في العمق : مجلس الأمن والموت العجوز
تاريخ النشر: 12th, December 2023 GMT
مجلس الأمن الدولي يعيش حالة من التخبُّط والعشوائيَّة منذ تأسيسه، فهو مغلوب على أمْره، غير منتج في أدواره، إلَّا ما يُحقِّق أجندة القطب الواحد ـ الإمبرياليَّة الأميركيَّة والإجرام الصهيوني الأميركي ـ، ورغم أنَّ أهدافه والغاية من وجوده تحقيق الأمن والسِّلم الدوليَّيْنِ، ورفع درجة التعايش والحوار بَيْنَ شعوب العالَم وحكوماته، ومساعدة الدوَل على تخطِّي أزماتها المتعلِّقة بالفِتن والحروب والكوارث والجوع والفقر وتحدِّيات التنمية، إلَّا أنَّ هذا المجلس ظلَّ يَدُور على نَفْسه في حلقة مفرغة، تسيِّر أجندته وتحكم توجُّهاته وتطلُّعاته السِّياسةُ الأميركيَّة، ومَنْ يتبعها من دوَل أوروبا الغربيَّة، فتراه ينتهج سياسة الكيل بمكيالَيْنِ في التعامل مع قضايا الشَّرق الأوسط ـ الدوَل العربيَّة والإسلاميَّة ـ ويراعي مصالح الكبار فقط ـ الدوَل الأعضاء الدَّائمة فيه ـ وبشكلٍ خاصٍّ المصالح الأميركيَّة والصهيونيَّة الَّتي تسيطر على كُلِّ أجندته، وتؤثِّر على كُلِّ قراراته، ولذلك ليس غريبًا أن يفشلَ مجلس الأمن في إنهاء العدوان الوحشي البربري الصهيوني الأميركي على غزَّة، ذلك لأنَّ الإدارة الأميركيَّة الصهيونيَّة متعطشة لمِثل ذلك في نهجها السَّادي ولُغتها الاستبداديَّة الاستعماريَّة، فهي تتعطش في ظلِّ لا إنسانيَّتها ولا أخلاقيَّتها إلى قتل الأبرياء من الأطفال والنِّساء والصغار والكبار، وسياستها في كُلِّ زمن وحين قائمة على القتل والإجرام، والعبَث بالأخلاق، وفرض سُلطة الأمْرِ الواقع، والتدخل في الشؤون الداخليَّة للغير، وفرض القواعد الفكريَّة والسِّياسيَّة الأميركيَّة الصهيونيَّة بالقوَّة؛ لِتسودَ على كُلِّ الأعراف الإنسانيَّة والمشتركات البَشَريَّة، إذ لا أخلاق ولا أعراف ولا مشتركات في ظلِّ الجشع المالي والبراجماتيَّة النفعيَّة، والمصالح الشخصيَّة الأميركيَّة والصهيونيَّة، الَّتي تقوم عَلَيْها سياستها، متناقضة كُلِّيًّا مع مبادئ العدْل والمساواة والسَّلام والأمن الدولي، ومتصادمة مع كُلِّ المشتركات الإنسانيَّة، والأعراف الدوليَّة وقرارات الأُمم المُتَّحدة الدَّاعية لحماية المَدنيِّين الأبرياء في الحروب والكوارث والنزاعات المُسلَّحة، فهي سياسة تؤجِّج الصراعات في مواجهة لُغة الحوار، وتنشر الفِتن بدلًا من الإصلاح، وتتَّخذ من مبدأ «فرِّقْ تَسُد» أداة استعماريَّة في إثارة الفِتن الداخليَّة في بُلدانِ العالَم الثالث وما يحصل في دوَل عربيَّة