لجريدة عمان:
2025-10-21@03:16:10 GMT

الفلسفة والوعي

تاريخ النشر: 12th, December 2023 GMT

كل مَن هو شغوف بالفلسفة هو شخص مشغول بطبعه بالتساؤل عن معاني المواقف أو الأحداث ذات الدلالة العامة التي تصادفه في حياته، أكثر من انشغاله بأمور الحياة الجزئية التي تخصه وحده. وأظن أن هذا أمر مشترك في طبائع كل من تسودهم روح التفلسف والفن بوجه عام؛ ولهذا قال أرسطو: إن الفلسفة وليدة الدهشة.

غير أن الفلسفة ليست مجرد وجهات نظر كما يظن كثير من الناس، أعني أنه ليس كل رأي يمكن اعتباره رؤية فلسفية؛ لأن الرؤية الفلسفية لها سمات أساسية أهمها أنها رؤية كُليَّة، أي رؤية تتعلق بفهم المعاني والدلالات العامة التي تفسر لنا ظواهر الحياة والوجود.

وعلى سبيل المثال يمكن أن نتناول الأدب من وجهة نظر جزئية، أي الأدب الذي يخص أديبا معينا، أو الأدب في دولة أو أمة ما، أو في عصر ما، إلخ. ولكننا في كل هذه الحالات نتناول الأدب من وجهات نظر جزئية وليست كلية، وهي وجهات النظر أو النظريات التي تهتم بها العلوم الجزئية: كالنقد الأدبي، وعلم الاجتماع الأدبي، أو تاريخ الأدب. أما في مجال الفلسفة (أعني هنا علم الجمال)، فإن السؤال الأساسي هنا يصبح سؤالًا كليًّا، كأن نتساءل عن طبيعة الأدب ذاته (أو حتى الشعر ذاته)، والفن ذاته، والحياة ذاتها، والوجود ذاته. وليس معنى ذلك أن السؤال الفلسفي مقطوع الصلة بالأسئلة الجزئية التي تطرحها العلوم الأخرى، بل هو يضع كل الظواهر الجزئية في اعتباره، ويستفيد منها في البرهنة على المبادئ العامة والتساؤلات التي يطرحها. ولذلك فإن السؤال الفلسفي هو سؤال عن المبدأ أو الأصل في أية ظاهرة مهما كانت ضئيلة أو جزئية أو محدودة؛ ولهذا السبب نفسه فإن البحث في أصول أي علم من العلوم يُسمى بحثًا فلسفيًّا، وهذا هو معنى مصطلح Ph.D. أي درجة الدكتوراه في الفلسفة التي يحصل عليها كل من يتبحر في أصول الظواهر الخاصة بأي علم من العلوم، وإن كان أغلب الحاصلين على هذه الدرجة في العلوم لا يتأملون دلالة هذا المسمَّى. الفلسفة إذن رؤية كلية مبرهن عليها من خلال طرائق البحث الفلسفي.

إضافةً إلى ذلك، لا بد من التأكيد على أنه ليس هناك تطابق في الرؤى بين أي فيلسوف وآخر، وإنما هناك تأثيرات لكبار الفلاسفة في الفلاسفة التالين عليهم، وإلا ما كانت هناك فلسفة ولا تفلسف؛ لأن كل رؤية فلسفية أصيلة تضيف شيئًا جديدًا إلى الفكر الفلسفي، ولو كان ضئيلًا. كذلك فإن المشتغل بالفلسفة من أمثالي لا يمكن يتخذ فلسفة فيلسوف ما كحقيقة نهائية، ولكنه يمكن أن يميل إلى منهج أو توجه معرفي ما في الفلسفة. وأنا شخصيًّا قد تعلمت من كثير من الفلسفات التي انصهرت بداخلي، وشكلت رؤيتي للعالم والحياة التي أودعتها في بعض كتاباتي الأساسية. موضوع انشغالي الأساسي هو فهم ماهية الظواهر أو الخبرات الإنسانية كما تتجلى لنا في عالم الحياة أو العالم المعيش، وهذا التوجه هو روح الفينومينولوجيا أو فلسفة الظاهرات.

