غزة.. الأهداف العسكرية المعلنة والأهداف الاستراتيجية المضمرة
تاريخ النشر: 13th, December 2023 GMT
عقب مفاجأة السابع من تشرين الأول/ أكتوبر أعلنت حكومة الاحتلال عن أربعة قرارات فورية: إعلان حالة الحرب للمرة الأولى منذ حرب السادس من تشرين الأول/ أكتوبر عام ١٩٧٣، ودعوة الاحتياط بصورة واسعة، وإعلان بروتوكول هانيبال الذي يتعلق بالأسرى من الجنود وقت الحرب، والإعلان عن الأهداف "المعلنة" للحرب على قطاع غزة؛ والتي تتمثل بالقضاء على حماس، واستعادة الأسرى والمحتجزين لدى المقاومة بالقوة العسكرية، وتأمين قطاع غزة بعد الحرب ضمن ترتيبات تضع حدا لتكرار ما حدث في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر.
لم تكن القرارات المعلنة التي اتخذتها الحكومة الإسرائيلية تغطي الصورة الكاملة للنوايا الحقيقة، وإنما كانت ثمة قرارات مضمرة (غير معلنة) تعكس الأهداف الاستراتيجية للدولة العميقة التي تنسجم مع قواعد العقيدة السياسية الصهيونية التي تأسس عليها الكيان الإسرائيلي، وتشكل الخريطة الذهنية للتفكير الاستراتيجي لقادة الاحتلال، وهي بطبيعة الحال خريطة غير مرتبطة بما حدث صباح السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، بل هي خطط مضمرة وبسيناريوهات معدة مسبقا بالأدراج ضمن الخطط المؤجلة برسم التنفيذ في الوقت الذي تنضج فيه الظروف الدولية والإقليمية، وتتكفل الظروف والضغوط والعمليات على الأرض بفرضها بقوة الأمر الواقع دون ضجيج.
تكن القرارات المعلنة التي اتخذتها الحكومة الإسرائيلية تغطي الصورة الكاملة للنوايا الحقيقة، وإنما كانت ثمة قرارات مضمرة (غير معلنة) تعكس الأهداف الاستراتيجية للدولة العميقة التي تنسجم مع قواعد العقيدة السياسية الصهيونية التي تأسس عليها الكيان الإسرائيلي، وتشكل الخريطة الذهنية للتفكير الاستراتيجي لقادة الاحتلال، وهي بطبيعة الحال خريطة غير مرتبطة بما حدث صباح السابع من تشرين الأول/ أكتوبر
إن الهدف الاستراتيجي المضمر يتمثل بتحويل الكذبة التاريخية "شعب بلا أرض لأرض بلا شعب" إلى حقيقية جيوسياسية وجيوثقافية تقوم على تهجير الشعب الفلسطيني بأي وسيلة ممكنة: الإبادة الجماعية أو الترحيل المنهجي من فلسطين التاريخية. ولم تعد هذه النوايا حبيسة الوعي الجمعي الإسرائيلي المضمر وحسب، بل باتت تخرج للملأ وتحتل الفضاء في صورة أفكار ومخططات ومشاريع تطرحها أو تصغط بها حكومات الاحتلال كلما كان الأمر متاحا؛ على دول عربية وقوى دولية مؤثرة على المنطقة.
ولم يغب هذا الحلم السياسي عن الحضور على الأجندات الدولية والإقليمية في أي وقت، سواء عبر الضغط بالقوة الناعمة "التفاهمات الدبلوماسية والاغراءات الاقتصادية"، أو عبر الضغط بالقوة الخشنة عبر العمليات العسكرية وتنفيذ سياسية الأرض المحروقة وحرب الإبادة والتطهير العرقي كما حدث في العامين ١٩٤٨ و١٩٦٧ وما بينهما وما بعدهما بصور مختلفة، وكما يحدث الآن بصورة وحشية ومكثفة في قطاع غزة عن طريق حرب الإبادة الجماعية، وفي الضفة الغربية عن طريق القضم والخنق وصولا إلى تصفية القضية الفلسطينية برمتها.
