سودانايل:
2025-03-03@23:19:01 GMT

يقظة العقل من فرش الملاية للتصورات الخلاقة

تاريخ النشر: 13th, December 2023 GMT

أن الأزمة السياسية التي تحدثت بعد ثورة ديسمبر 2018م، تؤكد حالة من التوهان تعيشها القوى السياسية، و انعكست بصورة تلقائية على النخب السياسية و المثقفة و حتى الذين يقع عيهم عبء التنوير في المجتمع، و تعود لضعف الثقافة الديمقراطية التي تسببت فيها طول فترة النظم الشمولية. يقول عنها المفكر السوداني محمد بشير " عبد العزيز حسين الصاوي" في كتابه "الديمقراطية المستحيلة" يقول ( أن تراجع ديمقراطي يؤدي لتراجع تنويري و يوضح ذلك استطالت أعمار النظم الاستبدادية.

. تتزايد فيه خصائص الشمولية و يتبخر الرصيد الاستناري و رصيده الديمقراطي) و حالة التراجع الديمقراطي أمام الرصيد الاستبدادي تعكس حالة ضعف القدرة الاستنارية للفئة المؤثرة في الرأي العام السوداني، لأنها هي نفسها تقع فريسة إلي عملية الاستقطاب الحادة في المجتمع، تصبح بدلا أن تكون مع التنوير الذي يقود الجميع إلي عملية التحول الديمقراطي.
أن ثقافة فرش الملاية السائدة الآن في الساحة السياسية السودانية، تبين أن الفئة التي يقع عيها عملية توعية الجماهير تعاني ن إشكالية عدم الإتزان. و "ثقافة فرش الملاية" هي ثقافة شعبية مصرية عندما يقع خلاف في المناطق الشعبية و تكون المرأة أحد أطرافة تفرش الملاية التي تتغطى بها في الأرض، و تبدأ تردح و تشتم في الجانب الأخر.. و لا يسمع المارة في الشارع غير صوتها فقط، و يغيب صوت الجانب الأخر. و بعد ما تنتهي لا تعرف نتيجة الذي حصل غير أنه كان خناق. بدأت هذه الحالة تتغير من خلال بعض نخب قادة الرأي في أعمال العقل، بأن ينقلوا حالة الصراع من الأفق المسدود إلي الفضاء المفتوح . و تقديم أفكار و تصورات يفكر فيها الراغبين في أن تسلك الأحداث طريق الحوار و العقل.
كتب الدكتور الواثق كمير مقالا نشره في جريدة " سودانيل" بعنوان " سودان ما بعد الحرب.. ملامح من رؤية" و المقال هو امتداد لمقال صوتي أخر أجاب فيه الكاتب على سؤالٍ مُهمٍ يطرحه كثيرون عن: كيفية وقف الحرب ومصير مليشيا الدعم السريع، وفي هذا المقال المكتوب يحاول الكاتب الإجابة على سؤالٍ: ما هي ملامح الروية للسودان بعد أن تضع الحرب أوزارها؟ و يقول الكاتب الإجابة على السؤال ( أن الرؤية لا يمكن فصلها أو فهمها بِمعزلٍ عن كيفية إيقاف الحرب ومستقبل الدعم السريع. فرؤيتي لسودان ما بعد الحرب، التي يُشاركني فيها كثيرون استأذنتهم في الحديثٍ عن ملامحها ، ولها ركيزتان، أولاهما: لا أحدٌ يريد لهذه الحرب أن تستمر، بإستثناء تجارها وسماسرتها، ونعم للتفاوض حول الترتيبات الأمنية الذي لا يعيد انتاج المليشيا الموازية للجيش، ويُنهي الحرب بمُخاطبةِ ومُعالجةِ مُسبباتها، ويُحسم قضية تشكيل الجيش الوطني الواحد والقيادة الموحدة، وتكوين جيش مهني يستبعد وجود أي تنظيم سياسي داخله.. الركيزة الثانية للرؤية تقوم على ضرورة مراجعة منهج القوى السياسية والمدنية في التعامل مع الفترات التي تعقُب الثورات (1954، 1985، 2018) وتغيير الهدف من "انتقال السلطة" إلى هدفِ "تأسيس الدولة) نأسف للإطالة؛ و الهدف منها التوضيح. أن الرؤية تحمل شقين كما