أما إذا تساءلنا عن دور الفلسفة في التأثير على النظم السياسية، فيمكننا القول بأن الفلسفة لا تؤثِّر تأثيرًا مباشرًا على سياسات الدولة، وليس هناك فيلسوف بعينه في عصرنا الراهن يمكن أن يكون له مثل هذا التأثير الذي كان موجودًا في عصر القدماء وفي العصر الحديث؛ رغم أن أفلاطون قديمًا كان يحلم- في كتابه «الجمهورية»- بأن يكون الحكم للفلاسفة. ومع ذلك، فإن ما نتمناه هو أن يكون للفلسفة دور أساسي في الثقافة العامة وفي التعليم الجامعي، بل في تعليم الطلبة في سائر مراحل التعليم من أدناها إلى أعلاها، بما في ذلك الكليات التي تدرس العلوم الطبيعية والرياضية؛ لأن افتقار الطلبة للتعليم الفلسفي يعني الافتقار إلى التعليم الذي يدعم الجانب الروحي والثقافي، ويدعم بناء ملكاتهم العقلية والنقدية، بل يدعم أصول العلوم التي يدرسها الطلبة. فليس من المعقول على سبيل المثال ألا يدرس طالب الهندسة ما يتعلق بجماليات فن العمارة وفلسفاتها عبر العصور، وليس من المعقول ألا يدرس طالب الطب فلسفة الأخلاق وتحديدًا أخلاقيات الطب والبيولوجيا باستفاضة، وهكذا. وبذلك يمكن أن يكون للفلسفة تأثير غير مباشر من خلال تغيير وتعميق الوعي الذي يمكن أن يغير بدوره عالم الناس.

ومع ذلك، فإنه بسبب وضعنا الراهن في العالم الإسلامي؛ فإننا نحتاج إلى تعميم تيار التأويل في الفكر، وبخاصة التأويل العقلاني لدى ابن رشد على سبيل المثال، وتيار التأويل الصوفي لدى ابن العربي وأمثاله؛ لأن هذا من شأنه القضاء على فيروسات العقل والروح التي يمكن أن تدخل في تكوين الشباب، والتي هي منبع الإرهاب والتطرف الديني.

أما بخصوص الفلسفة العربية إجمالًا، فلا بد أن نتعلم احترام هذه الفلسفة؛ لا بمعنى أن نجتر هذه الفلسفة وأن نردد كل تعاليمها وآراء أصحابها، وإنما ننظر إليها باعتبارها كانت وليدة حضارة أنتجت الكثير من المعارف والعلوم؛ وبالتالي فإننا يجب أن نعلم النشء والطلبة الظروف والشروط الحضارية التي أنتجت الإبداع الفلسفي والعلمي والأدبي. ابن رشد كان وليد حضارة استفادت من الحضارة اليونانية والرومانية السابقة عليها، وعملت على ترجمة إبداعاتها في سائر المجالات، وكان ابن رشد نفسه هو أحد الكبار الذين أسهموا في نقل الإبداعات الفكرية لهذه الحضارة وشرحها، خاصة إبداعات أرسطو الفكرية. ولكن زوال هذه الظروف والشروط الحضارية هي التي أفضت في النهاية إلى حرق كتب ابن رشد وقيام أبي حيان التوحيدي بحرق كتبه، وما شابه ذلك؛ بعد أن كانت مكافأة ترجمة الكتاب تساوي قيمة وزنه ذهبًا في عصر الخليفة المأمون، وكل هذا كان نذيرًا بأفول الحضارة العربية. هذا هو الدرس العملي الذي ينبغي أن يتعلمه الطلبة؛ فلا يهم أن يتعلم هؤلاء كل ما قاله ابن رشد على سبيل المثال، وإنما يكفي أن يتعلم الأفكار الأساسية التي قال بها، ولماذا تم وأدها، ولماذا أدى ذلك إلى أفول الحضارة العربية التي كان ينتمي إليها أسلافهم، وهكذا.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: على سبیل المثال ابن رشد یمکن أن أن یکون

إقرأ أيضاً:

ما هي أخطر أنواع الأمراض النفسية؟.. وهل يمكن تجاوزها؟

الأمراض النفسية من القضايا الصحية الأكثر تعقيدًا في العصر الحديث، إذ لا تقتصر آثارها على الحالة المزاجية أو السلوك فحسب، بل تمتد لتؤثر في العلاقات الاجتماعية، والإنتاجية، وحتى الصحة الجسدية.

وبينما تختلف شدّة هذه الاضطرابات من شخص لآخر، فإن بعض الأنواع تصنف بأنها الأخطر  نظرًا لتأثيرها العميق على جودة الحياة وصعوبة علاجها.

الفصام.. اضطراب الإدراك والواقع

يصف الأطباء الفُصام بأنه من أكثر الاضطرابات النفسية تدميرًا، لأنه يمسّ جوهر إدراك الإنسان للواقع.

فالمريض يعاني من هلوسات وأوهام وفقدان للقدرة على التفرقة بين الحقيقة والخيال.


