ضاعت الأسماء وبقيت الآثار تحت الأنقاض.. جثث شهداء غزة قنابل صحية تهدد الأحياء
تاريخ النشر: 13th, December 2023 GMT
رائحة الموت في غزة تزكم الأنوف، القبور امتلأت وفاضت بساكنيها، والأكفان نفدت، الحرب الدائرة في قطاع غزة معقدة ومتعددة الأوجه، ليس فقط من الناحية السياسية، بل أيضًا فيما يتعلق بالناحية الإنسانية وتأثيراتها على الجهود العالمية الرامية لمواجهة أزمة التغير المناخي، من بين أزمات كثيرة خلقها العدوان الإسرائيلي الشرس على قطاع غزة برزت أزمة الموت، حيث تواجه السلطات المسؤولة في القطاع المحتل أزمة في مجاراة الأعداد اليومية من الشهداء، حتى الأشلاء لا تزال عالقة تحت الركام بعد أن وجد رجال الإنقاذ والمسعفين صعوبة بالغة في انتشالها جراء القصف المتلاحق ما يثير التساؤل حول مصير تلك الأشلاء وعواقب تركها دون دفن.
أكثر من سبعة آلاف شخص شهيد في غزة من المفقودين تحت الأنقاض، بحسب آخر إحصائية صادرة عن الصحة الفلسطينية الأسبوع الماضي، أي بعد مرور قرابة شهرين كاملين على الحرب، لم يتمكن رجال الإنقاذ من انتشالهم حتى الآن، أكثر من نصفهم من الأطفال، ولا يزال مصير هؤلاء الأشخاص مجهولا حتى الآن.
الأزمة تتمثل في تعذّر وصول الكوادر المختصة للإنقاذ إلى داخل المباني التي تعرضت للقصف لانتشال الجثث، إضافة إلى نقص إمدادات الوقود التي تسببت في توقف عدد كبير من مركبات الإسعاف عن العمل، ما تسبب في تراكم الأشلاء على مدار الأيام ومع استمرار القصف دون انقطاع، وسط تحذيرات طبية من مخاطر انتشار أمراض وأوبئة نتيجة عدم دفن الجثث والأشلاء العالقة تحت حطام المنازل.
على مدار شهر كامل، ومع توافد البيانات الرسمية بشأن وجود شهداء عالقين تحت الأنقاض، تقصَّت «الوطن» مصير الأشلاء بالتواصل مع مسؤولين معنيين بذلك الحدث المخيف في غزة، لصعوبة التواصل بسبب الانقطاع المتكرر للإنترنت والكهرباء في قطاع غزة بالكامل.
مشاهد رعب حقيقية تعجز أفلام الخيال العلمي عن تصويرها مهما بلغ خيال المؤلف، يعيشها كل يوم أفراد الطاقم الطبي داخل مستشفيات غزة، وسط تزايد أعداد الجرحى وامتلاء ثلاجات حفظ الموتى بجثامين الشهداء على مدار الساعة.
تزداد قتامة المشهد بتهديدات الاحتلال المستمرة للعاملين بالمستشفيات بضرورة إخلائها حتى لا تتعرض للقصف، ما يقود للتساؤل حول كيفية إجلاء المئات من المصابين ومثلهم من المدنيين الذين احتموا في طرقات المستشفى بعد قصف منازلهم؟ أين سيضعون جثامين الشهداء، وكيف سيتمكنون من انتشال الأشلاء المتراكمة وسط نقص حاد في الإمكانيات الطبية.
على مدار الساعة وفي أي لحظة يتلقى المسعف «نادر البحيصي» بلاغاً بوجود شهداء وجرحى في منطقة ما بمدينة غزة، يسرع مهرولاً بالإسعاف التي باتت شبه خالية من أدوات الإسعافات الأولية، يقوم بعمله ما استطاع إليه سبيلاً، «الوضع لا يوصف، ما في لا كاميرا ولا أي صور بتوصف المشهد الحقيقي في الواقع»، هكذا وصف المسعف الثلاثيني لـ«الوطن» المشهد من أرض غزة الثكلى.