هو مبين، أهم أعمدة الحل أن إنهاء الحرب إذا كانت عبر طريق التفاوض أو الحوار الجامع أو عسكريا يجب أن لا تكون هناك أي قوى عسكرية في البلاد غير الجيش الواحد الموحد بعد الحرب، و كما قال الدكتور الواثق أن محاولة إبقاء الميليشيا يعني الرجوع مرة أخرى للحرب، و التي سوف تكون أشرس من الدائرة الآن. القضية الثانية: تجاوز بدعة الحاضنة السياسية للفترة الانتقالية، و التي يجب أن تترك لحكومة يتم الاتفاق عليها في حوار شامل، حكومة تكون بعيدة عن المحاصصات و الانتماءات السياسية. بدلا عنها يفتح حوارا جامعا " مؤتمر دستوري" ليس فيه إقصاء لأي قوية سياسية بهدف صناعة الدستور الدائم للبلاد، و معالجة الجذور التاريخية للأزمة. و التي قال عنها الدكتور الواثق كمير في مقاله (ترجع الدوافع الرئيسة والأسباب الجوهرية لهذه الحروب إلى الاختلال الهيكلي في دولة ما بعد الاستقلال التى اخفقت في مخاطبة القضايا التأسيسية والمباديء الدستورية وأُسس بناء دولة المواطنة السودانية.) أن مشاركة كل السودانيين في كيفية وقف الحرب الدائرة الآن، و معالجة إختلالات الدولة و صناعة الدستور مسألة مهمة، لأنها تفتح أفاقا جديدة للحل، دون فرض الشروط المسبقة من أي قوى سياسية، إذا كان الكل بالفعل ساعي لبناء دولة موحدة و ديمقراطية، أما إذا كانت هناك قوى عندها أهداف أخرى غيرها، لا اعتقد أنها سوف تقف في الجانب الصواب من العملية السياسية.
معلوم هناك تغيرات جوهرية يجب أن تطال منظومة النظام السابق، مثل تفكيك دولة الحزب لمصلحة الدولة التعددية، و محاسبات قد توسعت دائرتها بعد الحرب، و يجب أن تطال كل الذين ارتكبوا جرائم ضد الدولة و مؤسساتها و ضد المواطنين في اعراضهم و ممتلكاتهم، و أيضا محاسبة المفسدين، و كلها يجب أن تكون عبر المؤسسات العدلية التي كتفل العدالة للجميع. أن عملية التحول الديمقراطي تتطلب؛ كلما كان هناك إصلاحا أو محاسبة يجب أن ترسى فيها القيم العدلية التي تعتبر من أهم ركائز الديمقراطية. و أن عملية التحول الديمقراطية تؤسس على ركيزتين؛ الأول الممارسة التي لا تتجاوز القانون و اللوائح و التي ينتج عنها ثقافة ديمقراطية تعزز تنوع ثقافة المجتمع و أعرافه. و الثاني إصدار تشريعات تتوافق مع الديمقراطية و لا تتعارض مع قيم المجتمع. إلي جانب أن إصلاح الجيش و المؤسسات الأمنية و الشرطة قضية وطنية يجب أن لا يتم تناولها في المنابر العامة، بل هي قضية يجب مناقشتها بين السلطة المدنية المنتخبة و قيادة هذه المؤسسات بعيدا عن السابلة.
أن القوى السياسية يجب أن تحدد أولوياتها و ترتب أجندتها وفقا للأولويات، إذا كان على رأس الأجندة عملية التحول الديمقراطي يجب أن لا يكون أختلافا البت، لآن شروط التحول الديمقراطي أن تفتح الأبواب لكل من يريد أن يكون جزءا من العملية السياسية التي تفضي إلي التحول الديمقراطي، و أصحاب هذه الرؤية دائما مرنين و متسامحين لأنهم يريدون جمع أكبرقاعدة اجتماعية داعمة للتحول الديمقراطي، و في نفس الوقت متمسكين بمبدأ و شروط التحول الديمقراطي.. أما إذا كان سعيهم من أجل السلطة هؤلاء دائما يضيقون الواسع بهدف تحقق أكبر مكاسب حزبية و شخصية، و ممارستهم سوف تفضح شعاراتهم. نسأل الله حسن البصيرة.

