الملحمة الغزّية والسؤال عن الجماهير العربية والفلسطينية
تاريخ النشر: 12th, December 2023 GMT
السؤال عن الجماهير الأكثر اقترابا من الملحمة الغزّية لا بدّ من ظهوره، في صور التوقع والرجاء والاستغاثة أو الغضب واللوم والعتب؛ وهذا من بدهيات السلوك الإنساني، وبقدر ما أنّ صوره الأكثر حدّة مفهومة من أصحاب الحاجة الذين يعانون المذبحة مباشرة، وبقدر ما أنّ تعبئة الجماهير وحثّها ومحاولة استنهاضها بالخطاب؛ من الأدوار الأساسية المُفترضة للمشتغلين في مجالات التوجّه للجماهير، فإنّ الواجب إزاء هذا السؤال لا ينبغي أن يقتصر على ذلك، بل إنّ الاقتصار على ذلك، من المثقف والسياسي وكلّ متحدث في الشأن العامّ، هو تورّط في الاستسهال المؤذي، وإقناع مضلّل للنفس، من هذا المثقف أو ذاك المتحدث، بأنّه قائم بدوره، بما يؤهّله لنقد مئات الملايين من الناس الذين يتساءل عن دورهم الضعيف أو الهزيل!
طُرُق المناقبية أو الهجائية، ليست هي الموصلة بالتأكيد لمعرفة الظروف المعيقة أو المحرّكة للجماهير، لأنها لا تزيد على كونها خلع ألقاب، أو منح أوصاف، في لحظات انفعال عاطفيّ، وضمور نظريّ، فضلا عن انبثاقها عن الانطباعية المحضة.
الجماهير لا يمكنها التصرّف دائما بعقل واحد ودوافع واحدة وبنحو مستمرّ، فالفعل المستمرّ المفتوح للجماهير غير ممكن بحكم طبائع الاجتماع، ولكن تنظيم الجماهير هو ما يضمن الإصرار على الفعل والبقاء في الميدان، وإلا فاستمرار الجماهير من نفسها نادر الحدوث
تقود هذه المقدّمة إلى إشكالية التنظيم في البلاد العربية، بوصفها المشكلة المباشرة، لا سيّما في البلاد الأكثر التصاقا بفلسطين، وفي بعض تجمّعات الفلسطينيين. فالجماهير لا يمكنها التصرّف دائما بعقل واحد ودوافع واحدة وبنحو مستمرّ، فالفعل المستمرّ المفتوح للجماهير غير ممكن بحكم طبائع الاجتماع، ولكن تنظيم الجماهير هو ما يضمن الإصرار على الفعل والبقاء في الميدان، وإلا فاستمرار الجماهير من نفسها نادر الحدوث، ويتطلّب شروطا موضوعيّة لا تتوفرّ إلا بنحو استثنائيّ في التاريخ. فليست القضية، والحالة هذه، غفلة الجماهير عن خطورة الحدث عليها (في حالتنا هذه خطورة المذبحة الإسرائيلية في غزّة على أهل مصر أو الأردن أو سوريا أو لبنان أو الفلسطينيين في مناطقهم الأخرى)، وإنّما في غياب التنظيم أو ضعفه، وهو ما يرجع بالنقد الكاسح لكلّ الخطابات والأفكار التي كانت تروّج في العقدين الأخيرين للاستغناء عن التنظيمات! وحتى الوعي بخطورة الأحداث على غير الغزّيين أو غير الفلسطينيين لا يتأتّى إلا من فعل منظّم قادر على النفاذ والتتابع والدوام، ولا يخضع لأجندة الإعلام التقليدي، أو لسيولة الإعلام الحديث.
ومن نافلة القول إنّ الجماهير العربية، خضعت لظروف اقتصادية وسياسية واجتماعية وأمنية متباينة بين البلاد العربية على مَرّ عقود طويلة، مما يعني بالضرورة تباين خبراتها الحزبية والتنظيمية، وتفاوت وعيها السياسي، وتباعد فهمها لواجباتها، واختلاف إدراكها لقدراتها التي تنهض بمسؤولية واجباتها تلك، بل إنّ هذه الظروف المتباينة متحقّقة في واقع الفلسطينيين أنفسهم، لعمليات الفصل القهري المفروض عليهم، واختلاف الإدارات السياسية، وما يتصل بها من أوضاع أمنية واقتصادية.
