السؤال عن الجماهير الأكثر اقترابا من الملحمة الغزّية لا بدّ من ظهوره، في صور التوقع والرجاء والاستغاثة أو الغضب واللوم والعتب؛ وهذا من بدهيات السلوك الإنساني، وبقدر ما أنّ صوره الأكثر حدّة مفهومة من أصحاب الحاجة الذين يعانون المذبحة مباشرة، وبقدر ما أنّ تعبئة الجماهير وحثّها ومحاولة استنهاضها بالخطاب؛ من الأدوار الأساسية المُفترضة للمشتغلين في مجالات التوجّه للجماهير، فإنّ الواجب إزاء هذا السؤال لا ينبغي أن يقتصر على ذلك، بل إنّ الاقتصار على ذلك، من المثقف والسياسي وكلّ متحدث في الشأن العامّ، هو تورّط في الاستسهال المؤذي، وإقناع مضلّل للنفس، من هذا المثقف أو ذاك المتحدث، بأنّه قائم بدوره، بما يؤهّله لنقد مئات الملايين من الناس الذين يتساءل عن دورهم الضعيف أو الهزيل!

طُرُق المناقبية أو الهجائية، ليست هي الموصلة بالتأكيد لمعرفة الظروف المعيقة أو المحرّكة للجماهير، لأنها لا تزيد على كونها خلع ألقاب، أو منح أوصاف، في لحظات انفعال عاطفيّ، وضمور نظريّ، فضلا عن انبثاقها عن الانطباعية المحضة.

وفي الأحوال كلّها؛ ليس هذا دور المثقف المطالب بالفهم والتحليل، لا بالذمّ أو التبرير، ولا هذا دور الفاعل الحزبي المطالب أساسا بتحريك الجماهير وتنظيمها وتأطيرها واستنهاضها، لا بتخلية النفس من المسؤولية وإلقائها على الجماهير، إذ لو كانت الجماهير مكتفية بنفسها، فلا حاجة لها بسياسيين أو حزبيين، فهذا الحزبي الذي يطلب جماهير جاهزة لكي يقودها، لا يتسم بالغرور فحسب، بل وببلادة الإحساس بالمسؤولية!
الجماهير لا يمكنها التصرّف دائما بعقل واحد ودوافع واحدة وبنحو مستمرّ، فالفعل المستمرّ المفتوح للجماهير غير ممكن بحكم طبائع الاجتماع، ولكن تنظيم الجماهير هو ما يضمن الإصرار على الفعل والبقاء في الميدان، وإلا فاستمرار الجماهير من نفسها نادر الحدوث
تقود هذه المقدّمة إلى إشكالية التنظيم في البلاد العربية، بوصفها المشكلة المباشرة، لا سيّما في البلاد الأكثر التصاقا بفلسطين، وفي بعض تجمّعات الفلسطينيين. فالجماهير لا يمكنها التصرّف دائما بعقل واحد ودوافع واحدة وبنحو مستمرّ، فالفعل المستمرّ المفتوح للجماهير غير ممكن بحكم طبائع الاجتماع، ولكن تنظيم الجماهير هو ما يضمن الإصرار على الفعل والبقاء في الميدان، وإلا فاستمرار الجماهير من نفسها نادر الحدوث، ويتطلّب شروطا موضوعيّة لا تتوفرّ إلا بنحو استثنائيّ في التاريخ. فليست القضية، والحالة هذه، غفلة الجماهير عن خطورة الحدث عليها (في حالتنا هذه خطورة المذبحة الإسرائيلية في غزّة على أهل مصر أو الأردن أو سوريا أو لبنان أو الفلسطينيين في مناطقهم الأخرى)، وإنّما في غياب التنظيم أو ضعفه، وهو ما يرجع بالنقد الكاسح لكلّ الخطابات والأفكار التي كانت تروّج في العقدين الأخيرين للاستغناء عن التنظيمات! وحتى الوعي بخطورة الأحداث على غير الغزّيين أو غير الفلسطينيين لا يتأتّى إلا من فعل منظّم قادر على النفاذ والتتابع والدوام، ولا يخضع لأجندة الإعلام التقليدي، أو لسيولة الإعلام الحديث.

