كيف استطاع الاستعمار زعزعة شعور أبناء العربية تجاه لغتهم الأم؟
تاريخ النشر: 12th, December 2023 GMT
لا بد للاستعمار من تثبيت نفسه، ولا يتمّ له ذلك إلا بزعزعة أركان هويّة البلد الذي يستعمره ويحتل أرضه، ولا بد له من تعرية أهله من عناصر الهوية التي تعدّ اللّغة من أهمّها، فيقوم بتنفيرهم منها وإقناعهم أنها لم تعد تليق بالعالم المتحضر الجديد! وقد اعتمد الاستعمار على آليّات عدّة لتحقيق ذلك، نذكر منها:
الآليّة الأولى: خلق مساقات اجتماعيّة ونفسيّة
يعتمد الاستعمار في زعزعة شعور أبناء العربيّة تجاه لغتهم الأمّ على خلق مساقات اجتماعية ونفسية متعددة للسيطرة على المجتمعات والأفراد، ويبدأ من صميم الأفراد تشوّفا للمستقبل الذي يعدّه لأبناء المجتمع الذي يستعمره، فالتاريخ يؤكد أن المستعمر يهدف دوما ويتطلع إلى تكوين النسل الجديد وتعريته من لغته لعزله عن تراثه الحضاري والثقافي، وقطع أواصره الممتدة عبر التاريخ وتفريغه من أصالته بحجبه واستبعاده، فالجيل القديم الذي وقع عليه الاحتلال من الصّعب بمكان أن يتقبّل أفكار المستعمر ويحقّق مَراميه، لكن بالتّسلل إلى أفراده يستمكن من خلق أجيال جديدة توائم مساره وتنسجم مع رؤاه وتطلعاته بأقلّ الجهود الممكنة.
ويكفيه في هذا الإطار الثّقافي أن يعمد إلى تشويه نظرة الأجيال المستعمرة نحو لغتهم الأم بوصفها بالتخلف والرجعية وإلصاق التُّهَمِ بها بوصفها غير قادرة على مواكبة الحداثة العصرية ومتطلباتها، كما يربط بين التحدث بلُغة المستعمر والشعور النفسي بالتّحضر، ويقدّم هؤلاء الذين ينسلخون من لغتهم في المحافل الثقافية والفكريّة بوصفهم النخبة المجتمعيّة التي تستحقّ التصدّر، وهكذا تنشأ المسافات النفسيّة شيئًا فشيئًا بين الأجيال المتعاقبة ولغتهم .
الآليّة الثّانية: الرّبط بين اللّغة الأجنبيّة وفرص العمل ولُقمة العيش
من الآليّات التي يتخذها الاستعمارُ لزعزعة شعور أبناء العربيّة تجاه لغتهم الأمّ إلى جانب الإمعان في جعل النظرة إليها مرتبطة بكونها لغة المتخلفين والبسطاء، الرّبط بين لغته وحقِّ الحياة إذا ما طال زمان الاستعمار، فيضطر من يريد الحصول على لقمة عيشه أن يتقن لغة المستعمر.
وفي سياق العربية وفي كثيرٍ من الدّول العربية غدتِ العربيةُ لغة الدّين فحسب! وهي في حقيقتها أصلح ما يمكن لغة للحياة والعقل والفكر والقلب، غير أننا في بلاد عربية كثيرة نجد اللغة الإنجليزية متربعة على عرش التواصل والأعمال والاقتصاد والدراسات المتنوعة، كما أنها-بزعمهم- لغة التكنولوجيا، لذلك صار جليا للعيان شعور كثير من أبناء العربية بعقدة النقص وميلهم نحو اللغات الأجنبية لتحقيق المنفعة الحياتية من جهة وخلق صورة ذهنية مجتمعية رائقة! ومدار ذلك كلّه هو الانبهار الزائف بحضارة الغرب وسعيا وراء مصطلحات مشوّهة الجوهر في الغرب مثل المدنيّة والحرية والعدالة، لكنّهم –أعني الغرب بدون تعميم- استطاعوا إقناع الشرق الأوسط بإنسانيتهم الزائفة، غير أنّ الواقع اليوم كفيلٌ بتدمير كل المفاهيم الإيجابيّة التي حوتها أذهاننا عنهم ابتداء من حقوق الإنسان وانتهاء بكونهم عنصريين أدعياء!
