هيجل، أنه عندما جاء نابليون غازيا للعديد من دول أوروبا الغربية، لفرض نموذج ما قامت به الثورة الفرنسية، ومنها غزوه لبلاد بروسيا بلد هذا الفيلسوف الكبير «هيغل» بارك ذلك الغزو بقوة، مع أنها بلاد مهما كان النظام السياسي فيها، وعندما دخل نابليون برلين، قال «هيجل» كلمته الشهيرة: «رأيت روح العالم متجسدة في رجل يركب على حصان ويسيطر على العالم ويحركه». وكأنه يقول بتوقف التاريخ أو نهايته، عند الإمبراطورية الفرنسية التي يقودها نابليون، لكنه عندما وجد الدمار والخراب الذي نتج عن غزوه لبروسيا، هاجم نابليون فيما قام به من تصرفات، والتي لا تمثل فكر الأنوار كما قال بعد ذلك، لكن مهما كان من هذا الفيلسوف من آراء وانتقاد البعض له، يظل يتمتع بقدرات فلسفية وفكرية عجيبة، وفي فلسفات ونظرات فكرية كثيرة، وقد اعترف له خصومه من معارضي الفلسفة المثالية التي يمثلها فريدريك هيغل، بما يملكه من أطروحات بغض النظر عن بعض الانتقادات، وهذه فكرة نسبية في البشر وعدم امتلاك الحقيقة، في كل رأي. وقد أخذت الفلسفة الماركسية فكرة نهاية التاريخ عند النظرية الماركسية، من فلسفة هيجل فكرة الجدلية التاريخية، في فلسفة التاريخ مع تعديل بعض مقولاتها، وهذا ما طرحه كارل ماركس، سواء في كتابه رأس المال، وهذه الجدلية الهيجلية التي تتعلق بحركة العقل والفكر، وأحيانا الروح، والتناقضات التي تنتج الفكرة ونقيضها: (تنازع الأضداد)، لكن كارل ماركس، اتجه بالديالكتيك (المادية الجدلية)، إلى الجانب الاقتصادي ومبدأ التناقض والتناقض المضاد -للطبقات- وفق الصيرورة المتتابعة من خلال هذا الصراع وصولًا إلى المجتمع الشيوعي كما يرى.ففلسفته المادية التاريخية، والصراع مع القوى الرأسمالية، والحتمية التاريخية، التي تنتهي بسيطرة القوى الكادحة على ملكية الملكية العامة لوسائل الإنتاج واندحار البرجوازية والإقطاع، بعد الصراع الطبقي، وتتحقق بذلك الاشتراكية، ثم الانتهاء بالشيوعية في آخر المطاف، والوصول إلى الحتمية الموعودة وانتهاء الصراع والتناقض عند هذه المرحلة: (نهاية التاريخ أو توقف)، ولا شك أن تفسير حركة التاريخ بالمادية التاريخية الجدلية، واعتماد صراع الطبقات وفق مبدأ التناقض داخل المجتمع الرأسمالي، ووفق تطوره، باعتباره المحرك الأساسي للصيرورة التاريخية من الأدنى إلى الأعلى، وليس كما رأى هيجل من الأعلى إلى الأدنى، ثم تأتي المرحلة التالية، وهي كما تسميها المادية الجدلية (نفي النفي)، وخلال الصراع تنتصر الأخيرة على القوى الرأسمالية، وتقام المرحلة الاشتراكية؛ تمهيدا لقيام المرحلة النهائية وهي (انتهاء الديالكتيك عند هذه المرحلة، وينتهي الصراع عند قيام الشيوعية)، ونهاية التاريخ، وهذا لم يتحقق بعد قيام الدولة الماركسية حسب تصوّر كارل مارس، بعد الثورة البلشفية 1917، وسقطت النظرية الماركسية، قبل أن تصل إلى مبتغاها في عام 1991، مع أن نهاية التاريخ قيل إنها تنتهي المرحلة الشيوعية وتتلاشى حتى الدولة، وتسيطر الطبقة الكادحة، وهذا يخالف مبدأ التطور المستمر الذي تحدّث عنه ماركس، وهو مبدأ: (الصيرورة التاريخية من الأدنى إلى الأعلى)، والإشكالية أن الماركسية -كما يرى د. محمد عمارة: انتقت بعض مراحل التاريخ وصورته بـ(الحتمية التاريخية)، فهم لم يأخذوا التاريخ كله كنموذج ليستنبطوا منه طريقة حركته، مما جعل النظرية ثابتة عند النظرية الأولى، وتجمدت عندها دون أن تتطور مع السير الطبيعي للتاريخ.