ومن نافلة القول إنّ الجماهير العربية، خضعت لظروف اقتصادية وسياسية واجتماعية وأمنية متباينة بين البلاد العربية على مَرّ عقود طويلة، مما يعني بالضرورة تباين خبراتها الحزبية والتنظيمية، وتفاوت وعيها السياسي، وتباعد فهمها لواجباتها، واختلاف إدراكها لقدراتها التي تنهض بمسؤولية واجباتها تلك، بل إنّ هذه الظروف المتباينة متحقّقة في واقع الفلسطينيين أنفسهم، لعمليات الفصل القهري المفروض عليهم، واختلاف الإدارات السياسية، وما يتصل بها من أوضاع أمنية واقتصادية.

لا تنفكّ المشكلة التنظيمية عن سياسات التجريف التي مارسها عموم النظام الرسمي العربي، بما في ذلك السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، من إغلاق المجال السياسي، وتحريم العمل العامّ، وتفكيك القوى الحزبية، وإنهاك الفعاليات المؤثّرة واستنزافها، إلى درجة التحطيم الشامل، وهو ما تفاقم فيما يمكن تسميته بالثورة المضادة، وتحول المجال العربي لمئات القضايا القُطرية والجزئية التي يُضيّق ازدحامها على الفرد العربي من آفاق فهمه وتفكيره وفعله، وهو ما يقضي بالضرورة بخطأ المقارنات بين محدودية المظاهرات في البلاد العربية وبين اتساعها النسبي في البلاد الغربية، التي وبالرغم من سياساتها الرسمية المنخرطة في الحرب إلى جانب "إسرائيل" على غزّة، فإنها تتمتع بأقدار معقولة، باتت من تقاليدها المستقرّة، من حرّية الحركة والتظاهر والتنظيم، وبما وفّر للجاليات العربية والإسلامية والملونين والمهمشين فرصة تنظيم مظاهرات لا تخلو من البيِض الغربيين أصالة بالتأكيد.

لم يكتف النظام العربيّ بتحطيم مجتمعاته، ولكنّه سعى لعزلها عن فلسطين، واجتهد في تضخيم التيار الانعزالي في كلّ بلد عربيّ، لأسباب متعلّقة بمصالح النخب الحاكمة، وعلاقاتها بدوائر النفوذ والتأثير في الولايات المتحدة و"إسرائيل"، ولأنّ فلسطين من عوامل الاستنهاض والتحريك للمجتمعات العربية؛ التي تريدها أنظمتها الحاكمة مستكينة وسلبية وخاضعة بالكامل.
لم يكتف النظام العربيّ بتحطيم مجتمعاته، ولكنّه سعى لعزلها عن فلسطين، واجتهد في تضخيم التيار الانعزالي في كلّ بلد عربيّ، لأسباب متعلّقة بمصالح النخب الحاكمة، وعلاقاتها بدوائر النفوذ والتأثير في الولايات المتحدة و"إسرائيل"، ولأنّ فلسطين من عوامل الاستنهاض والتحريك للمجتمعات العربية؛ التي تريدها أنظمتها الحاكمة مستكينة وسلبية وخاضعة بالكامل
لا توجد قضايا جوهرية لدى المجتمعات الغربية، بما في ذلك الولايات المتحدة، كتلك التي تُنهك المجتمعات العربية وتثقلها، (كالاستعمار والفقر والتبعية والتفكك السياسي مثلا)، فضلا عن كون شعور المجتمعات العربية بالمسؤولية تجاه فلسطين قد ينعكس بنحو سلبيّ وعلى غير المتوقع لتوهّم عدم جدوى المظاهرات أو أنها دون المطلوب من العربيّ اللصيق، أو أنّ ما هو مطلوب أو مُجدٍ غير متاح، مما يعود بالأمر إلى الحاجة للتنظيم للتعبئة السياسية والحشد الشعبي والتدبير لما هو أكثر جدوى.

توفّر الملحمة الغزّية، وعلى فداحة هولها؛ فرصة مجدّدا لأجل استئناف حالة سياسية شعبية تنهض بالجماهير العربية في مواجهات سياسات الطمس والهندسة، وهذا لا يتأتّى إلا من الوقوف المباشر على أسباب الخلل، والدفع نحو أفكار لتطوير التنظيمات وتجاوز إجراءات التجريف والإغلاق والتحطيم التي يمارسها النظام الرسمي.