الآليّة الثّالثة: فرضُ الاستعمار لُغته على الشّعوب المستعمَرَة والعمل على مَحوِ لُغتهم
لن نذهب بعيدا! ولن نغفل في هذا السياق عن فكرة منع الاستعمار للسكان الأصليين من التحدث بلغتهم الأمّ وفرض لغته عليهم بوصفها اللّغة الرسمية ولغة التواصل والحياة اليومية كما حدث في القارة الأفريقية، فالنَّاظر في حالها اليوم يدرك كيف استطاع الاستعمار الأوروبي فرض لغته فرضا تلاشى معه وجودُ كثير من اللّغات المحلّية، وتطوّر بعضها مع التحفظ على كلمة التطور! فصارت لغة المستعمِر هي اللغة المشتركة بين مناطق عدّة سواء بين العدو والسّكان والأصليين، وبين السكان المحليين أنفسهم في مناطق مختلفة، ويُذكر على سبيل المثال تطور اللّغات الكريولية؛ وهي عبارة عن مزيج من اللغات الأوروبية والأفريقية، ويُقصد بها اللغة المولَّدة والخليط اللغوي الناتج من لغة السكان الأم ولغة المستَعمِر حتى صارت لغة طبيعية مقبولة ومعتمدة من السكان المحلّيين. ناهيك عن انتشار اللغات الأوروبية كالإنجليزية والفرنسية انتشار النار في الهشيم، إذ يُتحدث بها في نطاق واسع من المناطق في قارة أفريقيا.
وإذا ما تحدثنا عن بلاد المغرب العربي فسنجد أن لغة الاستعمار كانت ذات تأثير سلبي في اللغة الأصلية، فقد فرضت فرنسا لغتها بوصفها اللغة الرسمية والتعليمية، واستمر احتلالها للجزائر كما نعلم من 1830 إلى 1962م. فتخيّل! ونحن في هذا العصر بما فيه من شتات وفرقة، ما معنى أن تكون لغة التعليم مختلفة عن اللغة الأم! لعلّ كثيرا منّا يُعاين ذلك اليوم في أطفاله ومحيطه، وما تزال الفرنسية حاضرة في بلاد المغرب بجوار العربية والأمازيغية، لكنّها استطاعت وفقا لمنطقها صَبغَ كثيرٍ من القوالب اللغوية العربية والأمازيغية بصبغتها.
الآليّة الرّابعة: تجنيد اللّغة الأصليّة لخدمة المحتل والمستعمر
يبدو الأمر غريبا للوهلة الأولى، فهل يمكن للغة الأرض السَّليبة أن تخدم مُحتلَّها ومستعمرها!
نعم! تخدمه في منحيين مختلفين، أوّلهما حين تسير على ألسنة أبنائها ضعيفة مفكّكة محمَّلة بأفكارٍ تخاذليّة، راسمةً للعدوِّ تصورات ذهنية تفوق الواقع بِمَرّات وأبعاد كثيرة، وثانيهما حين يحاول المستعمر تعلّم لغة الأرض واستخدامها وفقا لأهوائه وبما يخدم أهدافه، وفي سياق كهذا نجد عناية المستعمر بالدرجة الأولى بالألفاظ والتعابير المتعلقة بالحياة العسكرية والسياسية، إذ يُجنِّد لذلك مجنّدين كلُّ غايتهم هي إتقان لغة أصحاب الحقِّ لتفكيكها واستعمالها ضدّهم، وذلك بالتقاط ثغرات كلامية في حديث السياسيّين، وتقييدهم أُمَميا وعالميا وحظر بعض الإفادات اللغوية التي تنصبّ في مصلحة الشعوب وأحقّيتهم في أرضهم والذَّود عنها.
هل ينبغي أن ننفر من اللغات الأخرى إن كانت لغة المستعمر؟!
