التأثيرات الجانبية للحرب على غزة
تاريخ النشر: 12th, December 2023 GMT
((هل يمكننا بعد أن تتحرر فلسطين أن نحرر أمريكا...)) جاء التعليق من أحد مواطني الولايات المتحدة الأمريكية في مقطع مصور نشره عبر منصة انستجرام وكان يعبّر كالعديدين غيره عن حالة الذهول التي أصابتهم وهم يستشعرون قدر الاستغفال الذي مورس عليهم وإحساسهم بأنهم ليسوا فعلًا أحرارًا ولا وزنًا حقيقيًا لأصواتهم وأن كل مناحي الحياة وأهم مفاصلها يسيطر عليه من قبل مجموعات ترعى مصالحها وقضاياها وليس من قبل الأغلبية مثلما كانوا يتوهمون.
دار الحديث كثيرا عن مدى توغل القوى الصهيونية ومن يواليها في قطاعات الاقتصاد والسياسة ولكن ما تم نشره مؤخرا في استجواب عضوة في الكونجرس الأمريكي بذلك الأسلوب الشرس والمتنمر لرئيسات ثلاث جامعات أمريكية من أعرق الجامعات على مستوى العالم يلفت الانتباه إلى تسلط الخطاب الصهيوني على النتاج الثقافي والعلمي والأكاديمي. عقب الاجتماع اضطرت رئيسة جامعة بنسلفانيا إلى نشر مقطع مصور على منصة إكس تتراجع فيه عما قالت وتحاول توضيح معنى إجابتها عن سؤال موجه إليها بشأن معاداة اليهود بل أدانت نفسها واصفة سلوكها بأنها باختصار وبساطة إنسانة شريرة. قدمت استقالتها بعد موجة من الانتقادات وسحب بعض الممولين النافذين أموالهم الممنوحة للجامعة. كما فعلت رئيسة جامعة هارفارد مجبرة إثر مطالبة 47 عضوا في الكونجرس الأمريكي بذلك.العجيب أن الجامعات تتعرض للاستجواب والتحقيق لأنها سمحت للمؤيدين للقضية الفلسطينية بالتعبير عن آرائهم وتوجيه إدانات لإسرائيل (الإدانة التي تعتبر معاداة لليهود جميعًا ودعوة لإبادتهم وفق ما يحاول الصهاينة تصويره دائما) الإدانة التي لم تتعد رفع شعارات والتعبير عن الرأي حول ممارسات إسرائيل التي يفترض أنها مكفولة وفق الدستور الأمريكي. لم يتم تحوير الشعارات المرفوعة التي سمحت بها الجامعات فقط بل إنهاء المسيرة العملية للأكاديميات في رئاسة هذه الجامعات وجعلهن مثالا. في حين أننا لا نجد مواقف مشابهة في التحقيق والاستجواب فيما يخص المسلمين، رغم أن جرائم الكراهية التي وقعت إلى الآن في الولايات المتحدة الأمريكية بعد السابع من أكتوبر كانت أغلبها إن لم تكن كلها ضد المسلمين والعرب.
منذ بداية إنشاء دولة الاحتلال إسرائيل وهي تسعى للاستفادة من العلم والمعرفة لتقويتها، فكان إنشاء الشعبة العلمية في منظمة الهاغناه عام 1948 واحدة من المراكز البحثية التي تخدم التصنيع العسكري وكذلك إنشاء مراكز بحثية تهتم بالعلوم الإنسانية تحت إمرة وتوجيهات الجيش.
في فترات لاحقة قدمت إسرائيل نفسها للعالم بأنها رائدة في بعض مجالات التقانة والتكنولوجيا والأمن السيبراني. وخارج إسرائيل خصوصا في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية قد حرصت عبر جماعات الضغط الصهيوني ورجال الأعمال الممولين للمراكز البحثية على إحكام قبضتها على الجامعات.
