الدولة السلجوقية التي وقفت حاجزا منيعا أمام الغزو الصليبي
تاريخ النشر: 13th, July 2023 GMT
الدولة السلجوقية، من كبرى الدول الإسلامية في تاريخ الإسلام. تأسست عام 1037م على يد السلاجقة الأتراك، وامتدت رقعتها في أوج ازدهارها من حدود الصين شرقا إلى البحر المتوسط غربا، وضمت أقاليم ما وراء النهر وإيران وآسيا الصغرى والعراق والشام.
لعبت دورا بارزا في مجرى الأحداث السياسية في المشرق الإسلامي وتصدت لعدد من الفِرق الإسلامية، ووقفت في عصور قوتها حاجزا منيعا أمام الغزو الصليبي.
وشهدت البلاد نهضة علمية وثقافية وشُيّدت المدارس النظامية في مختلف المدن، وازدهرت الحياة الاقتصادية والتجارية وتطور العمران.
ينتسب السلاجقة إلى "سلجوق بن دقاق" أحد أفراد قبيلة "قنق" التي تنتمي إلى قبائل الغز "الأوغوز" الذين عرفوا باسم "الترك".
بدأت منذ منتصف القرن السادس الميلادي حركة من الهجرات الكبيرة للقبائل التركية من موطنها الأصلي آسيا الوسطى وأخذت تتجه غربا نحو آسيا الصغرى، بسبب الظروف الاقتصادية السيئة والحروب المستمرة بين القبائل.
لم تكن قبيلة "قنق" كبيرة وقوية فانضموا تحت لواء قبائل الأوغوز الأخرى، وكان سلجوق بن دقاق القائد العام لجيش "بيغو" أحد ملوك الترك وكان فارسا ذكيا شجاعا استطاع أن يحظى بقيمة كبيرة وقبول واسع لدى الأتراك، فخاف الملك من تنامي نفوذه فحاول قتله وعندئذ انطلق سلجوق مع عائلته وأتباعه واستقروا في مدينة جند.
الدولة الغزنوية دولة إسلامية سنيّة امتدت على رقعة واسعة في بلاد الهند وما وراء النهر (مواقع التواصل الاجتماعي) مرحلة التأسيس 961م-1040ماتخذ سلجوق مدينة جند قاعدة له حوالي عام 961م وامتنع عن دفع الضرائب للأوغوز، وكان ذلك بمنزلة إعلان استقلال ذاتي، وكان قد اعتنق الإسلام فبدأ بشن غاراته على الترك.
وبعد وفاة سلجوق عام 1007م اعتلى قيادة القبيلة ابنه الأكبر أرسلان "إسرائيل"، فسار على خطى والده في توسيع حدود منطقته.
وفي عام 1020م انتقل السلاجقة إلى بخارى، وأقام أرسلان حلفا مع علي تجين حاكم بخارى وأصبح للسلاجقة قوة عسكرية يُخشى بأسها.
وفي ذلك الوقت كانت الدولة الغزنوية (دولة إسلامية سنيّة امتدت على رقعة واسعة في بلاد الهند وما وراء النهر) في أوج امتدادها وسيطرتها، وشعر السلطان محمود الغزنوي أن تنامي قوة السلاجقة يهدد دولته فقرر كسر شوكتهم.
فقام عام 1024م بخدعة وطلب مجيء أرسلان إلى سمرقند ثم أسره وأرسله إلى الهند حيث مات في السجن، وبعد 4 سنوات خرج السلطان محمود الغزنوي لقتال السلاجقة وأنزل بهم هزيمة ساحقة.
وقد ارتأى ميكائيل السلجوقي الذي خَلَف أخاه أرسلان، أن قوتهم أضعف من أن يواجهوا الغزنويين فقرر إقامة هدنة معهم، ثم أخذ يجمع شتات قومه وينمي قدراتهم العسكرية، ولكنه لم يستطع أن يكمل مسيرته إذ قتل في إحدى غزواته فتولى القيادة ابنه طغرل بك.