ثمة ما يفضح هذا الهدف الاستراتيجي المضمر بالدلائل والمؤشرات التي باتت أكثر انكشافا ووضوحا منذ العدوان على قطاع غزة، وذلك عبر: البيانات السياسية الصريحة والمباشرة من قيادات وشخصيات سياسية وعسكرية وحزبية، وعبر تسريبات صحفية وإعلامية مدركة في إطار لعبة تنسيق المواقف وتوزيع الأدوار، وعبر المناكفات السياسية والاستقطاب الشعبي بغية السباق بالاستحواذ على تأييد الجمهور الإسرائيلي، وعبر التفاهمات السياسية الإسرائيلية والضغوط الأمريكية والغربية على دول الجوار وعلى بعض الدول العربية والإقليمية لتسهيل تمرير المشروع وتمكينه ضمن رؤية أحادية تقوم على تجاهل الحقوق الوطنية الفلسطينية، والقفز عليها لصالح ترتيبات إقليمية جديدة في المنطقة.
إن الهدف الاستراتيجي لتهجير الشعب الفلسطيني يتوخى في التحليل النهائي؛ أولا: احتواء العوامل والفرص التي يمكن أن تشكل روافع لقيام دولة فلسطينية في المستقبل سواء كانت عوامل طبيعية كالعامل الديمغرافي، أو كانت عوامل جيوسياسية ذات صلة بالتفاعلات والتغيرات في البيئة الخارجية، وثانيا: تجريف الأسس التي تقوم عليها قرارات الشرعية الدولية ذات الصلة بالقضية الفلسطينية، وتفريغها بقوة الأمر الواقع من مضامينها السياسية، وثالثا: فرض فكرة الدولة اليهودية جيوسياسيا وثقافيا في كل فلسطين التاريخية وعلى المنطقة والعالم؛ بما في ذلك القدس عاصمة موحدة للشعب اليهودي كحقيقة ثابتة وناجزة، ورابعا: تصدير القضية الفلسطينية كمشكلة إلى خارج حدود الكيان الإسرائيلي بوصفها مشكلة عربية داخلية.
لقد أظهر العدوان على قطاع غزة بما لا يدع مجالا للشك؛ أولا: أن الاستراتيجية السياسية المضمرة وأدواتها الوحشية غير المسبوقة هي جزء مركزي من العقيدة السياسية الصهيونية، ومن الخطط والأدوات والآليات الإسرائيلية المدرجة مسبقا وبرسم التنفيذ، وتعمد وضع الشعب الفلسطيني المرابط على أرضه بين خياري الإبادة الجماعية أو التهجير القسري، وثانيا: أن حل الدولتين بات جزءا من الماضي، وأن القرارات الدولية ذات الصلة لا تساوي الحبر الذي كتبت به، وثالثا: أن من يملك القوة هو من يملك النفوذ والتأثير في المحافل الدولية وعلى الأرض، وأن القيم الغربية وديباجة ميثاق الأمم المتحدة ليستا أكثر من أكذوبة تاريخية، ورابعا: أن الكتلتين العربية والإسلامية اللتان تتكونا من (٥٧) دولة ليس لهما محل من الإعراب في هيكل القوة الدولية، ولا تؤثران بصورة فعلية في أي جملة سياسية ذات معنى، وهما ليستا أكثر من توابع اختارت موقع المفعول به في التفاعلات الجيوسياسية.
ليس محض صدفة أن تتخذ حكومة الحرب الإسرائيلية أهدافا عسكرية عالية السقف وذلك لتوفير ذريعة ووقت كاف لإبادة الشعب الفلسطيني في قطاع غزة أو تهجيره بصورة قسرية خارج حدود فلسطين التاريخية، وليس خارج السياق أن تمارس ذات الحكومة بروباغندا إعلامية سوداء تُستخدم فيها كلمة حماس المصنفة أمريكيا وغربيا منظمة "إرهابية" كناية مضمرة عن الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، لتتماهي فيها الحركة السياسية بالشعب الفلسطيني بوصفهما وجهين لعملة واحدة، ابتغاء وضعهما في سلة واحدة في سياق التأليب السياسي الدولي، والاستهداف العسكري الإسرائيلي، وتبرير حرب الإبادة الجماعية والتطهير العرقي وسياسة الأرض المحروقة، وهو الأمر الذي أرخى الحبل الإسرائيلي على غاربه، وجعل المستويات السياسية والأمنية والعسكرية، والجماعات الدينية والأحزاب السياسية والقوى الشعبوية، والمواقع الإعلامية والمنابر الصحفية الموجهة والمعبأة مسبقا، أن تتجاوز الحدود بانتهاك الخطوط الحمراء كلها، وطلب إبادة الشعب الفلسطيني بقنبلة نووية، ومنع دخول الإمدادات الاغاثية والطبية، وتدمير البنية الاقتصادية والمعيشية والصحية.. إلخ.