حينما اشتدت وطأة الحرب، وزادت أعداد الشهداء -بل والأشلاء- لجأ «البحيصي» ومَن معه من المسعفين، إلى تكفين كل عائلة بكفن أو بكيس موتى واحد، لا رفاهية لديهم لتكفين كل فرد بمفرده، بل وصل الأمر إلى تكفينهم بما تبقى من القماش الموجود تحت أنقاض المنازل، «صرنا نكفن بالحرامات والشراشف من البيوت بنستر فيها الجثث ونوصلها للمشافي»، حسب وصفه.
هذا بالنسبة للشهداء ذات الأجساد الكاملة، أما الأشلاء فالأمر بات يصعب تخيله، قد يستطيعون استخراجها وقد لا يتمكنون من جمعها، فتبقى عالقة بين الركام، فأما القطع التي يتمكنون من جمعها يذهبون بها إلى المستشفى لتسليمها داخل خيام موضوعة في ساحات كل مستشفى ميداني، «الخيام بس لتسليم الأشلاء، ومقسمة حسب المناطق التي تم الانتشال منها»، بحسب وصف المسعف الثلاثيني.
حسب وصف المسعف الغزاوي، أشلاء كل عائلة يتم تجميعها معاً بواسطة أشخاص مفرزين من كل مستشفى بالتعاون مع المسعفين، لتوثيق الأعداد، ومحاولة التوصل إلى هويتهم، حتى يتم إصدار إشعار السماح بالدفن أيضاً أولاً بأول، «هاي المرة غير أي حرب قامت بغزة، الأعداد كثيرة تفوق قدرتنا وتفوق استيعاب النظام الصحي».
من داخل مستشفى القدس بغزة، تحدث لـ«الوطن» محمد أبو مصبح، مدير الإسعاف والطوارئ والمتحدث باسم الهلال الأحمر الفلسطيني في قطاع غزة، في عجالة، ليروي الوضع الذي آلت إليه الحرب داخل المستشفيات والذي انعكس بدوره على أزمة الموت وعدم قدرة النظام الصحي على استيعاب أعداد الشهداء والأشلاء.
وأكد «أبو مصبح» أن نقص إمدادات الوقود والتهديد المستمر بقصف المستشفيات، ليست الأزمة الوحيدة فقط التي تواجه الطواقم الطبية، بل هناك أزمة كبيرة في غرف الرعاية لهؤلاء الجرحى، فضلاً عن صعوبة عبور فرق الإنقاذ لانتشال الجثث من تحت الأنقاض، ما يقود القطاع بأكمله إلى كارثة بيئية إذا تحللت جثامين الضحايا تحت الأنقاض.
«هتحصل كارثة صحية قريب، الأشلاء ما زالت عالقة تحت الركام»، بحسب قول المتحدث الرسمي باسم الهلال الأحمر في غزة، حيث امتلأت ثلاجات حفظ الموتى وخرجت عن العمل في ظل نفاد مخزون الوقود بالمستشفيات ما دفع الطواقم الطبية إلى سرعة دفن جثامين الشهداء، بعضهم يتم دفنه في مقابر جماعية قبل وصول ذويهم، أما الأشلاء العالقة فهي قنبلة موقوتة تحت الحطام ستنفجر في وجه الجميع، حسب وصفه.
ثلاجات حفظ الموتى خرجت عن العمل في ظل نفاد مخزون الوقود في مستشفيات القطاع، وزاد المشهد صعوبة حين نقصت أعداد أكياس الموتى والأكفان، ما دفع الطواقم الطبية إلى سرعة دفن جثامين الشهداء، بعضهم يتم دفنه في مقابر جماعية قبل وصول ذويهم، «مفيش أكياس حفظ ولا أكفان بنضطر للدفن السريع»، وسط مناشدة عاجلة من «أبو مصبح»، بضرورة التدخل الإنساني العاجل وتحييد المستشفيات من القصف والصراع القائم.
