جريدة الوطن:
2025-01-23@02:47:14 GMT

أصول العنصرية الأوروبية

تاريخ النشر: 13th, December 2023 GMT

لا غرابة على الإطلاق في الموقف الأميركي المؤيِّد للاحتلال في فلسطين وللمجازر الَّتي يرتكبها بحقِّ الفلسطينيِّين، السكَّان الأصليِّين. وليس للأمْرِ علاقة بحركة مقاومة تَعدُّها أميركا وأوروبا وبعض العرب «إرهابيَّة». المسألة ببساطة تَعودُ إلى جذور أوروبيَّة لدى النخَبِ الأميركيَّة الَّتي ترجع أصولها إلى أوروبا قَبل مغامرتهم الاستيطانيَّة في أميركا الشماليَّة.

وكما يقول المَثل «العِرق دسَّاس»، والأميركيون في أغلبهم يحملون تلك العنصريَّة الأوروبيَّة الَّتي يرجع تاريخها إلى عصور القارَّة المظلمة قَبل قرون طويلة. ولطالما أظهرت الامبراطوريَّات الأوروبيَّة القديمة، والدوَل/المُدُن فيها، تلك العنصريَّة تجاه بعضها وخاضت حروبًا على أساسها قتلت فيها من شعوبها الملايين على مرِّ التاريخ وأُعيد تشكيل دوَلها أكثر من مرَّة. ورغم حسابات المصالح والسِّياسة، خصوصًا في نهاية الحروب، إلَّا أنَّ العنصريَّة كانت دومًا حاضرة في تاريخ أوروبا القديم والحديث. أحيانًا تكُونُ ظاهرة فجَّة، وأحيانًا مستترة تحت ضغط القوانين كَيْ تحافظَ على مُجتمعات دوَلها.
يخطئ مَنْ يتصوَّرَ أنَّ العنصريَّة مرتبطة أكثر ببروز اليمين السِّياسي، وإن كان ذلك سادَ في فترات سابقة من تاريخ القارَّة الأوروبيَّة. فالعنصريَّة سِمة شاملة، وربَّما كانت عِند اليسار الأوروبي أكثر تأثيرًا لكنَّها تغلَّف بأفكار اجتماعيَّة/اقتصاديَّة تخدع النَّظر. لَمْ تكُنِ الفاشيَّة والنازيَّة وغيرها من الحركات العنصريَّة في القرن الماضي تطورًا ظهر من فراغ أو نتيجة مرحلة تدهور في الدوَل الأوروبيَّة الَّتي ظهرت فيها ـ وكانت كُلُّها بالمناسبة نتيجة فوز أحزاب اشتراكيَّة (يساريَّة) بالانتخابات. إنَّما كانت تعبيرًا عن سِمة موجودة، تختفي تحت السطح في فترات الازدهار وتظهر في فترات التراجع والضعف. لكنَّها قَدْ تظهر بأشكالٍ مختلفة في فترة الرواج والتطوُّر وربَّما بشكلٍ أقوى وإن كان «مستترًا» في شعارات برَّاقة. تلك السِّمة هي الَّتي ساعدت مجموعات الغزاة المحتلِّين، والمهجَّرين الَّذين نقلوهم فيما بعد، على استيطان «العالَم الجديد» مِثل أميركا الشماليَّة وأستراليا. ومكَّنت أحفاد العنصريَّة الأوروبيَّة من ارتكاب المجازر بحقِّ السكَّان الأصليِّين في تلك البلدان، من الهنود الحمر إلى الأبورجين، والاستيلاء على أراضيهم وممتلكاتهم. وما أن انتهى الأوروبيون الأوائل من قتل السكَّان الأصليِّين وطردهم من أرضهم وحظر مَنْ تبقى مِنْهم في «مستعمرات» موجودة حتَّى الآن، تقاتلوا معًا في «عنصريَّة بَيْنيَّة» فيما عُرفت بالحرب الأهليَّة الأميركيَّة الَّتي أنتجت الولايات المُتَّحدة الحاليَّة.