وطيلة حكم السلطان الغزنوي محمود لم يتمكن السلاجقة من التصدي للغزنويين، ولما توفي عام 1030م تولى الحكم ابنه مسعود الذي انشغل بالفتن التي ظهرت في الهند وخراسان والتنافس على الملك ولم يتمكن من التفرغ لمجابهة السلاجقة.
فزاد نفوذ السلاجقة وتمكّنوا من الاستيلاء على مرو ومعظم بلاد خراسان، فاضطر السلطان الغزنوي حينئذ للتصدي لهم فجهز جيشا كبيرا لقتالهم وإجلائهم عن خراسان، فزحف الجيش إلى نسا (في جمهورية تركمانستان حاليا)، وباغتوا السلاجقة وانتصروا عليهم وأسر وغنم منهم شيئا كثيرا فتراجعوا تحت ضغط الهزيمة واحتموا بالمغاور والأودية.
نسيج من الملابس الحريرية يعود إلى العهد السلجوقي (غيتي)ثم إن الغزنويين شُغلوا بجمع الغنائم، فأتيحت الفرصة للسلاجقة لتنظيم صفوفهم من جديد وقاموا بالكرّ على الجيش الغزنوي في معركة ضارية عام 1035م، أسفرت عن انتصار السلاجقة واستيلائهم على كامل خراسان.
ورغم النصر الذي حققوه فقد أقام السلاجقة صلحا مع السلطان الغزنوي وحصلوا على نوع من الحكم الذاتي، إذ قبلوا الدخول في طاعته مقابل إقراره بما في أيديهم من بلاد.
وساعدهم هذا الاعتراف والاستقرار الذي نشأ عنه في تدعيم نفوذهم وبسط سلطانهم وإقامة سلطنة في خراسان تكون ندا للغزنويين.
ثم بدأ السلاجقة في تنظيم غارات والقيام بتمردات وحققوا انتصارات على الغزنويين، وأصبحت قوتهم تشكل خطرا على الدولة الغزنوية، فأمر السلطان بتجهيز جيش كبير لقتالهم، والتقى الجيشان قرب مدينة سرخس عام 1037م، وجرت معركة حامية الوطيس انتصر فيها السلاجقة مرة أخرى.
شكّلت معركة سرخس انعطافة كبيرة في تاريخ السلاجقة، فبعد انتهاء المعركة سار طغرل بك بجيشه إلى نيسابور (في إيران حاليا) فاستولى عليها وجلس على عرش السلطان مسعود وأعلن نفسه سلطانا، ثم أرسل رسالة إلى الخليفة العباسي "القائم بأمر الله" يطلب منه الاعتراف بدولته الجديدة.
ويعد هذا التاريخ البداية الفعلية لقيام دولة السلاجقة، إذ أصبح لها كيان سياسي وحيز جغرافي، واجتمع قادتها على تنصيب طغرل بك سلطانا الذي بدأ فورا بممارسة مهامه القيادية والسياسية والإدارية.
وسميت هذه الدولة "دولة السلاجقة العظام" تمييزا لها عن الدويلات السلجوقية التي نشأت بعد تفككها، ومنذ ذلك الوقت فُتحت صفحة جديدة لمنطقة خراسان وما وراء النهر والمشرق الإسلامي عموما.
عام 1038م عاد السلطان مسعود لقتال السلاجقة، فغادر غزنة على رأس جيش جرار قاده بنفسه وخاض عدة معارك مع السلاجقة وحاز انتصارات عدة، إلا أن الجولة الفاصلة كانت في معركة "داندانقان" عام 1040م التي أسفرت عن انتصار ساحق للسلاجقة ووضعت حدا نهائيا لحكم الغزنويين في خراسان، ولم يَقدم السلطان مسعود على أية مقاومة وانسحب تماما إلى الهند.
