العلاقات المصرية الروسية.. ازدهار سريع لشراكة استراتيجية تدعم التعددية القطبية
تاريخ النشر: 13th, December 2023 GMT
سلطت المحللة السياسية، ماتيا سيريتش، الضوء على ما وصفته بـ "التطور السريع" للشراكة بين مصر وروسيا مؤخرا، مشيرة إلى أن ذلك يأتي في إطار استراتيجية روسية لتعزيز العلاقات الثنائية مع عديد البلدان في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية.
وذكرت ماتيا، في تحليل نشرته بموقع "أوراسيا ريفيو" وترجمه "الخليج الجديد"، أن مصر أدانت في البداية الغزو الروسي لأوكرانيا، مثل العديد من الدول العربية والإسلامية الأخرى، إلا أنها لم تفرض عقوبات على موسكو، لأنها أدركت فائدة التعاون معها في العديد من القطاعات الاستراتيجية للاقتصاد، مثل الصناعة العسكرية والطاقة والسياحة، إضافة إلى الدبلوماسية والثقافة.
وأضافت أن استيراد المعادن والمعادن والأدوية الروسية مهم بالنسبة لمصر، ولذلك فإن انخراطها في العقوبات بحق روسيا ستكون لها نتائج عكسية على شعبها، مشيرة إلى أن موقف القاهرة أصبح محايدا بمرور الوقت بعد الإدانة الأولية لغزو أوكرانيا.
وعن تاريخ العلاقات الروسية المصرية، ذكرت ماتيا أنها تأسست في 26 أغسطس/آب 1943، وخلال الحرب الباردة، كانت العلاقات بين الاتحاد السوفيتي ومصر أكثر من جيدة، إذ وضع الاتحاد السوفييتي نفسه كنوع من الحامي للعالم العربي في صراعه مع إسرائيل، التي كانت الحليف الرئيسي لأمريكا في منطقة الشرق الأوسط.
وفي عهد الرئيس المصري الراحل، جمال عبد الناصر، وصلت العلاقات المصرية السوفيتية إلى ذروتها واشترت مصر كميات هائلة من الأسلحة والمعدات العسكرية الروسية، وفي عهد خلفه، أنور السادات، تدهورت العلاقات، إذ وجه السادات بلاده أكثر نحو الغرب.
لكن بعد وصول حسني مبارك إلى رئاسة مصر في عام 1984، بدأت العلاقات مع روسيا تتعزز مرة أخرى، وبعد الثورة المصرية في عام 2011 والانقلاب العسكري الذي أعقبها في عام 2013، تحسنت العلاقات أكثر، حيث أصبح من الواضح أن تجربة مصر مع الديمقراطية قد فشلت.
ويعتقد جمال زهران، أستاذ العلوم السياسية بجامعة قناة السويس والعضو السابق في البرلمان المصري، أن موسكو رحبت بالانقلاب العسكري ضد جماعة الإخوان المسلمين في عام 2013، وكان قرار المجلس العسكري في عام 2014 بتصنيف الجماعة الإسلامية منظمة إرهابية بمثابة عامل رئيسي في التقارب بين القاهرة وموسكو. وعندما تم انتخاب عبدالفتاح السيسي رئيسا لمصر، في عام 2014، كان الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، أول رجل دولة أجنبي يهنئه.
السيسي وبوتين
ومنذ توليه الرئاسة في عام 2014، أراد السيسي تحسين العلاقات مع روسيا رغم أن الدول الغربية أدارت ظهرها لموسكو بسبب الأزمة الأوكرانية.
وقدم شهر أكتوبر/تشرين الأول 2018 أقوى مؤشر على تقارب مصر وروسيا، إذ وقع الرئيسان على اتفاقية الشراكة الإستراتيجية الشاملة.
وترأس السيسي وبوتين القمة الروسية الإفريقية الأولى التي عقدت بسوتشي في أكتوبر/تشرين الأول 2019 تحت شعار "من أجل السلام والأمن والتنمية"، كما شارك السيسي في القمة الروسية الإفريقية الثانية التي عقدت في سان بطرسبرج يومي 27 و28 يوليو/تموز من العام الجاري.
