كيف استطاع الاستعمار زعزعة شعور أبناء العربية تجاه لغتهم الأم؟
تاريخ النشر: 12th, December 2023 GMT
لا بد للاستعمار من تثبيت نفسه، ولا يتمّ له ذلك إلا بزعزعة أركان هويّة البلد الذي يستعمره ويحتل أرضه، ولا بد له من تعرية أهله من عناصر الهوية التي تعدّ اللّغة من أهمّها، فيقوم بتنفيرهم منها وإقناعهم أنها لم تعد تليق بالعالم المتحضر الجديد! وقد اعتمد الاستعمار على آليّات عدّة لتحقيق ذلك، نذكر منها:
الآليّة الأولى: خلق مساقات اجتماعيّة ونفسيّة
يعتمد الاستعمار في زعزعة شعور أبناء العربيّة تجاه لغتهم الأمّ على خلق مساقات اجتماعية ونفسية متعددة للسيطرة على المجتمعات والأفراد، ويبدأ من صميم الأفراد تشوّفا للمستقبل الذي يعدّه لأبناء المجتمع الذي يستعمره، فالتاريخ يؤكد أن المستعمر يهدف دوما ويتطلع إلى تكوين النسل الجديد وتعريته من لغته لعزله عن تراثه الحضاري والثقافي، وقطع أواصره الممتدة عبر التاريخ وتفريغه من أصالته بحجبه واستبعاده، فالجيل القديم الذي وقع عليه الاحتلال من الصّعب بمكان أن يتقبّل أفكار المستعمر ويحقّق مَراميه، لكن بالتّسلل إلى أفراده يستمكن من خلق أجيال جديدة توائم مساره وتنسجم مع رؤاه وتطلعاته بأقلّ الجهود الممكنة.
ويكفيه في هذا الإطار الثّقافي أن يعمد إلى تشويه نظرة الأجيال المستعمرة نحو لغتهم الأم بوصفها بالتخلف والرجعية وإلصاق التُّهَمِ بها بوصفها غير قادرة على مواكبة الحداثة العصرية ومتطلباتها، كما يربط بين التحدث بلُغة المستعمر والشعور النفسي بالتّحضر، ويقدّم هؤلاء الذين ينسلخون من لغتهم في المحافل الثقافية والفكريّة بوصفهم النخبة المجتمعيّة التي تستحقّ التصدّر، وهكذا تنشأ المسافات النفسيّة شيئًا فشيئًا بين الأجيال المتعاقبة ولغتهم .
الآليّة الثّانية: الرّبط بين اللّغة الأجنبيّة وفرص العمل ولُقمة العيش
من الآليّات التي يتخذها الاستعمارُ لزعزعة شعور أبناء العربيّة تجاه لغتهم الأمّ إلى جانب الإمعان في جعل النظرة إليها مرتبطة بكونها لغة المتخلفين والبسطاء، الرّبط بين لغته وحقِّ الحياة إذا ما طال زمان الاستعمار، فيضطر من يريد الحصول على لقمة عيشه أن يتقن لغة المستعمر.
وفي سياق العربية وفي كثيرٍ من الدّول العربية غدتِ العربيةُ لغة الدّين فحسب! وهي في حقيقتها أصلح ما يمكن لغة للحياة والعقل والفكر والقلب، غير أننا في بلاد عربية كثيرة نجد اللغة الإنجليزية متربعة على عرش التواصل والأعمال والاقتصاد والدراسات المتنوعة، كما أنها-بزعمهم- لغة التكنولوجيا، لذلك صار جليا للعيان شعور كثير من أبناء العربية بعقدة النقص وميلهم نحو اللغات الأجنبية لتحقيق المنفعة الحياتية من جهة وخلق صورة ذهنية مجتمعية رائقة! ومدار ذلك كلّه هو الانبهار الزائف بحضارة الغرب وسعيا وراء مصطلحات مشوّهة الجوهر في الغرب مثل المدنيّة والحرية والعدالة، لكنّهم –أعني الغرب بدون تعميم- استطاعوا إقناع الشرق الأوسط بإنسانيتهم الزائفة، غير أنّ الواقع اليوم كفيلٌ بتدمير كل المفاهيم الإيجابيّة التي حوتها أذهاننا عنهم ابتداء من حقوق الإنسان وانتهاء بكونهم عنصريين أدعياء!
