لجريدة عمان:
2025-01-19@22:00:55 GMT

الفلسفة والوعي

تاريخ النشر: 12th, December 2023 GMT

كل مَن هو شغوف بالفلسفة هو شخص مشغول بطبعه بالتساؤل عن معاني المواقف أو الأحداث ذات الدلالة العامة التي تصادفه في حياته، أكثر من انشغاله بأمور الحياة الجزئية التي تخصه وحده. وأظن أن هذا أمر مشترك في طبائع كل من تسودهم روح التفلسف والفن بوجه عام؛ ولهذا قال أرسطو: إن الفلسفة وليدة الدهشة.

غير أن الفلسفة ليست مجرد وجهات نظر كما يظن كثير من الناس، أعني أنه ليس كل رأي يمكن اعتباره رؤية فلسفية؛ لأن الرؤية الفلسفية لها سمات أساسية أهمها أنها رؤية كُليَّة، أي رؤية تتعلق بفهم المعاني والدلالات العامة التي تفسر لنا ظواهر الحياة والوجود.

وعلى سبيل المثال يمكن أن نتناول الأدب من وجهة نظر جزئية، أي الأدب الذي يخص أديبا معينا، أو الأدب في دولة أو أمة ما، أو في عصر ما، إلخ. ولكننا في كل هذه الحالات نتناول الأدب من وجهات نظر جزئية وليست كلية، وهي وجهات النظر أو النظريات التي تهتم بها العلوم الجزئية: كالنقد الأدبي، وعلم الاجتماع الأدبي، أو تاريخ الأدب. أما في مجال الفلسفة (أعني هنا علم الجمال)، فإن السؤال الأساسي هنا يصبح سؤالًا كليًّا، كأن نتساءل عن طبيعة الأدب ذاته (أو حتى الشعر ذاته)، والفن ذاته، والحياة ذاتها، والوجود ذاته. وليس معنى ذلك أن السؤال الفلسفي مقطوع الصلة بالأسئلة الجزئية التي تطرحها العلوم الأخرى، بل هو يضع كل الظواهر الجزئية في اعتباره، ويستفيد منها في البرهنة على المبادئ العامة والتساؤلات التي يطرحها. ولذلك فإن السؤال الفلسفي هو سؤال عن المبدأ أو الأصل في أية ظاهرة مهما كانت ضئيلة أو جزئية أو محدودة؛ ولهذا السبب نفسه فإن البحث في أصول أي علم من العلوم يُسمى بحثًا فلسفيًّا، وهذا هو معنى مصطلح Ph.D. أي درجة الدكتوراه في الفلسفة التي يحصل عليها كل من يتبحر في أصول الظواهر الخاصة بأي علم من العلوم، وإن كان أغلب الحاصلين على هذه الدرجة في العلوم لا يتأملون دلالة هذا المسمَّى. الفلسفة إذن رؤية كلية مبرهن عليها من خلال طرائق البحث الفلسفي.

إضافةً إلى ذلك، لا بد من التأكيد على أنه ليس هناك تطابق في الرؤى بين أي فيلسوف وآخر، وإنما هناك تأثيرات لكبار الفلاسفة في الفلاسفة التالين عليهم، وإلا ما كانت هناك فلسفة ولا تفلسف؛ لأن كل رؤية فلسفية أصيلة تضيف شيئًا جديدًا إلى الفكر الفلسفي، ولو كان ضئيلًا. كذلك فإن المشتغل بالفلسفة من أمثالي لا يمكن يتخذ فلسفة فيلسوف ما كحقيقة نهائية، ولكنه يمكن أن يميل إلى منهج أو توجه معرفي ما في الفلسفة. وأنا شخصيًّا قد تعلمت من كثير من الفلسفات التي انصهرت بداخلي، وشكلت رؤيتي للعالم والحياة التي أودعتها في بعض كتاباتي الأساسية. موضوع انشغالي الأساسي هو فهم ماهية الظواهر أو الخبرات الإنسانية كما تتجلى لنا في عالم الحياة أو العالم المعيش، وهذا التوجه هو روح الفينومينولوجيا أو فلسفة الظاهرات.