بحسب الإحصائيات المنشورة عبر الصفحة الرسمية لوزارة الإعلام الفلسطينية على «فيسبوك»، حتى اليوم الـ51 من الحرب على غزة، فقد سقط أكثر من 16 ألف شهيد بينهم قرابة 6150 طفلاً، بينما بلغت أعداد الأشخاص المفقودين قرابة 7 آلاف شخص، إما تحت الأنقاض أو جثامينهم ملقاة في الشوارع، ولا يزال مصيرهم مجهولاً حتى الآن، من بينهم أكثر من 4700 طفل وامرأة.
أمسى البكاء مبتذلاً والدموع صارت تستحي من نفسها، عائلات بأكملها في غزة تم مسحها من السجل المدني، وكفن واحد طوى العديد منهم في طية واحدة، مقبرة جماعية احتضنتهم بعد أن امتلأت القبور بساكنيها إثر القصف المستمر الذي تشنه قوات الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر الماضي.
في مساء الثامن والعشرين من أكتوبر الماضي، كان لؤي الغول على موعد مع تجربة جديدة عليه، هي الأصعب والأبشع في وصفها، حين فقد أربعين شخصاً من عائلته وبات لزاماً عليه الذهاب رفقة رجال الدفاع المدني للتعرف على أشلائهم تحت أنقاض منزل العائلة في مخيم الشاطئ للاجئين في غزة، بعد أن قصفه الاحتلال فجراً أثناء نومهم، حسب روايته لـ«الوطن».
«الغول»: جثث أبناء عمي كانت أشلاء صغيرة تم تكفينها ودفنها بمقبرة جماعية.. و«الدحدوح»: عثرت على الجزء السفلي من ابن عمي وعرفته من وحمة في قدمهحين وصل إلى المكان وقعت عيناه على أشلاء جثتي ابني عمه يهرول بهما المسعفون إلى مشرحة المستشفى، تجمّد الدم في عروقه وتوقف الزمن من حوله وبكى كطفل ضاع من أهله لا يدري إلى أين يذهب: «كانوا طالعين من تحت الركام بقايا جسم، واحد فاقد إيديه والتاني فاقد نصف جسمه».
تعرّف على واحد منهما فقط من ملابسه التي كان يرتديها ليلة القصف في بيت العائلة: «ابن عمي كان لابس تي شيرت معين عرفته منه».. انتقل «الغول»، رفقة رجال الإنقاذ، إلى مستشفى الشفاء بغزة، حيث نُقلت أشلاء أبناء عمه جميعاً إلى هناك استعداداً لتكفينهم ودفنهم: «وصلوا جميعاً والجثث كانت ممزقة أشلاء صغيرة غير معروفة، تم تكفينها ودفنها بمقبرة جماعية، وتأكدنا من هوية كل واحد» دون التمكن من تجميع جسد كامل لكل واحد، حسب وصفه.
الموقف السابق لم يختلف في بشاعته كثيراً عن الموقف الذي عاشه أسامة الدحدوح حين اضطر للذهاب إلى ثلاجة الموتى بمستشفى الشفاء الطبي للبحث عن ابن عمه الأكبر الذي فُقد في قصف عنيف استهدف منزله بحي الزيتون بداية شهر نوفمبر الماضي.
رحلة البحث عن ابن العم الأكبر استمرت ثلاثة أيام متواصلة، بصحبة قوات الإنقاذ تحت ركام مجموعة من المنازل التي دمرها الاحتلال في الحي، حتى تم انتشاله أشلاء، فقط الجزء السفلي من جسده هو الذي تبقى منه، هكذا وصف «الدحدوح» باكياً لـ«الوطن» بشاعة المشهد الذي يطارده في منامه كل ليلة.
ساعات انتظار مضت كالدهر، حيث وقف «الدحدوح» على باب المستشفى، كلما فتحت سيارة إسعاف أبوابها لتنقل جثامين شهداء إلى داخل المشرحة هرول وراءها للتعرف على ابن عمه المفقود، بعد أن أخبرت قوات الإنقاذ الباحثين في مكان منزل الشهيد بنقله إلى مجمع الشفاء الطبي: «كل ما كانت تيجي دفعة جثامين أبحث بينهم، حتى جاء الجزء السفلي من جسد ابن عمي، عرفته من وحمة في قدمه اليسرى»، هنا استجمع أنفاسه وحاول التماسك لاستكمال إجراءات الدفن.