الآليّة الثّالثة: فرضُ الاستعمار لُغته على الشّعوب المستعمَرَة والعمل على مَحوِ لُغتهم
لن نذهب بعيدا! ولن نغفل في هذا السياق عن فكرة منع الاستعمار للسكان الأصليين من التحدث بلغتهم الأمّ وفرض لغته عليهم بوصفها اللّغة الرسمية ولغة التواصل والحياة اليومية كما حدث في القارة الأفريقية، فالنَّاظر في حالها اليوم يدرك كيف استطاع الاستعمار الأوروبي فرض لغته فرضا تلاشى معه وجودُ كثير من اللّغات المحلّية، وتطوّر بعضها مع التحفظ على كلمة التطور! فصارت لغة المستعمِر هي اللغة المشتركة بين مناطق عدّة سواء بين العدو والسّكان والأصليين، وبين السكان المحليين أنفسهم في مناطق مختلفة، ويُذكر على سبيل المثال تطور اللّغات الكريولية؛ وهي عبارة عن مزيج من اللغات الأوروبية والأفريقية، ويُقصد بها اللغة المولَّدة والخليط اللغوي الناتج من لغة السكان الأم ولغة المستَعمِر حتى صارت لغة طبيعية مقبولة ومعتمدة من السكان المحلّيين. ناهيك عن انتشار اللغات الأوروبية كالإنجليزية والفرنسية انتشار النار في الهشيم، إذ يُتحدث بها في نطاق واسع من المناطق في قارة أفريقيا.
وإذا ما تحدثنا عن بلاد المغرب العربي فسنجد أن لغة الاستعمار كانت ذات تأثير سلبي في اللغة الأصلية، فقد فرضت فرنسا لغتها بوصفها اللغة الرسمية والتعليمية، واستمر احتلالها للجزائر كما نعلم من 1830 إلى 1962م. فتخيّل! ونحن في هذا العصر بما فيه من شتات وفرقة، ما معنى أن تكون لغة التعليم مختلفة عن اللغة الأم! لعلّ كثيرا منّا يُعاين ذلك اليوم في أطفاله ومحيطه، وما تزال الفرنسية حاضرة في بلاد المغرب بجوار العربية والأمازيغية، لكنّها استطاعت وفقا لمنطقها صَبغَ كثيرٍ من القوالب اللغوية العربية والأمازيغية بصبغتها.
الآليّة الرّابعة: تجنيد اللّغة الأصليّة لخدمة المحتل والمستعمر
يبدو الأمر غريبا للوهلة الأولى، فهل يمكن للغة الأرض السَّليبة أن تخدم مُحتلَّها ومستعمرها!
نعم! تخدمه في منحيين مختلفين، أوّلهما حين تسير على ألسنة أبنائها ضعيفة مفكّكة محمَّلة بأفكارٍ تخاذليّة، راسمةً للعدوِّ تصورات ذهنية تفوق الواقع بِمَرّات وأبعاد كثيرة، وثانيهما حين يحاول المستعمر تعلّم لغة الأرض واستخدامها وفقا لأهوائه وبما يخدم أهدافه، وفي سياق كهذا نجد عناية المستعمر بالدرجة الأولى بالألفاظ والتعابير المتعلقة بالحياة العسكرية والسياسية، إذ يُجنِّد لذلك مجنّدين كلُّ غايتهم هي إتقان لغة أصحاب الحقِّ لتفكيكها واستعمالها ضدّهم، وذلك بالتقاط ثغرات كلامية في حديث السياسيّين، وتقييدهم أُمَميا وعالميا وحظر بعض الإفادات اللغوية التي تنصبّ في مصلحة الشعوب وأحقّيتهم في أرضهم والذَّود عنها.
هل ينبغي أن ننفر من اللغات الأخرى إن كانت لغة المستعمر؟!
بالطبع لا؛ غير أننا ينبغي أن نعي ونرسّخ في أذهان الأجيال الناشئة أنّ اللّغة سلاحٌ ذو حَدَّين؛ فإنَّ تعلّم لغة العدوّ يعدّ أمرا ضروريا للقدرة على فهم خططه وسياساته والردّ عليها ودحرها، لكنّه في الوقت نفسه يحتاج إلى دقّة وحذر، فتعلّمها لا يعني تمثّلها في كل المواقف واستعمالها على حساب تهميش اللّغة الأمّ أو انزوائها، فاللغة عنصر أساس من عناصر الهويّة، مَن استغنى عنه استغنى عمّا سواه، فهي القلب النابض الذي تدور حوله عناصر الهوية بأسرها. فأن تصبح لغة المستعمر لغة التعلّم والتّعليم فإن ذلك يعدّ آفة في الانتماء وذبذبة في الولاء وتأرجحا بين حقٍّ وباطلٍ.