اقرأ أيضاً
روسيا تعيد تفعيل مشروع منطقتها الصناعية في مصر
كما أشاد السيسي بالعلاقات بين مصر وروسيا خلال كلمة ألقاها في المنتدى الاقتصادي الدولي العام الماضي في سان بطرسبرج، مؤكدا أن البلدين ينفذان مشروعات طموحة من شأنها أن تخدم المصالح المشتركة.
وتشمل المشروعات محطة الضبعة النووية، وإنشاء منطقة صناعية روسية في المنطقة الاقتصادية لقناة السويس، والتعاون في تطوير شبكة السكك الحديدية بمصر.
وفي مارس/آذار من العام الجاري، أعلنت وزارة التعليم الروسية أنها توصلت إلى اتفاق مع القاهرة لتوفير اللغة الروسية كلغة ثانية في المدارس والجامعات المصرية.
التعاون الاقتصادي
وفي العام الماضي، عانى الاقتصاد المصري من ارتفاع معدل التضخم بنسبة 38%، وكانت التجارة مع روسيا بمثابة شريان الحياة في الأوقات الصعبة التي تمر بها الدولة العربية الأكثر سكانا.
وكشف جورجي بوريسينكو، السفير الروسي في مصر، أن التجارة بين البلدين نمت بنسبة 60% في السنوات الثلاث الماضية، لتصل إلى ما يصل إلى 6.2 مليار دولار في عام 2022.
وأوضح بوريسينكو أن الشركات الروسية تعمل حاليا في السوق المصرية باستثمارات تتجاوز 7.4 مليار دولار، ومن المتوقع أن يرتفع هذا الرقم بعد بدء تشغيل المنطقة الصناعية الروسية.
وتبلغ قيمة الصادرات الروسية إلى مصر 5.7 مليار دولار، ما يجعل مصر الشريك التجاري الأكبر لموسكو في الشرق الأوسط وأفريقيا، فيما تعد روسيا ثالث أهم شريك تجاري لمصر بعد الاتحاد الأوروبي والصين.
وفي فبراير/شباط من العام الجاري، وقع البلدان اتفاقية ذات أهمية تاريخية بشأن إنشاء مصنع لصيانة وتجديد عربات القطارات في مصنع أبو زعبل الصناعي. وبسبب العقوبات الغربية التي منعت وصول موسكو إلى الدولار واليورو، بدأ البلدان في استخدام آلية الدفع لتبادل تجارة السلع بالعملات المحلية: الروبل الروسي والجنيه المصري.
ويقول محللون إن هذا التبادل قد يكون مفيدا لمصر التي يعتمد اقتصادها بشكل كبير على الدولار، بينما واصل الجنيه المصري انخفاض قيمته أمام الدولار خلال العام الماضي بنسبة تزيد على 50%.
الحبوب الروسية
وتعد روسيا أكبر مصدر للحبوب إلى مصر، وشكلت وارداتها النسبة الأكبر من الحبوب المستوردة في مصر في عام 2022 بإجمالي 4.9 مليون طن.
وقبل اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية عام 2022، كانت مصر تعتمد على شراء 80% من احتياجاتها من الحبوب من روسيا وأوكرانيا.
ومن المتوقع أن يستمر اعتماد القاهرة على الحبوب الروسية، خاصة أن الحبوب الأوكرانية أقل توافرا بسبب الحصار الروسي على البحر الأسود.
ويتوقع عديد المحللين أن تتجه مصر، بعد إعلان خروجها من اتفاقية الأمم المتحدة لتجارة الحبوب، بشكل أكبر إلى روسيا لتلبية احتياجات سكانها البالغ عددهم 104 ملايين نسمة من الحبوب.
اقرأ أيضاً
مصر وروسيا تحتفلان بمرور 80 عاما على تدشين العلاقات الدبلوماسية بين البلدين
وفي يوليو/تموز، نشرت السفارة الروسية بالقاهرة على منصة إكس صورا لوصول شحنة من المعدات اللازمة لبناء محطة الضبعة للطاقة النووية، ووصلت الشحنة الأولى من المعدات بالفعل في شهر مارس/آذار الماضي.
