لجريدة عمان:
2024-11-16@07:37:32 GMT

الفلسفة والوعي

تاريخ النشر: 12th, December 2023 GMT

كل مَن هو شغوف بالفلسفة هو شخص مشغول بطبعه بالتساؤل عن معاني المواقف أو الأحداث ذات الدلالة العامة التي تصادفه في حياته، أكثر من انشغاله بأمور الحياة الجزئية التي تخصه وحده. وأظن أن هذا أمر مشترك في طبائع كل من تسودهم روح التفلسف والفن بوجه عام؛ ولهذا قال أرسطو: إن الفلسفة وليدة الدهشة.

غير أن الفلسفة ليست مجرد وجهات نظر كما يظن كثير من الناس، أعني أنه ليس كل رأي يمكن اعتباره رؤية فلسفية؛ لأن الرؤية الفلسفية لها سمات أساسية أهمها أنها رؤية كُليَّة، أي رؤية تتعلق بفهم المعاني والدلالات العامة التي تفسر لنا ظواهر الحياة والوجود.

وعلى سبيل المثال يمكن أن نتناول الأدب من وجهة نظر جزئية، أي الأدب الذي يخص أديبا معينا، أو الأدب في دولة أو أمة ما، أو في عصر ما، إلخ. ولكننا في كل هذه الحالات نتناول الأدب من وجهات نظر جزئية وليست كلية، وهي وجهات النظر أو النظريات التي تهتم بها العلوم الجزئية: كالنقد الأدبي، وعلم الاجتماع الأدبي، أو تاريخ الأدب. أما في مجال الفلسفة (أعني هنا علم الجمال)، فإن السؤال الأساسي هنا يصبح سؤالًا كليًّا، كأن نتساءل عن طبيعة الأدب ذاته (أو حتى الشعر ذاته)، والفن ذاته، والحياة ذاتها، والوجود ذاته. وليس معنى ذلك أن السؤال الفلسفي مقطوع الصلة بالأسئلة الجزئية التي تطرحها العلوم الأخرى، بل هو يضع كل الظواهر الجزئية في اعتباره، ويستفيد منها في البرهنة على المبادئ العامة والتساؤلات التي يطرحها. ولذلك فإن السؤال الفلسفي هو سؤال عن المبدأ أو الأصل في أية ظاهرة مهما كانت ضئيلة أو جزئية أو محدودة؛ ولهذا السبب نفسه فإن البحث في أصول أي علم من العلوم يُسمى بحثًا فلسفيًّا، وهذا هو معنى مصطلح Ph.D. أي درجة الدكتوراه في الفلسفة التي يحصل عليها كل من يتبحر في أصول الظواهر الخاصة بأي علم من العلوم، وإن كان أغلب الحاصلين على هذه الدرجة في العلوم لا يتأملون دلالة هذا المسمَّى. الفلسفة إذن رؤية كلية مبرهن عليها من خلال طرائق البحث الفلسفي.

إضافةً إلى ذلك، لا بد من التأكيد على أنه ليس هناك تطابق في الرؤى بين أي فيلسوف وآخر، وإنما هناك تأثيرات لكبار الفلاسفة في الفلاسفة التالين عليهم، وإلا ما كانت هناك فلسفة ولا تفلسف؛ لأن كل رؤية فلسفية أصيلة تضيف شيئًا جديدًا إلى الفكر الفلسفي، ولو كان ضئيلًا. كذلك فإن المشتغل بالفلسفة من أمثالي لا يمكن يتخذ فلسفة فيلسوف ما كحقيقة نهائية، ولكنه يمكن أن يميل إلى منهج أو توجه معرفي ما في الفلسفة. وأنا شخصيًّا قد تعلمت من كثير من الفلسفات التي انصهرت بداخلي، وشكلت رؤيتي للعالم والحياة التي أودعتها في بعض كتاباتي الأساسية. موضوع انشغالي الأساسي هو فهم ماهية الظواهر أو الخبرات الإنسانية كما تتجلى لنا في عالم الحياة أو العالم المعيش، وهذا التوجه هو روح الفينومينولوجيا أو فلسفة الظاهرات.

