جريدة الرؤية العمانية:
2025-04-27@05:16:37 GMT

محطات لندنية (1)

تاريخ النشر: 12th, December 2023 GMT

محطات لندنية (1)

 

د. سعيد بن سليمان العيسائي

كاتب وأكاديمي

كانت زيارة بريطانيا وتحديدًا لندن، حُلمًا تأخر كثيرًا لسنواتٍ طويلة لأسبابٍ منها أن الظروفُ لم تكن مواتيةً للقيام بهذه الرحلة.

بدأ هذا الحُلم من أواخرِ السبعينياتِ من القرنِ الماضي عندما توفرت ظروفٌ عديدةٌ جعلتني أحلمُ بزيارةِ بريطانيا ذاتَ يومٍ، منها وجود أساتذة لغة إنجليزية بريطانيين من آيرلندا وأسكتلندا في المرحلة الإعدادية بمدرسة أحمد بن سعيد الإعدادية بصحار الذين افتتحوا مكتبة خاصة لمادة اللغة الإنجليزية بالمدرسة بالتعاون مع دائرة اللغة الإنجليزية بالوزارة، التي كانت ناشطةً في هذا المجال في مدارس نموذجية في بعضِ المُدن العُمانية الكبيرةُ من خلال تزويدها بمعلمينَ بريطانيينَ "Native speakers"، وافتتاح مكتبة خاصة، فأتيحت لي الفرصة لإرواء ظمئي من الكتب العربية والإنجليزية.

ومن هذه الظروف أنني عملت في بقالة الوالد أمام مستشفى صحار المركزي الذي كان يرتاده الكثير من الأجانب والبريطانيين بصفة خاصة رجالًا ونساء والذين كنت أتحدث معهم باللغة الإنجليزية وأرافق بعضهم في جولاتهم بصحار.

كان مُعظم هؤلاء ممن يعملون بالأجهزة العسكرية والأمنية، وجهاز الشرطة، وبعض الشركات الكبرى في مسقط، وكانوا يجعلون من صحار وجهة سياحية في الإجازة الأسبوعية.

وأذكر أنَّ عددًا من الممرضين الذين كانوا يعملون بمستشفى صحار المركزي في السبعينيات من القرنِ الماضي كانوا من الولايات المتحدة الأمريكية، وكانوا يشجعونني جميعًا على زيارة بريطانيا وأمريكا.

سافر بعض زملائي في الدراسة من الميسورين والمقتدرين لدراسة اللغة الإنجليزية في بريطانيا في الإجازة الصيفية، وأصبح أحد زملائي قائدًا لطيران الشرطة، وخلفه زميل آخر في قيادة هذا الطيران أيضًا.

تناقشت يومًا مع أستاذي الأيرلندي حول "وعد بلفور"، وأنَّ بريطانيا هي سبب نكبة فلسطين فردَّ قائلًا: نحن الأيرلنديين بيننا وبين الإنجليز حروب، وليس لنا علاقة بما فعله بلفور.

لا أنسى هنا أستاذنا السوداني الطيب الزبير الطيب الذي حَبَّبَ لي اللغة الإنجليزية، وكان يحدثني في بعض الأحايين عن العلاقة بين السودان وبريطانيا، وعن سبب تمكن السودانيين من اللغة الإنجليزية الذي يعود في المقام الأول إلى الوجود البريطاني في السودان.

ومن القواميس التي كنت أعتمد عليها في تعلم مفردات اللغة الإنجليزية قاموس    "Longman English-English Dictionary" كل هذه الأمور جعلتني أتفوق في مادة اللغة الإنجليزية وأحصل على أعلى درجة في هذه المادة وأصبح مرجعًا في هذه المادة لزملائي وكان المرحوم علي بن شنين الكحالي المرجع الثاني في مادة اللغة العربية.

ومن المواقف الطريفة التي يجدر ذكرها أن الأستاذ الطيب الزبير كان يقرأ لنا القصة المُقررة علينا فطلب ماضي الفعل "escape" فقلت له: "Fled" فردَّ قائلًا: "إن هذه الكلمة غير موجودة في القصة، وهي من تأثير قراءة القصص على مستوى اللغة عند سعيد".

وقد اعتمدت على قاموس "Oxford English-English Dictionary" في دراسات متقدمة للغة الإنجليزية.

وقادني هذا الشوق لدراسة اللغة الإنجليزية بالمجلس الثقافي البريطاني بالقُرم في مسقط، في دورة تدريبية في إحدى الإجازات الصيفية من قِبلِ كلية التربية بصحار، ودراسة اللغة الإنجليزية لعدة أشهر بمعهد "Hawthorn" بـ"ملبورن" في أستراليا.