وزار أليكسي ليكاشيف، رئيس شركة روساتوم النووية الروسية، موقع إنشاء الضبعة والتقى بوزير الطاقة المصري، محمد شاكر، ومدير هيئة المحطات النووية المصرية، أمجد الوكيل.
ويتم تمويل المشروع الذي تبلغ قيمته 30 مليار دولار بشكل رئيسي من خلال قرض روسي بقيمة 25 مليار دولار.
وأوضح ليكاشيف أن روساتوم ستقوم بتزويد الضبعة بالوقود النووي طوال دورة حياة محطة الطاقة، وتدريب الموظفين المصريين، والمساعدة في تشغيل وصيانة محطة الطاقة خلال السنوات العشر الأولى. من المقرر أن تصبح المحطة جاهزة للعمل بحلول عام 2029.
المنطقة الصناعية
وتخطط روسيا لاستثمار أكثر من 7 مليارات دولار لإنشاء منطقة صناعية روسية في منطقة قناة السويس. وتبلغ مساحة المنطقة الواقعة بشرق بورسعيد 16 مليون متر مربع بمدينة بورفؤاد، وهي إحدى ضواحي مدينة بورسعيد، وتشكلان معًا منطقة حضرية تضم أكثر من مليون نسمة. وفي هذه المنطقة يخطط الروس لإنشاء منطقتهم الخاصة، والتي تبلغ مساحتها 5.25 مليون متر مربع.
وتتوقع مصر أن تبدأ أعمال البناء في المنطقة الصناعية الروسية الشاسعة بحلول منتصف عام 2024. ويهتم الجانبان بالإنتاج المشترك لمجموعة واسعة من السلع، فيما يبدي الروس استعدادهم لنقل خبراتهم إلى المصريين.
ومن خلال الشراكة، يأمل المصريون في تعزيز الصناعة من أجل تقليل الاعتماد على الواردات. وتهدف الخطة إلى إنشاء مركز دولي للمصنعين مع سهولة الوصول إلى تصدير البضائع إلى الأسواق الأفريقية والأوروبية.
ومن المتوقع أن يؤدي افتتاح المنطقة الصناعية الروسية إلى خلق حوالي 35 ألف فرصة عمل جديدة للعمال المصريين.
تنشيط السياحة
وبعد سنوات صعبة بدأت النهضة من جديد في مجال الرحلات السياحية الروسية إلى مصر، وذلك بعد تجاوز تداعيات حظر روسيا للرحلات الجوية إلى مصر بعد تحطم الطائرة الروسية المتجهة إلى سانت بطرسبرغ في منطقة شمال سيناء بعد وقت قصير من إقلاعها من شرم الشيخ في 31 أكتوبر/تشرين الأول 2015، ومقتل جميع من كانوا على متنها، وعددهم 224 شخصًا. وتبنى الفرع المصري لتنظيم الدولة الجريمة من خلال وضع متفجرات على الطائرة.
أما اليوم، فتشير مصادر مصرية إلى أن العقوبات الغربية على روسيا ساعدت مصر، عن غير قصد، على جذب السياح الروس. وبعد انخفاض عدد السياح الروس إلى الاتحاد الأوروبي وبريطانيا بنسبة 99%، جرى تسجيل زيادة بنسبة 181% في عدد السياح الروس إلى مصر خلال هذا العام.
اقرأ أيضاً
للمرة الأولى.. روسيا تدخل على خط تنقيب الغاز في مصر
وفي السياق، قالت سحر طلعت مصطفى، نائب رئيس لجنة السياحة بالبرلمان المصري، إن السياح الروس والأوكرانيون كانوا يشكلون أكثر من 80% من زوار المنتجعات المطلة على البحر الأحمر في شرم الشيخ والغردقة، قبل الحرب في أوكرانيا.
وفي العام الذي تلا فرض العقوبات الغربية، بلغ عدد السائحين الروس الذين زاروا مصر ما يقرب من مليون سائح، وفي ضوء هذه الزيادة، قال نائب رئيس الوزراء الروسي، دينيس مانتوروف، إن البلدين مستعدان لزيادة الرحلات الجوية بينهما لتلبية الطلب المتزايد.