ثم جاءت أطروحة (نهاية التاريخ والإنسان الأخير)، وقد كتبت عنها في بداية ظهورها -التي قالها البروفيسور «فرانسيس فوكوياما»، بعد سقوط الاتحاد السوفييتي في بداية التسعينيات من القرن الماضي، فسار على نفس منهجية (فريدريك هيجل، وكارل ماركس)، في نهاية التاريخ، لكن عند الليبرالية/ الرأسمالية، وأن التاريخ قد توقف عند النظرية الليبرالية، وسمّاه الإنسان الأخير، وقال ما نصه في خلاصة: (في هذه الأطروحة التي تحولت إلى كتاب)، تطور رؤيته للتطور البشري في انتهاء الأفكار وتوقفها عند النموذج الأمثل الليبرالي، فقال: «كما لو كان قطارا طويلا من العربات الخشبية التي تجرها الجياد متجهة إلى مدينة بعينها عبر طريق طويلة، بعضها حددت رؤيتها بدقة، والبعض الآخر تعرض لهجوم من (الأوباش)، والبعض الآخر أنهكته الرحلة الطويلة، فقرر اختيار مكان وسط الصحراء للإقامة فيه، وتنازل عن فكرة الوصول إلى المدينة، بينما من ضلوا الطريق راحوا يبحثون عن طرق بديلة للوصول إلى المدينة، وفي النهاية يجد الجميع أنفسهم مجبرين على استعمال الطريق نفسه -ولو عبر طرق مختلفة- للوصول إلى غايتهم. وفعلا تصل أغلب العربات إلى المدينة في النهاية». وقد لاقت هذه النظرية عشرات الردود الناقدة لقضية نهاية التاريخ، والغريب أن أول من انتقد هذه الأطروحة زميله «صموئيل هنتغنتون»، إذ قال عن هذه الأطروحة «إن انتهاء الحرب الباردة لا يعني عدم عودة الصراعات السياسية لسابق عهدها، إذ لا تقدم شواهد التاريخ ما يعضد ما ذهب إليه فوكوياما».
وهناك الكثير من الآراء الناقدة التي قيلت عن أطروحة فوكوياما لا يتسع المقام لشرحها.
ومن قال بنهاية التاريخ أو توقفه جاء أيضا من الرؤية الصهيونية التي تؤمن بنهاية التاريخ وفق تنبؤاتهم الدينية والفكرية، أو فكرة المخلص عند اليهود، والعودة إلى فلسطين وإقامة الهيكل كما يسمونه، والكثير من الأساطير حول هذا الجانب من نهاية التاريخ عندهم، ويذكر الدكتور عبدالوهاب المسيري في كتابه: (رحلتي الفكرية)، عن التصور اليهودي لنهاية التاريخ: «يختلف إلى حد كبير عن التصوّر الإسلامي والمسيحي لحياة الإنسان وتاريخه، الذي يرى أن الإله قد ترك الإنسان حرًّا في التاريخ ليحقق إرادته الإنسانية، ولكنه في الوقت نفسه لم يهجره كليةً ولم يتركه يغرق في النسبي. أخبر الإله الإنسان أنه سيثيبه، ويعاقبه في اليوم الآخر «خارج التاريخ» والزمان الإنساني كلية، ولذلك فالإنسان حر في داخل التاريخ. ولكن الإله طالبه باتباع القيم الأخلاقية وأرسل له الكتب السماوية، ولذلك فالإنسان ليس ضائعًا يدور في حلقات مفرغة: «اعمل لدنياك كأنك تعيش (في التاريخ النسبي) أبدًا، واعمل لآخرتك كأنك تموت أبدا». لكن في الفكر الإسلامي لنهاية التاريخ في الحياة الإنسانية، لا تلتقي مع هذه النهايات التي سردناها، ففي الإسلام التاريخ لا يتوقف إلا بانتهاء الحياة لكل البشر في الحياة الأخرى، لكن في حركة الثقافات والحضارات الإنسانية، لا تتجمد الحياة عند هذه الرؤية أو تلك؛ لأن الحياة متغيرة وليست ثابتة بل متحركة ودائبة الحراك وفق سنن التدافع، كما جاء في قوله تعالى: (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض، ولكن الله ذو فضل على العالمين). فالحياة فيها تدافع وتسابق وتصارع، فلا يمكن أن تتجمد الأفكار عند رؤية واحدة للأبد.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: نهایة التاریخ التاریخ أو عند هذه
إقرأ أيضاً:
مجموعة العشرين: قلق عميق إزاء الوضع الإنساني في غزة ولبنان
ريم المقبالي (ريو دي جانيرو)
أخبار ذات صلة مبعوث بايدن إلى لبنان: إنهاء الصراع بات «في متناول اليد» رئيس البرازيل يحث على تحرك أسرع لتحقيق انبعاثات صفريةأعرب الإعلان الختامي لقمة مجموعة العشرين عن «قلق عميق بشأن الوضع الإنساني الكارثي في قطاع غزة والتصعيد في لبنان».