رحلة البحث بين الجثامين، حسب رواية «الدحدوح»، تفوق فى بشاعتها أصعب مشاهد أفلام الرعب، مجرد وجود واحد أو اثنين فقط من الأهل يؤكد هوية الشهيد، ينتقل بعدها إلى داخل المشرحة لأخذ البيانات وتسجيلها وإخراج الجثمان بسرعة دون حفظه في الثلاجات الممتلئة بجثث الآخرين، حسب روايته للمشهد من الداخل، ومن ثم يتم التكفين والصلاة عليه بالمستشفى والدفن مباشرة في مقابر العائلة لمن يتم التعرف على هويته، أو في مقابر جماعية لمن يتعثر التعرف على هويته.
ثلاث ساعات فقط، وكان «الدحدوح» قد انتهى من إجراءات التعرف على ابن عمه، وتوجَّه بعدها بصحبة أبناء عمه الآخرين إلى مقابر العائلة لدفن الأشلاء، كانت الرحلة الأصعب على الإطلاق حسب وصفه: «تخيل شخص أكل معك وبينكم ذكريات فجأة يتحول جسده لأجزاء ممزقة، شعور كتير صعب».
انتشرت رائحة البارود في سماء غزة منذ اندلاع الحرب الأخيرة في السابع من أكتوبر الماضي، أبراج سكنية تحولت إلى ركام في ثوانٍ معدودة، عائلات بأكملها نزحت عن بيوتها ولم يرحمها الاحتلال حتى في أماكن الإيواء، ذاقوا الموت الذي فروا منه، فتحولوا إلى أشلاء متناثرة يصعب على ذويهم التعرف عليهم وسط محاولات مستميتة من قوات الإنقاذ لانتشالهم من تحت الأنقاض.
ثلاجات الموتى داخل مستشفيات القطاع امتلأت وفاضت، الأمر الذى يفوق الطاقة الاستيعابية لأي نظام طبي في العالم مهما بلغت قوته، يواجه أطباء الطب الشرعي الموزعون على المستشفيات كارثة غير مسبوقة، فبحسب تصريح الدكتور «يوسف أبوالريش»، وكيل وزارة الصحة في غزة، لـ«الوطن» ليس لديهم رفاهية لإجراء تحاليل الحمض النووي الـDNA للتعرف على هوية الجثث في تلك الحرب الطاحنة.
حلقة مفرغة يدور بداخلها كل يوم أطباء الطب الشرعي في غزة، وضعوا آلية واحدة للتعامل مع الأشلاء التي تصلهم من خلال المسعفين ورجال الإنقاذ، يحاولون خلالها الاستدلال -قدر استطاعتهم- على هوية أصحاب الأشلاء، إما من خلال ملابسهم أو خاتم ما زال في إصبعهم، أو علامة مميزة في أجسادهم، ومن ثم، بحسب «أبوالريش» يتم تسجيل تلك المعلومات كلها وتصويرها، ثم وضعها في ملف خاص، مدون على واجهته: «اليوم الموافق 10 نوفمبر، أشلاء مجهول رقم 1».
ينتظر الدكتور أحمد الضهير، استشاري الطب الشرعي بالمستشفى الأوروبي في غزة، مرور 48 ساعة على الأشلاء التي تصلهم، أملاً في أن يأتي ذووهم للتعرف عليهم، وحسب وصفه لـ«الوطن» في حال عدم الوصول إلى ذويهم بعد انتهاء تلك الفترة الزمنية، يتم دفنهم في مقابر جماعية مرقمة بأرقام محددة، فلا توجد لديهم رفاهية إبقاء تلك الأشلاء في الثلاجات لعدم وجود مكان، فضلاً عن توفير مخزون الوقود لتشغيل العناية المركزة: «نوفر الوقود لتشغيل الأجهزة الطبية بالعناية المركزة وهو ما تسبب فى توقف ثلاجات الموتى وبالتالي فنحن لا نحتفظ بالجثث».