التعاون العسكري
ويعد التعاون العسكري عنصرا أساسيا في العلاقات الثنائية المتنامية بسرعة بين البلدين، فمنذ أن أصبح السيسي رئيسًا في عام 2014، وقعت مصر عدة عقود عسكرية لشراء أسلحة روسية.
ووفقا لتقرير صدر عام 2021 عن معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام (SIPRI)، فقد أنفقت مصر 15 مليار دولار على شراء الأسلحة بين عامي 2014 و2017، وبلغت نسبة الواردات الروسية منها 60%. وفي صيف 2020، تسلمت مصر 5 طائرات من طراز سوخوي 35، على الرغم من التهديد الأمريكي بفرض عقوبات.
وفي أبريل/نيسان من هذا العام، كشفت وثيقة استخباراتية أمريكية مسربة أن الرئيس المصري أصدر تعليمات لمرؤوسيه بتصنيع وشحن الصواريخ وقذائف المدفعية والذخيرة سرًا إلى روسيا. وأوردت وثيقة استخباراتية أمريكية مسربة بتاريخ 17 فبراير/شباط الماضي أن السيسي أمر بإنتاج ما يصل إلى 40 ألف صاروخ تم إرسالها سرا إلى روسيا، وأمر مرؤوسيه بالحفاظ على سرية العملية لتجنب المشاكل مع الدول الغربية.
بنك بريكس
وبعد الانتهاء من الإجراءات اللازمة، في 20 فبراير/شباط من العام الجاري، أصبحت مصر عضوًا رسميًا في بنك التنمية الجديد لمجموعة بريكس، الذي تأسس من قبل الدول الأعضاء في مجموعة بريكس على أساس اتفاقية بين الدول تم التوقيع عليها في القمة السادسة لتلك المنظمة في فورتاليزا في يوليو/تموز 2014.
ويهدف البنك إلى تمويل مشاريع البنية التحتية ومشاريع التنمية المستدامة في الدول الأعضاء والدول النامية، وحصل سابقًا على التصنيف الائتماني الدولي AA+ من وكالات الائتمان الشهيرة مثل "فيتش" و"ستاندرد آند بورز"، ما مكنه من جذب التمويل طويل الأجل بشكل فعال في أسواق رأس المال الدولية.
ومنذ تأسيسه، وافق البنك على أكثر من 90 مشروعًا بقيمة إجمالية تبلغ 32 مليار دولار في مجالات مثل النقل وإدارة المياه والطاقة الخضراء والبنية التحتية الرقمية والاجتماعية والبناء الحضري. وترأس بنك التنمية الجديد حاليا، الرئيسة السابقة للبرازيل، ديلما روسيف.
وفي اليوم الأول من نوفمبر/تشرين الثاني 2024، ستصبح مصر عضوًا جديدًا في بريكس، وهو المؤشر الأكثر وضوحًا على العلاقات الممتازة مع روسيا والتزام القاهرة بأفكار النظام العالمي متعدد الأقطاب.
وتُعرف بريكس على نطاق واسع بأنها منافس مباشر للهيمنة الأمريكية أحادية القطب على المستوى العالمي، وأشاد بها المحللون المستقلون في جميع أنحاء العالم.
ورغم أن البعض يقلل من قيمة هذه الكتلة من الدول، فإن الدول الأعضاء في بريكس ستمثل مجتمعة ما يقرب من ثلث الناتج المحلي الإجمالي العالمي في عام 2024، وتحتل ثلث مساحة اليابسة على كوكب الأرض، وتضم 45% من سكان العالم.
وبفضل بريكس، ستتمكن مصر من تعزيز مكانتها كقوة متوسطة في العلاقات الدولية، وهو الوضع الذي لم تستخدمه مصر حتى الآن بالشكل الصحيح، رغم ضرورته في حل بعض الأزمات الملحة بالمنطقة، مثل الأزمة الإنسانية في قطاع غزة، بحسب ماتيا سيريش.
وتخلص المحللة السياسية إلى أن الدوائر الحاكمة في مصر ترى أن روسيا حليف رئيسي في السياسة الخارجية على الرغم من أن مصر كانت واحدة من أهم شركاء أمريكا في المنطقة على مدى العقود الخمسة الماضية.