بالطبع لا؛ غير أننا ينبغي أن نعي ونرسّخ في أذهان الأجيال الناشئة أنّ اللّغة سلاحٌ ذو حَدَّين؛ فإنَّ تعلّم لغة العدوّ يعدّ أمرا ضروريا للقدرة على فهم خططه وسياساته والردّ عليها ودحرها، لكنّه في الوقت نفسه يحتاج إلى دقّة وحذر، فتعلّمها لا يعني تمثّلها في كل المواقف واستعمالها على حساب تهميش اللّغة الأمّ أو انزوائها، فاللغة عنصر أساس من عناصر الهويّة، مَن استغنى عنه استغنى عمّا سواه، فهي القلب النابض الذي تدور حوله عناصر الهوية بأسرها. فأن تصبح لغة المستعمر لغة التعلّم والتّعليم فإن ذلك يعدّ آفة في الانتماء وذبذبة في الولاء وتأرجحا بين حقٍّ وباطلٍ.
أمّا حديث الاندماج فلا مكان له بين المستعمَرِ والمُستعمِر! فالاندماج الثقافي بين الشعوب والتقارب اللغوي والحرص على إتقان لغات العالم أمرٌ مختلف تمام الاختلاف عن فكرة تصدير لغة العدوّ والتسليم له بصدارة لغته وتفوقها، فذلك تقهقرٌ نفسيٌّ وعقوقٌ للانتماء والهويّة.
هل وصل تأثير الاستعمار إلى اللّغة العربيّة الفصحى أو توقّف عند التّأثير في اللّغة الدّارجة المَحكيّة؟
على الرغم من محاولات المحتلّ فرض لغته بوصفها اللغة الرسمية في الدوائر الحكومية في كثير من بلاد الوطن العربي، لا سيّما في دول المغرب، فإن ذلك لم يكن ذا تأثير في اللغة العربية الفصحى، بل اقتصر التأثير السلبي على دخول كثير من الكلمات الأجنبية إلى لغة الشارع المتداولة بين الناس، فصار الحديث اليومي مزيجا من العربية الدارجة والأجنبية الدخيلة. على أن أحدا لا يمكن أن ينكر تراجع الألفة بين عامة الناس واللغة الفصحى، إذ صار حضورها مقتصرا على قُرّاء الكتب العربية، ومتابعي نشرات الأخبار اليومية والعالمية على القنوات العربية الإخبارية. كما أن تراجع العربية عن كونها لغة رسمية وهي التي تكتب بالحروف العربية التي لا تشبه الحروف اللاتينية ولا تلتقي معها في شيء؛ جعل نسبة الأُميّة مرتفعة، وكأنّ أجيالا كاملة اقتُصّت من جذورها لتُنثَر في الهواء! فلا السابق يدرك ركب اللّاحق ولا اللاحق يرتكز على تراث السّابق!
ولعلّ أكبر تأثير سلبي لحق بالأجيال العربية المسلمة عند خلق فجوة بينهم وبين لغتهم الأم هو ابتعادهم عن فهم القرآن الكريم بِنسبٍ متفاوتة، حتى صارت اللّغة العربيّة الفصحى لغة الدين فحسب!
بين اللّغة العالميّة ولغة المستعمِر!
تعيش الأجيال صراعا لغويا حقيقيا بين الحفاظ على الهوية والانتماء إلى أمة عربية إسلامية، والشعور بأهمية الانفتاح اللّغوي على العالم بإتقان أهمّ اللّغات العالميّة، غير أن إتقان لغة كالإنجليزية مثلا لا يتعارض مع حفاظ المرء على هويته ولغته وأصالته، بل يخدم انتماءه، لكنّ التردّد بين الحفاظ والانطلاق نحو التجديد هو ما يؤدي إلى شعور المرء بالقلق حيال أصله وهويته.
ومن المؤسف أننا نحن –العرب- نمثل المغلوب في قول ابن خلدون حين تحدث عن ظاهرة الغلب فقال: "إن المغلوب مولع أبدا بتقليد الغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده".
