الهندسة المعمارية العمانية .. شواهد تاريخية وتفاعل حضاري
تاريخ النشر: 12th, December 2023 GMT
شكل الموقع الاستراتيجي لسلطنة عمان، نقطة مهمة للتواصل الثقافي والتجاري والفكري مع حضارات العالم، وأسهم ذلك التواصل في ثراء الهندسة المعمارية العمانية التي تفنن في هندستها الإنسان العماني وتطور معها بتطور الثقافات التي تأثر فيها، ورغم امتزاج الهندسة المعمارية العمانية بتقنيات الفنون الهندسية الحديثة إلا أنها احتفظت بخصوصيتها الهندسية الفكرية العمانية، حيث جسدت معظم المباني الحديثة تمازجا فنيا فريدا في أنماط العمارة الهندسية، ولمعرفة المزيد عن الهندسة المعمارية العمانية وتاريخها وتأثير الحضارات الأخرى في تصاميمها، نحاور في هذه الزاوية المهندس بدر بن ناصر الهدابي الذي أوضح في بداية حديثه قائلا: فن العمارة العمانية من الفنون الإنسانية الخالدة التي سطرها الإنسان العماني عبر العصور فتميزت بمكوناتها الفكرية النابعة من الخصوصية العمانية التي تمازجت مع الثقافات الأخرى نتيجة التداخل العماني مع دول العالم في الحقب التاريخية الماضية والحاضرة لتشكل الهندسة المعمارية العمانية قصة إبداع فكري وفني تأقلمت مع كافة الظروف البيئية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والعلمية، نتج عنها نماذج معمارية هندسية فريدة نقلها عدد من الشواهد التاريخية التي ظلت صامدة تسرد حكايات عن هذا الفن الخالد ومن أمثلتها قلعة بهلا التاريخية التي تجسد أحد أهم مكونات العمارة الدفاعية في سلطنة عمان.
تاريخ إنساني خالد
وأضاف: الفن المعماري العماني تفاعل مع كافة الأحداث المحيطة به وكوّن نماذج من التاريخ الإنساني الخالد بشموخ أبنائه الذين قادوا حركة الهندسة عبر العصور التاريخية في الماضي والحاضر، وما نشاهده من مكونات هندسية حاضرة للعيان هي نتاج تلك الثقافات التي سطرت مشاهد عمرانية متنوعة في الخصوصية أحيانا وفي التمازج الفكري والثقافي مع الحضارات التي تواصلت معها عبر المحطات الزمنية أحيانا أخرى، وتنوعت في أشكالها نتيجة الاستخدام المخصص لها فنجد اختلافات بارزة أحيانا ومتشابهة في بعضها نظرا لطبيعة الاستخدام والظروف المحيطة في تلك الحقبة التاريخية، وبات هذا التفاوت واضحا جليا بين عمارة القصور، والقلاع، والحصون، والأبراج، وحتى بناء الحارات القديمة، والأسواق الشعبية التي تميزت بخصوصيتها الثقافية، ونجد ذلك حاضرا كذلك في عمارة المساجد، والجوامع والمدارس وبناء الأفلاج ذات الخصوصية العمانية ومثلت كمكون أساسي يمر بين أسوار بعض القلاع والحصون والبيوت الأثرية ضمن الهندسة العسكرية التي تعمل على تأمين الماء للساكنين فيها وقت الحروب، كما تباينت وتنوعت تصاميم وزخارف تلك المباني التي ترجع إلى طبيعة الهدف من إنشائها.