لا تنفكّ المشكلة التنظيمية عن سياسات التجريف التي مارسها عموم النظام الرسمي العربي، بما في ذلك السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، من إغلاق المجال السياسي، وتحريم العمل العامّ، وتفكيك القوى الحزبية، وإنهاك الفعاليات المؤثّرة واستنزافها، إلى درجة التحطيم الشامل، وهو ما تفاقم فيما يمكن تسميته بالثورة المضادة، وتحول المجال العربي لمئات القضايا القُطرية والجزئية التي يُضيّق ازدحامها على الفرد العربي من آفاق فهمه وتفكيره وفعله، وهو ما يقضي بالضرورة بخطأ المقارنات بين محدودية المظاهرات في البلاد العربية وبين اتساعها النسبي في البلاد الغربية، التي وبالرغم من سياساتها الرسمية المنخرطة في الحرب إلى جانب "إسرائيل" على غزّة، فإنها تتمتع بأقدار معقولة، باتت من تقاليدها المستقرّة، من حرّية الحركة والتظاهر والتنظيم، وبما وفّر للجاليات العربية والإسلامية والملونين والمهمشين فرصة تنظيم مظاهرات لا تخلو من البيِض الغربيين أصالة بالتأكيد.
لم يكتف النظام العربيّ بتحطيم مجتمعاته، ولكنّه سعى لعزلها عن فلسطين، واجتهد في تضخيم التيار الانعزالي في كلّ بلد عربيّ، لأسباب متعلّقة بمصالح النخب الحاكمة، وعلاقاتها بدوائر النفوذ والتأثير في الولايات المتحدة و"إسرائيل"، ولأنّ فلسطين من عوامل الاستنهاض والتحريك للمجتمعات العربية؛ التي تريدها أنظمتها الحاكمة مستكينة وسلبية وخاضعة بالكامل.
لم يكتف النظام العربيّ بتحطيم مجتمعاته، ولكنّه سعى لعزلها عن فلسطين، واجتهد في تضخيم التيار الانعزالي في كلّ بلد عربيّ، لأسباب متعلّقة بمصالح النخب الحاكمة، وعلاقاتها بدوائر النفوذ والتأثير في الولايات المتحدة و"إسرائيل"، ولأنّ فلسطين من عوامل الاستنهاض والتحريك للمجتمعات العربية؛ التي تريدها أنظمتها الحاكمة مستكينة وسلبية وخاضعة بالكامل
لا توجد قضايا جوهرية لدى المجتمعات الغربية، بما في ذلك الولايات المتحدة، كتلك التي تُنهك المجتمعات العربية وتثقلها، (كالاستعمار والفقر والتبعية والتفكك السياسي مثلا)، فضلا عن كون شعور المجتمعات العربية بالمسؤولية تجاه فلسطين قد ينعكس بنحو سلبيّ وعلى غير المتوقع لتوهّم عدم جدوى المظاهرات أو أنها دون المطلوب من العربيّ اللصيق، أو أنّ ما هو مطلوب أو مُجدٍ غير متاح، مما يعود بالأمر إلى الحاجة للتنظيم للتعبئة السياسية والحشد الشعبي والتدبير لما هو أكثر جدوى.
توفّر الملحمة الغزّية، وعلى فداحة هولها؛ فرصة مجدّدا لأجل استئناف حالة سياسية شعبية تنهض بالجماهير العربية في مواجهات سياسات الطمس والهندسة، وهذا لا يتأتّى إلا من الوقوف المباشر على أسباب الخلل، والدفع نحو أفكار لتطوير التنظيمات وتجاوز إجراءات التجريف والإغلاق والتحطيم التي يمارسها النظام الرسمي.
وعلى أية حال، فإن مديح المجتمعات أو هجاءها سهل، ولكنّ ما هو أصعب التحرّر من الانطباعية نحو الفهم الصحيح، والاستعداد لدفع الأثمان بين تلك المجتمعات، وإلا فإنّ مطالبة المطمئن الآمن بعيدا عن دفع الأثمان غيرَه لتحمل التكاليف؛ دون أن يأخذ ذلك في الاعتبار على المستوى الشخصي ليكون أكثر تواضعا، من علامات البلادة الأخلاقية، التي تكشف هذه الحرب عن الكثير من صورها المروّعة!
twitter.com/sariorabi
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه الجماهير الفلسطينيين فلسطين غزة العالم العربي الجماهير تفاعل مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة رياضة رياضة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة فی البلاد
إقرأ أيضاً:
WP: ترامب يكره العولمة ولكن يبدو محبا للإمبريالية
تناول تقرير لصحيفة واشنطن بوست الأمريكية٬ مفارقات الرئيس الأمريكي القادم دونالد ترامب٬ الذي يكره العولمة ولكنه يحب الإمبريالية.