صار اليوم استعمال الإنجليزية في كثير من شوارع دول الخليج أمرا معتادا وطبيعيا بسبب كثرة العَمالة فيها، ولكونها اللغة الوسيطة مع القادمين من مختلف أصقاع الأرض لا سيّما من الطرف الآسيوي، لكنّ المريب فعليا هو تهافت أبناء العربية على تعليم أبنائهم اللّغات الأجنبية والعناية بها على حساب لغتهم الأم! ظنّا منهم أنّها أبقى على مستقبلهم، ناسين أنّ الله حَباهم بنعمة العربيّة، فهي سبيل المرء إلى دنياه وآخرته، متناسين أن هذا التشوّف نحو اللّغات الأجنبية رّبيب الحقبة الاستعمارية التي ثبّتت في العقول ارتباط لغتنا الأمّ بالضعف والبقاء في الخلف قياسا بهؤلاء الذي قُدّرت لهم أسباب فرض الهيمنة حين تراجع شعورُ أبناء العربية والإسلام نحو أنفسهم، وتفككوا ووضعوا من مكانتهم! وغفلوا عن قوله تعالى في سورة الزخرف/3: ﴿إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: أبناء العربیة أبناء العربی العربی ة ة الفصحى الآلی ة کثیر من ة التی غیر أن
إقرأ أيضاً:
الديمقراطية العربية التي يجب أن نبني
عندما نتساءل أي مستقبل للعرب، لنقل من هنا لمنتصف القرن، يتبادر للذهن ثلاثة سيناريوهات كبرى:
الأول: تواصل الاستبداد – أكان علمانيًا أم دينيًا- بتشبِيبه وتأقلمه واستعماله المحكم تقنيات التضليل والمراقبة، مما يعني تواصل الوضع الكارثيّ للشعوب والدول. الثاني: صراع مُتزايد الحدّة والوتيرة بين الثورات والثورات المضادّة، مما ستنتج عنه حالة من الفوضى قد تصل لمصافّ الانتحار الجماعي للمجتمع والدولة (السودان والصومال إنذارًا). الثالث: نجاح المشروع الديمقراطي في التمكن والبقاء والتطور.لقائل أن يقول أين الإسلام السياسي في هذه السيناريوهات التي تلغي وجوده، والحال أنه اليوم المنتصر في سوريا، المقاوم في غزة، والمستعدّ للعودة في أكثر من بلد بعد الفشل المخزي للثّورات المضادّة؟
قناعتي أن تيارًا منه سيعود لجولة استبدادية عبثية جديدة؛ لأنه سيواجه بمقاومة المكوّن الثابت الآخر للمجتمع؛ أي المكون العلماني، وأن تيارًا آخرَ سينخرط في المشروع الديمقراطي ليثريه وينعشه بالقيم المتجذرّة في ثقافة المجتمع. مما يعني أننا لن نخرج، حتى بإقحام الإسلام السياسي، من السيناريوهات الثلاثة.
أي من هذه السيناريوهات سيتحقق؟رغم استحالة التنبّؤ، هناك احتمالات محدودة قد تكون هي مصيرنا. يمكن أن تتجاور داخل الفضاء العربي – بغض النظر عن الحدود- مناطقُ يحكمها الاستبداد، ومناطق سيدتها الفوضى المدمرة، أو مناطق فوضى، ومناطق تحكمها ديمقراطية متفاوتة النجاح، أو واحات ديمقراطية بجانب قلاع استبدادية، أو مناطق فوضى فظيعة بجانب مناطق فوضى أفظع.
إعلانما علّمنا التاريخ، هو أن المستقبل قلّما يتمخّض عما نأمل، أو عما نخشى، والعادة أنه يتمخّض عما يفاجئنا ولم نتوقعه لحظة.
لكن الثابت أنه لا شيءَ مقدرًا أو مكتوبًا، فانتصار الديمقراطية -ونهاية التاريخ حسب فوكو ياما- ليس أكثر حتمية من انتصار الشيوعية، كما كانت قناعة الماركسيين في القرن العشرين. وفي نفس الوقت لا شيء يمنع من هذا الانتصار.
السؤال هو: لماذا يجب أن نتشبّث بهذا الخيار رغم ما يعاني في عالَمنا المعاصر من أزمات، وما شروط ثباته ثبات البذرة الطيبة في أرض قاحلة وجفاف مخيف؟
لنبدأ بالتأكد من وجود تصوّر جامع للديمقراطيين العرب، إذ كيف نناضل من أجل شيء مبهم أو غير متّفق على أبجدياته.
للبتّ في فهم مشترك للديمقراطية، عقد المجلس العربي مؤتمرًا في سراييفو في أكتوبر/ تشرين الأوَّل 2024، ناقشَ فيه أكثر من مئة من السياسيين والمثقّفين والإعلاميين من مختلف الأجيال، ورقةً تحضيريةً أعدتها قيادة المجلس، وانتهوا بعد ثلاثة أيام بالاتفاق على تصوُّر ضُمّن في وثيقة سُمّيت العهد الديمقراطي العربي (موجودة على موقع المجلس).