لعلَّ التشابه الكبير بَيْنَ الأوروبيِّين في احتلالهم أميركا وبَيْنَ الصهاينة الأوروبيِّين في احتلالهم فلسطين من الوضوح بما يجعل الاثنين صنوان. مِن هنا كانت بريطانيا (الامبراطوريَّة) راعية احتلال الصهاينة الأوروبيِّين لفلسطين بداية القرن الماضي. ونتذكَّر المجازر الَّتي ارتكبها هؤلاء بحقِّ الفلسطينيِّين وطردهم من أراضيهم وبيوتهم وبلداتهم وقراهم، لاجئين فيما تبقَّى من بلادهم فلسطين أو في دوَل الجوار. كُلُّ ذلك حدَث تحت الانتداب البريطاني على فلسطين. وبعد الحرب العالَميَّة الثانية ورثت أميركا التراث الأوروبي الاستعماري حَوْلَ العالَم وإن بشكلٍ مختلف. لكنَّ الأهمَّ، أنَّ الأصول العنصريَّة ممتدَّة منذ وقت نزوح هؤلاء الأوروبيِّين إلى أميركا قَبل بضعة قرون حتَّى انتقال مركز القوَّة من أوروبا إلى أميركا بعد الحرب. لذا تجد العنصريَّة الأميركيَّة، الواضحة في موقفها من الاحتلال الصهيوني والفلسطينيِّين ـ بل وربَّما من العرب أجمعين ـ أشدَّ وضوحًا من البريطانيَّة والأوروبيَّة من قَبل. فهي عنصريَّة مضاعفة: لأصولها الأوروبيَّة التقليديَّة ولتشابهها مع الاحتلال الصهيوني في الغزو الاستيطاني. ولا يختلف في ذلك يمين أو يسار أميركي، ولا حزب جمهوري ولا ديموقراطي، فكُلُّ تلك التنويعات السِّياسيَّة هي في إطار عنصري أصلًا. وهكذا تجد إدارة بايدن الديموقراطي لا تقلُّ دعمًا لـ»إسرائيل» عن إدارة ترامب الجمهوري.
من حركة التاريخ، تبرز العنصريَّة أكثر في فترات الضعف والتراجع. ولعلَّ ما تمرُّ به أوروبا الآن من تدهور على كافَّة أصعدة السِّياسة والاقتصاد هو ما يفسِّر جزئيًّا صعود الَّتيارات المتطرِّفة والمتشدِّدة وبروز العنصريَّة مجددًا. ليس فقط تجاه المهاجرين من آسيا وإفريقيا، ولا حتَّى تجاه غير الأوروبيِّين حتَّى لو كانوا من أصول قوقازية مِثلهم وإنَّما حتَّى فيما بَيْنَ الشعوب الأوروبيَّة ذاتها. وما حدث في وقت وباء كورونا من سرقة دوَل أوروبيَّة كمامات وأجهزة تنفُّس من دوَل أخرى «شقيقة»، بل وتسخير أجهزة الاستخبارات وحتَّى العصابات للاستيلاء على مواد طبيَّة من دوَل أخرى، كان بداية وضوح صعود التوجُّه العنصري الأوروبي. وإذا كانت الدوَل الأوروبيَّة حافظت على الحدِّ من عنصريَّة شعوبها بالقوانين والقواعد الَّتي تُشكِّل «النِّظام» العام لمجتمعات توصف بأنَّها «ديموقراطيَّة متقدِّمة»، فإنَّ ما يحدُث الآن ـ للأسف ـ يزيد من التوجُّهات العنصريَّة. فتشديد قوانين القمع المناقضة لحُرِّيَّة الرأي والتفكير وحقِّ المراجعة والانتقاد إنَّما تزيد من موجات العنصريَّة وتفاقم من الأصوليَّة المتشدِّدة. المثير للسخرية أنَّك تجدُ أكثر دَولتَيْنِ تغاليان في سنِّ قوانين قمع حُرِّيَّة الرأي والتفكير هما أكثر دَولتَيْنِ تدعيان الديموقراطيَّة والحُرِّيَّة وغيرها من الشعارات البرَّاقة. فالولايات المُتَّحدة وفرنسا هما أكثر بَلدَينِ الآن تشدِّد حكوماتهما القوانين لتكميم الأفواه الَّتي تحاول حتَّى التعبير عن رأيٍ منطقيٍّ ضدَّ الاحتلال الصهيوني.
صحيح أنَّ ذلك يحدُث أيضًا في بريطانيا، الَّتي طالما وُصفت بأنَّها «أعتى ديموقراطيَّة» في العالَم، لكن بريطانيا وصلَت من الضعف حدًّا جعلَها تزايد على الآخرين وتتخلَّى عن «رصانتها» القديمة الَّتي بقيَت حتَّى بعد سقوط الامبراطوريَّة. ولعلَّ أميركا وفرنسا وألمانيا وبقيَّة أوروبا أيضًا تمرُّ فعلًا بمرحلة تراجع تبرز أصولها العنصريَّة.