zainsalih@hotmail.com
/////////////////  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: بعد الحرب إذا کان یجب أن

إقرأ أيضاً:

الحريات ومسئولية الاختيار.. الانحيازات الحضارية والعقلية في مؤلفات مفسري القرآن الكريم

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق

عَبْر العديد من المؤلفات التفسيرية، طرح مفسرو القرآن الكريم المزيد من الرؤى والأفكار والقراءات التي تنطوي على معاني جمالية وإنسانية مستمدة من النص الكريم، أبرز هذه المعانى هو التأكيد على أهمية العقل، وضرورته فى الكشف عن سُبل الهداية والصلاح، ودوره فى صناعة الحضارة، إذ أن التأكيد على أهمية العقل يعزز من دوره فى العلوم واكتشاف قوانين الطبيعة، وتحرير الإنسان من قيود الخرافة والأساطير.

وقد مرَّ التفسير بمراحل عدة أظهرت مدى ملائمة النص الكريم للظروف التاريخية التى تحيط به، خاصة وأنه مع التوسعات التى انطلق بها العرب للبلاد المجاورة جعلتهم يحتكون بأمم أصحاب حضارات وأصحاب فلسفات ومذاهب فكرية كبرى، وبدورهم استطاع المفسرون تقديم معانى الآيات بما يتناسب ومواجهة هذه الأفكار والفلسفات المختلفة، التى تصنع بدورها جدلا كبيرا حول نصوص الآيات الكريمة.

فى السطور التالية، نعرض لبعض النماذج التفسيرية التى أكدت على دور العقل واهتمت به، وأوضحت دوره فى الوصول إلى الهداية والحق، والنماذج التى أكدت على حرية الإنسان فى اختيار عقيدته، وأيضا التى أكدت على مسئولية الإنسان عن اختياره لطريق الخير أو طريق الشر، وأيضا النماذج التى رأت فى القرآن الكريم نموذجًا للهداية والصلاح، والتوجيهات النافعة والمفيدة.

مدارس التفسير وتنوعها

بدأت محاولات تفسير القرآن الكريم منذ نزوله، وكان النبى محمد صلى الله عليه وسلم حاكمًا للخلاف، فكانوا يرجعون إليه فى الأمور الملتبسة، لكن بعد وفاة النبي الكريم، وظهور الفرق والمذاهب ظهرت تفسيرات معتمدة على الاجتهاد، لم تكن مؤلفات بل كانت أقوالًا يتناقلها الناس، وكان ذلك باعثًا على ظهور التفاسير المعروفة بـ«التفسير بالمأثور" الذى حاول الحد من تلك الظاهرة وحصر معاني نصوص القرآن فى نصوص أخرى قد تكون آيات قرآنية أو أحاديث نبوية أو مقولات الصحابة.

ولا يجتهد التفسير بالمأثور فى بيان معنى من غير دليل، ويتوقف عما لا طائل تحته، ولا فائدة فى معرفته ما لم يرد فيه نقل صحيح. وقد عده البعض من أفضل المناهج لاقتصاره على المعنى دون تفصيلات وترجيحات وظهور إشكاليات النص، ومن أبرز من ألفوا فى ذلك الاتجاه، ابن جرير الطبري فى كتابه «جامع البيان» ونصر بن إبراهيم السمرقندي وكتابه «بحر العلوم» والثعلبي وكتابه «الكشف والبيان» والمواردى وكتابه «النكت والعيون» وقبل هذه المؤلفات ظهرت تفسيرات بالمأثورة مبكرة لم تكن تعرف وضع الأسماء للتفاسير فكان يسمى باسم المفسر مثل تفسير ابن وهب وتفسير مقاتل.

مع مرور الزمن وانتشار الإسلام فى غير بلاد العرب وانفتاح العرب على فلسفات وثقافات الشعوب المجاورة ظهرت المسائل الكبيرة التى لا يستطيع التفسير بالمأثور التعامل معها ليتربع بعد ذلك التفسير بالرأى فى قائمة المؤلفات المطلوبة، وهو التفسير بالاستنباط والاجتهاد، وخصوه بما يراه القلب بعد فِكْرٍ وتأمل وطلب لمعرفة وجه الصواب.