تغلغل الرواية الصهيونية في ما ينتج ثقافيا قديم ومقصود فهي لن تسمح أن يخرج من بين أعرق الجامعات الغربية مفكر ينتصر لقضايا العرب والمسلمين وينتقد ممارساتها، خصوصًا أن هناك عددا من الباحثين والأكاديميين العرب والغربيين بدأت كتبهم وبحوثهم ومحاضراتهم في هذا السياق تلاقي انتشارًا وقبولًا، وجماعات الضغط الصهيوني تحاول محاصرتهم مثل ما حدث مع الأكاديمي ديفيد ميلر في جامعة بريستول البريطانية في عام 2021 الذي تم فصله من الجامعة بسبب بحوثه وآرائه الناقدة لدولة الاحتلال وغيره من الحالات التي لم توثق جميعها. حيث يواجه الأكاديميون وفق العديد من الروايات المنشورة صحفيًا تضييقًا وتنمرًا خصوصًا في الجامعات العريقة والرفيعة.
يفعل اللوبي الصهيوني ذلك لأنه يعلم مدى خطورة مثل هذا التأثير للنتاج المعرفي الكاشف والناقد إن اتسع نطاقه ويعلم خطورة وأهمية الفئة التي تعيش في محيط الجامعات وتتأثر بما يدور فيها من أفكار: الشباب. النخب. المثقفون.
وقد حاولت إسرائيل تطويع النتاج العلمي الذي يتمتع بالمصداقية ليعطي الشرعية والمبررات والأدلة المثبتة لحقها في الوجود، ويدعم رواياتها وتوجهاتها.
كان واحدا من أهم أهدافها بالإضافة للترويج للصهيونية وحمايتها (لاصقة إياها باليهود المظلومين المحبوبين الأذكياء) تشويه مبادئ العالم الإسلامي وعاداته وطريقة حياته والسعي لجعل العالم شكلًا ممسوخًا وإلصاق صيغ الراديكالية والتخلف بالعقل العربي المسلم والدعوة إلى تحريره منها كما يدعي في كثير من الخطابات في محاولة مقنعة لإضعاف قيمه وأسسه. وفي معركة غزة خسرت الصهيونية هذه الحرب تحديدا. خسرت بأثر رجعي. يمتد بعيدا وكأنها بنت بنيانا من أحجار الدومينو بدأت بالتساقط.
لم تنته الحرب بعد، ومن الواضح أنه على المستوى الاستراتيجي سياسيا فإن الغلبة لما يجاوز الـ20 ألف شهيد سقطوا وسحبوا وهم يذهبون إلى الجنة غطاء ثقيلا من على أعين البشرية.
تعترف إسرائيل بالهزيمة إعلاميا بشكل مباشر عبر التقارير التي تبثها الصحف والتحليلات التي تقوم بها بعض المؤسسات والتي تبدو مؤشراتها واضحة للعيان.. ثمة ميل شعبي عالمي للفلسطينيين وأن إسرائيل بدأت تحرج نفسها وأعوانها. وأن كذبهم ودفاعهم القائم على التضليل وفبركة الحقائق صار ممجوجا، وكذلك تباكي اليهود الإسرائيليين وكل الصهاينة معهم بما حدث على يد النازية وما قبلها من أحداث غابرة، وتصوير أنفسهم بدور الضحية واستخدام هذا الاستعطاف ذريعة لارتكاب جرائمهم، وتمرير أجنداتهم أصبح ثقيلًا جدًا ليس بالنسبة للمسلمين فقط بل في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية ذاتها الحاضن الأول لمشروعهم.
