لجريدة عمان:
2025-01-17@22:25:21 GMT

المثقف الحقيقي والمثقف الزائف

تاريخ النشر: 13th, December 2023 GMT

تتولَّد الأسئلة والأفكار وتتوالى المراجعات بعد كل هزة أخلاقية وإنسانية يمر بها الإنسان كفرد أو كجماعة إنسانية كبيرة، وتتبدى المواقف الصعبة في هذه الأوقات الحرجة كاشفة عن المعدن الكامن في فكر وأفعال الإنسان الذي يتعرض للصقل في مواقف مأزومة، كالحال الإنسانية الصعبة في غزة وسوريا والسودان وليبيا وغيرها من البلدان التي تعيش ظروفا يندى لها الجبين وتنفطر لها قلوب كل حر وأمين.

يُنظر إلى المثقف باعتباره الإنسان الذي يعرف، ولأنه يعرف فإن كثيرا من الناس تترقب ما يقول وتتأثر به، وقد أوجد الإعلام البديل المتمثل في وسائل التواصل الاجتماعي تعريفا جديدا للمثقف باعتباره العارف كما ذكرت، وتصبح روايته وسرديته هي الأساس المُتَّبَع لمتابعيه في مواقع التواصل الاجتماعي ومن يتأثر به.

فأصبح «المشهور» وصاحب النسبة الأعلى من المتابعات والمشاهدات والذي يقدم ثقافة ما بنمط خاص وفريد يميِّزه عن بقية «المشاهير» يعتلي منبره الرقمي لتشرئب إليه أعناق متابعيه من مختلف أطياف المجتمع بل وقد يتعدى دولته ليصير منبره إقليميا أو عالميا حتى!.

يعود المثقف التقليدي للواجهة، ولن أستشهد في هذا المقال بنظريات ورؤى من كتب وألَّفَ عن المثقف ومن هو وما يمثله كغرامشي وفوكو وغيرهم؛ بل سأتحدث بالحقائق البسيطة التي يعرفها الجميع، فالمثقف التقليدي، هو المرتبط بالكتب والكتابة والفاعل والمنفعل في هذا الحقل المعرفي.

يعود للواجهة باعتباره الصوت الرصين ذا الكلمات المنمقة والعبارات المفخَّمة والمصطلحات التي تتطلب قواميس لفهمها، في المواقف الصعبة والأوقات المتأرجحة.

وهنا تتبدى كثير من الأشياء التي لا تقبل التأويل والمواربة، فإما أن يكون المثقف مثقفا حقيقيا أو مثقفا زائفا. فمن هو المثقف الحقيقي ومن هو المثقف الزائف؟

في نظري، فإن المثقف الحقيقي هو الإنسان الذي يقف مع الحق والمظلوم ويناصره حتى وإن كان المتعرض للظلم من ألد أعداء المثقف، أي أن المثقف باختصار ينبغي أن يكون المثال الأخلاقي الحي أمام نفسه أولا ثم أمام الناس.

أما المثقف الزائف، فمن وجهة نظر شخصية كذلك، هو المتسلق على أكتاف المستضعفين ليحقق مآرب شخصية نفعية موجدا لنفسه حقيبة مكتنزة بالعلل والبراهين والأدلة التي ينافح بها عن موقفه المأزوم أمام كل حر يواجهه بزيف موقفه.

البوصلة الأخلاقية-الإنسانية تكشف معادن المثقفين، فما يحدث في غزة على سبيل المثال إبادة وحشية جائرة لا غرابة أن يشعر المرء أمامها بقلة الحيلة والعجز، ولكن المثقف الزائف يجمع براهينه وألاعيبه اللفظية الملتوية ليخبرنا جميعا بأننا مخدوعون أو أن ما يحدث إنما هو صراع -كأنما الطفل والعسكري على قدم المساواة!- بين دينين، وطائفتين، وأمتين!. هذا التمويه والإسفاف في تسخيف قيمة الإنسان عامة، وقيمة الإنسان وهو يُباد خاصة؛ لا ينم إلا عن مرض نفساني أخلاقي عُضال.

هذه البوصلة الأخلاقية نفسها، جعلت كثيرا من مثقفي الغرب ينزعون غشاوة الجهل والادعاءات الكاذبة التي أثبتت بطلانها على مدى السنين عن العرب، المسلمين، الشرقيين، والتي بثتها وسائل إعلام ذات توجه سياسي نفعي بحت، تخدم مآرب مُلَّاك هذه الوسائل والذين هم في الغالب مجموعة من المنتفعين السياسيين.

