.. والمفعول الأول:(الله)، والمفعول الثاني:(غافلًا)، وتنكير غافلًا تعني شيوع رقابته، وكامل قيوميته، واتساع قدرته، بكلِّ ما يحدث في كونه من أيِّ ظالم كان، قولًا من الظالم، أو فعلًا؛ لأن العمل ينتظم القول، والفعل معًا، وقوله:(عمّا يعملون) يدخل فيه كلُّ شيء متصور، وغير متصور مما يقوله، أو يفعله الظالمون، فـ(ما) إما موصولة لغير العاقل، وإما مصدرية تُؤوَّل مع ما بعدها بمصدر، أيْ: أن الله ليس بغافل عن عمل الظالمين، وفي المعجم:(غفل عن الشيء): سها من قلة التحفظ، والتيقظ، أو ستره، أو تركه إهمالًا من غير نسيان، والله قد نفى عن نفسه ـ سبحانه ـ أيًّا من ذلك، فهو لا يغفل، ولا ينام، بل لا تأخذه سنة من النوم، وإنما هو يمهله، ولا ينساه، يمهله؛ لعله يؤوب، ويسارع ويتوب، فإذا أخذه لم يفلته، وجعله عبرة لغيره، وآية لمن سواه، وقصم ظهره.


وهنا عارضُ حذفٍ في المفعول به، أي:(عما يعمله الظالمون)، حُذِفَ المفعول للعلم به، ولأن السياق يدفع إليه، وأنه لا اختلافَ عند تقديره، ويعرفُه مَنْ له مُسْكَةٌ من قواعد النحو، ومعطيات اللغة، والقاعدة أنه يُحذف المفعول به حالة كونه ضميرًا كثيرًا (وذلك إذا كان ضميرًا عائدًا على الاسم الموصول،عائد الصلة)، نحو:(والله يعلم ما تسرون، وما تعلنون) (النحل ـ 19) (أي: ما تسرونه، وما تعلنونه)، ونحو: (ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون) (الأعراف ـ 96)، أي بما كانوا يكسبونه، فحذف المفعول الذي هو عائد الصلة هنا كثير.
وقوله:(إنّما) هي أداة حصر، وقصر، أصلها (إنّ)، وخلت عليها(ما) الكافة، فعملتْ شيئين: أفقدتْها عملها، وأزالت اختصاصها؛ ومن ثم دخلت (إنَّ) على الجمل الفعلية، وكانت مختصة ـ قبل دخول (ما) الكافة ـ على الجمل الاسمية فقط، وكانت تعمل النصب في الاسم، والرفع في الخبر، لكنَّ الكافة (ما) أفقدتها هذين الأمرين: (العمل، والاختصاص)، والفعل المضارع: (يؤخرهم) يفيد الاستمرار، والاستدامة، و(ليومٍ) اللام بمعنى (إلى)، أي: يؤخرهم إلى يوم، و(إلى) تفيد انتهاء الغاية الزمانية، أي: ينتهي التأخير عند قيام الساعة، ودخولنا في أحداث يوم القيامة على خطورته، وصعوبة منازله، وباهظ تبعاته، وتنكيره:(ليومٍ) كناية عن خطورته، فهو رهيب، مهيب، رعيب، فيه تحصل كلُّ الأعاجيب التي منها الطفل الصغير رأسه يشيب، وأن الحديد والعظام والجبال، الله لها ينسِف، ويُفني، ويُذيب.
وقوله:(تشخصُ) كناية عن شدة الهلع، والخوف، والوجل، فكأنها تتسمَّر لا تطرف، ولا تغمض، بل تشخص أي تتوقف، وتجمد، ولا تَرِيمُ؛ من هول ما ترى، ومن رُعْب ما تشاهد، ووردتْ اللفظة بالمضارع الذي يفيد الاستمرار، ويبيِّن حالة الناس فيه، وهم مُهْطِعُونَ مَادوُّن رقابَهم إلى بعيد، متحجرةً أجفانُهم، متسمِّرَةً رموشُهم، ناظرة أعينُهُم نظرًا طويلًا من أثر الخوف، وتبعات الحِساب، ومسؤولية ما قدموا من أعمال، أفعالًا كانت، أم أقوالًا حسب ما كتبَه الملائكة الحفظةُ عليهم.