أما إذا تساءلنا عن دور الفلسفة في التأثير على النظم السياسية، فيمكننا القول بأن الفلسفة لا تؤثِّر تأثيرًا مباشرًا على سياسات الدولة، وليس هناك فيلسوف بعينه في عصرنا الراهن يمكن أن يكون له مثل هذا التأثير الذي كان موجودًا في عصر القدماء وفي العصر الحديث؛ رغم أن أفلاطون قديمًا كان يحلم- في كتابه «الجمهورية»- بأن يكون الحكم للفلاسفة. ومع ذلك، فإن ما نتمناه هو أن يكون للفلسفة دور أساسي في الثقافة العامة وفي التعليم الجامعي، بل في تعليم الطلبة في سائر مراحل التعليم من أدناها إلى أعلاها، بما في ذلك الكليات التي تدرس العلوم الطبيعية والرياضية؛ لأن افتقار الطلبة للتعليم الفلسفي يعني الافتقار إلى التعليم الذي يدعم الجانب الروحي والثقافي، ويدعم بناء ملكاتهم العقلية والنقدية، بل يدعم أصول العلوم التي يدرسها الطلبة. فليس من المعقول على سبيل المثال ألا يدرس طالب الهندسة ما يتعلق بجماليات فن العمارة وفلسفاتها عبر العصور، وليس من المعقول ألا يدرس طالب الطب فلسفة الأخلاق وتحديدًا أخلاقيات الطب والبيولوجيا باستفاضة، وهكذا. وبذلك يمكن أن يكون للفلسفة تأثير غير مباشر من خلال تغيير وتعميق الوعي الذي يمكن أن يغير بدوره عالم الناس.

ومع ذلك، فإنه بسبب وضعنا الراهن في العالم الإسلامي؛ فإننا نحتاج إلى تعميم تيار التأويل في الفكر، وبخاصة التأويل العقلاني لدى ابن رشد على سبيل المثال، وتيار التأويل الصوفي لدى ابن العربي وأمثاله؛ لأن هذا من شأنه القضاء على فيروسات العقل والروح التي يمكن أن تدخل في تكوين الشباب، والتي هي منبع الإرهاب والتطرف الديني.

أما بخصوص الفلسفة العربية إجمالًا، فلا بد أن نتعلم احترام هذه الفلسفة؛ لا بمعنى أن نجتر هذه الفلسفة وأن نردد كل تعاليمها وآراء أصحابها، وإنما ننظر إليها باعتبارها كانت وليدة حضارة أنتجت الكثير من المعارف والعلوم؛ وبالتالي فإننا يجب أن نعلم النشء والطلبة الظروف والشروط الحضارية التي أنتجت الإبداع الفلسفي والعلمي والأدبي. ابن رشد كان وليد حضارة استفادت من الحضارة اليونانية والرومانية السابقة عليها، وعملت على ترجمة إبداعاتها في سائر المجالات، وكان ابن رشد نفسه هو أحد الكبار الذين أسهموا في نقل الإبداعات الفكرية لهذه الحضارة وشرحها، خاصة إبداعات أرسطو الفكرية. ولكن زوال هذه الظروف والشروط الحضارية هي التي أفضت في النهاية إلى حرق كتب ابن رشد وقيام أبي حيان التوحيدي بحرق كتبه، وما شابه ذلك؛ بعد أن كانت مكافأة ترجمة الكتاب تساوي قيمة وزنه ذهبًا في عصر الخليفة المأمون، وكل هذا كان نذيرًا بأفول الحضارة العربية. هذا هو الدرس العملي الذي ينبغي أن يتعلمه الطلبة؛ فلا يهم أن يتعلم هؤلاء كل ما قاله ابن رشد على سبيل المثال، وإنما يكفي أن يتعلم الأفكار الأساسية التي قال بها، ولماذا تم وأدها، ولماذا أدى ذلك إلى أفول الحضارة العربية التي كان ينتمي إليها أسلافهم، وهكذا.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: على سبیل المثال ابن رشد یمکن أن أن یکون

إقرأ أيضاً:

بدور القاسمي تفتتح النسخة الأولى من “مهرجان الشارقة للآداب”

 