إسرائيل تتخبط. ليس أدل على ذلك من حالة التشتت والتباين والتناقض في تصريحات سياسييها وأدائها الإعلامي. على نقيض الخطاب القوي الموحد المحدد المندفع الذي كان في بداية الحرب. من الواضح أن حساباتها تغيرت ولم يعد الموقف بذات الثبات ولا تبدو أن هناك رؤية واضحة لديها للكيفية التي يمكن أن تنهي بها هذه الحرب. أو اتفاق حقيقي حول كيف سيكون الوضع لاحقا. وتبدو أنها تواجه اهتزازات داخلية وخسارات سياسية (شعبية) موجعة، وليس أقل منها أبدا خسارتها أمام صمود المقاومة وشعب غزة في وجه هذا الهجوم الحانق القلق بشكل أحرجها فلا انتصارات عسكرية حقيقية تزن هذا الحشد والعدة والعتاد والوقت مقابل كتائب عزل، كتائب محاصرة لعقود. آخر محاولاتها رديئة التنفيذ والفاشلة هي في تشويه صورة المقاتلين الأبطال وادعاء انهزامهم ووجود الفرقة بين المقاومة وغزة. بلغت بهم الحماقة تقليد أهل غزة في الرفق بالحيوانات..سلتهم فارغة تماما.
وعشرون ألف شهيد وأكثر حتى الآن سيحررون العالم كله وليس غزة وحدها مهما طالت هذه الحرب وأيا كانت نتائجها في المدى المنظور.
الحقيقة التي تيقظ لها العديدون، أننا جميعا تحت الاحتلال. حين لا يتمكن كل هؤلاء البشر بأعدادهم الهائلة من وقف هذه المجزرة والدفاع عن هؤلاء الأطفال والمدنيين لأنهم باختصار هم أنفسهم لا يملكون ذاك الحق تجعل من هذه الشعوب تعيد حساباتها وكان الرجل الأشقر الأغبر على منصة انستجرام على حق. وأن الدول والمنظمات وعلى رأسها منظمة الأمم المتحدة واهية وهي ألعوبة في يد المتنفذين. ولم تكن يوما مفضوحة ومكشوف عجزها مثلما هي عليه اليوم.
لذا حين يسأل الشباب أنفسهم هنا في العالم العربي أو يسأل مواطنو الولايات المتحدة الأمريكية هناك كيف أنهم عاجزون عن إيصال المساعدات للمدنيين الأبرياء وكيف يشهدون مباشرة بالصوت والصورة جريمة إبادة جماعية ولا يستطيعون فعل شيء إزاء ذلك أصبحوا يعرفون الإجابة.
يتردد كثيرا أن المعركة الحالية هي معركة وعي. الوعي هنا أصبح أكبر بكثير من الوعي بالقضية الفلسطينية وحقيقة الاحتلال الإسرائيلي وتسلط المحتل لأكثر من سبعين عاما على الأطفال والنساء. وجرائمه في أسر القصّر والأبرياء. الوعي يتعدى معرفة ما جرى حقيقة يوم السابع من أكتوبر وما قبله وما بعده، سواء ذلك المشهود على ساحة الحرب في مدينة كاملة أو ذلك الغائب الذي يتعدى الحواجز الموجودة على حدودها ويتعدى التاريخ الذي نعيشه للمؤامرات والتحضيرات لهذا الكيان والأنظمة الاستعمارية الداعمة له بأيديولوجياتها البغيضة منذ القرن التاسع عشر.
غزة تعطي درسا في السياسة والتاريخ وتعيد تشكيل الجغرافيا. لأن الشعوب العربية شعرت بضعفها مثلما لم تشعر من قبل وهي تعلم جيدًا أن حالة العجز هذه ناتجة عن ضعفها في الداخل لأنها لم تستطع أن تبني دولا قوية بما يكفي ومستقلة بما يكفي وديمقراطية بما يكفي وأنها من أقصى البحر لأقصى البحر ومن جنوبها الموجوع في القارة الإفريقية قارة الغنى والجوع لشمالها الذي جاور طويلا حضارات صديقة وعدوة لا تشترك فقط في الوجع على غزة وإنما تشترك في أسباب العجز، وأنها باختلاف النسب مهمومة بالديون والأمن الغذائي والمائي بعيد المنال وبالاقتصاد والسياسة التي لا قول لها فيهما.