وتسلح مفسرو هذا الاتجاه بأدوات كثيرة حتى يتمكنوا من توجيه المعاني، فيكون ملمًا بأحاديث النبى وأقوال الصحابة والتابعين وعارفًا بلغة العرب، ومدركًا لأسباب النزول ومدركًا لغايات النص ومقاصد الآيات الكريمة، ومن أبرز تلك التفسيرات "مفاتيح الغيب «للرازي، و"البحر المحيط" للأندلسي، و"روح المعانى" للألوسى، وتفسير الشيخ محمد عبده، و"التفسير الوسيط" للدكتور محمد سيد طنطاوى، وتفسير محمود شلتوت، و"زهرة التفاسير" لأبى زهرة، و"التحرير والتنوير" للطاهر بن عاشور.

أتاحت التفاسير التي تعتمد على الاجتهاد مساحة كبيرة وواسعة للمفسرين أن يعبروا عن علاقاتهم بالنص وعلاقة النص بالإنسان والكون، وبذلك قدموا رؤية دينية تشارك فى معرفة الإنسان المسلم بالقرآن الكريم، يستطيع المتلقى أن يختلف ويتفق معها بعكس التفسير بالمأثور التى تدخل المتلقي فى دائرة لا خلاص منها، فإن كل نص جديد يحتاج إلى نص شارح وهكذا.

الموضوعية والنظر العقلي

تفسير "الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون الأقاويل فى وجوه التأويل" للإمام محمود بن عمر الزمخشرى يعد أحد أبرز التفاسير الذى فرض نفسه على الساحة الفكرية والثقافية العربية والإسلامية بقوة لما له من باع كبير فى علوم اللغة والفقه والتفسير، وفيه أعطى الزمخشرى قيمة كبيرة للعقل، وأظهر أهميته وضرورته.

ويمكن قراءة تفسيره للآيات: "وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِى ضَلاَلٍ مُّبِينٍ. وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَٰوَٰتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ. فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ الْلَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَـٰذَا رَبِّى فَلَمَّآ أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ. فَلَمَّآ رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَـٰذَا رَبِّى فَلَمَّآ أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِى رَبِّى لأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ. فَلَماَّ رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَـٰذَا رَبِّى هَـٰذَآ أَكْبَرُ فَلَمَّآ أَفَلَتْ قَالَ يٰقَوْمِ إِنِّى بَرِياءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ. إِنِّى وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِى فَطَرَ السَّمَٰوَٰتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَآ أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ"، (الأنعام: الآيات من ٧٤ إلى ٧٩).

قال الزمخشري: كان أبوه وقومه يعبدون الأصنام والشمس والقمر والكواكب، فأراد أن ينبههم على الخطأ فى دينهم، وأن يرشدهم إلى طريق النظر والاستدلال، ويعرفهم أن النظر الصحيح مؤد إلى أن شيئا منها لا يصحّ أن يكون إلٰهًا، لقيام دليل الحدوث فيها، وأن وراءها محدثا أحدثها، وصانعًا صنعها، مدبرًا دبر طلوعها وأفولها وانتقالها ومسيرها وسائر أحوالها.

ورأى الزمخشري أن قوله تعالى "هذا ربي" يفيد أن الآية نقلت مقولة خصمها مع العلم إنه قول باطل، لكن الآية ذكرته كما هو دو التعصب لمذهب بعينه، وهذه الطريقة يراها الزمخشرى "أدعى إلى الحق وأنجى من الشغبـ«.

التفت المفسر إلى ضرورة نقل مذهب الخصم كما هو حتى لو كان مخالف لك فى مذهبك، حتى لو كنت ستنقده وتفنده، فالواجب نقل رأي الخصم بأمانة، وهو النهج الذى اتبعه القرآن عندما نقل قول إبراهيم عليه السلام عن الشمس والقمر "هذا ربي" والله عز وجل حكاه ويعلم أنه قول باطل، لكنها الموضوعية التى يعلمنا إياها.