أعود إلى الأسباب الحالية أو الآنية التي شجعتني على زيارة بريطانيا في هذا الصيف وهي وجود أحد أبنائي لدراسة اللغة الإنجليزية في "بورنمورث"، ومعي مُرافقي الولد محمد الذي زار بريطانيا أكثر من 7 مرات، فهو المرافق والدليل.

يضاف إلى ذلك وجود أستاذنا الشيخ سالم بن ناصر المسكري الأمين العام لجامعة السلطان قابوس السابق، والرئيس الأسبق للجمعية التاريخية الذي زار "بورنموث" للدراسة عام 1968 مبعوثًا من حكومة أبوظبي، كما صادف وجود الأخ الأستاذ الزميل: عبد الجليل بن أحمد الرئيسي، الملحق الثقافي الأسبق بالسفارة العُمانية بلندن لمدة 10 سنوات.

والحديثُ عن بريطانيا العُظمى، أو المملكة المتحدة وعلاقتها بدول العالم، وبخاصة مُستعمراتها كالهند، والكثير من الدُّول العربية، والخليج وعُمان، وبعض دُول أفريقيا حديثٌ شيق ومُتشعب وواسع، وذو جوانب مُختلفة، كتبت فيه الكثير من الكتب والأطروحات والمقالات، وعُقِدت فيه الكثير من الندوات والمؤتمرات، وأعدت عنه العديد من البرامج الإذاعية والتليفزيونية.

وليعذرنا القارئ الكريم إن لم نُحط بكلِ الجوانب التاريخية والسياسية والاقتصادية والعسكرية والسياحية والثقافية والأكاديمية والفنية المتصلة بموضوع مقالنا للسبب الذي ذكرناه، ولأنَّ مقالًا في صحيفة لا يتسع لكل صغيرة وكبيرة، فهناك ضوابط ومساحات محددة لكل نوع من أنواع المقالات.

يُضاف إلى ذلك أنَّ الزيارة هي الأولى، وكانت قصيرة لم تمكننا من زيارة بعض الأماكن الأثرية والسياحية، وبعض المقاطعات والمدن، ولكننا عملنا بالمثل القائل "ما لا يُدرك جُله لا يُترك كُله".

وسيكون مقالنا مختصرًا مُجملًا يتوقف عند محطات معينة ومُحددة، وسيشير إشارات عابرة إلى بعض الشخصيات والأحداث، آملين من خلال هذه الطريقة أن يتوسع القارئ في الأمور التي أشرنا إليها إن أراد التوسع والاستفادة من خلال المراجع والكُتب التي سوف نذكرها.

وقبل الدخول في الحديث عن بريطانيا وزيارتي الأولى لها، سوف أشير إلى ما قاله الفنان: سمير صبري في مُذكراته عن السلطان قابوس، يقول: "استدعاني أول وزير إعلام بأمر من الرئيس السادات، وقال لي: إنَّ جلالة السلطان قابوس سوف يزور مصر، ونُريد منك إجراء مُقابلة معه، وتعلم أنَّ جلالة السلطان خريج أكاديمية "ساند هيرست العسكرية"، فبقيت أفكر طوال أيام حول ما كان يقصده وزير الإعلام بكلامه، هل يُريد مني التحدث مع جلالة السلطان باللغة الإنجليزية، وهو رجل عربي مسلم يزور دولة عربية مسلمة، فقد يغضب هذا جلالته، وبقيت في حيرة وقلق وتوجس طوال الأيام التي سبقت المُقابلة، إلى أن قررت أن أفاتحه وأحييه باللغة الإنجليزية، فرد قائلًا "Perfect English"، وهنا تهللت أساريري، وهدأ روعي وواصلت الحوار.

ويضيف قائلًا: "سألت جلالته عن قِراءاته فقال: أقرأ لوليم شكسبير، وأحضر بعض مسرحياته في لندن، وأقرأ للروائية والقاصة البريطانية: أجاثا كريستي، وبخاصة روايتها "موت فوق النيل" التي نشرت لأول مرة في المملكة المتحدة عام 1937، وأتمنى زيارة الصعيد، والواضح أنَّ مُعظم أحداث الرواية حدثت في الصعيد". ونشير هنا إلى أنَّ فيلم: "جريمة في قطار الشرق السريع "Murder on the Orient Train" الذي كتبه مايكل جريف، استند إلى رواية لأجاثا كريستي نشرت عام 1936، وأنشئ هذا القطار عام 1883، ويذهب إلى أوروبا مُرورًا بلندن وباريس والنمسا.

