جريدة الوطن:
2024-10-05@14:16:12 GMT

أصول العنصرية الأوروبية

تاريخ النشر: 13th, December 2023 GMT

لا غرابة على الإطلاق في الموقف الأميركي المؤيِّد للاحتلال في فلسطين وللمجازر الَّتي يرتكبها بحقِّ الفلسطينيِّين، السكَّان الأصليِّين. وليس للأمْرِ علاقة بحركة مقاومة تَعدُّها أميركا وأوروبا وبعض العرب «إرهابيَّة». المسألة ببساطة تَعودُ إلى جذور أوروبيَّة لدى النخَبِ الأميركيَّة الَّتي ترجع أصولها إلى أوروبا قَبل مغامرتهم الاستيطانيَّة في أميركا الشماليَّة.

وكما يقول المَثل «العِرق دسَّاس»، والأميركيون في أغلبهم يحملون تلك العنصريَّة الأوروبيَّة الَّتي يرجع تاريخها إلى عصور القارَّة المظلمة قَبل قرون طويلة. ولطالما أظهرت الامبراطوريَّات الأوروبيَّة القديمة، والدوَل/المُدُن فيها، تلك العنصريَّة تجاه بعضها وخاضت حروبًا على أساسها قتلت فيها من شعوبها الملايين على مرِّ التاريخ وأُعيد تشكيل دوَلها أكثر من مرَّة. ورغم حسابات المصالح والسِّياسة، خصوصًا في نهاية الحروب، إلَّا أنَّ العنصريَّة كانت دومًا حاضرة في تاريخ أوروبا القديم والحديث. أحيانًا تكُونُ ظاهرة فجَّة، وأحيانًا مستترة تحت ضغط القوانين كَيْ تحافظَ على مُجتمعات دوَلها.
يخطئ مَنْ يتصوَّرَ أنَّ العنصريَّة مرتبطة أكثر ببروز اليمين السِّياسي، وإن كان ذلك سادَ في فترات سابقة من تاريخ القارَّة الأوروبيَّة. فالعنصريَّة سِمة شاملة، وربَّما كانت عِند اليسار الأوروبي أكثر تأثيرًا لكنَّها تغلَّف بأفكار اجتماعيَّة/اقتصاديَّة تخدع النَّظر. لَمْ تكُنِ الفاشيَّة والنازيَّة وغيرها من الحركات العنصريَّة في القرن الماضي تطورًا ظهر من فراغ أو نتيجة مرحلة تدهور في الدوَل الأوروبيَّة الَّتي ظهرت فيها ـ وكانت كُلُّها بالمناسبة نتيجة فوز أحزاب اشتراكيَّة (يساريَّة) بالانتخابات. إنَّما كانت تعبيرًا عن سِمة موجودة، تختفي تحت السطح في فترات الازدهار وتظهر في فترات التراجع والضعف. لكنَّها قَدْ تظهر بأشكالٍ مختلفة في فترة الرواج والتطوُّر وربَّما بشكلٍ أقوى وإن كان «مستترًا» في شعارات برَّاقة. تلك السِّمة هي الَّتي ساعدت مجموعات الغزاة المحتلِّين، والمهجَّرين الَّذين نقلوهم فيما بعد، على استيطان «العالَم الجديد» مِثل أميركا الشماليَّة وأستراليا. ومكَّنت أحفاد العنصريَّة الأوروبيَّة من ارتكاب المجازر بحقِّ السكَّان الأصليِّين في تلك البلدان، من الهنود الحمر إلى الأبورجين، والاستيلاء على أراضيهم وممتلكاتهم. وما أن انتهى الأوروبيون الأوائل من قتل السكَّان الأصليِّين وطردهم من أرضهم وحظر مَنْ تبقى مِنْهم في «مستعمرات» موجودة حتَّى الآن، تقاتلوا معًا في «عنصريَّة بَيْنيَّة» فيما عُرفت بالحرب الأهليَّة الأميركيَّة الَّتي أنتجت الولايات المُتَّحدة الحاليَّة.