منجزات حضارية
وتابع المهندس بدر الهدابي حديثه بالقول: الهندسة المعمارية العمانية تمثل منجزات حضارية تقف شاهدة على قصة عقلية العماني الفذة وإبداعاته المستوحاة من البيئة المحيطة ومن المعطيات الزمانية والمكانية والانفتاح الحضاري الذي عاشته عمان بتأثر وتأثير من مراكز الحضارات، انعكس على تطور التصاميم والزخارف التي استخدمت في الهندسة المعمارية العمانية فكانت مكونا أصيلا للمباني مع الاحتفاظ على المرتكزات الرئيسة للعمارة العمانية وخصوصيتها الثقافية والفكرية والفنية، موضحا أن التطور المعماري بدأ مبكرا مع ظهور الإنسان على كوكب الأرض وكانت العمارة أحد الفنون الهندسيّة القديمة التي طوعها الإنسان مع احتياجاته، فالإنسان منذ بداياته الأولى سعى إلى الاستفادة من الموارد البيئية المحيطة به لبناء مكانٍ يعيش فيه ويحميه من تقلّبات الطقس ومخاطر الطبيعة.
أصالة ومعاصرة
وأضاف: النمط الهندسي المعماري العماني يشكل أساسا متينا لتصاميم المشاريع المعمارية الحديثة، حيث تدخل تفاصيل البيئة العمانية كخيوط رسم أساسية في التصاميم الهندسية الموجودة، وامتزجت جمالا مع بعض النماذج الهندسية الحديثة لكنها في الوقت ذاته ظلت محافظة على خصوصيتها لتصبح نماذج معمارية محاطة بين الأصالة والحداثة، وسجلت العمارة العُمانية حضورها وتفوقها على مستوى الزمان والمكان، كما نالت بعض المشاريع العمانية عددا من جوائز منظمة المدن العربية لأفضل مشروع معماري على مستوى الوطن العربي وعبر الحقب الماضية من عمر النهضة الحديثة وفاز عدد من المباني الحكومية بالجائزة ومنها فوز مبنى وزارة الخارجية عام 1986م وفوز مبنى سوق نزوى بجائزة أفضل مشروع معماري عربي باعتباره أحد الصروح المعمارية التي تم تنفيذها على الطراز العربي الإسلامي التقليدي في عام 1992م، كما فاز مبنى بلدية مسقط بجائزة منظمة المدن العربية في عام 1995م.
المؤثرات البيئية والهندسية
وحول أهم المؤثرات التي أثرت على الطابع المعماري والهندسي للمباني العمانية القديمة قال: الأنماط العمرانية ولدت أولا من رحم التنوع والتباين الجغرافي للتربة العمانية وتضاريسها الغنية، فكان لكل منهم تأثيره الخاص على العمارة العمانية، فهناك عمارة الكهوف في ظفار وعمارة الأكواخ كما في محافظة مسندم، وهناك العمارة القائمة على الصاروج والحجر مثل منازل ولايات محافظة الداخلية ومنها ولاية الحمراء، وهناك عمارة البيوت القائمة على السعف، كما هو في المناطق الساحلية، إلى جانب العمارة الدفاعية التي جسدها بناء الحصون والقلاع.
العمارة العمانية وتأثيرها
وعن تأثير التواصل الحضاري مع الثقافات الأخرى في الهندسة المعمارية العمانية قال: سلطنة عمان ونتيجة لموقعها الاستراتيجي الذي يربط بين الشرق والغرب وتواصلها مع معظم حضارات العالم الذي أكدته الدراسات والاستكشافات التاريخية التي أشارت إلى الصلات العديدة مع حضارة الشرق القديمة في الصين والهند وبلاد ما بين النهرين إلى جانب الصلات مع حضارات شرق البحر المتوسط ووادي النيل وشمال إفريقيا، شكل هذا التواصل محطة مهمة للتأثير في الهندسة المعمارية العمانية والمتمثلة في هندسة العمارة الدفاعية كالقلاع والحصون، كما نقل العماني تأثيره الحضاري إلى بلدان أخرى زمن الإمبراطورية العمانية فكانت الهندسة المعمارية العمانية والإسلامية حاضرة في زنجبار، ويظهر ذلك جليا في قصر بيت الساحل وكذلك قصر المتونى الذي يعد أقدم وأكبر قصور السيد سعيد في زنجبار، بالإضافة إلى بعض البيوت، مثل بيت واتورو وبيت الرأس إلى جانب القصر الفاخر المعروف ببيت العجائب وهي نماذج من الصروح المعمارية العمانية إلى جانب ما بناه العمانيون من حصون وقلاع على امتداد الإمبراطورية العمانية في تلك الحقبة التاريخية، لذلك ترك العمانيون العديد من الآثار العمرانية في شرق إفريقيا ولا تزال موجودة وشاهدة على الوجود العماني مثل القصور والحصون والمساجد والأسواق والمنازل.