أما إذا تساءلنا عن دور الفلسفة في التأثير على النظم السياسية، فيمكننا القول بأن الفلسفة لا تؤثِّر تأثيرًا مباشرًا على سياسات الدولة، وليس هناك فيلسوف بعينه في عصرنا الراهن يمكن أن يكون له مثل هذا التأثير الذي كان موجودًا في عصر القدماء وفي العصر الحديث؛ رغم أن أفلاطون قديمًا كان يحلم- في كتابه «الجمهورية»- بأن يكون الحكم للفلاسفة. ومع ذلك، فإن ما نتمناه هو أن يكون للفلسفة دور أساسي في الثقافة العامة وفي التعليم الجامعي، بل في تعليم الطلبة في سائر مراحل التعليم من أدناها إلى أعلاها، بما في ذلك الكليات التي تدرس العلوم الطبيعية والرياضية؛ لأن افتقار الطلبة للتعليم الفلسفي يعني الافتقار إلى التعليم الذي يدعم الجانب الروحي والثقافي، ويدعم بناء ملكاتهم العقلية والنقدية، بل يدعم أصول العلوم التي يدرسها الطلبة. فليس من المعقول على سبيل المثال ألا يدرس طالب الهندسة ما يتعلق بجماليات فن العمارة وفلسفاتها عبر العصور، وليس من المعقول ألا يدرس طالب الطب فلسفة الأخلاق وتحديدًا أخلاقيات الطب والبيولوجيا باستفاضة، وهكذا. وبذلك يمكن أن يكون للفلسفة تأثير غير مباشر من خلال تغيير وتعميق الوعي الذي يمكن أن يغير بدوره عالم الناس.

ومع ذلك، فإنه بسبب وضعنا الراهن في العالم الإسلامي؛ فإننا نحتاج إلى تعميم تيار التأويل في الفكر، وبخاصة التأويل العقلاني لدى ابن رشد على سبيل المثال، وتيار التأويل الصوفي لدى ابن العربي وأمثاله؛ لأن هذا من شأنه القضاء على فيروسات العقل والروح التي يمكن أن تدخل في تكوين الشباب، والتي هي منبع الإرهاب والتطرف الديني.

أما بخصوص الفلسفة العربية إجمالًا، فلا بد أن نتعلم احترام هذه الفلسفة؛ لا بمعنى أن نجتر هذه الفلسفة وأن نردد كل تعاليمها وآراء أصحابها، وإنما ننظر إليها باعتبارها كانت وليدة حضارة أنتجت الكثير من المعارف والعلوم؛ وبالتالي فإننا يجب أن نعلم النشء والطلبة الظروف والشروط الحضارية التي أنتجت الإبداع الفلسفي والعلمي والأدبي. ابن رشد كان وليد حضارة استفادت من الحضارة اليونانية والرومانية السابقة عليها، وعملت على ترجمة إبداعاتها في سائر المجالات، وكان ابن رشد نفسه هو أحد الكبار الذين أسهموا في نقل الإبداعات الفكرية لهذه الحضارة وشرحها، خاصة إبداعات أرسطو الفكرية. ولكن زوال هذه الظروف والشروط الحضارية هي التي أفضت في النهاية إلى حرق كتب ابن رشد وقيام أبي حيان التوحيدي بحرق كتبه، وما شابه ذلك؛ بعد أن كانت مكافأة ترجمة الكتاب تساوي قيمة وزنه ذهبًا في عصر الخليفة المأمون، وكل هذا كان نذيرًا بأفول الحضارة العربية. هذا هو الدرس العملي الذي ينبغي أن يتعلمه الطلبة؛ فلا يهم أن يتعلم هؤلاء كل ما قاله ابن رشد على سبيل المثال، وإنما يكفي أن يتعلم الأفكار الأساسية التي قال بها، ولماذا تم وأدها، ولماذا أدى ذلك إلى أفول الحضارة العربية التي كان ينتمي إليها أسلافهم، وهكذا.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: على سبیل المثال ابن رشد یمکن أن أن یکون

إقرأ أيضاً:

طه حسين في عيد ميلاده.. تحدى الإعاقة ليصبح عميد الأدب العربي

طه حسين.. تحل اليوم الجمعة 15 نوفمبر 2024، ذكرى ميلاد عميد الأدب العربي طه حسين، الذي أضاء دروب الأدب العربي، وتحدى الإعاقة وصار أيقونة للعلم والمعرفة.

نشأة طه حسين

ولد طه حسين عام 1889 بمركز مغاغة في محافظة المنيا، وعندما وصل سن الـ 4 سنوات، فقد بصره، وألحقه والده بكتاب القرية فتعلم العربية وحفظ القرآن الكريم، وفى عام 1902 انتقل إلى القاهرة في رعاية أخيه الأكبر الشيخ أحمد والتحق بالأزهر ونال شهادته، ليلتحق بعدها بالجامعة المصرية، وكان أول المنتسبين لها، وحصل عام 1914 على أول دكتوراه من الجامعات المصرية بتقدير جيد جدا، ثم أوفدته الجامعة المصرية في بعثة دراسية إلى مونبلييه بفرنسا فدرس الأدب الفرنسي وعلم النفس والتاريخ الحديث.