وفقًا لمنظمة الصحة العالمية، يُقدّر عدد المصابين بالفُصام عالميًا بنحو 23 مليون شخص، وغالبًا ما يؤدي تأخر العلاج إلى العزلة الاجتماعية أو فقدان العمل.

ورغم صعوبة المرض، إلا أن العلاج الدوائي المبكر والدعم النفسي والاجتماعي يمكن أن يساعد المريض على عيش حياة أكثر استقرارًا.

اضطراب ثنائي القطب.. بين الهوس والاكتئاب

يُعرف أيضًا باسم “الاضطراب الوجداني”، ويتأرجح فيه المريض بين نوبات من النشاط المفرط (الهوس) وأخرى من الحزن العميق (الاكتئاب).

ويصف الأطباء هذا الاضطراب بأنه من أكثر الحالات تحديًا في العلاج، لأن المريض قد لا يدرك خطورة حالته أثناء فترات الهوس، مما يعرضه لسلوكيات متهورة أو قرارات خطيرة.

ومع ذلك، فإن العلاج المنتظم بالأدوية المثبّتة للمزاج، إلى جانب المتابعة النفسية، يساعد المريض على السيطرة على حالته والعودة لحياة متوازنة.

اضطرابات الأكل.. خطر صامت على الجسد والعقل

من بين جميع الاضطرابات النفسية، تُعد الأنوركسيا نيرفوزا (فقدان الشهية العصبي) من أكثرها فتكًا، إذ ترتبط بمعدلات وفاة مرتفعة نتيجة سوء التغذية أو الانتحار.

المريض غالبًا ما يرى نفسه “بدينًا” رغم النحافة الشديدة، ويستمر في رفض الطعام خوفًا من زيادة الوزن.

ويشير موقع Verywell Mind إلى أن العلاج الفعّال لهذه الحالة يتطلب تعاون فريق طبي متكامل يضم اختصاصي تغذية، وطبيبًا نفسيًا، ومعالجًا سلوكيًا.

اضطراب الشخصية الحدية.. تقلبات حادة وصراع داخلي 

يعاني المصابون بهذا الاضطراب من خوف دائم من الهجر، ومشاعر متقلبة، وسلوكيات اندفاعية قد تصل إلى إيذاء الذات.
ويصفه الأطباء بأنه من أصعب الاضطرابات النفسية في العلاج، لكنه قابل للتحسّن من خلال برامج علاجية مثل العلاج السلوكي الجدلي (DBT) الذي يساعد المريض على فهم مشاعره والسيطرة عليها تدريجيًا.

هل يمكن تجاوز هذه الأمراض؟

يرى الخبراء أن تجاوز الأمراض النفسية لا يعني دائمًا “الشفاء التام”، بل التعافي المستمر عبر التكيّف، والعلاج، والدعم الاجتماعي.

ويؤكد تقرير لمنظمة الصحة العالمية أن معظم المرضى يمكنهم التمتع بحياة منتجة ومستقرة إذا تلقوا الرعاية النفسية المبكرة دون خوف من الوصمة المجتمعية.

فإن الأمراض النفسية الخطيرة ليست حكمًا نهائيًا على حياة الإنسان، لكنها تحدٍّ يمكن مواجهته بالعلاج الصحيح، والإرادة، والبيئة الداعمة.

فالوعي، والتقبّل، وطلب المساعدة المهنية، هي الخطوات الأولى نحو الشفاء

المصدر  Verywell Mind 

طباعة شارك الأمراض النفسية اخطر الامراض النفسية امراض النفسية الفصام

مقالات مشابهة

  • هيئة الأدب والنشر والترجمة تختتم مشاركة المملكة في معرض فرانكفورت الدولي للكتاب
  • تقرير بريطاني: هل يمكن لترامب نزع سلاح حماس فعلا.. وكيف؟
  • هيئة الأدب والنشر والترجمة تختتم مشاركة المملكة في معرض فرانكفورت الدولي للكتاب 2025
  • ما هي أخطر أنواع الأمراض النفسية؟.. وهل يمكن تجاوزها؟
  • معرض لأعمال الأديب عباس محمود العقاد بدار الكتب والوثائق
  • د. عادل القليعي يكتب: الفلسفة وقضايا العصر !
  • أمسية شعرية ساحرة تجمع جمهور الأدب في الأقصر مع الشاعر الكبير أحمد بخيت
  • مشكلة الشرّ... جرح الفلسفة المفتوح
  • رحيل الأديب المصري رؤوف مسعد بعد مسيرة حافلة بالإبداع والمغامرة الفكرية
  • مسؤول أممي: نطاق الدمار بغزة لا يمكن تصديقه