وإسلاميَّة وغيرها من دوَل العالَم الثالث خير مثال على تدخل الأيدي الأميركيَّة الصهيونيَّة العابثة بكُلِّ الأخلاق والفضائل والقِيَم، فهي تؤجِّج نار الطائفيَّة والقبليَّة، وتزرع الأحقاد عَبْرَ أجندتها ومنظوماتها ووسائلها المختلفة الإعلاميَّة والتشريعيَّة واستغلالها للمنظَّمات الدوليَّة الواقعة تحت أجندة الأُمم المُتَّحدة في تمرير أهدافها العدوانيَّة، المناهضة للسَّلام والتنمية والتعايش والحوار والتسامح والتكامل، بل والمناهضة للأخلاق وعَبْرَ ترويج الإلحاد وشرعنة الشذوذ الجنسي والمثليَّة والتحرش والانسلاخ القِيَمي، وتغييب دَوْر الوالديَّة والأُسرة، كما أنَّها ضدَّ اتفاقيَّات السَّلام العالَمي، إذ السَّلام يعني عدم استخدام السِّلاح الَّذي لا يروق لهذا الكيان ولا يتماشى مع هذه السِّياسة، وهي القائمة على تجارة السِّلاح والمخدرات والجنس ونشر الكراهيات، كما أنَّها لا تؤمن بمبادئ الأمن والسِّلم الدوليَّيْن؛ إذ يتناقض ذلك مع مبادئها القائمة على النفعيَّة والسيطرة والغطرسة والإمبرياليَّة الحاقدة.
لقَدْ أفصح العدوان الصهيوني الأميركي على غزَّة عن هذه الحقائق المعلومة أصلًا لكُلِّ مَنْ له قلب أو ألقى السَّمع وهو شهيد، ولَمْ تَعُد المسألة حكرًا على غزَّة، بل على العرب والمُسلِمين جميعهم وكُلِّ الشعوب الأخرى المُحِبَّة للسَّلام والتنمية، إذ تتقاطع هذه الشعوب والدوَل مع هذا الكيان الصهيوني الأميركي في غايته الشنيعة وأهدافه الخبيثة وتوجُّهاته القائمة على الفساد والإفساد والضَّلال والإضلال، ولذلك باتَ الدَّعم الَّذي يُقدِّمه الأميركان للصهاينة في عدوانهم على غزَّة خير برهان للعرب على أنَّ الإدارة الأميركيَّة ليست صديقة للعالَم والإنسانيَّة ولا تؤمن بالمشتركات، كما لا تريد أن ينازعَها أحَد غطرستها وجبروتها، لذلك فهي تمدُّ الاحتلال الإسرائيلي الصهيوني بالمال والسِّلاح، بل وتعمل عَبْرَ أجندتها في البنك الدولي على الضغط على الحكومات العربيَّة نَحْوَ التطبيع مع الكيان الصهيوني؛ لذلك مارس الصهاينة والأميركان عدوانًا غاشمًا على غزَّة، في قتل الأطفال والنِّساء وهدم المدارس والمساجد والمستشفيات والتنكيل بأهْلِ غزَّة وفلسطين وتدمير البنية الأساسيَّة بكُلِّ تفاصيلها وقطع الماء والطعام والغذاء والدواء عن غزَّة، وهي تستخدم اليوم أبشع أنواع الإجرام والوحشيَّة والقنابل الفوسفوريَّة المُحرَّمة دوليًّا في قصف المنازل والمباني على رؤوس الأبرياء والمستضعفين، في حرب قذرة وعدوان يستهدف إبادة الشَّعب الفلسطيني الأعزل.