أما عن تأثير الموروث الديني على العمارة العمانية فقال: الموروث الديني أحد أهم المؤثرات على الهندسة المعمارية العمانية والتي جاءت في مقدمتها تصاميم بناء المساجد القديمة في عمان وتميزت بهندستها المعمارية وبنقوش جدرانها التي تتزين بآيات القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة إلى جانب ما تميزت بها محاريب المساجد من نقوش إسلامية متأثرة بالحضارات الأخرى، وكان للموروث الديني تأثير واضح كذلك في معمار بعض المدافن ومنها مدافن بات الذي يعد من التراث الإنساني الخالد، وكذلك مدينة قلهات بمبانيها التاريخية التي ضمت ضريح بيبي مريم وغيرها من المدافن والأضرحة التي تأثرت بالمعتقدات الدينية. وحول الأنماط المعمارية العمانية وأشكالها قال المهندس بدر الهدابي: أبدع المصمم المعماري العماني في استخدام عدد من الأنماط والأشكال الهندسية في هيكلة بعض المباني فقد ظهرت بعض تصاميم القلاع والحصون بتصاميم تناسب قطعة الأرض المستخدمة في البناء، ومن بينها الشكل المستطيل الذي ظهر في هيكلة قلاع بركة الموز والعراقي وغيرها، كما ظهر الشكل المربع في تصاميم بعضها كما في قريات ورأس الحد وبدبد وغيرها، ومنها الدائري وأشهرها قلعة نزوى ومنها البيضاوي مثل واجهة البرج الرئيسي في قلعة الرستاق، ومنها ثلاثي الشكل الذي يظهر في حصن السيب، ويتوج الفن الهندسي المعماري العماني بناء حصن جبرين الذي يتميز بجمال التصميم وإبداع النقوش وأعمال الزخرفة.
الانفتاح والحداثة الهندسية
وحول تأثير الانفتاح الثقافي على الهندسة المعمارية العمانية الحديثة قال: لقد شهد العصر الحديث انفتاح الفن المعماري العماني على مختلف تقنيات التصميم ومدارسه المعمارية الحديثة مع الاحتفاظ ببعض الجزئيات التي تمثل الخصوصية الثقافية والفنية المعمارية العمانية، وهناك الكثير من الصروح المعمارية الشاهدة على هذا التحول في الهندسة المعمارية العمانية، ويأتي في مقدمتها متحف عمان عبر الزمان الذي يعد أبرز المعالم الثقافية والفكرية، واستوحى المصممون بناءه من البيئة العمانية واعتمدت هندسته الحديثة على البيئة العمانية كمنطلق لهذه التصاميم التي جسدت الإبداع في الهندسة المعمارية، ومن بين تلك المنشآت المعمارية تصميم دار الأوبرا السلطانية والمتحف الوطني وجامع السلطان قابوس الأكبر وحصن الشموخ ومبنى مجلس عمان وهذه المباني من الأمثلة القائمة التي يمكن أن نستشهد بها على التواصل بين الهندسة المعمارية الحديثة ومقومات الهوية العمانية الأصيلة، موضحا أن فترة النهضة الحديثة والمتجددة تأثرت بالمستجدات المعمارية الحديثة فتميزت تفاصيل المباني بثراء النقوش الإسلامية المنفذة بإتقان والتي دمجت بين العمل اليدوي للحرفيين واستخدام التقنية الحديثة في النقش وطرق البناء الحديثة، ومنها جامع السلطان قابوس الأكبر الذي يحتوي على عدد من الفنون المعمارية والجداريات البديعة، مثل فن الزليج المغربي والجداريات المغولية والقباب والمنائر والحدائق الواسعة والنوافير المائية، واستخدم في بنائها مختلف المواد من خشب ورخام وزجاج المعشق والجداريات والزخارف النحاسية التي تحلت بها الممرات.