وقال الزمخشري: "لا أُحِبُّ الأفِلِينَ" لا أحبّ عبادة الأرباب المتغيرين من حال إلى حال، المتنقلين من مكان إلى آخر، المحتجبين بستر، فإنّ ذلك من صفات الأجرام "بَازِغًا" مبتدئا فى الطلوع. "لَئِن لَّمْ يَهْدِنِى رَبّى" تنبيه لقومه على أنّ من اتخذ القمر إلٰهًا وهو نظير الكوكب فى الأفول، فهو ضال، وأنّ الهداية إلى الحق بتوفيق الله ولطفه، "هَـٰذَا أَكْبَرُ" من باب استعمال النصفة أيضًا مع خصومه "إِنّى بَرِىء مّمَّا تُشْرِكُونَ" من الأجرام التى تجعلونها شركاء لخالقها "إِنّى وَجَّهْتُ وَجْهِىَ لِلَّذِى فَطَرَ السَّمَـٰوٰتِ وَالأرْضَ" أى للذى دلت هذه المحدثات عليه وعلى أنه مبتدؤها ومبتدعها. وقيل: هذا كان نظره واستدلاله فى نفسه، فحكاه الله".

وهكذا فإن تفسير هذه الآيات للزمخشرى ركز على سمات حضارية عظيمة مثل نقل رأى الخصوم بأمانة، كما ركز على أن النظر والاستدلال هو الطريق الصواب للوصول إلى طريق الهداية ومعرفة الحق.

مسئولية الخير والشر

فى تفسيره "مفاتيح الغيب ـ « شرح الفخر الرازى عدة تفاسير وآراء حول قوله تعالى "إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورا". (الإنسان:٣) تفيد بحرية الإنسان فى اختيار طريقه، سواء كان خيرا أو شرا، فهو فيما بعد مسئول عن اختياره هذا أمام الخالق.

يقول الرازى إن الآية بها عدة مسائل: المسألة الأولى، الآية دالة على أن إعطاء الحواس كالمقدم على إعطاء العقل والأمر كذلك لأن الإنسان خلق فى مبدأ الفطرة خاليا عن معرفة الأشياء، إلا أنه أعطاه آلات تعينه على تحصيل تلك المعارف، وهى الحواس الظاهرة والباطنة، فإذا أحس بالمحسوسات تنبه لمشاركات بينها ومباينات، ينتزع منها عقائد صادقة أولية، كعلمنا بأن النفي والإثبات لا يجتمعان ولا يرتفعان وأن الكل أعظم من الجزء، وهذه العلوم الأولية هى آلة العقل لأن بتركيباتها يمكن التوصل إلى استعلام المجهولات النظرية، فثبت أن الحس مقدم فى الوجود على العقل، ولذلك قيل: من فقد حسًا فقد علمًا، ومن قال: المراد من كونه سميعًا بصيرًا هو العقل، قال: إنه لما بين فى الآية الأولى أنه أعطاه العقل بين فى هذه الآية، أنه إنما أعطاه العقل ليبين له السبيل ويظهر له أن الذى يجب فعله ما هو. والذى لا يجوز ما هو".

و"المسألة الثانية، السبيل هو الذى يسلك من الطريق، فيجوز أن يكون المراد بالسبيل ههنا سبيل الخير والشر والنجاة والهلاك، ويكون معنى هديناه، أى عرفناه وبينا كيفية كل واحد منهما له، كقوله تعالى "وَهَدَيْنَـٰهُ النَّجْدَينِ" [البلد: ١٠] ويكون السبيل اسمًا للجنس، فلهذا أفرد لفظه كقوله تعالى "إِنَّ الإنسَـٰنَ لَفِى خُسْرٍ" [العصر: ٢] ويجوز أن يكون المراد بالسبيل، هو سبيل الهدى لأنها هى الطريقة المعروفة المستحقة لهذا الاسم على الإطلاق، فأما سبيل الضلالة فإنما هى سبيل بالإضافة".

و"المسألة الثالثة، المراد من هداية السبيل خلق الدلائل، وخلق العقل الهادى وبعثة الأنبياء وإنزال الكتب، كأنه تعالى قال: خلقتك للابتلاء ثم أعطيتك كل ما تحتاج إليه ليهلك من هلك عن بينة وليس معناه خلقنا الهداية، ألا ترى أنه ذكر السبيل، فقال "هَدَيْنَـٰهُ السَّبِيلَ" أى أريناه ذلك".