فترى الملحد الغربي يبحث عن الإسلام متسائلا عن سبب كل هذه الإبادة وإغماض العينين عمَّا يحدث للفلسطينيين -ذوي الأغلبية المسلمة- وترى اليميني المتطرف يراجع نفسه أمام الوحشية المفرطة للصهيوني الذي فاق النازيين في ارتكابهم المجازر والمآسي، وغيرهم الكثير.

فالمثقف في أساس كينونته إنسان كأي إنسان آخر؛ فإن كانت فطرته سليمة لم تتلوث بلوثة ما، فستراه مناصرا للحق والحقيقة منافحا عنهما، وإن كانت فطرته مشوبة بلوثة ما فلا غرابة أن تراه مبررا لكل فعل وحشي أو متشفيا مما يحدث لأعدائه المفترضين.

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

مجزرة الكامب الخامس – الوجه الحقيقي للحرب

لقد كشف انسحاب قوات الدعم السريع من ود مدني عاصمة ولاية الجزيرة، الوجه الحقيقي للحرب الذي ظل الطرف المعتدى عليه يصرف النظر عنه، طمعاً في تماسك اللحمة الاجتماعية، وذلك بارتكاب مليشيات الاخوان المسلمين المختبئين خلف راية الجيش، لأبشع المجازر البشرية في تاريخ السودان الحديث والقديم، بذبح المواطنين ونحرهم نحر البعير في الكامب الخامس، واطلاق النار على المدنيين العزل ورميهم في النهر، في إعادة للسيناريو الأكثر قسوة لجريمة فض الاعتصام، بربط أقدام المعتصمين بالطوب البلوك واسقاطهم في مياه النيل الأزرق، فالقوم هم القوم لم يتبدلوا ولم يخرجوا من نفق الإرهاب والقتل خارج نطاق القانون، وهذا المسلك المتجاوز لأبسط قواعد الاشتباك في الحروب قد لفت انتباه الكثيرين ممن غيب وعيهم الإعلام المضلل لفلول النظام البائد، لخطورة التماهي مع من نصبوا أنفسهم حماة للوطن في حربهم المنزوعة الكرامة، ومن أهم ردود الأفعال الغاضبة التي سوف تقلب الطاولة على وجه حراس النظام القديم، فقدان المختطفين لسيادة الدولة للسند السياسي والأخلاقي، للمضي قدماً في الادعاءات والمزاعم التي خدعوا بها البسطاء من الناس، فجرائم الحرب المرتكبة من قبل المليشيات التابعة لهم بود مدني، سحبت البساط من تحت أقدامهم وعرّت مشروعهم الجهوي المستهدف لقطاعات اجتماعية عزيزة، من المواطنين السودانيين الذين فرض عليهم الظرف الاقتصادي الاستقرار في أواسط البلاد، من أجل العمل وكسب العيش، ومن ارهاصات هذا الاستهداف الجهوي أنه لا أحد يمكنه أن يضمن سلامة المقيمين في الجغرافيا التي قدم منها سكان الكامب الخامس بالجزيرة، فالنظام القديم السارق لجهاز الدولة قد دشن حملات الكراهية منذ اندلاع الحرب، وختمها بالمذابح العرقية قصداً منه مع سبق الإصرار والترصد جر الناس للصراع العرقي والجهوي الصارخ.
مجزرة الكامب الخامس أرسلت رسالة واضحة المعالم للحركات المسلحة الخارجة عن الحياد، والمقاتلة جنباً إلى جنب مع كتائب الاخوان المسلمين المختطفين لقرار الحكم، وأحرجتهم مع مناصريهم ومستنيريهم الذين ينتمي جلهم لحركات البان أفريكانزم والآفريكان سنترزم، وما يثير قلقهم المشروع الاستئصالي الصريح الذي يسوقه فلول النظام البائد، وهو التطهير العرقي للمجموعات الزنجفونية القاطنة لمراكز المشاريع الزراعية بوسط البلاد – الجزيرة، وهذا المشروع بالضرورة يصب في المشروع الأمني والاستراتيجي الكبير لمصر داعمة فلول النظام البائد في حربهم ضد السودان، فإنّ الكيانات الاجتماعية المتمسكة بإرثها الإفريقي، غير الخاضعة للتعريب والاستلاب، تمثل أكبر عائق يقف أمام أطماع الجارة الشمالية في حصة السودان من مياه النيل، وخططها المستقبلية