أمّا حديث الاندماج فلا مكان له بين المستعمَرِ والمُستعمِر! فالاندماج الثقافي بين الشعوب والتقارب اللغوي والحرص على إتقان لغات العالم أمرٌ مختلف تمام الاختلاف عن فكرة تصدير لغة العدوّ والتسليم له بصدارة لغته وتفوقها، فذلك تقهقرٌ نفسيٌّ وعقوقٌ للانتماء والهويّة.
هل وصل تأثير الاستعمار إلى اللّغة العربيّة الفصحى أو توقّف عند التّأثير في اللّغة الدّارجة المَحكيّة؟
على الرغم من محاولات المحتلّ فرض لغته بوصفها اللغة الرسمية في الدوائر الحكومية في كثير من بلاد الوطن العربي، لا سيّما في دول المغرب، فإن ذلك لم يكن ذا تأثير في اللغة العربية الفصحى، بل اقتصر التأثير السلبي على دخول كثير من الكلمات الأجنبية إلى لغة الشارع المتداولة بين الناس، فصار الحديث اليومي مزيجا من العربية الدارجة والأجنبية الدخيلة. على أن أحدا لا يمكن أن ينكر تراجع الألفة بين عامة الناس واللغة الفصحى، إذ صار حضورها مقتصرا على قُرّاء الكتب العربية، ومتابعي نشرات الأخبار اليومية والعالمية على القنوات العربية الإخبارية. كما أن تراجع العربية عن كونها لغة رسمية وهي التي تكتب بالحروف العربية التي لا تشبه الحروف اللاتينية ولا تلتقي معها في شيء؛ جعل نسبة الأُميّة مرتفعة، وكأنّ أجيالا كاملة اقتُصّت من جذورها لتُنثَر في الهواء! فلا السابق يدرك ركب اللّاحق ولا اللاحق يرتكز على تراث السّابق!
ولعلّ أكبر تأثير سلبي لحق بالأجيال العربية المسلمة عند خلق فجوة بينهم وبين لغتهم الأم هو ابتعادهم عن فهم القرآن الكريم بِنسبٍ متفاوتة، حتى صارت اللّغة العربيّة الفصحى لغة الدين فحسب!
بين اللّغة العالميّة ولغة المستعمِر!
تعيش الأجيال صراعا لغويا حقيقيا بين الحفاظ على الهوية والانتماء إلى أمة عربية إسلامية، والشعور بأهمية الانفتاح اللّغوي على العالم بإتقان أهمّ اللّغات العالميّة، غير أن إتقان لغة كالإنجليزية مثلا لا يتعارض مع حفاظ المرء على هويته ولغته وأصالته، بل يخدم انتماءه، لكنّ التردّد بين الحفاظ والانطلاق نحو التجديد هو ما يؤدي إلى شعور المرء بالقلق حيال أصله وهويته.
ومن المؤسف أننا نحن –العرب- نمثل المغلوب في قول ابن خلدون حين تحدث عن ظاهرة الغلب فقال: "إن المغلوب مولع أبدا بتقليد الغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده".
صار اليوم استعمال الإنجليزية في كثير من شوارع دول الخليج أمرا معتادا وطبيعيا بسبب كثرة العَمالة فيها، ولكونها اللغة الوسيطة مع القادمين من مختلف أصقاع الأرض لا سيّما من الطرف الآسيوي، لكنّ المريب فعليا هو تهافت أبناء العربية على تعليم أبنائهم اللّغات الأجنبية والعناية بها على حساب لغتهم الأم! ظنّا منهم أنّها أبقى على مستقبلهم، ناسين أنّ الله حَباهم بنعمة العربيّة، فهي سبيل المرء إلى دنياه وآخرته، متناسين أن هذا التشوّف نحو اللّغات الأجنبية رّبيب الحقبة الاستعمارية التي ثبّتت في العقول ارتباط لغتنا الأمّ بالضعف والبقاء في الخلف قياسا بهؤلاء الذي قُدّرت لهم أسباب فرض الهيمنة حين تراجع شعورُ أبناء العربية والإسلام نحو أنفسهم، وتفككوا ووضعوا من مكانتهم! وغفلوا عن قوله تعالى في سورة الزخرف/3: ﴿إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: أبناء العربیة أبناء العربی العربی ة ة الفصحى الآلی ة کثیر من ة التی غیر أن
إقرأ أيضاً:
معرض الكتاب يناقش تاريخ الأدب البولندي وحركة الترجمة إلى العربية
شهدت القاعة الدولية بمعرض القاهرة الدولي للكتاب في دورته الـ 56، ضمن محور “الترجمة إلى العربية”، إقامة ندوة لمناقشة كتاب بعنوان "موجز تاريخ الأدب البولندي"، للمؤلف يان تومكوفسي، ترجمة الدكتورة أجنيتكا بيوتر فسكا من سفارة بولندا، والدكتورة هالة صفوت كمال، وبحضور ميهاو هابروص، القائم بأعمال السفير البولندي بالقاهرة، والتي كان مقررًا إقامتها في قاعة العرض.