ويستطرد خلال وصفه للوضع الراهن في القطاع:«بشاعة الموقف لا تتوقف عند عدم التوصل إلى ذوى الجثث، فبعض الأشلاء يتم انتشالها بعد يومين أو ثلاثة من الموت وبالتالي تكون قد تحللت ولا يمكن الاحتفاظ بها ويتم دفنها على الفور دون انتظار أسرة الشهيد، ويتم توثيق حالات الوفاة لتلك الأشلاء من خلال الطبي الشرعي الذي يتبع وزارة العدل، عبر شهادة وفاة يكتب في خانة الاسم بها «مجهول»، بحسب ما أكد الدكتور أحمد الضهير.
«بيانات المتوفى، وسبب الوفاة واسم الطبيب»، بيانات مختلفة تحويها شهادة الوفاة الصادرة عن وزارة الداخلية الفلسطينية ومعتمدة من وزارة العدل، يتولى الطب الشرعى كتابتها فى حالة الوفاة العادية أو تسلم جثمان شهيد كامل، أما فى حالة الأشلاء غير المعروف صاحبها تترك خانة الاسم فارغة وتحمل الشهادة اسم «مجهول»، حسب قول الدكتور «يوسف أبوالريش»، وكيل وزارة الصحة فى غزة.
رحلة «الوطن» في تقصّي الوضع لم تقتصر عند ذلك، بل إلى ما بعد تحلل الأشلاء تحت الركام من خلال مسؤولين بوزارة البيئة الفلسطينية والمستشفيات الكبرى بالدولة لمعرفة العواقب البيئية والصحية.
وفق مبدأ «الأرض المحروقة»، يخطط الاحتلال لتحويل أراضي غزة إلى مناطق جدباء غير قابلة للحياة، الأمر الذي يجسد كارثة صحية وبيئية في انتظار القطاع بأكمله، إثر تراكم جثامين الشهداء تحت الأنقاض منذ أسابيع، وسط عرقلة مستمرة من قوات الاحتلال لوصول فرق الإنقاذ لانتشالها، فضلاً عن تكدس النفايات الصلبة وتلوث المياه وازدحام مراكز الإيواء بالنازحين المحرومين من الاستحمام بسبب النقص الحاد في المياه المتدفقة إلى القطاع، ما ينذر بانتشار الأوبئة والأمراض إذا استمر العدوان على هذا النحو.
ياسر أبوشنب، مدير عام حماية البيئة في السلطة الفلسطينية، أكد فى تصريح خاص لـ«الوطن»، أنّ قطاع غزة على شفا كارثة بيئية قد لا تقتصر عواقبها على القطاع فقط، بل تهدد الكوكب بأكمله، حال ظهور أوبئة وأمراض جديدة ناتجة عن تلوث الهواء والمياه والتربة، وتراكم الحشرات الناقلة للأمراض والأوبئة، لافتاً إلى أن استمرار القصف العنيف لقطاع غزة المحتل، يزيد حصيلة الشهداء كل ساعة، ويزداد المشهد تعقيداً، مع وجود أشلاء لبعض الشهداء تحت الركام، ولم تتمكن فرق الإنقاذ من انتشالها حتى الآن، ومع الوقت تتحلل تلك الأشلاء وتصدر غازات سامة، وديداناً وحشرات، محذراً: «إذا لم يتم انتشالها خلال الأسابيع المقبلة، سوف تظهر أوبئة جديدة بين الأهالى فى غزة».
تختلط الغازات السامة الصادرة من تحلل الأشلاء المتراكمة تحت الأنقاض بالمواد التى يستخدمها الاحتلال فى حربه الشرسة على القطاع منذ السابع من أكتوبر الماضى، بحسب مدير عام حماية البيئة فى السلطة الفلسطينية، مشيراً إلى أنها مواد محرمة دولياً وبينها الفوسفور الأبيض الفتاك، وأنواع غير معروفة لخبراء البيئة حتى الآن، مؤكدا أن ذلك يعجل بكارثة بيئية فى غزة والمدن المجاورة لها، معتبراً ذلك اختراقاً صريحاً لبنود المادة الرابعة من اتفاقية جنيف الدولية.
