لا غرابة على الإطلاق في الموقف الأميركي المؤيِّد للاحتلال في فلسطين وللمجازر الَّتي يرتكبها بحقِّ الفلسطينيِّين، السكَّان الأصليِّين. وليس للأمْرِ علاقة بحركة مقاومة تَعدُّها أميركا وأوروبا وبعض العرب «إرهابيَّة». المسألة ببساطة تَعودُ إلى جذور أوروبيَّة لدى النخَبِ الأميركيَّة الَّتي ترجع أصولها إلى أوروبا قَبل مغامرتهم الاستيطانيَّة في أميركا الشماليَّة.
يخطئ مَنْ يتصوَّرَ أنَّ العنصريَّة مرتبطة أكثر ببروز اليمين السِّياسي، وإن كان ذلك سادَ في فترات سابقة من تاريخ القارَّة الأوروبيَّة. فالعنصريَّة سِمة شاملة، وربَّما كانت عِند اليسار الأوروبي أكثر تأثيرًا لكنَّها تغلَّف بأفكار اجتماعيَّة/اقتصاديَّة تخدع النَّظر. لَمْ تكُنِ الفاشيَّة والنازيَّة وغيرها من الحركات العنصريَّة في القرن الماضي تطورًا ظهر من فراغ أو نتيجة مرحلة تدهور في الدوَل الأوروبيَّة الَّتي ظهرت فيها ـ وكانت كُلُّها بالمناسبة نتيجة فوز أحزاب اشتراكيَّة (يساريَّة) بالانتخابات. إنَّما كانت تعبيرًا عن سِمة موجودة، تختفي تحت السطح في فترات الازدهار وتظهر في فترات التراجع والضعف. لكنَّها قَدْ تظهر بأشكالٍ مختلفة في فترة الرواج والتطوُّر وربَّما بشكلٍ أقوى وإن كان «مستترًا» في شعارات برَّاقة. تلك السِّمة هي الَّتي ساعدت مجموعات الغزاة المحتلِّين، والمهجَّرين الَّذين نقلوهم فيما بعد، على استيطان «العالَم الجديد» مِثل أميركا الشماليَّة وأستراليا. ومكَّنت أحفاد العنصريَّة الأوروبيَّة من ارتكاب المجازر بحقِّ السكَّان الأصليِّين في تلك البلدان، من الهنود الحمر إلى الأبورجين، والاستيلاء على أراضيهم وممتلكاتهم. وما أن انتهى الأوروبيون الأوائل من قتل السكَّان الأصليِّين وطردهم من أرضهم وحظر مَنْ تبقى مِنْهم في «مستعمرات» موجودة حتَّى الآن، تقاتلوا معًا في «عنصريَّة بَيْنيَّة» فيما عُرفت بالحرب الأهليَّة الأميركيَّة الَّتي أنتجت الولايات المُتَّحدة الحاليَّة.
لعلَّ التشابه الكبير بَيْنَ الأوروبيِّين في احتلالهم أميركا وبَيْنَ الصهاينة الأوروبيِّين في احتلالهم فلسطين من الوضوح بما يجعل الاثنين صنوان. مِن هنا كانت بريطانيا (الامبراطوريَّة) راعية احتلال الصهاينة الأوروبيِّين لفلسطين بداية القرن الماضي. ونتذكَّر المجازر الَّتي ارتكبها هؤلاء بحقِّ الفلسطينيِّين وطردهم من أراضيهم وبيوتهم وبلداتهم وقراهم، لاجئين فيما تبقَّى من بلادهم فلسطين أو في دوَل الجوار. كُلُّ ذلك حدَث تحت الانتداب البريطاني على فلسطين. وبعد الحرب العالَميَّة الثانية ورثت أميركا التراث الأوروبي الاستعماري حَوْلَ العالَم وإن بشكلٍ مختلف. لكنَّ الأهمَّ، أنَّ الأصول العنصريَّة ممتدَّة منذ وقت نزوح هؤلاء الأوروبيِّين إلى أميركا قَبل بضعة قرون حتَّى انتقال مركز القوَّة من أوروبا إلى أميركا بعد الحرب. لذا تجد العنصريَّة الأميركيَّة، الواضحة في موقفها من الاحتلال الصهيوني والفلسطينيِّين ـ بل وربَّما من العرب أجمعين ـ أشدَّ وضوحًا من البريطانيَّة والأوروبيَّة من قَبل. فهي عنصريَّة مضاعفة: لأصولها الأوروبيَّة التقليديَّة ولتشابهها مع الاحتلال الصهيوني في الغزو الاستيطاني. ولا يختلف في ذلك يمين أو يسار أميركي، ولا حزب جمهوري ولا ديموقراطي، فكُلُّ تلك التنويعات السِّياسيَّة هي في إطار عنصري أصلًا. وهكذا تجد إدارة بايدن الديموقراطي لا تقلُّ دعمًا لـ»إسرائيل» عن إدارة ترامب الجمهوري.