إنها الوثيقة التأسيسية لشبكة الديمقراطيين العرب، وخارطة الطريق لنضالات الأجيال المقبلة، وتبدأ بالعودة إلى أهمّ سؤال: لماذا الإصرار على الديمقراطية وهي اليوم كاليتيم على مأدبة اللئام؟
تُختزل الديمقراطية عند أغلب الناس في الحريات الفردية والحريات العامة والقضاء المستقل والانتخابات الحرة والنزيهة. لكن هذه وسائل وآليات الديمقراطية وليست لبّها وهدفها.
أحسن مدخل لفهم هدفها هو تصوّر غيابها المطلق، كما هو الحال في أقسى الدكتاتوريات: النظام السوري الأسدي نموذجًا.
الظاهرة الأساسية في كل مجتمع منكوب بمثل هذا النظام: خوف المجتمع من الدولة، وخوف الدولة من المجتمع.
إنه خوف المحكومين من الحيطان التي لها آذان، من زوّار الفجر، من مراكز الشرطة، من غرف التعذيب، من السجون والمنافي.
إعلانإنه خوف الحكام من المؤامرات الصامتة، من الثورات الصاخبة، من اكتشاف فضائحهم وجرائمهم ربما الخوف الأكبر اكتشاف أنهم ليسوا أشخاصًا استثنائيين كما يدعون، وإنما أشخاص عاديون وأحيانًا حتى أقل من العاديين.
هذا الخوف العام هو أبرز مظاهر الحرب الصامتة والمتفجرة دوريًا بين الدولة والمجتمع في شكل انقلابات وثورات.
أما السبب الأول، فمصادرة شخص أو عصابة، مدنية أو عسكرية، طائفية أو أيديولوجية، الثروةَ والسلطة والاعتبار، بالعنف والإذلال والحكم على الأغلبية بالعيش على فتات هذه الثلاثية في ظلّ الخوف والمذلّة.
لهذا يقول العهد الديمقراطي:
"الديمقراطية ليست فقط نظام حكم، بل هي عملية تحرير شاملة من الخوف والإذلال الجماعي".
إن عبقرية الديمقراطية في قدرتها على تحرير الحاكم من ضرورة التخويف والإذلال للبقاء في الحكم وحتى على قيد الحياة.
هي أيضًا في تحرير المحكوم من ضرورة الخنوع للخوف والمذلة لمواصلة العيش التعيس.
لا يحدث هذا بإلغاء سبب الحرب الأهلية الصامتة، حيث لا قدرة لأحد بين عشية وضحاها على توزيع عادل للثروة والسلطة والاعتبار، وإنما بقدرة الديمقراطية على نقل الصراع من العنف الجسدي إلى العنف الرمزي.
هكذا تنظم آلياتُها الأربع المعروفة الصراع السلمي بين جيوش رمزية هي الأحزاب السياسية والسلاح هو الكلمات لا اللكمات. تأتي الانتخابات الحرة والنزيهة للتداول السلمي على السلطة كمعركة تفصل مرحليًا بين المتنازعين فيعلَن منتصرًا من صفف أكبر عدد ممكن من الجنود على ساحة المعركة.
بعد إعلان الفوز يُتوج الفائز الجديد وينصرف القديم إلى بيته محافظًا على رأسه. لا يبقى على المهزومين إلا قبول وضع يعرفونه مؤقتًا؛ لأن اللعب مفتوح، وثمة دومًا أمل بالانتصار في المعركة السلمية المقبلة.
من أحوج منا -نحن العرب- لمثل هذا النظام لكي ننتهي من الصراع الدموي على السلطة الذي نعاني منه منذ معركة الجمل، حتى يعيش الحكام بلا خوف من المحكومين، والمحكومون بلا خوف من الحكام، حتى ننهي حربًا أزلية بين دولة قامعة ومجتمع مقموع، لا انتصار فيها إلا وكان عابرًا باهظ الثمن للجميع؟
إعلانلقائل أن يقول: بهذا المفهوم كل المجتمعات بحاجة لنَفَس الديمقراطية كما هي بحاجة لنفس الهواء النقي والغذاء الكافي، فما الداعي لإضافة "العربي" لتوصيف العهد؟ هل للتعريف الجغرافي أم لإفراغ المصطلح من فحواه، كما حدث من قبل بتسميات من نوع: ديمقراطية اشتراكية، وديمقراطية مسؤولة، وديمقراطية شعبية؟
لا هذا ولا ذاك. نحن – العرب- بحاجة ككل الشعوب للديمقراطية، لكن لنا فيها بحكم وضعنا الكارثي أربعة مآرب أخرى، هي أيضًا الشروط الأساسية لنجاحها وبقائها.