من جانبها تحاول السلطات المحلية فى غزة جاهدة، رغم ظروف الحرب الصعبة، الاستجابة لاحتياجات السكان من المياه، وبينما تمثّل الآبار الجوفية مصدر المياه الرئيسى فى القطاع، إلا أن عمل تلك الآبار توقف بسبب انقطاع الكهرباء، وعدم توافر الوقود اللازم لتشغيل المولدات لضخ المياه، وهذا أكبر مسبب لسهولة تفشى الأوبئة والأمراض بين سكان القطاع، حسبما أكد «أبوشنب».
وعلى الصعيد الطبى، أكد الدكتور صالح الهمص، مدير التمريض بمستشفى غزة الأوروبى لـ«الوطن»، أن القطاع دخل بالفعل فى دائرة الوباء والأمراض المعدية سواء التنفسية أو المعوية، حيث انتشرت النزلات المعوية والإسهال والجفاف والسعال بين الأطفال، خاصة مع دخول فصل الشتاء وانخفاض درجات الحرارة دون وجود ملابس ثقيلة ولا مياه نظيفة ولا علاج ولا طعام: «اللى مماتش من القصف هيموت من الأنيميا والمرض والبرد»، حسب تعبيره.
دائرة مفرغة يدور فيها سكان غزة النازحون تقودهم إلى مصير مجهول، كارثة بيئية وصحية فى انتظار من نجا منهم لأسباب عديدة، أولها توقف محطات معالجة الصرف الصحى عن العمل، وتوقف آبار المياه أيضاً بسبب انقطاع الكهرباء ونقص إمدادات الوقود، وبات الجميع يلجأون إلى أى مصدر مياه حتى إن كان ملوثاً، ما يسبب أمراض الجهاز الهضمى، بحسب مدير التمريض بمستشفى غزة الأوروبى، فضلاً عن تكدس النازحين فى أماكن الإيواء الذى يؤدى بدروه إلى انتشار الأمراض الجلدية كالجرب.
«تحلل الجثامين العالقة تحت الأنقاض ستتسبب فى مصابٍ جلل»، هكذا اختزل «الهمص» حجم الكارثة التى سوف تؤول إليها أزمة غزة، حيث تصدر الجثامين غازات سامة عند التحلل، فضلاً عن انتشار الكلاب الضالة التى تتغذى على الجثث ما يعنى نقل أوبئة وأمراض من الحيوان إلى البشر: «بعض الجثث لم تتمكن فرق الإنقاذ من انتشالها وأصبحت فريسة للكلاب والحيوانات الضالة، الوضع يفوق الوصف».
الدكتور فؤاد عودة، رئيس الرابطة الطبية الأوروبية الشرق أوسطية الدولية، أكد رصد ارتفاع كبير في أعداد المرضى بأمراض معوة بسبب المياه الملوثة والشرب من مياه البحر المالحة، منها التهاب الكبد الوبائي والنزلات المعوية والإسهال، فضلًا عن انتشار أمراض الجهاز التنفسي بما يقدر بنحو 10 آلاف مصاب، بحسب إفادات الأطباء مراسلي الرابطة المتواجدين في أنحاء قطاع غزة.
ويفوق أعداد المصابين بالأمراض الجلدية، كالجرب، العدد السابق ذكره، بحسب «عودة» الذي أكد أنّ الوضع بين النازحين في مدارس الأمم المتحدة مأساوي نظرًا لتكدس المواطنين، ما يُسهّل عملية انتشار الأمراض المعدية بينهم دون توافر أي خدمات طبية.