لتكريس بقاء البلاد كمزرعة خلفية (جبراكة)، ومن الرسائل الأكثر بلاغة من جريمة التطهير العرقي لسكان الكامب الواردة في بريد تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية "تقدم"، انقشاع السحابة الرومانسية التي كانت تظلل هذا التحالف المدني، وتساقط زخات مطر الفرز العرقي الذي يباركه بعض ممن طرحوا أنفسهم أيقونات لتحقيق هدف دولة المواطنة، فانسحاب قوات الدعم السريع من مركز الجزيرة نقل الحرب لمربعها الأخير، والآن أمسى الحياد عار وخطيئة لكل فاعل سياسي، فالطرق جميعها التقت عند طريقين لا ثالث لهما، الأول طريق التحرير والاستقلال، والثاني الركون وإعادة انتاج الدولة الثيوقراطية الراديكالية الداعشية القديمة، لو تخاذل أنصار الطريق الأول، فظهور كتائب الإرهاب وهي تحمل رايات الوعيد والانتقام السوداء، أنهى جدوى الأحزاب والتنظيمات القديمة الساكتة عن الحق.
كرنفالات الفرح الأسطوري التي عمت قرى وحضر وشتات الذين (كانوا) يتمتعون بامتيازات جهاز الدولة حصراً، وهم بالضرورة رموز دولة السادس والخمسين، من العاضين بالنواجذ على إرث الدولة القديمة، والمكرّسين للطبقية والممكّنين للبرجوازية وسطوة الأقليات والرأسمالية الطفيلية، ودخول الفلول عاصمة الجزيرة بعد انسحاب الأشاوس منها يؤرخ لمرحلة قاتمة من مراحل الحرب، ويؤكد على جديّة الحرب لا هزلها، وأن الواقع لن يكون كما يحلم المناصرون لقوات الدعم السريع، بأن الحمامة البيضاء سوف يطلق سراحها، وأن بيارق السلام سترفرف قريباً على أسطح المنازل، وأن اللحمة المجتمعية ستعود على أقل تقدير لما كانت عليه، فعلى عكس ذلك تماماً قد بدأ فصل جديد من فصول الحرب، الذي الغى كل الخطوط الحمراء المرسومة رأفة بالناس والضامنة لخروجهم لبراح الأمن، والجاعلة الطرق البرية والجوية والبحرية ميسورة، للوصول إلى البيوت والمكاتب والساحات والميادين العتيقة، فبعد إحدى وعشرين شهرا من تنفيذ الفلول لقرار الحرب المتخذ منذ إسقاط رأس النظام، ينقلون الحرب للمربع الذي أرادوه، ألا وهو (الحرب العرقية)، فهم يعلمون دون غيرهم، لو أنهم استجابوا للتغير سيكون مآلهم مآل من سبقهم من الطغاة، لذلك قرروا نحر الدولة، ونحر الدولة لا يكون إلّا بنحر العرق وذبح الإنسان الذي هو رأس مال الدولة، وهو ما حدث بالضبط في الكامب الخامس، ومن حسن حظ المجتمعات المستهدفة بالذبح والنحر أن جهابذة مشروع النهر (النحر) لم يخفوا أجندتهم، وقالوها صراحة في الماضي القريب، واليوم يطبقونها دون خفقة قلب ولا إنابة ضمير، فهو مشروعهم الاستراتيجي، فهل استوعب المقهورون الدرس؟، وهل حددوا مع من سوف يقفون؟.

إسماعيل عبد الله
ismeel1@hotmail.com  

مقالات مشابهة

  • الرئيس عون لماكرون: لبنان الحقيقي الأصيل قد عاد
  • ????معركة (كبري 57) هي معركة التحرير الحقيقي
  • تورك: انتخاب رئيس الجمهورية يفتح الباب أمام إصلاحات
  • عائد مادي كبير.. مدبولي: قطاع تكنولوجيا المعلومات هو المستقبل الحقيقي
  • الخولي: الإصلاح الحقيقي بتشكيل حكومة تكنوقراط مستقلة
  • العربية لحقوق الإنسان: إنهاء الاحتلال الإسرائيلي هو الاستحقاق الذي يفرضه القانون
  • بلومبيرغ تفكك التأثير الاقتصادي الحقيقي للمهاجرين في أميركا
  • مجزرة الكامب الخامس – الوجه الحقيقي للحرب
  • منصور بن محمد: في دبي نؤمن أن تنفيذ الأفكار المقياس الحقيقي للنجاح
  • الصمت الحقيقي عند إسرائيل؟