طه حسين زواج طه حسين من سوزان بيرسو

أثناء وجوده للدراسة بباريس تعرف على سوزان، في مدينة «مونيليه» الفرنسية، كانت البداية وبالتحديد في يوم 12 مايو 1915، جمعها القدر معاً لأول مرة، كانت قارئته التي لازمته بصوتها بقراءة الأدب الفرنسي أثناء بعثته التعليمية المجانية في باريس، وحينها اهتز قلبه وشعر أنه لا يستطيع العيش بدونها، فلم يفترقا إلا في بعض الأحيان المعدودة، وذات مرة افترقا لسبب غير معلوم مدة ثلاثة أشهر فكتب لها قائلًا «ابقي، لا تذهبي، سواء خرجتُ أو لم أخرج، أحملكِ فيَّ، أحبّكِ. ابقي، ابقي، أحبّكِ. لن أقول لكِ وداعاً، فأنا أملككِ، وسأملككِ دوماً. ابقي، ابقي يا حبِّي»،

طه حسين

عاشا معًا كروحين ملتصقين كلٍ منهما يكمل الآخر، حتى بعد عودته من باريس عاشا سويًا في مصر، كان يرى العالم بأعينها، يرتدى ملابسه بذوقها، يتلذذ بالطعام الذى تحبه وتختاره هي، فقد اهتمت بصحته كطبيبة تلازمه، هيئت له المكان والوقت والأجواء المريحة والممتعة للعمل والكتابة والإبداع، حتى أصبح طه حسين باشًا عميد كلية الآداب ووزير المعارف ورئيس مجمع اللغة العربية، وذاع صيته في العالم كله، وأنجب منها ابنه مؤنس وابنته أمينة.

طه حسين وزوجته الفرنسية

عندما عاد طه حسين إلى مصر عام 1919 تم تعيينه أستاذًا للتاريخ اليوناني والروماني في الجامعة المصرية، وكانت جامعة أهلية، وعندما أُلحقت بالدولة عام 1925 عينته وزارة المعارف أستاذاً فيها للأدب العربي، فعميداً لكلية الآداب في الجامعة نفسها، وذلك عام 1928، لكنه لم يلبث في العمادة سوى يوم واحد، إذ قدّم استقالته من هذا المنصب تحت تأثير الضغط المعنوي والأدبي الذي مارسه عليه الوفدين، خصوم الأحرار الدستوريين الذي كان منهم طه حسين.

طه حسين

وفي عام 1930 أُعيد طه حسين إلى عمادة الآداب، بسبب منح الجامعة الدكتوراه الفخرية لعدد من الشخصيات السياسية المرموقة مثل عبد العزيز فهمي، وتوفيق رفعت، وعلي ماهر باشا رفض طه حسين هذا العمل، فأصدر وزير المعارف مرسومًا يقضي بنقله إلى وزارة المعارف، لكن رفض العميد تسلم منصبه الجديد فاضطرت الحكومة إلى إحالته إلى التقاعد عام 1932.

طه حسين

وعند تعاقد طه حسين أتجه إلى العمل الصحفي فأشرف على تحرير «كوكب الشرق» التي كان يصدرها حافظ عوض، وما لبث أن استقال من عمله بسبب خلاف بينه وبين صاحب الصحيفة، فاشترى امتياز «جريدة الوادي» وذهب يشرف على تحريرها، لكن هذا العمل لم يعجبه فترك العمل الصحفي.

طه حسين وزوجته الفرنسية

وفي العام نفسه أُعيد طه حسين إلى الجامعة المصرية بصفة أستاذ للأدب، ثم بصفة عميد لكلية الآداب ابتداء من عام 1936، وبسبب خلافه مع حكومة محمد محمود استقال من العمادة لينصرف إلى التدريس في الكلية نفسها حتى عام 1942، سنة تعيينه مديراً لجامعة الإسكندرية، إضافة إلى عمله الآخر كمستشار فني لوزارة المعارف، ومراقب للثقافة في الوزارة عينها، وفي عام 1944 ترك الجامعة بعد أن أُحيل إلى التقاعد.