د.أحمد مصطفى أحمد
كاتب صحفي مصري
mustafahmed@hotmail.com

المصدر: جريدة الوطن

كلمات دلالية: ة الأوروبی فی فترات العال م

إقرأ أيضاً:

بلاوي السودان كلها في العنصرية البغيضة وقانون الوجوه الغريبة!

عبد المجيد دوسة المحامي
السودان الذي أصبح بلداً للمليشيات العشر، بل بلد يرتع فيه الهوس الديني والدواعش الجدد، أكلةِ أكباد البشر، بلدٌ لا نرى فيه سوى السبع العجاب! والكل يبكي ليلاه ... ولكن من ليلى هذه التي يذرف حولها الدمع الغزير، دموع اليتامى والأرمل والثكالى خلائف حاملو ألوية النضال، نضال السنين الطوال الذي لم نستطع معه إسكات صوت الشباب الذين رأوا في الانتقام قيمة، وفي الانتقام مسح لذاك الدمع. شباب لم يستطع معنا صبرا، حين قلنا لهم أن لا قيمة في الانتقام، فالمنتقم صفة واسم لله سبحانه وتعالى وحده.. ولكننا بلا شك لنا حقّ الثأر في مسَّ كرامتنا التي أهانها المتأسلمون الجدد الذين آمنوا بالعنصرية البغيضة نهجاً، وشرّعوا من الهرطقات ما لم يسبقهم اليها اِنس ولا جان، شرّعوا قانوناً أسمّوه بقانون الوجوه الغريبة تمهيدا لجريمتهم البشعة، التي ارتكبوها في قُرى الكنابي الوادعة ووثقوها بأنفسهم، هذه القانون يبيح قتل الوجه الغريب ورميه في البحر، تقرباً لشياطينهم التي تؤزهم أزّا صباح مساء.
هاجت جُّل المنظمات الحقوقية الدولية، وصاح الضمير الإنساني ومعهم لفيف من وطنيي بلادي محتجين ومندِدين. لكن بالطبع شياطين الإنس من الكيزان لا يعيرون بالاً لهذه الأصوات، فهم قد إعتادوا عليها، ويعلمون جيدا أنها سحابة عابرة كسابقاتها، ولكن الجديد في الأمر أن قادة جيشهم ارتعدوا خِيفة هذه المرة، فباتوا يبررون بأنً ما حدث هي تفلتات فردية، وشكّلوا لجنة للتحقيق، بالطبع هي لجنة كيزانية، والغريب في الأمر أنهم أدّوا بالأمس يميناً مغلظة وهم لها حانثون.. لينبري كبير جيشهم، داعياً القوم بأن ما وقع ليس من أفعال كتائب البراء.. لمن هذا يا هامان، ألقومٍ قالوا لك من قبلُ اِنا لما تدعونا اليه مريب! كُف عن هذا وأسلك سبيل شيخك الذي وجَّه الناس من قبلُ بلحس الكوع، ان كنت قد سمعت ذاك القول من قبل.
بقي أمر واحد لاِيقاف هذه الدماء السودانية التي تُراق ليل نهار، العالم قال كلمته وسكت، اِذن لن يبق سوى صوتكم أنتم أيها السودانيون، يجب توثيق كل هذه الجرائم، وتجهيز ملف كامل يُقدّم الى الجهات العدلية الدولية مع اِرفاق شهادة متكاملة للشهود اِنتظارا ليوم تُنصف فيه أهلونا الضحايا، ولكن من يقوم بهذه المهمة؟ أعتقد أن العبء الأكبر يقع على من هم في الأرض وشاهدوا كل تلك الفظائع، وبدورهم يقدِّمونها الى لجنة تكوّن قريبا ممن هم خارج البلاد لتكملة المهمة، ولكن كيف تكّون هذه اللجنة والناس في شتات؟ هنا لابد من وجود طليعة تعمل لذلك، وأقرب الناس تواصلاً هم كتّاب المقالات والأعمدة في الصحف الاِسفيرية عن طريق اِيميلاتهم للتشاور في الأمر. أما اِذا اِعتمد الناس على تحركٍ ما من المجتمع الدولي فاِننا لن نحصد شيئاً وستضيع القضية كسابقاتها، وننتظر أخرى ونصرخ ليومين أو ثلاث وهكذا دواليك، وهم في جرائمهم ماضون.
نأمل ألا نضيع ظنّ المستضعفين من أهلينا هذه المرة، اِذ كفانا السباب والعويل وكشف عورات الكيزان، اِذ هم العورة بل والسوءة نفسها، ولنمض الى ما فيه نفع الناس ويخيفهم بغية الرجوع الى سبيل الرشاد وهم ليسوا لها عائدون ما لم يوضعوا في جحر ضب كما يقولون.
عبد المجيد دوسه المحامي


majeedodosa@gmail.com  

مقالات مشابهة

  • «الناتو» يدعو إلى تكثيف التعاون مع الاتحاد الأوروبي
  • المفوضية الأوروبية تعد خطة لتوفير أسعار الطاقة بأسعار مقبولة
  • قفزة في أسعار الغاز الطبيعي الأوروبي بسبب ملء المخزونات بألمانيا
  • «لوبوان»: الأسابيع المقبلة حاسمة لتحديد مستقبل العلاقات الأوروبية الأمريكية
  • فرنسا تدعو أوروبا لتقليل اعتمادها الأمني على أميركا
  • وزير الخارجية والهجرة يلتقي رئيس مجموعة "الوطنيون من أجل أوروبا" بالبرلمان الأوروبي
  • هابيك: على الاتحاد الأوروبي وألمانيا الاستعداد لمواجهة الرسوم الجمركية المحتملة لترامب
  • بلاوي السودان كلها في العنصرية البغيضة وقانون الوجوه الغريبة!
  • رئيس القومية لسلامة الغذاء يبحث مع وفد المفوضية الأوروبية تصدير الأسماك لدول أوروبا
  • إنفانتينو يدين الإهانات العنصرية بحق بالدي