وأعرب قادة الدول الصناعية والناشئة الرائدة في العالم عن التزامهم بفرض ضرائب أكثر فعالية على فائقي الثراء، وأكدوا على الهدف الدولي المتفق عليه للحد من الاحتباس الحراري إلى 1.5 درجة مئوية مقارنة بمستويات ما قبل الصناعة.
وهناك نقطة رئيسية تم الاتفاق عليها خلال القمة كانت الدفع نحو إصلاح مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، حيث دعا الإعلان الختامي إلى مجلس أكثر «تمثيلاً وشمولاً وكفاءة وفعالية وديمقراطية وخضوعا للمساءلة».
وأشار البيان الختامي إلى «المعاناة الإنسانية الهائلة والتأثير السلبي للحروب والصراعات حول العالم»، بما في ذلك تأثيرها على الأمن الغذائي والطاقة.
كما شهدت القمة إطلاق التحالف العالمي لمكافحة الجوع والفقر.
وأكد البيان الختامي أن الجوع لا ينجم عن نقص الموارد أو المعرفة، بل عن نقص الإرادة السياسية لضمان وصول الغذاء للجميع.
وأعرب الإعلان الختامي عن «قلق عميق بشأن الوضع الإنساني الكارثي في قطاع غزة والتصعيد في لبنان».
وأشار البيان إلى ضرورة توسيع المساعدات الإنسانية بشكل عاجل وتعزيز حماية السكان المدنيين.
كما أكدت مجموعة العشرين على «حق الفلسطينيين في تقرير المصير» و«التزام لا يتزعزع برؤية حل الدولتين، حيث تعيش إسرائيل ودولة فلسطينية جنبا إلى جنب في سلام ضمن حدود آمنة ومعترف بها، بما يتماشى مع القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة ذات الصلة».
ورحّب قادة دول مجموعة العشرين، في بيان مشترك صدر في ختام قمّة عُقدت في مدينة ريو دي جانيرو البرازيلية، بكلّ «مبادرة بنّاءة» ترمي لتحقيق «سلام شامل وعادل ودائم» في أوكرانيا.
وفي البيان الختامي لقمّتهم التي استمرّت يومين، قال قادة أكبر 20 قوة اقتصادية في العالم، ومن بينها روسيا، إنّهم «يرحّبون بكلّ المبادرات ذات الصلة والبنّاءة التي تدعم التوصّل إلى سلام شامل وعادل ودائم» في أوكرانيا يتّفق مع مبادئ الأمم المتحدة ويشيع علاقات «سلمية وودّية وطيّبة» بين الدول المتجاورة.
ونجحت البرازيل، بصفتها الدولة المضيفة، في تشكيل جدول الأعمال وإدراج أولويات رئيسية من رئاستها لمجموعة العشرين في الوثيقة، بما في ذلك مكافحة الجوع وتغير المناخ، إلى جانب جهود إصلاح المنظمات الدولية.
من جانبها، طالبت منظمة أوكسفام غير الربحية بأن تقوم دول مجموعة العشرين نفسها بالاستثمار العام بشكل كبير في أعمال الزراعة الصغيرة.
وقالت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لايين إن الاتحاد الأوروبي سيشارك أيضاً في هذه المبادرة.