لماذا ديمقراطية اجتماعية؟كان ولا يزال مدخل الانقلابيين والشعبويين للإطاحة بكل الأنظمة الديمقراطية الجنينية، هو السخرية من الحريات التي لا تسمن ولا تغني من جوع، والوعد بتحقيق الرفاهية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية. النتيجة – كما جرّبنا على امتداد سبعين سنة في أكثر من بلد- هي مصادرة الحرية دون تحقيق العدالة، أكانت سياسية أم اجتماعية.
هكذا تعلمنا من تجربة المعارضة والحكم، أن ديمقراطية لا تحمل في طياتها التقدم الاقتصادي والعدالة الاجتماعية، هي مجرد فاصل بين جولتين استبداديتين.
لذلك يقول العهد الديمقراطي: "نحن ندرك من خلال التجربة في أكثر من بلد عربي أن الديمقراطية التي تركز فقط على شكل النظام السياسي، والمهووسة بفكرة الحرية، كما تروّج لها الأنظمة الليبرالية الغربية، لا حظوظ لها في ربح معركة العقول والقلوب في منطقتنا.
أولوية الأولويات بالنسبة لنا، هي الخروج من الفقر، والتصدي للفساد، وبناء التنمية المستدامة، وتحقيق العدالة في توزيع الثروة الجماعية".
لماذا ديمقراطية اتحادية؟إن الأزمة السياسية الخانقة في بلداننا، ليست فقط أزمة النظام السياسي وإنما أزمة الدولة القُطرية، فباستثناء أربع دول بترولية، لا قدرة لثماني عشرة دولة عربية أخرى على تلبية الحاجيات الاقتصادية لأغلبية سكانها، حتى ولو حكمتها أحسن الأنظمة وأقلها فسادًا.
إعلانهذا ما فهمه باكرًا الوحدويون والقوميون العرب، لكن ما لم يفهموه أن النظم الاستبدادية التي يقدّسون لا تتّحد، والدليل صراع البعثيين الذين حكموا سوريا، والعراق في سبعينيات القرن الماضي.
النموذج المعاكس هو قدرة الأوروبيين على بناء الاتحاد الأوروبي بعد انهيار الدكتاتوريات الشيوعية والنازية والفاشية، وحكم فرانكو في إسبانيا. لهذا يقول العهد :"نحن أمة عظيمة، فخورة بتاريخها وهويتها وحضارتها العريقة ومساهمتها في تاريخ البشرية.
لكننا اليوم نشهد في عجز تام التنكيل بالشعب الفلسطيني، أشجع شعوبنا، نتيجة تفرّق الأمة إلى اثنتين وعشرين دولة ضعيفة، تابعة، ومتناحرة، عاجزة عن التعاون حتى في أبسط المجالات، فما بالك بتشكيل وحدة صلبة تستطيع حماية الأمن القومي للأمة أو لشعب من شعوبها.
هذا العجز سببه طبيعة الأنظمة الاستبدادية التي لا تتحد فيما بينها أبدًا، بل تتنازع على النفوذ. لذا نرى أن الديمقراطية، كما أثبتت تجربة الاتحاد الأوروبي، هي السبيل الوحيد لبناء اتحاد الشعوب العربية الحرة والدول المستقلة، القادر وحدَه على الدفاع عن مصالحنا وحقوقنا المشروعة".
لماذا ديمقراطية سيادية؟المستبدون في العالم العربي تبّع، يدينون ببقائهم في السلطة لتبعيتهم لهذه الدولة الخارجية، أو تلك، ومنها دول غير غربية مثل إيران، أو روسيا، وإسرائيل.
الديمقراطية، إذن، ليست الضمان الأكبر لتمتُّعنا بالحريات الفردية والجماعية فقط، وإنما أيضًا بالاستقلال الوطني الذي أصبح في ظل تبعية الاستبداد مجرد شعار أفرغ من كل مضمون.