حاولتُ زيارةُ أكاديميةُ "ساند هيرست" فأخبرني الولد المقيم في بريطانيا: بأنها تبعد عن لندن أكثر من ساعتين، فأجّلت زيارتها نظرًا لضيق الوقت، وفي معرض حديثنا عن أكاديمية "ساند هيرست" قرأت مقالًا لأحد الكُتاب السُّودانيين يقول فيه: إنَّ المشير عبد الرحمن سوار الذهب الرئيس السوداني الأسبق، كان من الأوائل في الكلية الحربية السودانية، فأرسل إلى كلية "ساند هيرست"، وحصل على المركز الأول على دُفعته، واستحق الصولجان، يقول الكاتب: "إنَّ سوار الذهب هو سادس شخصية تحصَّل على الصولجان بعد تشرشل ومونتغمري ورُومل وآيزنهاور".

يُشار إلى أنَّ هذه الكلية تخرَّج فيها العديد من المُلوك والرؤساء، وكبار قادة الجيوش في العالم، وبعض الشخصيات، وبعض الرؤساء حصلوا على الصولجان بصفة فخرية؛ حيث لم يتخرجوا في هذه الكلية، ولم يدرسوا فيها.

وأذكر أنه زارني أحد الصحفيين السودانيين في إحدى المجلات العُمانية في السنوات الأولى من عملي بوزارة التربية والتعليم في أواخر الثمانينيات من القرن الماضي، وأعتقد أنه "كنان محمد الحسين" نائب مدير تحرير مجلة النهضة، وكان يُعِد تحقيقًا عن شخصية العام فقلت له: "عبد الرحمن سوار الذهب"، فقال: هل أنت متأكد، أو هل أنت مُصِرٌّ على هذه الإجابة، فقلت له: نعم.

واليومَ يُشيد الكثيرون بسوار الذهب، لأنه سلَّم الحُكم الى سُلطة مَدنية بعد عام واحد من استلامه لها.

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

سامح قاسم يكتب | عزت القمحاوي.. بين ترويض اللغة وترويض الحياة

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق

في المشهد الأدبي العربي، يبدو عزت القمحاوي كاتبًا يمضي بعينين نصف مغمضتين، لا من غفلة، بل من دُربة. يعرف تمامًا كيف يُغمض عينًا عن الضجيج ليفتح الأخرى على ما يُهمّ: الكتابة بوصفها ضرورة. لا يلهث خلف الموضة الروائية، ولا يلهو بصوت مرتفع في سوق الأدب، بل يصغي إلى النص وهو يتشكل داخله، كما يُصغي النحات إلى الحجر قبل أن يضرب عليه بأزميل الرؤية.

 

ولد في الريف، لكنه لم يتركه تمامًا، حتى حين تنقّل بين العواصم الثقافية. حمله داخله كحكمة قديمة، كوشم لا يظهر إلا حين يتعرّى النص من زينته، فيبدو الطين هناك، دافئًا، يفيض بالحكايات والوجوه. في "بيت الديب" لا نقرأ رواية عن عائلة مصرية وحسب، بل نقرأ طبقات من الزمن، محمولة على ظهر سرد يعرف كيف يمضي عميقًا دون أن يتثاقل.

 

كتابة القمحاوي تنتمي إلى سلالة نادرة: تلك التي لا تخشى البطء، ولا تستعجل النهاية. لغته ليست للعرض، بل للبناء. جملة بعد جملة، كأنما يعيد اختراع النظر، لا الحكاية فقط. تتجاور عنده البساطة مع الفخامة، الريف مع الميتافيزيقا، البهجة مع الحداد. في "غرفة المسافرين"، مثلًا، يسافر دون أن يغادر، يكتب عن المدن والخرائط والفنادق، لكن المعنى الحقيقي للسفر يبقى داخليًا، مُحاطًا بالأسئلة لا بالإجابات.

 

عزت القمحاوي لا يكتب كثيرًا، لكنه حين يفعل، يزرع أثرًا. كلماته مشغولة بعناية صانع لا تعنيه الكثرة، بل الدقة. حتى حين يكتب عن الحواس في "الأيك في المباهج والأحزان"، فإنه لا يصف، بل يعيد بناء الحواس نفسها. كل صفحة تحمل دهشة، كما لو أن القارئ يتذوق اللمس، ويشمّ الصوت، ويرى الكلمات ككائنات حيّة تنمو أمامه.

هو كاتب لا يريد أن يُبهر، بل أن يبقى. ولهذا، ستجد أثره فيك بعد أن تطوي الصفحة، لا على الصفحة ذاتها.

 

في زمن السرعة، يختار القمحاوي البطء. في زمن النشر اليومي، يختار الصمت أحيانًا. وفي زمن التكرار، يكتب كما لو كانت الجملة الأولى في التاريخ.