وهداية السبيل فى مسائل الرازى هنا كانت بمثابة إعطاء الإنسان العقل والحواس ليتمكن من معرفة الأشياء والكون من حوله، وإدراك الهداية بآلات ممنوحة له، وبمثابة التبصرة بطريق الخير والشر وعليه أن يختار، وبمثابة إعطاء دلائل الهداية مثل إنزال الكتب والأنبياء ليكون كل إنسان مسئول عن اختياره.

حرية العقيدة

واحدة من الأسس الحضارية التى أظهرتها التفاسير وعلقت عليها باهتمام هى حرية العقيدة من قوله تعالى: "وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ". (الكهف:٢٩)، إذ أن ضمان حرية العقيدة هو الضمانة للتعايش السلمى داخل المجتمعات المتحضرة.

قال الثعلبى فى تفسيره "الكشف والبيان": "ومعنى الآية: وقل يا محمّد لهؤلاء الّذين أغفلنا قلوبهم عن ذكرنا: أيُّها الناس، مِن ربكم الحقُّ، وإليه التوفيق والخذلان، وبيده الضلالة والهدى، يهدى من يشاء فيؤمن، ويضل من يشاء فيكفر ليس إليّ من ذلك شيء، ولست بطارد المؤمنين لكم، فإن شئتم فآمنوا، وإن شئتم فاكفروا؛ فإنكم إن كفرتم فقد أعدّ لكم ربكم على كفركم نارًا أحاط بكم سرادقها، وإن آمنتم وأطعتم فإن لكم ما وصف الله عزّ وجلّ لأهل طاعته. وقوله: "فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ" ليس بترخيص وتخيير، إنما هو وعيد وتهديد".

أما الزمخشري فقد رأى فى تفسيره "الكشاف"، أن المعنى هو "جاء الحق وراحت العلل فلم يبق إلا اختياركم لأنفسكم ما شئتم من الأخذ فى طريق النجاة أو فى طريق الهلاك، وجيء بلفظ الأمر والتخيير، لأنه لما مكن من اختيار أيهما شاء، فكأنه مخير مأمور بأن يتخير ما شاء من النجدين".

ورأى ناصر الدين البيضاوى صاحب تفسير "أنوار التنزيل وأسرار التأويل"، أن المعنى هو "لا أبالى بإيمان من آمن ولا كفر من كفر، وهو لا يقتضي استقلال العبد بفعله".

وتختلف التفاسير فيما بينها حول لمن تعود المشيئة المذكورة فى الآية، هل هى مشيئة الله؟ أم مشيئة الإنسان؟ وقد انحاز الزمخشرى إلى أنها إرادة الإنسان، أما البيضاوى فقد رأى أن الآية من باب استغناء الله عن إيمان وكفر العبد، بينما رأى الثعلبى أن الآية ليست من باب التخيير إنما هى من باب الوعيد فى الكفر، وهو ثراء تفسيرى يدل على سعة أفق المفسرين واختلاف مدارسهم.

هدايات سامية وتوجيهات نافعة

تفسير "الوسيط" للدكتور محمد سيد طنطاوى هو تفسير ذو قيمة كبيرة ويحتوى على جهد شاق بذله الشيخ الراحل، ويتميز بالسهولة والوضوح والمنهجية.

يتميز "الوسيط" بلغته السهلة الرشيقة البعيدة عن التعقيدات اللغوية القديمة، كما أنه يخرج من التفريعات الطويلة والألغاز الشاقة التى تأخذ القارئ بعيدا عن أهداف القرآن ككتاب هداية، ويستوعب الكتابات العصرية والأسلوب العلمى فى التأليف، إلى جانب النظرة العقلية فى تمحيص الأخبار والحكايات من أجل الوصول إلى معنى كلى مستقيم.

تحدث طنطاوى عن تفسير القرآن فذكر أنه هو المفتاح الذى يكشف عن الهدايات السامية، والتوجيهات النافعة، والعظات الشافية، والكنوز الثمينة التى احتواها هذا الكتاب الكريم، ومن غير تفسير القرآن تفسيرًا علميًا مستنيرًا لا يمكن الوصول إلى ما اشتمل عليه هذا الكتاب من هدايات وتوجيهات مهما قرأه القارئون وردد ألفاظه المرددون.