معركة دانداناقان أسفرت عن انتصار ساحق للسلاجقة ووضعت حدا نهائيا لحكم الغزنويين (مواقع التواصل الاجتماعي) مرحلة التوسع 1041م- 1092ماستطاع طغرل بك أن ينال اعتراف السلطان العباسي عام 1041م فاكتسب السلاجقة بذلك صفة شرعية واستطاعوا توسيع حدود مملكتهم بسرعة هائلة.
التوسع في بلاد ما وراء النهر وفارس والعراقبعد أن استقر لهم الأمر في بلادهم أخذ السلاجقة بالتفكير في التوسع على نحو أكبر، وبدأ طغرل بك في توسعه باتجاه بلاد فارس، فتوجه إليها على رأس جيش كبير عام 1041م فهزم الديالمة الإيرانيين الذين كانوا يسيطرون آنذاك على معظم أجزاء بلاد فارس والعراق وانتزع جرجان وطبرستان.
وفي العام التالي، دخلت همذان وخوارزم تحت سيطرته، ثم استولى على كل ما جاورهما وأصبح السلاجقة أكبر قوة في بلاد فارس وما وراء النهر.
وتوالت الهجمات السلجوقية فضموا إليهم الري التي أصبحت عاصمة لهم، ثم فتحوا أصفهان وكرمان وتبريز، ومع هذا التمدد خضعت جميع أقاليم بلاد فارس من بحر قزوين شمالا إلى كرمان في الجنوب وانتهت بذلك دولة الديالمة.
ثم عقد اتفاق بين السلاجقة والملك البويهي حاكم بغداد، ودخلها طغرل بك عام 1055م دخول الفاتحين واستُقبل في جمع حاشد ضمَّ أعيان الدولة والأمراء والوزراء، واعترف به الخليفة سلطانا على المناطق التي كانت بحوزته وأصبح العراق ضمن دائرة نفوذه.
ثم قبض على الملك البويهي من قبل السلاجقة بتهمة تحريض العامة في بغداد واقتيد إلى قلعة طبرك بالري وبقي هناك حتى توفي.
وسلّم الخليفة العباسي بالأمر الواقع فأمر بإسقاط اسم الملك الرحيم من الخطب عام 1055م وبذلك زالت الدولة البويهية الديلمية لتحل محلها الدولة التركية السلجوقية.
ولم يبق للخليفة العباسي سلطة فعلية وأصبح بمنزلة القائد الروحي، وأخذ يعيش على الدخل الذي تدره إقطاعات خصصت له، واعتزل في بيته وفوّض الأمر كله لطغرل بك الذي غدا الحاكم الفعلي.
ثم واصل السلاجقة بعد ذلك هجماتهم نحو بلاد ما وراء النهر في عهد السلطان ملك شاه، واستطاعوا إخضاع بخارى وسمرقند عام 1089م.
منظر لقلعة فان في تركيا وعدد من المقابر السلجوقية. (وكالة الأناضول) التوسع في أراضي الدولة البيزنطيةكان التهديد الفعلي للإمبراطورية البيزنطية من قبل السلاجقة قد بدأ في عهد الإمبراطور قسطنطين التاسع مونوماكوس.
وكانت بداية توجه السلاجقة نحو الأناضول حين هجم إبراهيم (أخ طغرل بك) على جورجيا وأرمينيا حتى وصل إلى ملاذكرد ثم تابع حتى وصل طرابزون على البحر الأسود، فتصدى له البيزنطيون ودارت بينهما حروب شديدة استطاع السلاجقة أن ينتصروا فيها على البيزنطيين وأنصارهم من الأرمن والجورجيين في معركة كابوترون عام 1048، حينئذ دخل البيزنطيون في مفاوضات مع السلاجقة.
ولم تنجح المفاوضات وفضلت الدولة البيزنطية التقارب مع الدولة الفاطمية بهدف وقف الزحف السلجوقي، وفي عام 1054م قام طغرل بك بالتوغل في الأراضي الأرمنية، ففتح مدينة باركري وصالح أرجيش مقابل فدية كانت تشمل كميات كبيرة من الذهب والخيل.