هذه المراجعات التي يعيشها هذا الجيل وهو يشارك في المعركة من على بعد تتلاقى مع مثيله في أوروبا والولايات المتحدة وإن كانت تدور حول مفاهيم أخرى لكنها ترتكز إلى الأساس ذاته. غزة في الجامعات وغزة في الاقتصاد وغزة في الإعلام وغزة في الانتخابات الأمريكية تكشف نقابًا إثر الآخر قصدًا وصدفة. هذا المفعول الجانبي الذي لم يحسب له حساب -عميق جدا وكبير جدا بعدد المدنيين الذين سقطوا كخسارات هامشية (أضرار جانبية) لا بد منها وفق مفهوم إسرائيل وداعميها- لن نجد أثره في يوم وليلة لكنه سيكون. من يعيشون مع ما يحدث بمشاعرهم وفي عمق تفكيرهم هم غالبا بين أطفال وشباب هؤلاء بين السادسة وحتى مشارف الأربعين توقع أنه من بينهم من سيأتي بذلك التغيير. أولا لأنهم أعداد هائلة ومن بينهم لا بد من سيملك الكاريزما والقوة والذكاء والجرأة ليقوموا بتغيير جذري بطرق حاسمة لم يفلح الجيل الذي سبقهم بإتمامها. هي مهمتهم وواضح أنهم على قدر هذه المهمة لديهم الأدوات وهم قادمون.
ثانيا: أحداث غزة ليست مفصولة عن سلسلة من الأحداث التاريخية والتقلبات التي شهدها العالم العربي وتلك التي تحدث هناك في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية. وهناك دائما على مر التاريخ حدث مفصلي يشكل نقطة التحول وأحيانا يكون الأقل توقعا في التأثير، وهذا الأمر سيأخذ وقته حتما في فعل التغيير ذاته وفي محاولات التغلب والنصر. لكن حالة الوعي قد حدثت. غزة مقبرة الأعداء. مقبرة أكاذيبهم ومقبرة الخونة ومقبرة الأنظمة الظالمة. حالة التحرر في المعارك القادمة لن تخص غزة وحدها.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: المتحدة الأمریکیة غزة فی
إقرأ أيضاً:
الدب الأمريكي الذي قد يقتل صاحبه!
يتحدث التراث الإنساني عن «الدبة التي قتلت صاحبها»، و«الرواية التي قتلت صاحبها»، و«القصيدة التي قتلت صاحبها»، وكلها تعبيرات تؤكد أن الغباء يقود أحيانًا صاحبه المغرور إلى اتخاذ قرارات متهورة تؤدي إلى إلحاق الأذى به، وبمن يحبه ويدافع عنه، وقد يصل الأمر إلى حد القضاء عليه.
الآن يمكن أن نسحب هذه الأمثال والعبارات على الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الذي وعد عند أداء اليمين الدستورية أمام الكونجرس بإعادة أمريكا -التي يحبها بالتأكيد- عظيمة مجددًا، ثم ما لبث أن أصدر سلسلة من الأوامر التنفيذية التي يؤكد مراقبون كثر أنها قد تؤدى في النهاية إلى تفكك الولايات المتحدة وغروب شمس الإمبراطورية الأمريكية.
من الوعود الكثيرة التي قطعها ترامب على نفسه، وتهمنا في هذا المقال، وعده بأن يجعل بلاده «عاصمة العالم» للذكاء الاصطناعي. ثم سرعان ما تحول إلى دب هائج ضرب هذه الصناعة في مقتل ومنح منافسيه من دول العالم الأخرى خاصة الصين فرصة للتفوق عليه، عندما رفع بشكل تعسفي، يبدو غير مدروس، التعريفات الجمركية على كل دول العالم تقريبا.