لعلَّ التشابه الكبير بَيْنَ الأوروبيِّين في احتلالهم أميركا وبَيْنَ الصهاينة الأوروبيِّين في احتلالهم فلسطين من الوضوح بما يجعل الاثنين صنوان. مِن هنا كانت بريطانيا (الامبراطوريَّة) راعية احتلال الصهاينة الأوروبيِّين لفلسطين بداية القرن الماضي. ونتذكَّر المجازر الَّتي ارتكبها هؤلاء بحقِّ الفلسطينيِّين وطردهم من أراضيهم وبيوتهم وبلداتهم وقراهم، لاجئين فيما تبقَّى من بلادهم فلسطين أو في دوَل الجوار. كُلُّ ذلك حدَث تحت الانتداب البريطاني على فلسطين. وبعد الحرب العالَميَّة الثانية ورثت أميركا التراث الأوروبي الاستعماري حَوْلَ العالَم وإن بشكلٍ مختلف. لكنَّ الأهمَّ، أنَّ الأصول العنصريَّة ممتدَّة منذ وقت نزوح هؤلاء الأوروبيِّين إلى أميركا قَبل بضعة قرون حتَّى انتقال مركز القوَّة من أوروبا إلى أميركا بعد الحرب. لذا تجد العنصريَّة الأميركيَّة، الواضحة في موقفها من الاحتلال الصهيوني والفلسطينيِّين ـ بل وربَّما من العرب أجمعين ـ أشدَّ وضوحًا من البريطانيَّة والأوروبيَّة من قَبل. فهي عنصريَّة مضاعفة: لأصولها الأوروبيَّة التقليديَّة ولتشابهها مع الاحتلال الصهيوني في الغزو الاستيطاني. ولا يختلف في ذلك يمين أو يسار أميركي، ولا حزب جمهوري ولا ديموقراطي، فكُلُّ تلك التنويعات السِّياسيَّة هي في إطار عنصري أصلًا. وهكذا تجد إدارة بايدن الديموقراطي لا تقلُّ دعمًا لـ»إسرائيل» عن إدارة ترامب الجمهوري.
من حركة التاريخ، تبرز العنصريَّة أكثر في فترات الضعف والتراجع. ولعلَّ ما تمرُّ به أوروبا الآن من تدهور على كافَّة أصعدة السِّياسة والاقتصاد هو ما يفسِّر جزئيًّا صعود الَّتيارات المتطرِّفة والمتشدِّدة وبروز العنصريَّة مجددًا. ليس فقط تجاه المهاجرين من آسيا وإفريقيا، ولا حتَّى تجاه غير الأوروبيِّين حتَّى لو كانوا من أصول قوقازية مِثلهم وإنَّما حتَّى فيما بَيْنَ الشعوب الأوروبيَّة ذاتها. وما حدث في وقت وباء كورونا من سرقة دوَل أوروبيَّة كمامات وأجهزة تنفُّس من دوَل أخرى «شقيقة»، بل وتسخير أجهزة الاستخبارات وحتَّى العصابات للاستيلاء على مواد طبيَّة من دوَل أخرى، كان بداية وضوح صعود التوجُّه العنصري الأوروبي. وإذا كانت الدوَل الأوروبيَّة حافظت على الحدِّ من عنصريَّة شعوبها بالقوانين والقواعد الَّتي تُشكِّل «النِّظام» العام لمجتمعات توصف بأنَّها «ديموقراطيَّة متقدِّمة»، فإنَّ ما يحدُث الآن ـ للأسف ـ يزيد من التوجُّهات العنصريَّة. فتشديد قوانين القمع المناقضة لحُرِّيَّة الرأي والتفكير وحقِّ المراجعة والانتقاد إنَّما تزيد من موجات العنصريَّة وتفاقم من الأصوليَّة المتشدِّدة. المثير للسخرية أنَّك تجدُ أكثر دَولتَيْنِ تغاليان في سنِّ قوانين قمع حُرِّيَّة الرأي والتفكير هما أكثر دَولتَيْنِ تدعيان الديموقراطيَّة والحُرِّيَّة وغيرها من الشعارات البرَّاقة. فالولايات المُتَّحدة وفرنسا هما أكثر بَلدَينِ الآن تشدِّد حكوماتهما القوانين لتكميم الأفواه الَّتي تحاول حتَّى التعبير عن رأيٍ منطقيٍّ ضدَّ الاحتلال الصهيوني.
صحيح أنَّ ذلك يحدُث أيضًا في بريطانيا، الَّتي طالما وُصفت بأنَّها «أعتى ديموقراطيَّة» في العالَم، لكن بريطانيا وصلَت من الضعف حدًّا جعلَها تزايد على الآخرين وتتخلَّى عن «رصانتها» القديمة الَّتي بقيَت حتَّى بعد سقوط الامبراطوريَّة. ولعلَّ أميركا وفرنسا وألمانيا وبقيَّة أوروبا أيضًا تمرُّ فعلًا بمرحلة تراجع تبرز أصولها العنصريَّة.