وتعتبر تنمية العلاقات الجيدة مع موسكو ركيزة مهمة في السياسة الخارجية المصرية. ويعتقد المسؤولون المصريون أن العلاقات الاستراتيجية مع روسيا تساعد بلادهم على توازن علاقاتها مع القوى الكبرى، وفي مقدمتها الولايات المتحدة، التي تنتقد انتهاكات حقوق الإنسان في مصر، فيما لا تهتم روسيا بقضايا حقوق الإنسان والديمقراطية في مصر أو أي مكان آخر.
وأشارت إلى أن العلاقات القوية مع روسيا لا تسمح لمصر باستعادة صورتها كدولة ذات أهمية دولية فحسب، بل يمكن أن تساعدها أيضًا في مواجهة تأثير القوى الإقليمية الأخرى مثل تركيا وإيران.
اقرأ أيضاً
استطلاع: المصريون لا يؤيدون الخروج في احتجاجات جديدة ويفضلون روسيا على أمريكا
المصدر | ماتيا سيريتش/أوراسيا ريفيو - ترجمة وتحرير الخليج الجديدالمصدر: الخليج الجديد
كلمات دلالية: مصر روسيا عبدالفتاح السيسي الغرب أوكرانيا المنطقة الصناعیة من العام الجاری السیاح الروس ملیار دولار مصر وروسیا اقرأ أیضا فی عام 2014 مع روسیا إلى مصر أکثر من رئیس ا فی مصر إلى أن
إقرأ أيضاً:
بعد زيارة اليوم.. تعرف على تاريخ العلاقات المصرية الكينية
استقبل الرئيس عبد الفتاح السيسي، اليوم، نظيره الكيني ويليام روتو في قصر الاتحادية، لبحث سبل تعزيز التعاون الاقتصادي والتجاري بين البلدين، إضافة إلى التنسيق بشأن القضايا الإقليمية ذات الاهتمام المشترك.
تناولت المباحثات ملفات الأمن والمياه والاستثمار، في إطار الجهود المصرية لتعزيز الشراكة مع دول شرق إفريقيا ودعم الاستقرار والتنمية في القارة.
لذلك نستعرض إليكم جميع التفاصيل حول تاريخ العلاقات المصرية الكينية خلال السنوات الماضية.
العلاقات المصرية الكينية: تاريخ من التعاون والتكامللم تكن العلاقات المصرية الكينية وليدة اللحظة، بل تعود جذورها إلى ما قبل استقلال كينيا، حين لعبت مصر دورًا بارزًا في دعم الكفاح الكيني ضد الاستعمار البريطاني.
في عهد الرئيس جمال عبد الناصر، لم تقتصر المساندة المصرية على الجانب السياسي فحسب، بل امتدت إلى الدعم الإعلامي والدبلوماسي، حيث أطلقت القاهرة إذاعة "صوت إفريقيا" باللغة السواحيلية لنقل صوت المقاومة الكينية إلى العالم.
كما قدمت مصر دعمًا معنويًا لحركة الماو ماو التي قادت الكفاح المسلح ضد الاحتلال البريطاني.
مع بزوغ فجر الاستقلال في كينيا عام 1963، كانت مصر من أوائل الدول التي فتحت أبوابها أمام القادة الكينيين الجدد، تأكيدًا لالتزامها بدعم الشعوب الإفريقية في سعيها نحو الحرية والتنمية.
لم يمر سوى عام حتى افتتحت كينيا سفارتها في القاهرة، مما رسّخ العلاقات الدبلوماسية بين البلدين. لم يكن هذا التقارب مجرد بروتوكول رسمي، بل انعكس على التعاون العسكري والتنموي، حيث استضافت مصر مؤتمر القمة الإفريقي الثاني عام 1964، وناقش الرئيس عبد الناصر مع نظيره الكيني جومو كينياتا سبل دعم الجيش الكيني حديث التكوين.
ومن هذا المنطلق، أرسلت مصر خبراء عسكريين لتدريب القوات الكينية، وأتاحت فرصًا للضباط الكينيين في الأكاديميات العسكرية المصرية، مما أسهم في بناء نواة الجيش الكيني.