ذكرى ميلاد عميد الأدب العربي «طه حسين»

وفي عام 1950، وكان الحكم بيد حزب الوفد صدر مرسوم تعيينه وزيراً للمعارف، وبقي في هذا المنصب حتى عام 1952، تاريخ إقامة الحكومة الوفدية، بعد أن منح لقب الباشوية عام 1951.

وفي عام 1959 عاد طه حسين إلى الجامعة بصفة أستاذ غير متفرغ، كما عاد إلى الصحافة فتسلم رئاسة تحرير الجمهورية.

طه حسين الجوائز التي حصل عليها طه حسين

حاز طه حسين على مناصب وجوائز مختلفة، منها تمثيله مصر في مؤتمر الحضارة المسيحية الإسلامية في مدينة فلورنسا بإيطاليا عام 1960، وانتخابه عضوا في المجلس الهندي المصري الثقافي، والإشراف على معهد الدراسات العربية العليا، واختياره عضوًا محكمًا في الهيئة الأدبية الطليانية والسويسرية، وهي هيئة عالمية على غرار الهيئة السويدية التي تمنح جائزة بوزان.

رشحته الحكومة المصرية لنيل جائزة نوبل، وفي عام 1964 منحته جامعة الجزائر الدكتوراه الفخرية، ومثلها فعلت جامعة بالرمو بصقلية الإيطالية، عام 1965، وفي السنة نفسها ظفر طه حسين بقلادة النيل، إضافة إلى رئاسة مجمع اللغة العربية، وفي عام 1968 منحته جامعة مدريد شهادة الدكتوراه الفخرية، وفي عام 1971 رأس مجلس اتحاد المجامع اللغوية في العالم العربي، ورشح من جديد لنيل جائزة نوبل، وأقامت منظمة اليونسكو الدولية في اورغواي حفلاً تكريمياً أدبياً قل نظيره.

طه حسين مؤلفات طه حسين

بعض مؤلفات طه حسين: الأيام، الوعد الحق، المعذبون في الأرض، في الشعر الجاهلي، كلمات، نقد وإصلاح، من الأدب التمثيلي اليوناني، طه حسين والمغرب العربي، دعاء الكروان، حديث الأربعاء، صوت أبي العلاء، من بعيد، على هامش السيرة، في الصيف، ذكرى أبي العلاء، فلسفة بن خلدون الاجتماعية، الديمقراطية في الإسلام.

طه حسين وفاة عميد الأدب العربي طه حسين

توفي طه حسين يوم 28 أكتوبر 1973م عن عمر ناهز 84 عاماً، تاركًا إرثا من نور العالم أضاء مصر والعالم العربي رغم ظلام عينه، وحين موته قالت حبيبته وزوجته ورفيقة عمره سوزان: «ذراعي لن تمسك بذراعك أبدا، ويداي تبدوان لي بلا فائدة بشكل محزن، فأغرق في اليأس» ولم تغادر مصر وتعود لبلدها حتى لحقت بزوجها وحبيبها في عام 1989 عن عمر 94 عاما.

اقرأ أيضاًفي ذكرى ميلاده.. طه حسين عميد الأدب العربي صاحب مسيرة أدبية وصلت للعالمية

في ذكرى وفاة عميد الأدب العربي.. قصة اختيار طه حسين وزيرا للمعارف

إغلاق كلي لكوبري طه حسين لتنفيذ أعمال الصيانة

مقالات مشابهة

  • محافظ القاهرة: مبادرة بداية تهتم ببناء العقول والوعي والهوية المصرية
  • طه حسين في عيد ميلاده.. تحدى الإعاقة ليصبح عميد الأدب العربي
  • إدراج جامعة بني سويف ضمن أفضل 500 جامعة عالمية في تصنيف شنغهاي
  • كلية الآداب بجامعة بالوادي الجديد تناقش «إشكالية العلاقة بين المنطق والتكنولوجيا»
  • نيجيرفان بارزاني: السليمانية عاصمة الثقافة ومدينة الأدب والفن والتضحية
  • د. محمد البشاري يكتب: جدلية الفلسفة والأخلاق.. رحلة البحث عن أفق السمو الروحي
  • مدرسة السعيدية بمطرح تنظم مؤتمرا للعلوم والسلام
  • عن الفلسفة وأبرز الفلاسفة اليونانيين
  • زيارة ميدانية لطلاب جامعة بني سويف لمصنع الأسمنت
  • «حماة الوطن»: الدولة تتعرض لحرب شائعات شرسة.. والوعي الوطني خط الدفاع الأول