د.جمال عبدالعزيز أحمد
كلية دار العلوم ـ جامعة القاهرة – جمهورية مصر العربية
Drgamal2020@hotmail.com

المصدر: جريدة الوطن

إقرأ أيضاً:

تأملات في الكتابة عن العبقرية

في إحدى زياراتي إلى شارع المتنبي، أهداني صديقٌ كتابًا مترجمًا عن ليوناردو دافينشي، من تأليف والتر إيزاكسون وترجمة محسن بني سعيد. فأثار فضولي: كيف يمكن لمؤلفٍ أن يعالج شخصية موسوعية بحجم دافينشي دون الوقوع في شرك الإعجاب المبالغ فيه؟

إنّ التصدي لكتابة سيرة رجلٍ تُجمع الألسن على عبقريّته مغامرة قد تجرّ إلى درك التمجيد. فالتاريخ حافل بسِيَرٍ تحوّلت فيها الشخصيات إلى رموزٍ معصومة، بعيدًا عن التناقضات الواقعية. ولعلّ كتاب جورجيو فازاري حياة الفنانين «1550» مثال على الهالة الأسطورية التي أُضفيت على عمالقة النهضة، ما يفسّر جزئيًّا الأسعار الخيالية لأعمالهم اليوم، كبيع لوحة سلفاتور مندي المنسوبة لليوناردو بقيمةٍ قاربت 450 مليون دولار.

يعتمد إيزاكسون في كتابه منهجًا يجمع بين التأريخ والتحليل، متتبعًا أعمال ليوناردو ومشاريعه، من رسومٍ ولوحاتٍ وصولًا إلى ابتكاراته الهندسية. يُضيف بذلك بُعدًا علميًّا يبني على أحدث الاكتشافات، مثل نسب والدته الحقيقي، واكتشاف لوحة مبكرة للقديس سباستيان في مزادٍ فرنسي عام 2016، إلى جانب تحليلٍ بالأشعة تحت الحمراء يكشف عن فروقٍ بين نسختي عذراء الصخور. ويؤكّد المؤلّف أيضًا أنّ حقبة النهضة كانت زمنًا للعمل الجماعي، حين تلاقحت المواهب في ورشٍ مشتركةٍ تحتضن العقول المتقدة، فلا تكون العبقرية حِكرًا على فردٍ بعينه.

وقد جاءت سيرته أشبه برصد متحمّس لكل مشروع تبنّاه ليوناردو، لا بوصفها تأريخًا لحياته فحسب، بل استقصاءً لرحلة إبداعه. وليس في ذلك مأخذ، بل يُحمد للكاتب أنه يضع بين يدي القارئ أحدث ما توصل إليه الباحثون المعاصرون، من إثبات نسب والدته الحقيقي، إلى الكشف عن لوحة مبكرة للقديس سباستيان عُثر عليها في دار مزادات فرنسية عام 2016، فضلًا عن تحليل الأشعة تحت الحمراء الذي كشف الفروق بين نسختي عذراء الصخور.

كذلك، لا يغفل الكاتب عن الإشارة إلى طبيعة الفن في عصر النهضة، مؤكدًا أنّ العبقرية الفردية لم تكن وحدها المحرك، بل كان العمل الفني ثمرة ورش جماعية، حيث تتلاقى العقول وتتضافر الجهود، ليولد الإبداع من روح الجماعة لا من فردية النبوغ وحدها.

ولعلّ أبرز إنجاز لإيزاكسون هو رسم صورة ليوناردو فنانًا مسكونًا بالكمال حدّ الوسواس؛ إذ ينوء تحت وطأة مشاريعه التي لا تُستكمَلُ إلا بشقّ النفس، كما في التمثال الفروسي الضخم للودوفيكو سفورزا في ميلانو، والجدارية العظمى لمعركة أنغياري في فلورنسا، وحتى مشروعه الطموح لتغيير مجرى نهر أرنو. ويخصّص الكاتب مساحةً واسعةً لتحليل تنظيرات ليوناردو حول فن الرسم، مقارنًا إياها بلوحاته الباقية. وتبرز جرأته في مخالفته بعض المختصين، كما في تفسير الإصبع البارزة في لوحة القدّيس يوحنا المعمدان في متحف اللوفر، إذ يصرّ على أنها ابتكارٌ متعمَّد. وحتى إن لم نقتنع ببعض هذه الاجتهادات، فإنّ الكتاب يبهرنا بالرسومات الملونة واللوحات المدمجة التي تُعين القارئ على تتبع أفكار المؤلّف خطوةً خطوة، ولا سيما عندما يشرح تقنية سفوماتو التي جعلت لوحات ليوناردو تنبضُ بالحياة.

لكن لهذا التركيز الشديد سلبياته؛ إذ يقع إيزاكسون في شرك الحماسة المفرطة لعبقرية ليوناردو، ويورد إشاداتٍ قد تُبخس حقَّ معاصريه وأسلافه. ففي حقبته الفلورنسية الأولى، على سبيل المثال، لا نجد تفصيلًا وافيًا لأثر جوتو وماساتشيو، اللذين أثّرَا في تطوُّر فن الرسم وشكّلا أرضيةً ألهمت ليوناردو نفسه. ولعل السبب هو قناعة الكاتب بفكرة «العبقرية الخالدة عبر التاريخ»، إذ يرى في ليوناردو مثالًا فذًّا لا يحتاج إلى إرثٍ سابق. إلا أنّ هذه النظرة قد تغفل التراكمات الحضارية والعلمية التي أسهمت في تطوّره.