الغرب الاستعماري قد أدرك بعمق طريقة تفكير الشعب العربي وسلوكه وردود فعله، وبضمنه الشعب الفلسطيني، وبناء على هذا الإدراك العميق اختار سيناريو إدارة مصالحه في المنطقة عبر وكلاء محليين أبرم معهم صفقة تاريخية تم بموجبها مبادلة الزعامة المحلية مقابل المصالح الاستراتيجية، والتماهي مع إرادة القوى الاستعمارية باستبعاد وعزل الشعوب عن مكانتها الطبيعية في هيكل السلطة، وفي مؤسسات صنع القرار وتقرير المصير
وعلى الرغم من خطورة الوضع، فإن المواقف السياسية الرسمية الفلسطينية والعربية والإقليمية والدولية تجاه هذه الاستراتيجية المضمرة والخطرة لم ترقَ إلى مستوى التهديد الاستراتيجي الذي يعتدي على حياة الشعب الفلسطيني وانسانيته ووجوده وحقوقه وحاضره ومستقبله، وينتهك قواعد القانون الدولي والقانون الدولي الإنساني، والمعاهدات الدولية والاتفاقيات الخاصة بحقوق الإنسان بصفة عامة، وحقوقه وقت الحرب بصورة خاصة، ويضع المنطقة برمتها أمام معضلات أمنية خطيرة تهدد أمنه واستقراره، وتفضي إلى تفشي الفوضى والتطرف والكراهية والعنف والاستنزاف والانسداد بالأفق السياسي، وإلى ترك المنطقة في حالة من التوتر والتصعيد وانعدام الأمل واليقين، والتأثير على مكانتها وقدراتها وتنميتها ورفاهيتها وأولوياتها، وفرص استعادة موقعها في خريطة التفاعلات الجيوسياسية، وفي هيكل القوة الدولية والإقليمية.
إن الشعب الفلسطيني بعد تجربة حرب النكبة الأولى، وما واكبها وما بعدها، ما عاد يقبل الرضوخ لأي قرار يستنسخ التجربة البائسة، ولن يستسلم لإرادة القوى التي تقرر ذلك، أو تتواطأ على ذلك، ولا التي تتخاذل عن منع ذلك، ولا التي تتاجر بنكبة أخرى وتتخذها بضاعة، ولا الذين شروا دم الفلسطيني بثمن بخس لمصالح يصيبونها، أو مراكز يتبوأونها.
ربما نستطيع أن نستنج بصورة واضحة لا لبس فيها أن الغرب الاستعماري قد أدرك بعمق طريقة تفكير الشعب العربي وسلوكه وردود فعله، وبضمنه الشعب الفلسطيني، وبناء على هذا الإدراك العميق اختار سيناريو إدارة مصالحه في المنطقة عبر وكلاء محليين أبرم معهم صفقة تاريخية تم بموجبها مبادلة الزعامة المحلية مقابل المصالح الاستراتيجية، والتماهي مع إرادة القوى الاستعمارية باستبعاد وعزل الشعوب عن مكانتها الطبيعية في هيكل السلطة، وفي مؤسسات صنع القرار وتقرير المصير، وأفسحت هذه القوى للوكلاء المحليين مجال التعامل مع المخاطر نيابة عنها، مع العمل على تحسين صورة الغرب الاستعماري، والدفاع عن مصالحه في المنطقة، الأمر الذي جعل القوى الغربية تجني عوائد تلك المصالح دون أن تدفع ثمنا كانت مضطرة لدفعه إبان حقبة الاستعمار التقليدي المباشر.