لهذا يقول العهد الديمقراطي: "نرى في الديمقراطية، ليس فقط وسيلة للتحرّر من الاستعمار الداخلي الذي هو الاستبداد، بل امتدادًا لمعارك الاستقلال الأول التي خاضها آباؤنا وأجدادنا. هدفنا هو تحقيق السيادة الحقيقية، وقطع كل أشكال التبعية المهينة، حيث إن الاستبداد ليس إلا وكيلًا ووريثًا للاستعمار".
إعلان لماذا ديمقراطية مواطنية؟لأنها الشرط الضروري للعيش المشترك في مجتمع سليم وفعّال. هذه المواطنية التي يجب أن تفرضها الدولة الديمقراطية وتتعهدها عادات وتقاليد وثقافة المجتمع، هي في نفس الوقت حق وواجب.
أما الحق فهو مساواة كل أفراد المجتمع أمام القانون فلا فضل لرجل على امرأة، لغني على فقير، لطائفة على طائفة… إلخ، في التمتُّع بكل الحقوق التي ضمنها الإعلان العالمي، وأساسًا الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية. أما الواجب فضرورة اضطلاع تلقائي حرّ لكل الأفراد بمسؤولياتهم تجاه الآخرين.
هكذا يمكن أن نعرّف المواطنية بأنها المواقف والتصرفات لأشخاص أحرار يتمتعون بكل حقوقهم، لا يتخلون عن أي منها مهما سُلط عليهم من قمع، ويضطلعون بمسؤولياتهم تلقائيًا دون أدنى إكراه.
مجمل القول:
أن تكون اليوم مواطنيًا أي وريثًا عنيدًا لحُلم الحقوقيين بمجتمع كل أفراده يتمتعون بنفس الحقوق ويضطلعون بنفس الواجبات، لا مدخل اليوم غير الديمقراطية، كما عرّفها العهد الديمقراطي العربي.
أن تكون تقدميًا اشتراكيًا، وريثًا عنيدًا لحُلم العدالة الاجتماعية، لا مدخل اليوم غير الديمقراطية، كما عرّفها العهد الديمقراطي العربي.
أن تكون سياديًا استقلاليًا، وريثًا عنيدًا لحُلم الآباء والأجداد بدولة غير مستعمرة غير تابعة، غير "محمية"، لا مدخل اليوم غير الديمقراطية، كما عرّفها العهد الديمقراطي العربي.
أن تكون عروبيًا وحدويًا وريثًا عنيدًا لحُلم أمة عربية واحدة ذات رسالة إنسانية خالدة، لا مدخل اليوم غير الديمقراطية، كما عرّفها العهد الديمقراطي العربي.
خلاصة الخلاصة: لا أمل لهذه الأمة في مستقبل واعد إلا إن استطاعت بناء ثلاثية العهد الديمقراطي العربي: دول قانون ومؤسسات، شعوب من المواطنين، اتحاد شعوب حرة ودول مستقلة، والأداة الوحيدة القادرة على تحقيق المشروع العظيم: (ديمقراطية اجتماعية، اتحادية، سيادية، مواطنية).
إعلانلقائل أن يقول: مشروع جميل لكن ما حظوظه من التحقيق، خاصة في ظل انحسار الديمقراطية في العالم والتهاب الشعبوية في كل مكان، ومتانة الأنظمة الاستبدادية التي قد تشكل الثورة التكنولوجية طوق نجاتها بما توفر من إمكانات غير مسبوقة للتحكم في العقول وفي الأجساد؟
هذا ما يحملنا للتحول من مستوى التنظير إلى المستوى العملي.
لكي ينجح أي مشروع سياسي عظيم، لا بدّ من قوى اجتماعية وازنة تجد فيه ضالتها ومن مناضلين صادقين يجاهدون طوال حياتهم لفرضه وسياسيين حكيمين يفعلون كل ما في وسعهم لتعهده وحمايته.
أين نحن من هذه الشروط الموضوعية التي قد تعطي للديمقراطية العربية -كما حددها العهد- بعضَ حظوظ الفوز في سباقها مع الاستبداد المخيف والفوضى المرعبة؟
وللحديث بقية
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outline