افتتحت الشيخة بدور بنت سلطان القاسمي رئيسة مجلس إدارة هيئة الشارقة للكتاب الرئيسة الفخرية لجمعية الناشرين الإماراتيين مساء أمس النسخة الأولى من “مهرجان الشارقة للآداب” الذي يُقام برعاية صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة تحت شعار “حكايات الإمارات تُلهم المستقبل” بهدف تسليط الضوء على الإبداع الأدبي الإماراتي وتعزيز مكانة الإمارات مركزاً حيوياً للأدب والثقافة.
ويوفر المهرجان عبر تسعة محاور رئيسية تُغطي مختلف جوانب الأدب والثقافة والفعاليات المتنوعة منصة ثقافية جديدة لتبادل الرؤى والأفكار بين أقطاب الأدب والثقافة المحليين وفرصةً مهمة لدعم الناشرين الإماراتيين وتعزيز قطاع النشر في الدولة.
وأعربت الشيخة بدور القاسمي عن فخرها بانطلاق هذا المحفل الثقافي الجديد في الشارقة حاضنة الثقافة والأدب والإبداع مشيرة إلى أن مهرجان الشارقة للآداب يمثل احتفالاً بقصصنا المشتركة ومنصة لرعاية الإبداع الإماراتي ومن خلال ربط الماضي بالحاضر يعزز هذا المهرجان القوة التحويلية للأدب لإلهام التقدم والحوار الثقافي حيث سيتردد صدى هذه القصص ليس فقط داخل دولة الإمارات ولكن أيضاً في جميع أنحاء العالم ما يبني جسوراً من التفاهم والخيال.
وأكد سعادة راشد الكوس المدير التنفيذي لجمعية الناشرين الإماراتيين في تصريح خاص لوكالة أنباء الإمارات “وام” أن مهرجان الشارقة للآداب يمثل فرصة جديدة للاحتفاء بالأدب الإماراتي وإبراز جهود الناشرين المحليين في إغناء المشهد الثقافي في دولة الإمارات.
وقال إنه بالتعاون مع هيئة الشارقة للكتاب ودعم شريكنا الإستراتيجي المدينة الجامعية في الشارقة نسعى عبر هذا المهرجان إلى ترسيخ مكانة الإمارات كمركز ريادي للثقافة والأدب من خلال الاحتفاء بثرواتنا الأدبية التي تعكس أصالة ثقافتنا المحلية وإبراز الإمكانيات الواعدة التي يمتلكها الأدب الإماراتي ليصل إلى العالمية.
ونوّه إلى أن جمعية الناشرين الإماراتيين تؤمن بأن الأدب هو قوة ناعمة تسهم في تغيير المجتمعات نحو الأفضل ومن خلال برنامج غني بالجلسات الحوارية ومعرض الكتاب والفعاليات الموسيقية وورش العمل الملهمة التي تحتفي بروح الإبداع تفتح الجمعية آفاقاً جديدة أمام الأجيال الفتيّة ليعيشوا تجارب إبداعية تلهمهم لصناعة المستقبل.
وقالت الناشرة الإماراتية أميرة بوكدرة نائبة رئيس جمعية الناشرين الإماراتيين في تصريح لـ”وام” إن المهرجان يمنح الجمهور فرصة للإطلاع على الأدب الإماراتي وكذلك للجاليات المقيمة على أرض الدولة للتعرف على الثقافة والتراث الإماراتي بشكل أوسع ما يفتح الأبواب أمام فرص الترجمة والمشاركة في المعارض العالمية المتخصصة.
وتضمنت فعاليات حفل افتتاح المهرجان مزيجاً من الفنون البصرية والموسيقية التي تحتفي بجمال الكلمات والثقافة قدّمها الفنان والخطاط التشكيلي الإماراتي عبد الله الأستاذ من خلال عرض فني حي على المسرح لفنون الخط العربي صاحبه سرد شعري للشاعر زجزاج غانم الذي ألقى أبياتاً من الشعر العربي التي تعبر عن جمال الفن والكلمات.
ويستمر المهرجان حتى 21 يناير الجاري بمجموعة مختارة من الفعاليات الأدبية والثقافية والترفيهية المستَلهمة من شعار المهرجان أبرزها معرض الكتاب الذي يستمر على مدار الأيام الخمسة للحدث بمشاركة 41 ناشراً إماراتياً يقدمون لمحبّي القراءة أحدث إصداراتهم من الإبداعات الأدبية الإماراتية.
كما تأخذ الفعاليات جمهور المهرجان في رحلة يستكشفون عبرها حكايات الماضي والحاضر من خلال جلسات وحوارات غنية ويحلّقون في فضاءات الشعر المحلي والألحان الإماراتية حيث ينتظرهم 20 برنامجاً ثقافياً و8 ورش عمل إلى جانب 5 عروض موسيقية يومياً و5 متاجر للتسوق.


مقالات مشابهة

  • إدغار آلان بو.. سيد الغموض أسرار وفاته حيرت العالم ما القصة؟
  • الهيئة السعودية المحامين تعلن بدء سريان اللائحة التنفيذية الجديدة لنظام المحاماة
  • شريك هيئة الأدب بتبوك يستعرض تاريخ الرواية في الأدب الإنجليزي
  • سيرة الفلسفة الوضعية (4)
  • اليوم.. «ذاكرة وطن» يحتفل بذكرى ميلاد يحيى حقي ببيت السحيمي
  • عن الترجمة والفلسفة والإبداع في «تاريخ الفكر»
  • بدور القاسمي تفتتح النسخة الأولى من “مهرجان الشارقة للآداب”
  • انجلز والدفاع عن فلسفة هيجل
  • ثقافة الإسماعيلية تحتفي بالشاعر مازن المصري
  • المظاهر السلوكية والفكرية للشخصية الحضارية النوبية: دراسة فى الفلسفة الشعبية النوبية