ولكن الولايات المتحدة الأمريكية والكيان الإسرائيلي، سواء أدركا تلك الحقيقة أو لم يدركاها، فإن سلوكهما المبني على الغطرسة وفائض القوة يفضي إلى كارثة لا قبل لهما بها بسبب تجاهل تلك الحقيقة.
إن الشعب الفلسطيني لن يقبل أن يتحول إلى لاجئ مرة أخرى، وإن الشعب العربي لن يقبل تكرار النكبة، وإن الطريق إلى منع تكرار التجربة سيكون عسيرا ومكلفا إذا لم يتدارك الحكماء ذلك؛ فالقانون الطبيعي للأشياء يقرر أن الضغط يولد الانفجار، وهي نتيجة لا أحد عاقلا ينتظرها، ولا أحد مخلصا يرجوها، لأن ما بعد مخطط تهويد فلسطين التاريخية هو تهويد ما يتجاوز حدودها في سياق شعار إسرائيل التاريخي: "أرضك يا إسرائيل من الفرات إلى النيل"، وإذا لم يتحقق ذلك بفائض القوة العسكرية فإنه قد يتحقق بفائض القوة الناعمة لرسم صورة شرق أوسط جديد تختفي فيه هوية المنطقة التاريخية والثقافية، لصالح هوية جيوسياسية وجيوثقافية مضادة.
من الأهمية بمكان في سبيل إعادة التموضع في هيكل القوة الدولية أن تحول الكتلة العربية مفهوم "الشعب" كنظير للدولة الوطنية إلى مفهوم "الأمة" كنظير للدولة الجمعية، في أي صورة واقعية وعملية تتوافق عليها تلك الكتلة. ولعل عجز العالم، بما فيه الكتلتان العربية والإسلامية، عن الانتصار للمذابح التي تنفذ بصورة منهجية بحق الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، وعن إصدار قرار دولي من مجلس الأمن لوقف العدوان الإسرائيلي لأسباب إنسانية لهو دليل على هشاشة النظام الدولي وانحيازه
إن مركز الثقل الاستراتيجي الذي يجعل من الكتلة العربية شيئا ذا قيمة في العالم يتمثل في إعادة بناء الذات الجمعية بصورة منهجية وواقعية وذكية، والاستثمار بمصادر القوة الكامنة، واستعادة مكانتها وموقعها ودورها وحدود تأثيرها، وقطع الطريق على أية محاولات دولية وإقليمية لإعادة هيكلة المنطقة، ورسم خرائطها الجيوسياسية وفق مصالح تلك القوى وترتيباتها، وعدم تكرار ما حدث قبل أكثر من مائة عام (١٩١٦) عندما عُزلت المنطقة عن تقرير مكانتها وهويتها ومسارها ومصيرها.
وقد يكون من الأهمية بمكان في سبيل إعادة التموضع في هيكل القوة الدولية أن تحول الكتلة العربية مفهوم "الشعب" كنظير للدولة الوطنية إلى مفهوم "الأمة" كنظير للدولة الجمعية، في أي صورة واقعية وعملية تتوافق عليها تلك الكتلة. ولعل عجز العالم، بما فيه الكتلتان العربية والإسلامية، عن الانتصار للمذابح التي تنفذ بصورة منهجية بحق الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، وعن إصدار قرار دولي من مجلس الأمن لوقف العدوان الإسرائيلي لأسباب إنسانية لهو دليل على هشاشة النظام الدولي وانحيازه، واحتكار قوة أو مجموعة قوى للقرار الدولي، وهو بلا شك نظام أممي يعاني من خلل بنيوي وأخلاقي جسيمين، ولا يمكن أن يوثق به أو أن يستمر على هذا النحو.