من حركة التاريخ، تبرز العنصريَّة أكثر في فترات الضعف والتراجع. ولعلَّ ما تمرُّ به أوروبا الآن من تدهور على كافَّة أصعدة السِّياسة والاقتصاد هو ما يفسِّر جزئيًّا صعود الَّتيارات المتطرِّفة والمتشدِّدة وبروز العنصريَّة مجددًا. ليس فقط تجاه المهاجرين من آسيا وإفريقيا، ولا حتَّى تجاه غير الأوروبيِّين حتَّى لو كانوا من أصول قوقازية مِثلهم وإنَّما حتَّى فيما بَيْنَ الشعوب الأوروبيَّة ذاتها. وما حدث في وقت وباء كورونا من سرقة دوَل أوروبيَّة كمامات وأجهزة تنفُّس من دوَل أخرى «شقيقة»، بل وتسخير أجهزة الاستخبارات وحتَّى العصابات للاستيلاء على مواد طبيَّة من دوَل أخرى، كان بداية وضوح صعود التوجُّه العنصري الأوروبي. وإذا كانت الدوَل الأوروبيَّة حافظت على الحدِّ من عنصريَّة شعوبها بالقوانين والقواعد الَّتي تُشكِّل «النِّظام» العام لمجتمعات توصف بأنَّها «ديموقراطيَّة متقدِّمة»، فإنَّ ما يحدُث الآن ـ للأسف ـ يزيد من التوجُّهات العنصريَّة. فتشديد قوانين القمع المناقضة لحُرِّيَّة الرأي والتفكير وحقِّ المراجعة والانتقاد إنَّما تزيد من موجات العنصريَّة وتفاقم من الأصوليَّة المتشدِّدة. المثير للسخرية أنَّك تجدُ أكثر دَولتَيْنِ تغاليان في سنِّ قوانين قمع حُرِّيَّة الرأي والتفكير هما أكثر دَولتَيْنِ تدعيان الديموقراطيَّة والحُرِّيَّة وغيرها من الشعارات البرَّاقة. فالولايات المُتَّحدة وفرنسا هما أكثر بَلدَينِ الآن تشدِّد حكوماتهما القوانين لتكميم الأفواه الَّتي تحاول حتَّى التعبير عن رأيٍ منطقيٍّ ضدَّ الاحتلال الصهيوني.
صحيح أنَّ ذلك يحدُث أيضًا في بريطانيا، الَّتي طالما وُصفت بأنَّها «أعتى ديموقراطيَّة» في العالَم، لكن بريطانيا وصلَت من الضعف حدًّا جعلَها تزايد على الآخرين وتتخلَّى عن «رصانتها» القديمة الَّتي بقيَت حتَّى بعد سقوط الامبراطوريَّة. ولعلَّ أميركا وفرنسا وألمانيا وبقيَّة أوروبا أيضًا تمرُّ فعلًا بمرحلة تراجع تبرز أصولها العنصريَّة.
د.أحمد مصطفى أحمد
كاتب صحفي مصري
mustafahmed@hotmail.com
المصدر: جريدة الوطن
كلمات دلالية: ة الأوروبی فی فترات العال م
إقرأ أيضاً:
لقد كانت أيام ديسمبر هي أجمل أيام حميدتي
“معنوياتنا كل يوم داقة الدلجة”
كان على حميدتي أن يدخر مقولته هذه للأيام السوداء التي يمر بها وتمر بها قواته حاليا. فهذا هو أنسب وقت لها.
لقد كانت أيام ديسمبر هي أجمل أيامك. ما تعيشه الآن هو المعنى الحقيقي لانهيار المعنويات.
لقد تم خداعك هذه المرة أيضا، ولكنك لا تستطيع أن تخرج كعادتك السابقة لتقول خدعوني وتستعطف الشعب الذي قتلته وشردته.
كيف تستطيع أن تعيش بعد الآن دون أن تتشكى؟ هذه مصيبة بالنسبة لشخص يحب لعب دور الضحية بقدر حبه للسلطة إن لم يكن أكثر.
أنت الآن ضحية فعلا ولكنك مع ذلك لا تستطيع أن تستمتع بوضعك كضحية وكأنه امتياز .. ضحية لا تستدعي أي تعاطف.
حليم عباس