وأعلن ترامب على منصة الجمعية العامة للأمم المتحدة في عام 2019 أن "المستقبل لا ينتمي إلى العولميين".
وقال التقرير، إن جمهور كبار الشخصيات في نيويورك ومعظم المحللين معتادين بالفعل على الركائز الأساسية للخطاب الانتخابي لترامب، والذي يمثل مجموعة من النخب العالمية التي لا ولاء لها لأراضي ميلادها، والتي تتحالف مع التكنوقراط الليبراليين،.
وقبل ولايته الثانية، لم يتخلّ ترامب المتجرئ عن ازدرائه لـ"العولميين". ولكن في الأسابيع الأخيرة، طغت على شعبويته أشياء أخرى: إمبريالية القرن الحادي والعشرين الجديدة. وفق الصحيفة.
ولدهشة حلفاء الولايات المتحدة، صاغ ترامب رؤية للتوسع في نصف الكرة الأرضية. لقد دعا إلى استحواذ الولايات المتحدة على غرينلاند، وهي منطقة دنماركية مستقلة. كما اقترح مرارا وتكرارا أن تصبح كندا الولاية رقم 51 في الولايات المتحدة.
كما أثار مسألة استعادة السيطرة على قناة بنما بالقوة، متذمرا من رسوم المرور والنفوذ الصيني على الممر المائي الاستراتيجي. وفي استفزاز ربما كان الأكثر اعتدالا، قال إن خليج المكسيك يجب أن يُعاد تسميته بخليج أمريكا.
وقد قوبلت ترهيبات ترامب بالرفض الفوري، ففي مؤتمر صحفي، أشارت الرئيسة المكسيكية كلوديا شينباوم إلى خريطة من القرن السابع عشر للعالم الجديد، حيث تم تسمية الجزء الأكبر من كتلة اليابسة في أمريكا الشمالية باسم "أمريكا المكسيكية".
وقد أطلق رسامو الخرائط على خليج المكسيك هذا الاسم قبل فترة طويلة من فوز الولايات المتحدة باستقلالها.
وفي حين وصف الرئيس المنتخب الحدود الشمالية لبلاده بأنها "خط مصطنع" يمكن محوه لإنشاء قوة عظمى قارية، فإن قِلة من الناس في كندا يوافقون على هذه "النكتة". تقول الصحيفة.
وقال رئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو لشبكة CNN يوم الخميس "لن يحدث هذا"، مضيفا أن حجر الزاوية في الهوية الكندية هو أنهم ليسوا أمريكيين.
وأشار إلى أن ترامب كان يحاول صرف الانتباه عن المحادثة حول الضرر الذي قد تسببه التعريفات الجمركية المقترحة على الصادرات الكندية للمستهلكين الأمريكيين.
ورد خوسيه راؤول مولينو، رئيس بنما، بأن "كل متر مربع من قناة بنما والمنطقة المجاورة لها ملك لبنما وستظل كذلك". وشدد الدبلوماسيون على أنه لا يوجد أي حقيقة في مزاعم ترامب ورفاقه بأن القوات الصينية تسيطر على الممر المائي المحوري.
وقالت الدنمارك مرارا وتكرارا إن غرينلاند ليست للبيع للولايات المتحدة. عقدت رئيسة الوزراء ميت فريدريكسن اجتماعا لقادة الأحزاب الدنماركية يوم أمس الخميس لبحث كيفية الرد على تهديدات ترامب. وقالت بيبالوك لينغ، وهي مشرعة من غرينلاند، لبوليتيكو إن الولايات المتحدة يجب أن تأخذ في الاعتبار تاريخها الخاص في إساءة معاملة الشعوب الأصلية في القطب الشمالي قبل المطالبة بأراضي الآخرين.
وأضافت لينغ: "نحن نعلم كيف يعاملون الإنويت في ألاسكا. اجعلوا ذلك عظيما قبل محاولة غزونا".