وعلى أية حال، فإن مديح المجتمعات أو هجاءها سهل، ولكنّ ما هو أصعب التحرّر من الانطباعية نحو الفهم الصحيح، والاستعداد لدفع الأثمان بين تلك المجتمعات، وإلا فإنّ مطالبة المطمئن الآمن بعيدا عن دفع الأثمان غيرَه لتحمل التكاليف؛ دون أن يأخذ ذلك في الاعتبار على المستوى الشخصي ليكون أكثر تواضعا، من علامات البلادة الأخلاقية، التي تكشف هذه الحرب عن الكثير من صورها المروّعة!

twitter.com/sariorabi

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه الجماهير الفلسطينيين فلسطين غزة العالم العربي الجماهير تفاعل مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة رياضة رياضة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة فی البلاد

إقرأ أيضاً:

البحث العلمي تشارك بحفل تكريم الجامعات العربية المدرجة في التصنيف العربي 2024

شهد الأمين العام لاتحاد مجالس البحث العلمي العربية الدكتور عبد المجيد بنعمارة، برعاية الأمير تركي بن طلال بن عبد العزيز آل سعود - أمير منطقة عسير ورئيس هيئة تطويرها، حفل تكريم الجامعات العربية المدرجة على التصنيف العربي للجامعات في نسخته الثانية لعام ٢٠٢٤، وافتتح الحفل الدكتور عمرو عزت سلامة، الأمين العام لاتحاد الجامعات العربية، الدكتور فالح رجاء الله السلمي، مدير جامعة الملك خالد، واستضافت الحفل اليوم جامعة الملك خالد، ونظمته الجامعة بالشراكة مع اتحاد مجالس البحث العلمي العربية، واتحاد الجامعات العربية، وجامعة الدول العربية.

وقد بلغ عدد الجامعات التي تقدمت للتصنيف العربي في النسخة الثانية هذا العام ٣٧٣ جامعة ممثلة لعدد ١٦ دولة بزيادة قدرها ١٦٥ جامعة عن النسخة الأولي، وقد أكمل هذا العام متطلبات التصنيف ١٨٠ جامعة ممثلة لعدد ١٦ دولة. 

تعرف على أول عطلة رسمية للعاملين بالدولةالرئيس السيسي يرسل برقية عزاء إلى نظيره الناميبي في وفاة سام نجوما


والجدير بالذكر أنه تم إطلاق التصنيف العربي للجامعات رسمياً عام ٢٠٢٢ من مقر جامعة الدول العربية بعد تضافر جهود اتحاد الجامعات العربية بالتعاون مع جامعة الدول العربية، والمُنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (الألكسو)، واتحاد مجالس البحث العلمي العربية.

والذي يهدف إلى تحسين مُخرجات التعليم العالي والبحث العلمي لتمكينها من قيادة التطور العربي والوصول للجامعات العربية إلى الجيل الثالث والرابع للجامعات، وأن يولد في العالم العربي تصنيف دولي بمعايير حديثة تواكب متطلبات الوطن العربي -جنباً إلى جنب- مع تصنيفات الجامعات الدولية الأخرى.

مقالات مشابهة

  • ملف حقول النفط والغاز في شمال الخليج العربي التي تقع ضمن السيادة العراقية برئاسة مواطن كويتي!!
  • باحث سعودي: نشأنا على الوحدة العربية والأمن القومي العربي رغم الظروف
  • أبو الغيط: القمة العربية الطارئة ستناقش الطرح العربي لمواجهة مقترح أمريكا بشأن غزة
  • محلل سياسي فلسطيني: الموقف العربي الموحد مهم والبيانات التي تصدر «ذكية»
  • عضو بـ«حماة الوطن»: القمة العربية الطارئة خطوة لتوحيد الموقف العربي لدعم القضية
  • النمر العربي.. رمز التنوع الحيوي في المملكة وشبه الجزيرة العربية
  • حفل تكريم الجامعات العربية المدرجة على التصنيف العربي للجامعات
  • قيادي بـ«مصر أكتوبر»: القمة العربية خطوة لدعم فلسطين وتعزيز وحدة الصف العربي
  • البحث العلمي تشارك بحفل تكريم الجامعات العربية المدرجة في التصنيف العربي 2024
  • تشكيليون عرب: المجتمعات العربية تعاني من سلطة أبوية