ثم توجه طغرل بك إلى ملاذكرد (شرق تركيا حاليا) فحاصرها ولكنها استعصت عليه، فاتجه إلى مدينة أرزن فاستولى عليها، ثم عاد لحصار ملاذكرد ففشل في فتحها فانسحب عائدا إلى أذربيجان.
وفي عام 1057م انشغل البيزنطيون بالفتن الداخلية والصراعات على العرش، فاستغل السلاجقة ضعف الثغور فاجتاحوا كبادوكيا في قلب الأناضول، وهاجموا ملطية، وتوغل قتلمش بن إسرائيل (ابن عم طغرل بك) في جوف آسيا الصغرى وفتح قونيا وآقسرا ونواحيهما.
كما توغل السلاجقة في عمق الأراضي البيزنطية في عهد قسطنطين العاشر دوكاس حتى بلغوا مدينة سيواس عام 1059م.
ثم توفي طغرل بك عام 1063م ولم ينجب وريثا للعرش، وكان أخوه جغري بك قد توفي قبله بسنوات فتولى الحكم ابن جغري الأكبر ألب أرسلان.
وقد احتاج السلطان الجديد في مستهل عهده إلى تثبيت أركان حكمه، فاضطر لإخماد عدد من الثورات التي قامت بسبب التنازع على الملك، بدأت بثورة ابن عمه قتلمش بن إسرائيل ثم ثورة عمه بيغو، وكذلك الحركات الانفصالية من الولاة كثورة أمير ختلان، وثورة أمير صغانيان، وثورة أمير كرمان.
وقد بدأ توسع الدولة في عهده باتجاه الأراضي البيزنطية، وكانت الهجمات السلجوقية نحوها حتى وفاة طغرل بك عبارة عن غارات استطلاعية وحماية للثغور ولا تهدف إلى الاستقرار.
أبو شجاع ألب أرسلان بن السلطان جغري بك السلجوقي أرسى دعائم دولة السلاجقة ووسع رقعتها (مواقع التواصل الاجتماعي)قام ألب أرسلان بحملة كبيرة واجتاح شمال أرمينيا كله، ثم استولى على آني عام 1064م مع عدد من المدن والقلاع في جورجيا، وعيّن حاكما من قبله في آني وترك حامية كبيرة، وكانت هذه التدابير بداية استقرار السلاجقة في أرمينيا.
وفي عام 1065م فتح السلاجقة قارص ثم استسلمت لهم جورجيا عام 1068م، واستطاعوا خلال سنتين انتزاع أرجيش وملاذكرد من بيزنطة.
وقد حاول الإمبراطور رومانوس الرابع استرجاع أرمينيا فخرج بجيش كبير لقتال السلاجقة عام 1071م ووقعت بينهما "معركة ملاذكرد"، وكانت نتيجتها انتصار ساحق للسلاجقة وضربة قاضية للبيزنطيين، إذ أسر الإمبراطور مما اضطرهم إلى عقد هدنة مع السلاجقة ودفع فدية مقابل إطلاق سراحه، مع إجبارهم على إطلاق سراح كل الأسرى المسلمين والاعتراف بالحدود التي وصلوا إليها.
وتعد هذه المعركة من المعارك الفاصلة في التاريخ الإسلامي، إذ لم تشكل نصرا عسكريا فحسب، بل كانت انتصارا للدعوة الإسلامية، ففسحت المجال للمسلمين للتغلغل في آسيا الصغرى، كما قضت على التحالف البيزنطي الفاطمي.
وكانت المعركة نكسة في تاريخ الإمبراطورية البيزنطية، فلم يستطع جيشها الوقوف أمام المد السلجوقي الذي تمكّن فيما بعد من التغلغل في آسيا الصغرى وتأسيس سلطنة سلاجقة الروم على يد سليمان بن قتلمش، تحت سيادة دولة السلاجقة العظام في عهد السلطان ملك شاه.