الأمر المؤكد بعد أن بدأ ترامب حربه التجارية مع العالم، أن هذه الحرب ستكون الولايات المتحدة أكثر المتضررين منها، خاصة على صعيد صناعة الذكاء الاصطناعي التي سيكون عليها من الآن فصاعدًا مواجهة منافسة شرسة مع مثيلتها في الصين ودول أخرى. والسؤال الذي يطرح نفسه حاليا على كل المهتمين بتطوير برامج الذكاء الاصطناعي هو: كيف ستؤثر التعريفات الجمركية «الترامبية» على هذه البرامج التي ما زالت في طور الحضانة التكنولوجية، إذا أخذنا في الاعتبار أنها بدأت في الظهور منذ 3 أعوام فقط وتحديدا في عام 2022 عندما أطلقت شركة «اوبن آي» برنامج «شات جي بي تي» الذي فتح الباب أمام منافسين كثر في جميع أنحاء العالم لتطوير برامج الذكاء الاصطناعي التوليدي التي حققت زيادة هائلة في الانتشار والاستخدام العالمي من جانب الشركات والمستخدمين الأفراد. وهنا تشير التقديرات إلى أن عدد مستخدمي أدوات الذكاء الاصطناعي حول العالم قد تجاوز 314 مليون مستخدم في عام 2024، ومن المتوقع أن يصل إلى حوالي 378 مليون مستخدم هذا العام. وحسب أحدث التقارير، تجاوز عدد مستخدمي تطبيقات شات جي بي تي النشطين أسبوعيًا 400 مليون مستخدم في فبراير الماضي.
ورغم تراجع ترامب المفاجئ كالعادة وإصداره أمرًا جديدًا الأسبوع الماضي بإلغاء الرسوم الجمركية التي كان قد فرضها على أجهزة الكمبيوتر المحمولة، والهواتف الذكية، وشاشات العرض المسطحة، ومحركات الأقراص، وأشباه الموصلات القوية المعروفة باسم وحدات معالجة الرسومات، والتي تعد من العناصر الضرورية لمشروعات الذكاء الاصطناعي، ورغم ترحيب شركات التكنولوجيا الأمريكية الكبرى، مثل آبل وديل، بهذا القرار؛ نظرًا لاعتمادها الكبير على المكونات المستوردة من الصين ودول أخرى، فإن قرارات ترامب التي عرفت بقرارات يوم الجمعة تم التراجع عنها بعد يوم واحد، بإعلان وزير التجارة «هوارد لوتنيك» أمس الأول «أن الرسوم الأمريكية على رقائق أشباه الموصلات والهواتف الذكية وأجهزة الكمبيوتر المحمولة، والتي أعفاها البيت الأبيض في وقت متأخر من يوم الجمعة، ما زالت قيد التنفيذ، وسيتم تحديدها في غضون شهر أو شهرين».
يتجاهل ترامب وإدارته الجمهورية حقيقة قد تعصف بصناعة الذكاء الاصطناعي في الولايات المتحدة، وهي أن الرسوم الجمركية الجديدة ستؤدي دون شك إلى زيادة كلفة إنشاء مراكز البيانات والمعلومات التي تشكل حجر الزاوية في تطوير ونشر برامج الذكاء الاصطناعي، وذلك بسبب أن المواد المطلوبة لتأسيس هذه المراكز مثل مواد البناء ومولدات الطاقة الاحتياطية ومعدات تبريد الخوادم الضخمة ما زالت تخضع للرسوم التي فرضها ترامب على الواردات الصينية.