بعد رفض ترامب استبعاد استخدام القوة الاقتصادية أو العسكرية لتحقيق أهدافه في غرينلاند، أصدر عدد من الزعماء الأوروبيين بياناتهم الخاصة التي تعبر عن القلق. قال المستشار الألماني أولاف شولتز إن هناك "بعض عدم الفهم" حول تصريحات ترامب. وقال: "إن مبدأ حرمة الحدود ينطبق على كل دولة بغض النظر عما إذا كانت في الشرق أو الغرب"، في إشارة إلى المعارضة الغربية للاستيلاء الروسي على الأراضي في أوكرانيا.
إذن ما الذي يلعبه ترامب؟ تتساءل الصحيفة في تقريرها، زعمت هيئة التحرير المحافظة في صحيفة وول ستريت جورنال أن ترامب، في حالة كندا، "يتصرف بشكل استفزازي".
لكن تصاميمه بشأن غرينلاند قد تكون أكثر جوهرية، وتستغل افتتان الولايات المتحدة القديم بغرينلاند، والذي كان المسؤولون الأمريكيون يراقبونه أيضا في الوقت الذي اشتروا فيه ألاسكا في منتصف القرن التاسع عشر. وقالت إن مواردها المعدنية وموقعها الاستراتيجي في القطب الشمالي تجعلها أكثر أهمية من الناحية الجيوسياسية في القرن الحادي والعشرين.
الأربعاء الماضي، اصطحب نجل ترامب، دونالد ترامب جونيور، حاشية في زيارة خاصة للجزيرة، مليئة بالتقاط الصور مع سكان غرينلاند الذين يرتدون قبعات حمراء على غرار قبعات MAGA.
بالنسبة لترامب، فإن الحديث عن الضم والتوسع هو جزء من أسلوبه الشعبوي. قال تشارلي كيرك، وهو مؤثر من أقصى اليمين رافق دونالد ترامب جونيور في رحلته إلى غرينلاند، في بودكاست حديث: "إنه يجعل أمريكا تحلم مرة أخرى، بأننا لسنا مجرد هذا الذكر الحزين منخفض التستوستيرون، الضعيف، الجالس على كرسي، مما يسمح للعالم أن يدهسنا.. إنه إحياء للطاقة الأمريكية الذكورية. إنه عودة القدر الواضح"، [القدر الواضح مصطلح استخدمه الأمريكيون في القرن الثامن عشر لتبرير تمددهم غربا].
قدم بعض المحللين تفسيرا أقل مجازيا لتحركات ترامب الأخيرة. قال جون بولتون، مستشار الأمن القومي السابق لترامب والذي تحول إلى منتقد صريح له، لوكالة أسوشيتد برس إن استراتيجية ترامب "معاملاتية، ومرتجلة، ومتقطعة، ويُنظر إليها حقا من منظور كيف تساعد دونالد ترامب". لطالما تأمل المحللون في فعالية نهج ترامب "المجنون" في الشؤون الخارجية، وتهديده للحلفاء واستخدامه المتكرر للتهديدات. لكن ليس من الواضح ما الذي قد يكسبه من هذه الحلقة الأخيرة.
قال بولتون: "عندما تفعل أشياء تقلل من احتمالية تحقيقك للأهداف، فهذا ليس مساومة متقنة، هذا جنون".
يمكن القول إنه لا يوجد تناقض بين عدوانية ترامب الإمبريالية الجديدة وأمريكا أولا، الشعبوية المناهضة للعولمة التي عبر عنها طوال معظم حياته السياسية. في نهاية المطاف، كانت المذهبية التجارية في القرن التاسع عشر ــ السلف للنظرة الاقتصادية العالمية التي يبدو أنها تسيطر على ترامب وأنصار التعريفات الجمركية وغيرها من التدابير الحمائية في معسكره ــ عنصرا أساسيا في الإمبريالية في القرن التاسع عشر. ويبدو أن مطالب الرئيس المنتخب الأخيرة تشير إلى أنه بدأ يكشر عن أنيابه.
كتب ستيفن والت في مجلة فورين بوليسي: "يبدو أن ترامب وإيلون ماسك وأتباعهما مقتنعون بأنهم قادرون على ترهيب العالم بأسره. ويتجاوز هذا النهج إلى حد كبير المعاملات التجارية القائمة على المقايضة؛ إنه محاولة صارخة لابتزاز الآخرين وترهيبهم وإجبارهم على تقديم تنازلات استباقية، استنادا إلى خوفهم مما قد يفعله ترامب لإيذائهم".