في البداية، عبّر ميهاو هابروص، القائم بأعمال السفير البولندي بالقاهرة، عن سعادته بصدور هذا الكتاب المهم، الذي يعرف بتاريخ الأدب البولندي، معبرا عن أمله في زيادة التعاون مع المركز القومي للترجمة في ترجمات أخرى.
من جانبها، قالت أجنيتكا بيوتر فسكا، إنها بوصفها مترجمة بولندية، انتقلت إلى مصر لتتفرغ بالكامل للترجمة، وأنجزت ترجمة عدة كتب من بلاد مختلفة، وكانت أول ترجمة لها من البولندية إلى العربية في عام 2016.
وأشارت إلى أنه في عام 2020، تم إطلاق مشروع نشر "مصر تتحدث عن نفسها" من العربية إلى البولندية وبعض الكتب التي تتناول تاريخ مصر والكتابات الوثائقية، وفي هذا الإطار تم تقديم الكتب بمقدمات كتبها باحثون أو كتّاب محليون، ونشرنا مذكرات هدى شعراوي التي لاقت رواجًا كبيرًا في بولندا.
وقالت إن حركة ترجمة الأدب البولندي إلى اللغة العربية، تعود إلى القرن التاسع عشر، ومنذ ذلك الوقت تم ترجمة أكثر من 70 عملًا.
وأضافت أن المترجم هناء عبد الفتاح متولي يعتبر رائد حركة ترجمة الأدب البولندي إلى العربية، وشارك في الترويج للأدب البولندي، من خلال ترجمة عدد من المسرحيات والروايات من الأدب البولندي.
وأشارت إلى أن دار الحصاد في سوريا، تعتبر من أبرز دور النشر العربية التي ساهمت في ترجمة ونشر الأدب البولندي في العالم العربي حديثا.
وأوضحت أن نجاح التبادل الثقافي في مجال الترجمة للأدب يعتمد على العلاقات الطبيعية، من خلال اختيار الكتب بناءً على اهتمامات المترجم واحتياجات السوق وأيضا الدعم المؤسسي.
ولفتت إلى أنه منذ عام 2018 تم نشر 22 ترجمة جديدة من اللغة البولندية إلى اللغة العربية، مشيرة إلى أن معهد الكتاب لديه برامج لدعم الناشرين والمترجمين الأجانب.
وعبرت عن أمنياتها أن يكون هناك حالة من الرواج للأدب البولندي في العالم العربي.
من جانبها، قالت الدكتورة هالة كمال، أستاذ الأدب الإنجليزي بجامعة القاهرة، إنها بدأت الترجمة منذ صغرها حيث كانت تكتب وتقرأ اللغة البولندية منذ صغرها بسبب والدتها، حيث تعتبر اللغة البولندية لغة ثالثة بالنسبة لي.
وأضافت أن “هذا العمل الذي نتناوله يعد عملا موسوعيا، حتى أن قراءته لا تكون سهلة، خاصة أنه كتاب يتحدث عن تاريخ الأدب البولندي، فالترجمة ليست فقط نقل من لغة إلى لغة، ولكنها نقل من ثقافة إلى ثقافة”.
وأشارت إلى أنها حرصت على أن يكون الكتاب بمثابة سردية، وليس فقط مجرد ترجمة، فالكتاب يتضمن أحداثا سياسية بالإضافة إلى خصائص الثقافة البولندية وهذا أمر هام.
وأوضحت أن اللغة البولندية لغة متطورة، وهذا يظهر في التدرج في فصول الكتاب لترصد الحقبة منذ العصور الوسطى وحتى القرن العشرين.