كما استطاعوا في عهده أيضا السيطرة على القوقاز عام 1078م.
التوسع في بلاد الشامتوغّل السلطان ألب أرسلان في الأناضول وهجم على شمال سوريا، وقدّم أمير حلب محمود بن نصر بتقديم له عام 1071م وأصبح حاكما في حلب باسم السلطان السلجوقي.
وقد عزم السلطان على طرد الفاطميين من الشام، فأمر أتسز بن أوق الخوارزمي بالتوجه في حملة إلى الشام فانتزع الرملة وبيت المقدس ويافا وطبريا.
وفي عام 1072م قُتل السلطان على يد أحد الثوار يدعى يوسف الخوارزمي، وانتقل حكم الدولة السلجوقية إلى ابنه ملك شاه وكان شابا في الـ 18 من عمره، فكان لوزيره نظام الملك فضل كبير في إرساء دعائم الدولة وانتصاراتها الحربية والفكرية والعقائدية.
وقد استهل ملك شاه حكمه بقمع الثورات وحركات التمرد وتأمين الحدود من هجمات القراخانيين والغزنويين.
بنيت قلعة الفتاة العظيمة في مدينة ميرف بتركمانستان خلال العصر السلجوقي (شترستوك)ثم أكمل مسيرة والده فأرسل أتسز من جديد لغزو بلاد الشام فاستطاع دخول دمشق عام 1076م وبسط نفوذه على كامل الشام من حمص إلى أقصى فلسطين؛ عدا الساحل الذي بقي بيد الفاطميين، ثم أرسل السلطان أخاه تتش إلى الشام وولّاه على دمشق.
كما بعث بحملة إلى مصر وكانت تحت حكم الفاطميين، فدخل السلاجقة أراضيها حتى وصلوا القاهرة وحاصروها ولكنهم لم يتمكنوا من فتحها ورجعوا إلى الشام.
وفي عام 1092م توفي ملك شاه وقد بلغت الدولة في عهده أقصى اتساعها وذروة قوتها من بحيرة خوارزم شمالا إلى حدود الصين جنوبا ومن حدود الصين شرقا إلى سواحل البحر الأبيض غربا.
مرحلة الضعف والانقسام 1092م- 1141مانقضى بموت ملك شاه العصر الذهبي لدولة السلاجقة العظام وبدأ عهد الانقسامات السياسية والحروب بين ورثة العرش السلجوقي، مما أدى إلى تشتيت صفوفهم وإضعاف سلطتهم.
وبمجرد وفاته وقع انقسام كبير بسبب التنازع على الحكم، وكان الصراع قائما بين أنصار ابنه الأكبر بركياروق بن زبيدة ابنة عم ملك شاه الذي كان يبلغ من العمر 13 عاما ويقيم في أصفهان، وبين تركان خاتون زوجة ملك شاه ذات النفوذ الواسع التي كانت في بغداد وكانت تصرّ أن يخلف ابنها محمود والده، رغم عمره الذي لم يكن يتجاوز 4 سنوات.
واستطاعت تركان خاتون أن تنتزع اعتراف الخليفة العباسي لابنها وتمت مبايعته عام 1092م، واشترط الخليفة العباسي أن تكون السلطنة لمحمود والخطبة له، وأن يتولى الأمير أنر قيادة الجيوش وتدبيرها ورعاية البلاد، وأما الوزير تاج الملك أبو الغنائم فله جباية الأموال وترتيب العمال.
وحتى تضمن تركان خاتون السلطنة لابنها سجنت بركياروق، ولكن لم يمض وقت طويل حتى تمكن أنصاره من إخراجه من السجن ونصَّبوه سلطانا على أصفهان، وأصبحت دولة السلاجقة يحكمها سلطانان، محمود في بغداد وبركياروق في أصفهان.