قال إياس بن معاوية- استشهد بمقولته طنطاوى- مثل الذين يقرأون القرآن وهم لا يعلمون تفسيره كمثل قوم جاءهم كتاب من مليكهم ليلا وليس عندهم مصباح فتداخلتهم روعة لا يدرون ما فى الكتاب، ومثل الذى يعرف التفسير كمثل رجل جاءهم بمصباح فقرأوا ما فى الكتاب.

ويوضح: «فإن قال قائل فما أحسن طرق التفسير؟ فالجواب أن أصح طريق فى ذلك أن يفسر القرآن بالقرآن، فما أجمل فى مكان فإنه قد بسط فى موضع آخر، فإن أعياك ذلك فعليك بالسنة فإنها شارحة للقرآن ومثله معه يعنى السنة، والغرض أنك تطلب تفسير القرآن منه، فإن لم تجده فمن السنة، فإن لم تجده فمن أقوال الصحابة، فإن لم تجده فقد رجع كثير من الأئمة فى ذلك إلى أقوال التابعين كمجاهد بن جبر، وسعيد بن جبير وعكرمة مولى ابن عباس وعطاء بن أبى رباح والحسن البصرى وغيرهم».

وشرح طنطاوى خلال مقدمته للوسيط، أنه انتفع بكتابات السابقين، ثم يوضح منهجه وطريقة سيره فى تأليف التفسير، حيث يقول: «ولقد انتفعت كثيرا بما كتبه الكاتبون عن كتاب الله تعالى، وهأنذا أقدم لك تفسيرا وسيطا، وقد بذلت فيه أقصى جهدى ليكون تفسيرا علميا محققا محررا من الأقوال الضعيفة والشبه الباطلة والمعانى السقيمة».

«ستلاحظ أننى كثيرا ما أبدأ بشرح الألفاظ القرآنية شرحا لغويا مناسبا، ثم أبين المراد منها إذا كان الأمر يقتضى ذلك»؛ هكذا يقول طنطاوى ويستكمل مقدمته بـ«ثم أذكر سبب النزول للآية أو الآيات إذا وجد وكان مقبولا، ثم أذكر المعنى الإجمالي للآية أو الجملة، مستعرضا لما اشتملت عليه من وجوه البلاغة والبيان والعظات والآداب والأحكام، مدعما ذلك بما يؤيد المعنى من آيات أخرى ومن الأحاديث النبوية ومن أقوال السلف الصالح، وقد تجنبت التوسع فى وجوه الإعراب واكتفيت بالرأى أو الآراء الراجحة إذا تعددت الأقوال، وذلك لأننى توخيت فيما كتبت إبراز ما اشتمل عليه القرآن الكريم من هدايات جامعة وأحكام سامية وتشريعات جليلة وآداب فضيلة وعظات بليغة وأخبار صادقة وتوجيهات نافعة وأساليب بليغة وألفاظ فصيحة».

ويعد تفسير الوسيط للقرآن الكريم من أهم التفاسير العصرية، لأنه يبرز التصورات الحضارية والمنافع السامية للنص الحكيم، كما أنه يطرح العديد من الرؤى حول كثير من المشكلات التى تواجه المسلمين فى واقعهم.

في العدد الإليكتروني

مقالات مشابهة

  • ما هي الدول الأوروبية التي ستشارك في "تحالف الراغبين" من أجل أوكرانيا؟
  • ما هي الأسباب التي تعزز فرص الهجوم الإسرائيلي على إيران؟
  • الحزب المصري الديمقراطي يستنكر جرائم الاحتلال بحق شعب غزة ويدعو لتحرك دولي فوري
  • معرض الإبداع والابتكار في مؤسسات محمد بن خالد
  • البطريرك الراعي: الصلاة في زمن الصوم بمثابة "رفع العقل والقلب إلى الله"
  • كاكه حمه: الديمقراطي والاتحاد قريبان من تشكيل حكومة الإقليم ونأمل الإفراج عن أوجلان
  • نائب رئيس المصري الديمقراطي يشارك في احتفال سفارة بلغاريا بالعيد القومي
  • دعوة السلام والمجتمع الديمقراطي
  • في اتصال مع السفير البابوي في لبنان.. شيخ العقل يطمئن على صحة البابا
  • الحريات ومسئولية الاختيار.. الانحيازات الحضارية والعقلية في مؤلفات مفسري القرآن الكريم