 

وهو إذ يكتب بهذه السكينة الظاهرة، لا ينتمي إلى فصيلة الكُتّاب الذين يختبئون خلف الغموض، ولا أولئك الذين يستعرضون معجمهم ليرعبوا القارئ. عزت القمحاوي لا يعوّل على الدهشة السهلة، ولا يصنع المفاجآت الرخيصة، بل يبني نصّه كما تُبنى العلاقات العميقة: بالإنصات، بالتواطؤ، بالصمت المحسوب، وبالتكرار الحميم للجمال غير الصاخب.

 

من يقرأ له يدرك سريعًا أن الكاتب لا يبحث عن بطولة شخصية، بل عن إنقاذ اللغة من ابتذالها اليومي. هو لا يكتب ليثبت شيئًا، بل لأنه يحمل شيئًا يجب أن يُقال. حتى حين يكتب عن الحب، كما في "ذهب وزجاج"، فإن الحب لا يكون حكايةً عاطفيةً عابرة، بل اختبارًا للجسد والزمن والهوية، في مساحة لا تتسعها الرواية بمعناها التقليدي. يجعل من العلاقة بين رجل وامرأة لوحةً من النور والخذلان، من التذكّر والنسيان، ليصوغ عالمًا هشًا وشفافًا كما الزجاج، وثقيلًا كما الذهب في تأويله العاطفي.

 

والقمحاوي لا يتورّع عن طرح الأسئلة المؤرقة، لكنه لا يقدّم إجابات مباشرة. يضع القارئ أمام مرايا مشروخة، لا تعكس شكله، بل تلمّح إلى كينونته. في "يكفي أننا معًا"، لا يهتم ببنية الرواية التقليدية، بل يشرع في كتابة تتجاور فيها الفلسفة مع الشعر، والسرد مع التأمل، والممكن مع المستحيل. كأنه يخبر القارئ بأن الرواية لم تعد ملزمة بالشكل، بل بالعمق. بالإنصات للفراغ، لا بملئه.

 

ثمّة رهافة في مفرداته لا تشبه أي حساسية أخرى، رهافة تعود إلى شاعر لم يكتب القصيدة، بل تركها تتسلّل إلى نثره وتستقرّ هناك، متواريةً بين الفواصل والنقط. هو كاتب يفهم الإيقاع كما يفهم الموسيقي السكون بين نغمتين. لا يكتب ليملأ الصفحات، بل ليملأ الغياب. هذا ما يجعل كتابته قابلة لإعادة القراءة، لا لأنها مبهمة، بل لأنها مشبعة بما لا يُقال مرة واحدة.

أعماله تشبه المراكب الصغيرة التي لا يُدرك المرء أنها تحمل ذهبًا إلا حين يفرغها على الشاطئ. لا تطلق أبواقها، ولا تلوّح بالأعلام، بل تمضي بصبرٍ في النهر، تاركةً خلفها أثرًا خفيًا، لكنه لا يُمحى.

 

وعزت القمحاوي، في النهاية، كاتب يصنع من اللغة وطنًا مؤقتًا، ومن الحكاية نزهة بطيئة في غابة الذاكرة. كأن كل نصّ له، هو غرفة انتظار بين زمنين، بين قارئ وذاته، بين كاتب لا يريد شيئًا، وقارئ يبحث عن كل شيء.

فهل ثمة ما هو أصدق من هذا النوع من الكتابة؟

مقالات مشابهة

  • "بابا الشعب"... خمس محطات تجسد تواضع البابا فرنسيس
  • محطات العلاقة بين سوريا والعراق منذ انهيار نظام الأسد
  • الخارجية تندد بالجريمة الإرهابية التي ارتكبتها مليشيا الجنجويد ضد مركز إيواء المقرن بعطبرة ومحطة الكهرباء
  • الجزائر تقلب الطاولة.. الإنجليزية بدل الفرنسية في كليات الطب
  • أبرز محطات الكهرباء التي تعرضت للاستهداف في السودان
  • لا تبشر بالخير.. تفاصيل مجزرة جامو وكشمير التي دفعت مودي لقطع زيارة السعودية وأوصلت التوتر لأوجه بين دولتين نوويتين
  • حزنت جدا للمصيبة التي حلت بمتحف السودان القومي بسبب النهب الذي تعرض له بواسطة عصابات الدعم السريع
  • مدرب نيس يشيد بتألق محمد عبد المنعم رغم "حاجز اللغة"
  • سامح قاسم يكتب | عزت القمحاوي.. بين ترويض اللغة وترويض الحياة
  • بريطانيا ترفع العقوبات عن كيانات سورية