وبعد صراع شديد بين الطرفين هُزمت توركان خاتون، وأجبرت على دفع 500 ألف دينار لبركياروق على أن تبقى أصفهان وبلاد فارس لابنها محمود، بينما تخضع باقي أراضي البلاد لحكم بركياروق.
ومع ذلك فقد استمر النزاع بينهما حتى مرض السلطان محمود وتوفي عام 1094م، عندئذ نُصّب بركياروق سلطانا على جميع السلاجقة ونال اعتراف الخليفة العباسي بذلك.
ولم يستقر الأمر للسلطان، فقد كان بانتظاره إخماد النزاع مع عمه تتش حاكم دمشق وما جاورها الذي استغل الصراع بين أبناء أخيه على السلطة فأراد الحكم لنفسه، فاتجه نحو العراق وأخضع الموصل وأعلن نفسه سلطانا وطلب اعتراف الخليفة الذي أخذ يماطل.
وعقد الجانبان عددا من التحالفات وخاضا صراعات وحروبا مريرة، حتى استقر الأمر لبركياروق بعد مقتل عمه في معركة عنيفة عند قرية داشلو عام 1095م.
كما واجه بركياروق صراعا آخر على جبهة خراسان، إذ قام عمه أرسلان أرغون بعد وفاة ملك شاه بإخضاع مرو وبلخ وترمذ وسائر خراسان، وكتب إلى ابن أخيه يعلن ولاءه ويطلب الاعتراف بحكمه، ولم يستطع بركياروق مجابهة عمه لأنه كان مشغولا بحروبه مع أخيه محمود.
رداء سلجوقي من إيران أو آسيا الوسطى معروض في المتحف الوطني للبحر في باريس (الفرنسية)فلما استقر له الأمر أرسل عدة حملات بقيادة عمه بوربرس ثم أخيه سنجر وآخرها قادها بنفسه، حيث انطلق إلى نيسابور لمجابهة الفتنة، غير أن عمه أرسلان أرغون كان في غضون ذلك قد قتل على يد أحد غلمانه.
وبعد انتهاء فتنة أرسلان أرغون دانت خراسان كلها للسلطان عام 1097، فولى عليها أخاه سنجر، وكان واليا على بلاد ما وراء النهر أيضا.
وما إن استقر الحكم نسبيا في يد بركياروق حتى اندلع النزاع من جديد، وهذه المرة بين بركياروق وأخويه الأوسط محمد والأصغر سنجر، وهما من أم واحدة وهي الجارية تاج الدين خاتون السفرية، فاصطفا ضد بركياروق واستمر هذا النزاع 5 سنوات بين عامي 1099م و1104م.
وفي عام 1099م اعترف الخليفة بمحمد سلطانا، وبهذا أصبح للسلاجقة سلطانان معترف بهما من الخليفة في آن واحد، فاصطدما في معارك عديدة وتداولا النصر والهزيمة، وطالت الحروب حتى أنهكت الجانبين وعمّ الفساد والخراب والاضطراب.
وانتهت الحرب بعقد صلح، وتقاسم الأخوة الثلاثة أراضي الدولة السلجوقية، فسيطر محمد على المناطق الشمالية وبركياروق على الأقاليم الجنوبية، أما سنجر فله خراسان وبلاد ما وراء النهر.
وبعد حوالي عام من تاريخ الصلح، مرض بركياروق ثم توفي عام 1104م، وكان شابا في الـ 24 من العمر وقد عهد بالحكم من بعده لابنه ملك شاه وكان طفلا يبلغ من العمر 5 أعوام، فلم يسمح له عمه محمد بتولي الحكم وسيطر على البلاد.
وقد حكم السلطان محمد ما يقارب 13 عاما قضاها في التصدي للإسماعلية حتى توفي عام 1118م على إثر مرض مزمن ألمّ به وكان عمره قد ناهز 37 عاما.