ومع كُلِّ الدَّعوات الدوليَّة من أحرار هذا العالَم في وقف العدوان يستمرُّ الحقد الصهيوني الأميركي في وحشيَّته غير آبهٍ بما يتمُّ اتِّخاذه من قرارات أو بيانات، في صورةٍ باتَتْ تفصح عن الجبروت والغطرسة العمياء الَّتي يمارسها أعداء الفضيلة والإنسانيَّة وأعداء الحُريَّات والحقوق، في سبيل إرضاء ذواتهم. لذلك لَمْ يَعُدْ لمجلس الأمن أيُّ دَوْر إيجابي في تاريخ الإنسانيَّة، ولَمْ ينتج عَنْه سوى أدواره السوداء في العراق وسوريا وليبيا واليمن وغيرها وعَبْرَ إعطاء الضوء الأخضر للصهاينة في السيطرة على ثروات هذه الدوَل وتدمير كُلِّ الفرص والمكتسبات الَّتي تحقَّقت لها، وأصبح مجلس الأمن مع تبعيَّة سياسته للسِّياسة الأميركيَّة غير قادر على أن يقومَ بأبسط مهامِّه في تحقيق ما ورد في بروتوكولاته وديباجيَّة تأسيسه، ناهيك عن قراراته نَحْوَ القضيَّة الفلسطينيَّة وحقِّ الشَّعب الفلسطيني في إقامة دَولته المستقلَّة على ترابه الوطني في حدود عام 1967 وعاصمتها القدس الشرقيَّة.
عَلَيْه، يُمثِّل استخدام الإدارة الأميركيَّة لحقِّ النَّقض «الفيتو» في عدم الموافقة على إنهاء هذه الحرب القذرة والعدوان الغاشم، سقوطًا أميركيًّا مدوِّيًا، وموتًا عجوزًا وشللًا نهائيًّا لمجلس الأمن الدولي الَّذي لَمْ يستطع أن يُحققَ الأمن، ولا أن يحميَ الأطفال والنِّساء، ولا أن يحافظَ على التنمية، كما لَمْ يحترم إنسانيَّة الإنسان ومشاعره، ولَمْ يَقُمْ بواجبه في إدخال الدواء والغذاء والماء لأهل غزَّة المحاصَرين، الأمْرُ الَّذي يدعو أحرار العالَم أجمع إلى التحرُّك لوقف هذه الغطرسة وشلَّال الدَّم الَّذي يعيشه المستضعفون في غزَّة، ما يؤكِّد أهمِّية أن يُعيدَ العالَم ترتيب أوضاعه في مواجهة هذا الإجرام، وعدم وضع أيِّ اعتبار لدَوْر الولايات المُتَّحدة الأميركيَّة في رعاية السَّلام؛ لكونها قائدة حرب وهي المدافع والحامي للعدوان الصهيوني الَّذي ما كان لِيتمَّ لولا الضوء الأخضر من الإدارة الأميركيَّة؛ فإنَّ التعاطي مع هكذا تصرفات ـ مع الإيمان بأنَّ المُجتمع الدولي بأكمله يدرك حجم المعاناة الإنسانيَّة المأساوية الَّتي يعيشها الشَّعب الفلسطيني، إلَّا أنَّها تركت وصمة عارٍ سيسجِّلها التأريخ حَوْلَ سقوط مجلس الأمن الدوَلي، وعدم قدرته على الاحتكام للأعراف الإنسانيَّة الَّتي ينادي بها ويطلب من العالَم الثالث أن يلتزمَ بها، وكأنَّه يُلقي على نَفْسه رصاصة الموت، إذ لَمْ يَعُد العالَم اليوم بحاجة إلى هذا المجلس وإلى منظَّمات الأُمم المُتَّحدة الَّتي لَمْ ترعَ مسؤوليَّاتها وواجباتها الأخلاقيَّة في وقف هذه الحرب والقيام بأدوارها الإنسانيَّة نَحْوَ الشَّعب الفلسطيني الَّذي يواجه إبادة جماعيَّة، كما أنَّ على العالَم الحُر الشريف أن يُعيدَ النظر في مدى اعترافه به كمؤسَّسة دوليَّة تحمي حقوق شعوبه ومواطنيه، وباتَ النظر في إعادة تصحيح ومراجعة أعمال مجلس الأمن الدولي ومنظَّمة الأُمم المُتَّحدة واليونسكو واليونيسف ومحكمة العدل الدوليَّة وصندوق النقد الدولي والمنظَّمات الأخرى الَّتي توهم العالَم باهتمامها بحقوق الإنسان والمرأة والطفولة والتراث وغيرها، أمْرًا مُهمًّا حتَّى تؤدِّيَ هذه المنظَّمات واجباتها بكُلِّ تجرُّد وحياديَّة ومسؤوليَّة مستحضرة المسؤوليَّة الأخلاقيَّة والإنسانيَّة والاجتماعيَّة في أولويَّة عملها وبِدُونِ تسييس وتأثير وتوجيه لها من الإدارة الأميركيَّة، لكَيْ تبقَى ممثِّلةً للمُجتمع الدولي محافظة عَلَيْه.