من التناقضات الملفتة للنظر في سياسة ترامب نحو الذكاء الاصطناعي أنها تريد أن تحافظ على مكانة الولايات المتحدة «كعاصمة للذكاء الاصطناعي في العالم». ووفقًا لأقوال ترامب، فإن «على الولايات المتحدة أن تبقى في الصدارة للحفاظ على اقتصادها وأمنها القومي»، في الوقت نفسه سارع ترامب فور توليه منصبه إلى تقليص قواعد الذكاء الاصطناعي التي كان قد أصدرها الرئيس السابق جو بايدن، بأمر تنفيذي في أكتوبر 2023 لتنظيم مجال الذكاء الاصطناعي، وتحقيق التوازن بين الابتكار وحماية الأمن القومي ومصالح المستهلكين، وضمان استخدام مسؤول للتكنولوجيا مع حماية الحقوق المدنية ومنع إساءة الاستخدام، مثل الاستخدامات التي قد تنتهك الحقوق الدستورية أو تسهم في نشر الأسلحة النووية. وقد ألزم هذا الأمر الشركات العاملة في تطوير أنظمة الذكاء الاصطناعي المتقدمة بالتعاون مع الحكومة الفيدرالية، خاصةً عند تطوير تقنيات قد تشكل تهديدًا للأمن القومي أو الصحة العامة أو الاقتصاد. وتضمن هذا الأمر تقديم نتائج اختبارات الأمان وتفاصيل حول آليات تطبيقها، بالإضافة إلى توجيه الوكالات الفيدرالية لوضع معايير تنظيمية للمخاطر المرتبطة بهذه التقنيات.
جاء ترامب وألغى في فبراير الماضي بجرة قلم كل ذلك بزعم أن الخطوات التنظيمية التي وضعتها إدارة بايدن تعيق تطور تقنيات الذكاء الاصطناعي وتضع عوائق أمام الشركات الأمريكية، وتجعلها في موقع تنافسي ضعيف مقارنةً بالدول الأخرى، ليعود بنفسه إلى سياسة وضع عوائق أشد.
من الواضح أن الرسوم الجمركية الصارمة التي فرضها ترامب على الصين، التي بلغت حتى الآن 145%، قد تصب في صالح الصين، وتضعف صناعة الذكاء الاصطناعي في الولايات المتحدة، وتساعد التنين الصيني في نهاية المطاف على منافسة الولايات المتحدة في مجال الذكاء الاصطناعي، خاصة وأن الصين تعد موردًا رئيسيًا لمكونات مراكز البيانات، التي لم يلغ ترامب الرسوم المفروضة عليها.
لقد استبق ترامب الأحداث وتدخل بعنف في مسيرة صناعة وليدة ما زالت في بداياتها، ولم تُحقق بعد أرباحًا كبيرة. صحيح أن شركات التقنية العملاقة ضخت استثمارات مليارية في برامج طويلة المدى لتطوير وتشغيل نماذج الذكاء الاصطناعي وبناء مراكز البيانات في جميع أنحاء الولايات المتحدة، ولكنها تبقى استثمارات بدون عوائد سريعة. ويكفي أن نشير هنا إلى أن «جوجل» أعلنت عن خطط لاستثمار 75 مليار دولار، وأعلنت شركة «مايكروسوفت» عزمها إنفاق 80 مليار دولار هذا العام، بالإضافة الى إعلان شركة «اوبن آي» و«شركة أوراكل»، استثمار ما يصل إلى 500 مليار دولار، في بناء مراكز بيانات الذكاء الاصطناعي خلال فترة ولاية ترامب. هذه الأموال الطائلة والاستثمارات الهائلة تحتاج إلى تبني سياسة الانفتاح على العالم وليس سياسة ترامب التي تغلق الباب أمام الشركات الأمريكية للحصول على ما تريده من العالم، ويتحول ترامب الى دب يقتل صناعة الذكاء الاصطناعي. إذا أردت أن تصبح بلادك عظيمة مرة أخرى يجب أن تحترم العالم المحيط بك أولا، وألا تشن حروبا من المؤكد أنك سوف تخسرها في مواجهة الجميع، وإذا أردت أن تطاع، يا عزيزي ترامب، فإن عليك كما يقول العرب «أن تأمر بالمستطاع».