وفي سياق تركيز القوة العربية، ثمة حاجة استراتيجية لردم الفجوة بين النظام السياسي العربي وشعوبه بصورة دستورية ومؤسسية بنّاءة ومنتجة تستثمر بمحصلة القوى الناجمة عن تجميع القوى المشتتة؛ في اتجاه يلبي مصالح الدول والمنطقة والشعوب معا، ولإنهاء حالة الانسداد والاستعصاء والاستنزاف التي تسود العلاقة بينهما.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه غزة الإسرائيلية الشعوب النظام الدولي إسرائيل غزة الاستبداد الشعوب النظام الدولي مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة رياضة سياسة سياسة مقالات سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الشعب الفلسطینی فی قطاع غزة السابع من تشرین الأول فلسطین التاریخیة الإبادة الجماعیة فی المنطقة ما حدث
إقرأ أيضاً:
وقف إطلاق النار في غزة: انتصار الصمود الفلسطيني
بعد 465 يوماً على طوفان الأقصى، أعلنت قطر التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار في غزة، وتبادل الأسرى، وانسحاب القوات الغاصبة على مراحل.
لقد تساقطت أجندة اهداف الحرب الصهيونية على غزة، مثل أوراق الخريف، بدءاً من تفريغ الشمال وتهجير أهله، مروراً بخطة الجنرالات، والسيطرة على محور فيلادلفيا، ومعبر رفح إلى الأبد، وانتهاءً بتدمير حماس والقضاء عليها.
لقد فشل الاعتداء الصهيوني على غزة في كسر شوكة الغزيّين وقادة حماس، لقد فشل نتنياهو وجنرالات الحرب، برغم كل الدعم العسكري واللوجستي، والاستخباراتي، في القضاء على المقاومة، المقاومة فكراً والمقاومة عملاً، بل على العكس تماماً، لقد نجحت حماس في ترسيخ فكر المقاومة والصمود والتحدّي في نفوس كل من عاصر هذه الحرب، ليس فقط في وعي شعوب المنطقة، بل في وعي العالم أجمع.
لقد فشلت الدعاية الصهيونية لأول مرة في تاريخ الصراع الفلسطيني الصهيوني، من تكريس دعايتها والظهور بمظهر الدولة الحضارية التي تتعرض للاعتداءات من جيرانها العرب، بسبب وحشيتهم ومعاداتهم للساميّة، لقد فشلت ليس فقط في تكريس الدعاية الزائفة، بل وفشلت فشلاً ذريعاً في مسح صورتها الإجراميّة التي ظهرت بكل وضوح أمام مرأى الجميع، وتم توثيقها على صفحات التاريخ.
لقد شهد العالم لأول مرة في تاريخه مثول دولة الاحتلال الإسرائيلي في قفص الاتهام، أمام محكمة العدل الدولية بل والحكم عليها بارتكاب جرائم حرب ضد الفلسطينيين، وإصدار مذكرات اعتقال بحقّ قادتها!
وفي سابقة هي الأولى في التاريخ، يتم اختراق الدولة الصهيونية وسقوطه في الاختبار الحقيقي أمام شجاعة وبسالة المقاومة الفلسطينية، حيث ظهر ضعف هذه الدولة المنهارة والمتهالكة أمام العالم وأمام مواطنيها.
ستحتاج دولة الاحتلال إلى عقود طويلة لتعيد هيبتها، وصورتها أمام مواطنيها وأمام جيرانها!
لقد انتصرت غزة بصمودها، وبسالة شعبها، وصبرهم واحتسابهم وإيمانهم أمام أعتى جيوش المنطقة، وأمام دعم عسكري لا حدود ولا نظير له، لقد شهد العالم كيف أن مخازن دولة الاحتلال قد نفدت المرة تلو الأخرى، وهذا الشعب صامد، يلقّن عدوه دروساً في الوطنيّة والصمود على أرضه.
لقد تعرّضت غزة وأهلها للتجويع والحصار، وتدمير المرافق الحيوية وحرمانهم من أساسيات الحياة، المأوى والطعام والعلاج، ولكن أحداً من أهل غزة لم يخرج ليلعن المقاومة أو يشتم الزمن والظروف، بل كانوا جميعهم مثالاً للصمود والصبر والايمان ورباطة الجأش، والسلام مع النفس، رغم الألم ورغم مرارة الحياة، وفقدان الأمل.