وفي هذا السياق، يلمّح إيزاكسون إلى أنّ ليوناردو سبق غاليليو ونيوتن في منهج البحث القائم على الملاحظة والتجريب، لكنه يتجاهل الجذور التي أرساها ابن الهيثم وجان بوريدان وغيرهما ممن وضعوا الأسس الأولى لنظريات الحركة. وليس لأحدٍ أن ينكر سبق ليوناردو في كثيرٍ من الجوانب، غير أنّ إغفال عناصر التأثر لا يزيد الصورة إلا تشويهًا بدلًا من أن يضفي عليها وهجًا مستحقًا.

وفي القسم الأخير من الكتاب، يستشهد المؤلف بعبارة شهيرة من إعلانٍ لشركة أبل، كتبها ستيف جوبز: «الذين هم مجانين بما يكفي ليعتقدوا أنهم قادرون على تغيير العالم، هم الذين يفعلونه حقًّا». ثم يمضي في نثر نصائح تحفيزية، تُضفي على الكتاب طابعًا احتفائيًا بالعبقرية، ولو كان ذلك أحيانًا على حساب حقائق التاريخ وسياقه الأشمل.

وإن كانت هناك مآخذ على تركيز الكتاب على عبقرية ليوناردو الفردية وإغفال السياق الأوسع، فإنّه يظلّ علامةً بارزةً فيما كُتب عن هذه الشخصية في المكتبة المعاصرة.

ومن الطبيعي أن يركّز إيزاكسون على ما يراه الأجدر بالاهتمام في شخصيةٍ فذّةٍ يصعب الإحاطة بكل أبعادها في مجلدٍ واحد. ورغم أنّ الكتاب تجاوز 800 صفحة، فإنّ القارئ الحصيف سيجد نفسه مدفوعًا للبحث عن مصادر أوسع، تتيح له رؤية أشمل للفترة التاريخية التي تألّق فيها ليوناردو، وتكشف عن بيئته الثقافية والاقتصادية التي أثّرت في إبداعه.

لقد نجح والتر إيزاكسون في إماطة اللثام عن جانبٍ كبيرٍ من عبقرية ليوناردو، وإنْ كان قد اكتفى أحيانًا بمقاربةٍ تُعلي من شأن الفرد على حساب تراكمات التاريخ. وبفضل الترجمة، ينفتح أمام القارئ العربي أفقٌ معرفيٌّ ثريٌّ حول شخصيةٍ يصعبُ حصرها في مجالٍ واحد، ليكتشف، في تفاصيل السيرة، كيف كانت مخيلة ليوناردو الجامحة وراء اختراعاتٍ حلّقت بأفكار البشر إلى آفاقٍ جديدة. وإذا أيقظ هذا الكتاب في أنفسنا الرغبة في تعميق البحث واستكشاف جذور عصر النهضة وامتداداته، فقد حقّق غايته، إذ إنّ الكشف عن عبقرية فنانٍ بحجم ليوناردو ليس غايةً في حد ذاته، بل مدخلٌ للتأمّل في رحلة الإبداع الإنساني، وفي الكيفية التي يرسم بها التاريخ ملامح من يُعدّون مناراتٍ ساطعةً في مسيرة الحضارة البشرية.

مقالات مشابهة

  • علي جمعة يكشف كيفية شفاعة الرسول لنا يوم القيامة
  • تأملات في الكتابة عن العبقرية
  • مختار جمعة: الصيام والقرآن شفيعان لصاحبهما يوم القيامة
  • خطيب مسجد المشير: الشهداء أعلى مكانة من غيرهم يوم القيامة.. فيديو
  • هل يشترط ختم القرآن في رمضان؟.. تعليق الفقهاء
  • مفتي الجمهورية ينعى ضحايا حادث اصطدام قطار ركاب بخط القنطرة - بئر العبد
  • ما علامة نجاة العبد من العذاب يوم القيامة؟.. أحمد عمر هاشم يكشف
  • المفتي يؤكد: مصادر المعرفة في الإسلام تقوم على الوحي والعقل والتجربة
  • مفتي الجمهورية: التصوف في مصر علم وعمل بعيد عن الغلو والتطرف
  • كيف يفلس العبد يوم القيامة ويخسر كل حسناته؟ | احذر هذا الذنب