ويبقى على حكَّام العرب والمُسلِمين اليوم أصحاب القضيَّة والَّذين يعنيهم شأن القدس وفلسطين وغزَّة في العمل على مواجهة هذا الإجرام الأميركي الصهيوني بكُلِّ الوسائل المناسبة، وعَبْرَ توحيد الجهود، وتبنِّي خيارات واضحة عَلَيْهم وضعها موضع التنفيذ وعَبْرَ الضغط على هذا الكيان الأميركي الصهيوني المُجرم الغاشم في وقف شلَّال الدَّم، وهي خيارات باتَتْ بحاجة إلى استشعار حكَّام العرب للأمانة التاريخيَّة والإنسانيَّة والأخلاقيَّة الَّتي تجِبُ عَلَيْهم نَحْوَ غزَّة، والمحافظة على بعض ماء الوَجْه في ظلِّ حالة الوهن والضَّعف والخذلان والانبطاح الَّتي أظهروها في التعامل مع هذا الإجرام، ولَمْ تُثمر عشرات اللقاءات والاجتماعات والاتِّصالات عن إنهاء معاناة أهلِ غزَّة الإنسانيَّة، ناهيك عن إنهاء هذه الحرب الهمجيَّة أو إسكات صوت الرصاص وجرائم الإبادة الَّتي تنفِّذها آلة الحرب الصهيونيَّة والأميركيَّة، ومن ذلك: سحب السفراء الصهاينة من الدوَل الَّتي قامت بالتطبيع مع الكيان الصهيوني؛ والمقاطعة الاقتصاديَّة للبضائع الصهيونيَّة والأميركيَّة وهو دَوْر باتَتْ تقومُ به الشعوب، وعلى الحكومات تشجيع ذلك عَبْرَ مقاطعة كُلِّ المنتجات والسِّلع الصهيونيَّة والأميركيَّة أو الواردة من الدوَل الدَّاعمة للكيان الصهيوني؛ وقطع العلاقات الدبلوماسيَّة لحين انتهاء هذه الحرب القذرة؛ واستخدام سلاح النفط والطَّاقة كإحدى أدوات الضغط على الكيان الصهيوني والأميركي؛ وتبنِّي نهج سياسيَّة موحَّدة في مواجهة هذا العدوان، وتفعيل الأُطر الإعلاميَّة والمنصَّات الاجتماعيَّة في مواجهة سياسة الكذب الصهيوني الأميركي.
أخيرًا، فإنَّ ما عَبَّرَ عَنْه بيان وزارة الخارجيَّة الموقَّرة من أسف سلطنة عُمان ورفضها لانحياز الإدارة الأميركيَّة، واستخدامها حقَّ النَّقض أمام مشروع القرار الأُممي الدَّاعي لوقف إطلاق النَّار على قِطاع غزَّة، وإنقاذ الوضع الإنساني المتدهور، وإغاثة المَدنيِّين باحتياجاتهم المعيشيَّة والعلاجيَّة يُنذر بسقوط النِّظام الدولي في الاضطلاع بمسؤوليَّاته وفقًا لميثاق الأُمم المُتَّحدة؛ رسالة للعالَم أجمع بأنَّ على المُجتمع الدولي أن ينشطَ في سعْيِه بإحداث مراجعة شاملة لمجلس الأمن وآليَّات عمله ودَوْر المنظَّمات الدوليَّة، وأن تُعادَ صياغة النِّظام العالَمي الجديد بحيث يحتكم إلى القِيَم والمشتركات الإنسانيَّة والأخلاق مدخله لبناء حصون الأمن والسَّلام والتزام الحقِّ والعدْل والمساواة، من أجْل عالَمٍ يعترف بالآخر ويتعايش معه ويتقاسم معه مشتركات السَّلام والأمن وحقِّ الحياة والعيش، إنَّها محطَّة أيضًا لِينتبهَ العالَم لنِفَسه ويُعيدَ إنتاج قوَّته، ويعتمد على ذاته، ويُعيدَ النظر في هذا المجلس العجوز غير القادر على مساعدة نَفْسه وتحقيق أهدافه والتزامه بواجباته، ما يعني أنَّه وصل لحالة من الخرف والكبر والشيخوخة ما عجز خلاله عن أداء مهامه ومسؤوليَّاته التاريخيَّة.