في المجال التنموي، لم تتأخر مصر عن تقديم خبراتها، فمع حلول عام 1967، تم إطلاق مشروع "الهيدروميت" بالتعاون بين البلدين، لدراسة الأرصاد الجوية والمائية في منطقة البحيرات الاستوائية، مما وضع الأساس لتعاون طويل الأمد في مجال المياه والموارد الطبيعية.
لم تتوقف العلاقات عند هذه المحطات، بل استمرت في التطور عبر العقود اللاحقة، ففي 1973، عندما اندلعت حرب أكتوبر، أظهرت كينيا تضامنها مع مصر بقطع علاقاتها الدبلوماسية مع إسرائيل. وفي 1984، زار الرئيس المصري حسني مبارك كينيا ضمن جولة إفريقية تهدف إلى تعزيز الروابط الاقتصادية والسياسية بين الدول الإفريقية والعربية، مقدمًا رؤية مصر لتعزيز التعاون جنوب-جنوب.
مع دخول مصر في اتفاقية الكوميسا عام 1998، بدأت مرحلة جديدة من العلاقات الاقتصادية، حيث أصبحت كينيا أحد أبرز الشركاء التجاريين لمصر في إفريقيا، مستفيدة من الإعفاءات الجمركية والتسهيلات التجارية التي أتاحتها الاتفاقية.
وفي القرن الحادي والعشرين، ومع تزايد التحديات التي تواجه القارة الإفريقية، لم تتراجع أهمية العلاقة بين مصر وكينيا، بل ازدادت قوة. ففي مايو 2010، زار رئيس الوزراء الكيني رايلا أودينجا القاهرة، مؤكدًا أن كينيا لا يمكن أن تتخذ أي خطوات من شأنها الإضرار بالمصالح المائية المصرية، في إشارة إلى قضية مياه نهر النيل التي تشكل محورًا أساسيًا في العلاقات المصرية الإفريقية. تبع ذلك زيارات متبادلة بين المسؤولين من الجانبين، كان أبرزها زيارة نائب وزير الخارجية الكيني ريتشارد أونيونكا في 2011، لبحث آفاق التعاون المشترك.
بعد عام 2014، دخلت العلاقات المصرية الكينية مرحلة جديدة من التنامي، خاصة في ظل توجه القيادة السياسية المصرية نحو تعزيز الروابط مع دول القارة السمراء.
كانت زيارة الرئيس عبد الفتاح السيسي لكينيا في 15 يوليو 2023 محطة هامة في هذا المسار، حيث التقى بالرئيس الكيني ويليام روتو، وتم بحث سبل تعزيز التعاون في مجالات التجارة، والاستثمار، والتنمية المستدامة.
ولم تقتصر المحادثات على الجانب الاقتصادي، بل شملت أيضًا التعاون في القضايا الإقليمية، حيث تلعب الدولتان دورًا محوريًا في تحقيق الاستقرار في شرق إفريقيا.
وفي أغسطس 2023، تلقى السيسي اتصالًا هاتفيًا من نظيره الكيني، تم خلاله الاتفاق على تكثيف التنسيق في القضايا الإفريقية، خاصة في الملفات المتعلقة بالأمن المائي، وهو ما يعكس الوعي المشترك بين البلدين بأهمية حماية الموارد الطبيعية وتحقيق التنمية المستدامة.
حجم التبادل التجاريكشف الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، عن تراجع قيمة التبادل التجاري بين مصر وكينيا خلال عام 2024 لتصل إلى 567 مليون دولار، مقارنةً بـ 638 مليون دولار في عام 2023.
إن العلاقات المصرية الكينية لم تكن مجرد اتفاقيات دبلوماسية، بل هي شراكة استراتيجية قائمة على التاريخ والمصالح المشتركة، من دعم كفاح كينيا من أجل الاستقلال، إلى تعزيز التعاون الاقتصادي والسياسي في العصر الحديث. واليوم، تمثل كينيا أحد أهم الشركاء لمصر في إفريقيا، حيث يجمع بين البلدين طموح مشترك لتحقيق التنمية، والاستقرار، والتكامل داخل القارة السمراء.