ولكن هذا كلّه لم يمنع البعض من القول إن الحسابات على الأرض لا تشير إلى انتصار، بل إلى هزيمة، وهذا هو منطق الخوّافين.
لقد جاء طوفان الأقصى في وقت كانت القضية الفلسطينية على الصعيد الدولي تلفظ أنفاسها الأخيرة.
وفي ظل تصفية القضية سياسياً وقبول العرب بالجارة الجديدة إسرائيل وبدء مسلسل التطبيع المجاني.
ناهيك عن أفول الربيع العربي وتبخّر الرغبة العارمة في التغيير التي اجتاحت الشارع العربي قبل عقد من الزمن.
من ناحية أخرى، فقد نجح حزب الله في التحكّم في مفاصل الدولة اللبنانية وبات يمارس ما يُعرف بالتنمّر السياسي على الجيش وعلى مختلف مؤسسات الدولة.
لكم أن تذكروا أن لبنان بلا رئيس ولا حكومة -باستثناء حكومة تصريف الأعمال – منذ ما يقارب العامين.
أما في سوريا، فكان نظام الأسد المهزوم الذي باع البلد لروسيا وإيران، وميليشيات حزب الله، يسرح ويمرح في البلاد، وهمّه الوحيد البقاء في السلطة، واستمرار الضغط على رقاب المواطنين.
أما عن دولة الاحتلال، فقد وقف نتنياهو قبل أشهر قليلة من بدء الطوفان على منبر الأمم المتحدة، حاملاً خارطة المنطقة مبشراً بحلول السلام والتطبيع مع كل الجيران العرب، دون أي ذكر لدولة فلسطينية أو لشعب يسمى بالشعب الفلسطيني، ولم يعترض حاكم أو مسؤول ولم تخرج جهة إعلامية عربية رسمية لتندّد أو تشجب!
لقد وقف نتنياهو أمام العالم وقال إننا الدولة الأقوى في المنطقة، والأفضل تكنولوجياً على مستوى العالم، وعلى من يريد أن يكون رائداً في مجال الأمن السيبراني والأمن العسكري، فليشتري من بضاعتنا!
هذا هو المشهد قبل السابع من أكتوبر، أيها العقلانيون، فهل هذا أفضل حالاً مما نحن فيه اليوم؟
نحن اليوم أمام نقطة تحوّل في الصراع الفلسطيني مع الاحتلال، لقد عادت فلسطين إلى الواجهة، وتم تسمية الأشياء بمسمّياتها، فقد كشف الطوفان الوجه الحقيقي لسادة العالم أمام شعوبها، وأسقط الأقنعة جميعها.
لأول مرة منذ عقود مضت، يترسّخ في ذهن الفلسطينيين والوطنيين الحقيقيين، أن حلف المقاومة والممانعة لم يكن سوى واحد من أوهام هذا الزمن السيئ الذي جعلنا نتعلق بقشّة، ونركض وراء السراب!
وأن طريق القدس لم يكن يوماً مُعبّداً للطغاة والديكتاتوريين، وأن حال لبنان اليوم، لبنان الدولة، لا دولة الميليشيات ومراكز القوى، هو أفضل بكثير من لبنان الأمس.
وأن سوريا اليوم، سوريا الحرية والديمقراطية، وليس سوريا الأسد، وهذا يصب في مصلحة المنطقة وشعوبها، والأمل قادم أيضاً في إرساء الديمقراطيات الحقيقية في باقي بلدان المنطقة، لأن الربيع العربي الذي عاد من بوابة سوريا، عليه ألا يتوقف.
أما جيل اليوم فلعمري إنه حصان طروادة الذي سيعمل على تغيير وجه العالم والتخلص من الأقليّات الحاكمة التي تخدم المشروع الصهيوني.
إن هذه النهضة الفكرية، ومقدار الوعي الذي نشره صمود أهل غزة في الملايين حول العالم، سيثمر في يوم من الأيام، وسيكون نصراً ودعماً للحق في وجه الطغيان، وإنه لجهاد؛ نصرٌ أو استشهاد!
القدس العربي