ثم تولى الحكم من بعده ابنه محمود وكان حينئذ في الـ 14 من عمره، لكن عمه سنجر لم يكن ليقبل بهذا الأمر وأعلن نفسه سلطانا على السلاجقة، مما أدى إلى اندلاع القتال بين سنجر وابن أخيه محمود.
وانقضى القتال بإبرام صلح قبل فيه محمود كل شروط عمه، فقرر السلطان سنجر اختياره وليا لعهده ونائبا عنه في العراق، وهكذا تأسست دولة سلاجقة العراق وظل السلطان محمود يحكمها لمدة 14 عاما.
وفي الواقع كانت دولة السلاجقة العظام قد تفككت عقب وفاة بركياروق، وأصبح كل جزء في الدولة تابعا لحاكم مستقل:
الأجزاء الشرقية تخضع لحكم سنجر الأجزاء الشمالية تخضع لحكم أخيه محمد بلاد الشام فتحت سيطرة أبناء تتش آسيا الصغرى تحت حكم أبناء سليمان بن قتلمش كرمان تحت حكم أسرة قارد استقل الأتابكة في ديار بكر وأرمينيةوأخذت جماعة الحشاشين في الاستيلاء على القلاع والتحصن فيها، وبسط الصليبيون سيطرتهم على مناطق الحدود الغربية وأجزاء من بلاد الشام وفلسطين وكانت الخلافة العباسية في بغداد في فترة ضعف وغير قادرة على السيطرة.
التهديد السلجوقي للدولة البيزنطية بدأ في عهد الإمبراطور قسطنطين التاسع مونوماكوس (مواقع التواصل الاجتماعي) الغزو الصليبيشكّلت حالة الانقسام والضعف شرخا في جسم الدولة استطاع أن ينفذ من خلاله الصليبيون وعدد من الفِرق الإسلامية كالحشاشين الذين تمكنوا من توطيد نفوذهم وسيطرتهم.
ففي أثناء الصراعات المريرة من أجل الحكم بدأت الهجمات الصليبية على بلاد المسلمين، فهزم الصليبيون سلطان سلاجقة الروم قليج أرسلان في الأناضول عام 1097م، والأمير التركماني كربوغا في أنطاكيا عام 1098م، ثم عبروا ساحل الشام فمروا بطرابلس التي أعلنت ولاءها لهم واستولوا على القدس عام 1099م، بالإضافة إلى عدد من المدن الفلسطينية وأسسوا إمارتي أنطاكية والرها ومملكة بيت المقدس.
وبسبب هذا الخلاف على الحكم لم تتكاتف الدويلات المتناحرة في دفع خطر الصليبيين، وتكبدت دولة سلاجقة الروم خسائر كبيرة في أراضيها، وبسط الصليبيون سيطرتهم على مساحات واسعة من بلاد الشام.
كما أدى الانقسام والتشرذم إلى ازدياد نفوذ دعوة "النزارية الإسماعيلية الحشيشية" برئاسة الحسن بن الصباح التي شكلت أحد أبرز التحديات التي واجهت الصعود السلجوقي.
وكان الحسن بن الصباح قد اتصل ببلاط ملك شاه وحاول التغلغل فيه، ولما عُرف عن نشاط فرقة الحشاشين مع الفاطميين هرب إلى الري ثم حصّن نفسه وأتباعه في قلاع متناثرة في أقاليم وعرة مثل أقاليم بحر قزوين.
وتراوحت سياسة ملك شاه مع الصباح بين المهادنة والمقاومة، فقد أرسل له بعض فقهاء أهل السنة لمناظرته لكن من دون جدوى، فقد ردّ بمهاجمة قلاعهم ولكنه لم ينجح في القضاء عليهم.
واستغل الحشاشون النزاعات داخل الأسرة السلجوقية بعد وفاة ملك شاه، فأخذت حركتهم تتوسع وتستولي على كثير من الأماكن الحصينة، وتتسللت إلى بلاد السلاجقة وإلى جيوشهم، وكان بركياروق مشغولا بالصراعات الدائرة على السلطة فلم يرغب بمحاربتهم، بل أراد الاستفادة من قوتهم فكثروا في صفوف جيشه وزاد بأسهم.