وأشار المهندس بدر الهدابي إلى أن من بين المباني العصرية الحديثة التي تميزت بفنونها المعمارية التي تلاقحت فيها الأصالة والمعاصرة مبنى دار الأوبرا السلطانية الذي يعد من أبرز التصاميم المعمارية المستوحاة من التراث الحضاري العماني، وهو تصميم إبداعي هندسي ضمن أحد أبرز المنجزات الثقافية والمعمارية الحديثة في سلطنة عمان، وما إن يقف الزائر أمام المبنى حتى يشاهد ويلمس فيه شموخ القلاع وتفاصيل الفن الهندسي المعماري العماني.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: التاریخیة التی المهندس بدر إلى جانب الذی یعد عدد من
إقرأ أيضاً:
وفد إمارتي يطلع على التجربة القضائية العمانية
زار سلطنة عمان وفد قضائي إماراتي من المحكمة الاتحادية العليا للاطلاع على تجربة المجلس الأعلى للقضاء في تطوير المنظومة القضائية والعدلية، وتأتي الزيارة ضمن برنامج الزيارات الثنائية العلمية للمحاكم العليا والتمييز بين دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية.
وفي إطار برنامج الزيارة التي تستمر ثلاثة أيام، التقى رئيس المحكمة العليا فضيلة السيد خليفة بن سعيد البوسعيدي برئيس الوفد الإماراتي سعادة فلاح شايع حمود الهاجري قاضي بالمحكمة الاتحادية العليا وبحثا أوجه التعاون القضائي بين البلدين وتبادل الرؤى في المجال القضائي والتأكيد على أهمية الزيارات بين الدول الأعضاء في مجلس التعاون لدول الخليج العربية التي تصب في تطوير الجهاز القضائي والعدلي من خلال تبادل الخبرات والاطلاع على أحدث ما توصل إليه العمل القضائي والقانوني، وأشاد الجانبان العماني والإماراتي بعمق العلاقات الوطيدة بين البلدين والشعبين العماني والإماراتي، بعدها قام الوفد بالتعرف على مرافقها وقاعات المحاكمة وإجراءات سير الدعاوى وعلى مكتبة المحكمة العليا.
من جانب آخر استعرض أمين عام المجلس الأعلى للقضاء سعادة عيسى بن حمد العزري خلال لقائه بالوفد الإماراتي مجالات التعاون القضائي والتشريعي بين البلدين الشقيقين، وإيجاد نظام قضائي مماثل ذات تشريعات وقوانين تخدم تطلعات المستقبل لدول مجلس التعاون الخليج العربية، واطلع الوفد الإماراتي على عرض مرئي تضمن أبرز محاور الخطة الاستراتيجية للمجلس الأعلى للقضاء ودورها في تحقيق العدالة الناجزة وترسيخ سيادة القانون.
كما استعرض المدعي العام سعادة نصر بن خميس الصواعي مع الوفد الإماراتي سبل تعزيز التكامل بين سلطنة عمان ودولة الإمارات العربية المتحدة في مجال الادعاء العام وتبادل الخبرات العملية في مجالات التحقيق والتصرفات القضائية، وأكدا أهمية التـــعاون القضــائي بين دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية، وأثره في تحقيق العدالة الناجزة.