المصدر: الوطن
كلمات دلالية: غزة فلسطين شهداء غزة فی مقابر جماعیة جثامین الشهداء رجال الإنقاذ فرق الإنقاذ تحت الأنقاض کارثة بیئیة تحت الرکام من أکتوبر لـ الوطن على مدار عن العمل حتى الآن قطاع غزة من خلال أکثر من بعد أن فی غزة فى غزة
إقرأ أيضاً:
بيت حانون.. تقاتل و تنهض من تحت الأنقاض
وقف عبد الحميد الزعانين، الرجل الخمسيني، على أطلال منازله المدمرة، يحدق فيما تبقى من جدرانه المتصدعة. لم يكن المشهد صادمًا بقدر ما كان قاسيًا.
يقول بصوت مثقل بالوجع خلال حديثه لـ«عُمان»: «لم نجد ديارنا الثلاث، كلها دُمرت، وجدنا فقط نصف دار متبقية، نحاول تنظيفها للإقامة فيها، رغم الحرب والدمار والبهدلة وانعدام الخدمات بالكامل».
يتحدث عبد الحميد عن معاناة يومية تكاد تكون مستحيلة: «لا كهرباء، لا ماء، لا صرف صحي، لا مقومات للحياة، فقط ركام وأمل لا نعرف كيف نصنع منه حياة جديدة. نعاني صعوبة كبيرة في الحصول على مياه الشرب، فكل نقطة ماء نحصل عليها تأتي بعد عناء شديد».
تبدو العودة أشبه بولادة جديدة لكنها محفوفة بالعذاب، فهو وأسرته يحاولون التكيف مع هذا الواقع القاسي، يحاولون إقناع أنفسهم بأن العيش فوق أنقاض منازلهم، مكومين في نصف بيت، أفضل من النزوح والتشرد، لكن الحياة هنا لم تعد تشبه الحياة، بل أقرب إلى صراع يومي من أجل البقاء.
في كل زاوية من المكان الذي كان يومًا منزلًا، تحضر ذكريات العائلة، صوت الأطفال، رائحة الخبز الطازج، وضحكات الأهل والجيران. اليوم، كل ذلك تحول إلى صمت مطبق لا يكسره سوى وقع أقدام العائدين وسط الركام.
بيت حانون.. العودة إلى المجهول
مع بزوغ فجر كل يوم، يخطو أهالي بيت حانون خطواتهم الثقيلة فوق الركام، عائدين إلى أرضهم بعد شهور طويلة من النزوح القسري. يعودون محملين بالشوق إلى منازل لم يبقَ منها إلا الحجارة المتناثرة، وأحياء كانت تعج بالحياة قبل أن تتحول إلى ساحات خراب.
العائلات تقتحم مشهد الدمار بإرادة لا تنكسر، تحاول ترتيب بقايًا البيوت، تجمع ما تبقى من أثاث، وتبحث عن أي زاوية تصلح للسكن وسط غياب تام للبنية التحتية. لا ماء، لا كهرباء، لا خدمات أساسية، فقط تحدٍّ يومي للبقاء.
بينما يتأمل العائدون مدينتهم المدمرة، يدركون أن معركتهم الحقيقية لم تنتهِ بعد، بل بدأت من جديد. إنها معركة من أجل البقاء، حيث لا مجال للاستسلام.
معركة من أجل أبسط مقومات الحياة
عودة طال انتظارها، تأتي وسط مشاعر متضاربة بين السعادة بلقاء تراب الأرض التي اشتاقوا إليها، وبين الوجع لما فقدوه خلال أشهر الحرب. في بيت حانون، الحزن مؤجل إلى حين، فالانشغال بتجهيز خيمة أو تعبئة جالون ماء هو سيد المشهد. إنها ليست مدينة تقاتل من أجل النجاة فحسب، بل تصارع من أجل أبسط مقومات الحياة.
وسط هذا الدمار، يبحث الأطفال عن أماكن للعب بين الأنقاض، بينما يحاول الرجال والنساء العثور على ما يمكن استخدامه لإعادة ترتيب أماكن الإقامة البديلة. ويواجه الأطفال والنساء والشباب يوميًا رحلة بحث عن الماء والغذاء، حيث باتت هذه المتطلبات البسيطة رفاهية لا تُتاح بسهولة.