د.أحمد مصطفى أحمد
كاتب صحفي مصري
mustafahmed@hotmail.com

المصدر: جريدة الوطن

كلمات دلالية: ة الأوروبی فی فترات العال م

إقرأ أيضاً:

ستارمر يعد من بروكسل بعلاقة "بناءة أكثر" مع الاتحاد الأوروبي

وعد رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر، الأربعاء، في بروكسل بعلاقة "بناءة أكثر" مع الاتحاد الأوروبي، بعد سنوات من خروج بريطانيا من التكتل، معترفا في الوقت نفسه بأن الطريق سيكون طويلا.

وأوضح الزعيم العمالي بعد اجتماع مع رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين: "الأمر يتعلق قبل كل شيء بطي الصفحة" والبدء بالمناقشة بطريقة "بناءة أكثر".

لكن ستارمر الذي وصل إلى السلطة في يوليو بعد 14 عاما من حكم المحافظين، أضاف أن "هذا لا يعني بالضرورة أن الأمور ستتم بسرعة".

وأكد خطوطه الحمراء، مستبعدا الانضمام إلى السوق الأوروبية الموحدة أو الاتحاد الجمركي أو اعادة العمل بحرية التنقل.

وشدد على أن المهم بالنسبة لهذه الزيارة الأولى لبروكسل منذ وصوله إلى داونينغ ستريت هو "وضع إطار" للاجتماعات المقبلة.

وبذلك أعلن الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة عن استئناف مؤتمرات القمة لزعمائهما، ومن المقرر أن تعقد أولى هذه القمم في بداية العام المقبل.

من جهتها، قالت فون دير لايين مرحبة برئيس الوزراء البريطاني "في هذه الأوقات المضطربة للغاية، يجب على الشركاء ذوي التفكير المماثل أن يتعاونوا بشكل أوثق".

لكن ستارمر رفض الخوض في مسائل جوهرية الأربعاء.

وأكد ردا على أسئلة حول حقوق الصيد البحري وتنقل الشباب البريطاني في الاتحاد الأوروبي، أن "طبيعة المناقشة لم تتعلق بمواضيع محددة".

وقبل هذه الزيارة، انتقد الاقتراح الرئيسي للاتحاد الأوروبي "برنامج تنقل للشباب" الذين تراوح أعمارهم بين 18 إلى 30 عاما.

ويخشى ستارمر أن يكون هذا المشروع أشبه بإعادة إدخال حرية التنقل في الوقت الذي يؤكد فيه رغبته في الحد من الهجرة النظامية وغير النظامية.

ويرى محللون أن حزب العمال قد يغريه برنامج تجاري محدود إذا حقق هدفه الرئيسي المتمثل في تعزيز النمو الاقتصادي.

واعتبر البروفسور ريتشارد ويتمان المتخصص في شؤون الاتحاد الأوروبي في جامعة كنت، أن هذه الزيارة "هي رمز للرغبة في تبديد الضباب القائم بين ضفتي المانش".

وأضاف: "أظن أن ذلك أيضا مقدمة لإدراك المملكة المتحدة أنه سيتعين عليها العمل بجد للحصول على شيء يسمح لها بالتباهي بتحسين العلاقات" مع الاتحاد الاوروبي.

مقالات مشابهة

  • قرار محكمة العدل الأوروبية.. بلجيكا تجدد تشبثها بالشراكة الاستراتيجية بين الاتحاد الأوروبي والمغرب
  • هيلين يستمر.. أكثر من 200 قتيل في أميركا بأعنف إعصار منذ نصف قرن
  • وقف الإضراب بموانئ أميركا يهبط بأسهم شركات الشحن في أوروبا
  • العدل الأوروبية تقضي ببطلان اتفاقيات بين الاتحاد الأوروبي والمغرب بالصحراء الغربية
  • العدل الأوروبية تقضي ببطلان اتفاقيات تجارة بين الاتحاد الأوروبي والمغرب بالصحراء الغربية
  • موسيالا يغيب عن ألمانيا أمام البوسنة والهرسك وهولندا بدوري الأمم الأوروبية
  • محكمة العدل الأوروبية، تحكم بإلغاء اتفاقية الصيد البحري والزراعة، بين المغرب والاتحاد الأوروبي
  • هل أورثنا الغزو التركي المصري داء العنصرية؟
  • نجوم من أصول مغربية تخلوا عن منتخبات أوروبا وفضلوا أسود الأطلس
  • ستارمر يعد من بروكسل بعلاقة "بناءة أكثر" مع الاتحاد الأوروبي