د.رجب بن علي العويسي
Rajab.2020@hotmail.com
المصدر: جريدة الوطن
كلمات دلالية: الصهیونی الأمیرکی الإدارة الأمیرکی الکیان الصهیونی الأمن الدولی الصهیونی ال ة الأمیرکی فی مواجهة هذه الحرب العال م على غز
إقرأ أيضاً:
إلى لغة الضاد في يومها العالمي
إلى #لغة_الضاد في يومها العالمي
الأُستاذُ الدُّكتورُ يَحْيا سَلامَهُ خَريسات
تَفْتَخِرُ جَميعُ الأُمَمِ بِلُغتِها؛ فَهِيَ رَمْزُ وُجودِها وعُنْوانُ رِفْعَتِها. وتَتَسَابَقُ الأُمَمُ فيما بَيْنَها في مَيادينِ العُلُومِ المُخْتَلِفَةِ، وتَسْتَخْدِمُ اللُّغَةَ الأُمَّ في جَميعِ أُمُورِ الحَياةِ، ابْتِداءً مِنَ التَّعْليمِ، وانْتِهاءً بِالبَحْثِ العِلْمِيِّ والابْتِكارِ. تُسَجَّلُ جَميعُ الابْتِكاراتِ والاخْتِراعاتِ بِلُغَةِ الباحِثِ، ومِنْ ثَمَّ تُتَرْجَمُ إلى اللُّغاتِ الأُخْرَى كَي تَعُمَّ الفائِدَةُ.
وتَرْفُضُ الكَثيرُ مِنَ الأُمَمِ التَّحَدُّثَ فيما بَيْنَها إلَّا بِلُغاتِها الرَّسْمِيَّةِ، وحَتَّى في المَحافِلِ الدَّوْلِيَّةِ والاجْتِماعاتِ العالَميَّةِ يُصِرُّ الكَثيرُونَ على التَّكَلُّمِ بِلُغَتِهِم الأُمِّ، وتُسْتَخْدَمُ التَّرْجَمَةُ لِإيصالِ المَعْلُومَةِ لِلآخَرِينَ، حَتَّى لَوْ كانَ المُتَحَدِّثُ مُتَمَكِّنًا مِنْ لُغَةِ المُتَلَقِّي، وذَلِكَ احْتِرامًا وتَبْجِيلًا لِلُغَتِهِ.
مقالات ذات صلة أيها العرب ، لماذا القلق من ثورة سوريا ؟ 2024/12/19الغَريبُ لَدَيْنا أَنَّ البَعْضَ يَتَحَدَّثُ مَعَ أَبْناءِ جِلْدَتِهِ بِلُغَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ، بَلْ ويَتَحَدَّثُ مَعَ طُلَّابِهِ أَيْضًا، وهذا يُعَبِّرُ عَنْ عَدَمِ الثِّقَةِ بِالنَّفْسِ وَبِاللُّغَةِ الأُمِّ.