يقطع بهاء قزعاط، الشاب العشريني، نحو خمس كيلومترات يوميًا من أجل الحصول على بضع جالونات من المياه الصالحة للشرب.
يقول بصبر وعزيمة، وهو يقف في طابور توزيع المياه أمام سيارة البلدية: «نعم، نحن نعيش فوق الركام، ولكننا لن نغادر، سنظل هنا صامدين. بيت حانون ستنهض من جديد مهما حاولوا إبادتها».
رغم ذلك، لا يخفي بهاء إحساسه بالإحباط مشيرا لـ«عُمان»: «كنا نعيش حياة طبيعية، كنا نملك بيوتًا، وظائف، وأحلامًا. اليوم، كل شيء تغير. حتى الماء، أصبحنا نحصل عليه بصعوبة، وكأنه كنزٌ ثمين علينا القتال من أجله يوميًا».
خراب فوق خراب
هذه المنازل التي تحولت إلى ركام تحمل حجارتها المهدمة كثيرًا من الحكايات التي عاشتها المدينة بحلوها ومرها، هنا، يخفون حسرتهم لما آلت إليه أوضاعهم، ويسعون إلى ترتيب حياتهم وسط الخراب. ليس لديهم خيار سوى التعايش مع ما هو متاح، رغم قسوة الظروف.
بينما يجلس حسن عايش، المواطن الأربعيني، فوق بقايا جدار منزله، يمرر يده فوق حجارة صامتة تشهد على ما كان هنا يومًا ما. يقول بحسرة: «هذا ليس بلدًا منكوبًا، بل كأن تسونامي اجتاحه. هذه البلدة قبل حرب السابع من أكتوبر كانت جنة، مليئة بالحياة والمعمار والخدمات. اليوم، لم يتبقَ منها شيء، فقط خراب فوق خراب».
يزفر حسن بغضب قبل أن يضيف لـ«عُمان»: «لكننا لن نستسلم. سنعيد بناءها كما فعلنا مرات عديدة من قبل. سنبني من جديد، حتى لو اضطررنا للعيش فوق الأنقاض لسنوات».
بيت حانون.. مدينة على خط الصراع
تعد مدينة بيت حانون من المدن الحدودية مع الداخل الفلسطيني المحتل، ولطالما تعرضت للتجريف والتدمير من قبل الاحتلال الإسرائيلي، وفي كل مرة كان أهلها يعيدون بناءها من جديد. منذ سنوات النكبة وحتى اليوم، كانت بيت حانون دائمًا في قلب الصراع، تدفع ثمن موقعها الاستراتيجي.
على مدار العقود الماضية، كانت المدينة ساحة للمواجهات المتكررة، حيث شهدت اجتياحات عسكرية عدة، وكانت هدفًا للغارات الجوية والقصف المدفعي. رغم ذلك، بقي أهلها متشبثين بأرضهم، يعيدون بناء بيوتهم ومدارسهم ومستشفياتهم، في مشهد يعكس صلابة الفلسطينيين وإرادتهم التي لا تُكسر.
وخير شاهد على هذا التاريخ من الصمود الفلسطيني في بيت حانون، هو مصطفى عبدالهادي، المسن السبعيني، الذي التقيناه متكئًا على عصاه بينما ينظر إلى الدمار من حوله.
يقول لـ«عُمان»: «منذ طفولتي، وأنا أشهد بيت حانون تُدمر ثم تُبنى من جديد. الاحتلال يهدم ونحن نعيد الإعمار، لم نستسلم يومًا، ولن نستسلم الآن».
يتذكر مصطفى كيف كانت المدينة مليئة بالحياة، الأسواق تعج بالبائعين، المدارس تكتظ بالطلاب، والمزارع الخضراء تحيط بالمكان. يغلق عينيه في أسى، ثم يقول بصوت خافت: «اليوم، كل شيء تحول إلى ركام». قبل أن يستدرك بصوت عالٍ: «لكن الإرادة لا تزال حاضرة. بيت حانون لن تموت، سنعيدها كما فعلنا عشرات المرات».