نَتَمَنَّى أَنْ نَصِلَ يَوْمًا إلى التَّحَدُّثِ وَالكِتابَةِ وَالتَّدْرِيسِ وَالبَحْثِ بِلُغَتِنا العَرَبِيَّةِ، وَلَكِنَّنا ما زِلْنا نُواجِهُ الكَثيرَ مِنَ الصِّعابِ، مِنْها اعْتِمادُ دُورِ النَّشْرِ العالَمِيَّةِ المُصَنَّفَةِ لِغايَاتِ التَّرْقِيَةِ، وبِالذَّاتِ في التَّخَصُّصاتِ العِلْمِيَّةِ. كَما أَنَّ عَدَمَ الاسْتِفادَةِ مِنَ الأَبْحاثِ المَنْشُورَةِ بِغَيْرِ اللُّغَةِ الإِنْجْلِيزِيَّةِ في مَجالِ التَّصْنِيفاتِ العالَمِيَّةِ المُخْتَلِفَةِ يُضْعِفُ مِنْ اسْتِخْدامِ اللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ. وفي سَبِيلِ المُنافَسَةِ في مَجالِ الاسْتِشْهاداتِ العالَمِيَّةِ، نَجِدُ أَنَّ النَّشْرَ بِاللُّغَةِ الإِنْجْلِيزِيَّةِ يَكادُ يَكونُ ضَرُورَةً. مِنَ التَّحَدِّياتِ الأُخْرَى اعْتِمادُ الكَثيرِ مِنَ المَدارِسِ الدَّوْلِيَّةِ على اللُّغاتِ الأَجْنَبِيَّةِ، وَكَذَلِكَ التَّرْكِيزُ في مَرْحَلَةِ التَّعْلِيمِ العامِّ على اللُّغاتِ الأَجْنَبِيَّةِ أَكْثَرَ مِنَ اللُّغَةِ الأُمِّ.
ما يُنْدَى لَهُ الجَبِينُ هُوَ مُشاهَدَةُ الضَّعْفِ اللُّغَوِيِّ العامِّ لَدَى الطَّلَبَةِ، وَبِالذَّاتِ في مَجالِ الكِتابَةِ وَالتَّعْبِيرِ، حَيْثُ يَكْتُبُ البَعْضُ كَما يَسْمَعُ أَوْ يَلْفِظُ، دُونَ مُراعَاةٍ لِأَدْنَى أُسُسٍ وَقَواعِدَ اللُّغَةِ. وَلِلأَسَفِ، أَصْبَحَتْ هَذِهِ الظَّاهِرَةُ عامَّةً بَيْنَ مُعْظَمِ الطَّلَبَةِ.
وفي السِّياقِ ذاتِهِ، يَحْظَى الأُرْدُنُّ بِاهْتِمامٍ رَسْمِيٍّ بِاللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ، حَيْثُ تُعْتَبَرُ اللُّغَةُ العَرَبِيَّةُ الرَّكِيزَةَ الأَساسِيَّةَ لِلْهُوِيَّةِ الوَطَنِيَّةِ. وَقَدْ أُطْلِقَتْ مُبادَراتٌ حُكومِيَّةٌ وَتَعْلِيمِيَّةٌ تَهْدِفُ إلى تَعْزِيزِ اسْتِخْدامِ اللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ في مُخْتَلِفِ المَجالاتِ. كَما تُولِي المُؤَسَّساتُ الأَكادِيمِيَّةُ عِنَايَةً خاصَّةً بِإِحْياءِ اللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ، مِنْ خِلالِ دَعْمِ البَحْثِ العِلْمِيِّ بِاللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ، وَتَنْظِيمِ مُسابَقاتٍ أَدَبِيَّةٍ وَلُغَوِيَّةٍ، وَاسْتِحْداثِ بَرامِجَ تَعْلِيمِيَّةٍ تُرَسِّخُ مَكانَةَ اللُّغَةِ بَيْنَ الأَجْيالِ الجَديدَةِ.
وفي الخِتامِ، أَتَمَنَّى أَنْ نَصِلَ إلى مَرْحَلَةٍ تَكونُ فيها لُغَتُنا قَوِيَّةً، تُعَبِّرُ عَنْ قُوَّةٍ وَرِفْعَةٍ لِلنَّاطِقِينَ بِها.