ثم تفطّن السلطان وخشي أن يستفحل أمرهم، فبدأ بالتصدي لهم عام 1101م وشرع في ملاحقتهم في الأقاليم وقتالهم، ولكنه لم يستطع إيقاف استفحال أمرهم، ومع تنامي ضعف الدولة وتفككها عظم نفوذ الحشاشين وأصبحوا قوة لا تقهر.
وعندما تولى السلطان محمد بن بركياروق الحكم ركز على حرب الحشاشين والإسماعيلية، وشن عليهم هجمات متتالية فأباد الكثير منهم.
وكذلك طاردهم أخوه سنجر في خراسان عام 1104م وقتل أعدادا منهم وحاصرهم في القلاع والقرى، ثم عقد معهم صلحا على ألا يبنوا حصنا ولا يشتروا سلاحا ولا يدعوا أحدا إلى مذهبهم.
وقد استفاد الحشاشون والإسماعيلية كثيرا من وفاة السلطان محمد، فاستغلوا الفرصة للنهوض والانتشار من جديد، لا سيما مع انشغال السلاجقة في الصراع الدائر على الحكم الذي أعقب وفاته، وتمكنوا خلال 15 سنة أعقبت وفاة السلطان محمد من تمديد نفوذهم إلى بلاد الشام ومن الاستيلاء على بعض القلاع والحصون.
وتمكّن الحسن الصباح من ضم المنطقة الواقعة جنوبي بحر قزوين برمتها، وكانت بمنزلة أول دولة للإسماعيلية، إضافة إلى ولاية قهستان، وظلّت كذلك حتى قضى عليهم المغول.
مهرجان "جورجيا ديدجوري" يحيي ذكرى انتصار مملكة جورجيا في معركة ديدجوري التاريخية عام 1121 ضد الإمبراطورية السلجوقية العظمى (وكالة الأنباء الأوروبية) مرحلة السقوط والانهيار 1141م-1157مبعد وفاة السلطان محمود أُعلن سنجر سلطانا أعظم للسلاجقة وتمكّن من إخضاع جميع حركات التمرد في دولته وتأليف قلوب من يطمع في الملك من أسرته، مما أدى إلى استقرار الدولة السلجوقية وبذلك استحق لقب سلطان جميع الممالك السلجوقية.
وامتد نفوذه إلى سائر البلاد، وسكت باسمه العملة في جميع هذه الأقاليم وتمكن السلطان سنجر من إعادة الهيبة والوحدة والقوة للدولة السلجوقية.
ثم بدأت الدولة في الانحدار في النصف الثاني من حكمه، وقد شكلت "معركة قطوان" عام 1141م نقطة حاسمة في بداية سقوط دولة السلاجقة، إذ التقى السلاجقة بقيادة سنجر مع جيوش الدولة القراخطائية الصينية الشمالية بقيادة الملك كورخان، واستطاع الصينيون هزيمة السلاجقة هزيمة ساحقة وقتل عدد كبير منهم، كما تمكنوا من أسر سنجر والاستيلاء على بلاد ما وراء النهر.
وكانت معركة قطوان نتيجة طبيعية لتمدد الدولة القراخطائية البوذية، التي أصبحت متاخمة لحدود الدولة السلجوقية فحصل بينهما احتكاك ومناوشات كانت نتيجتها الاقتتال.
وانتهز إستز سلطان خوارزم هزيمة سنجر فاستولى على سرخس ثم مرو ونيسابور وبيهق، ولكن كورخان هاجمهم فيما بعد وأخضعهم لحكمه.
وكانت ثورة الغز التي اندلعت عام 1153م الفتنة الأخيرة التي قضت على السلاجقة العظام في المشرق.
وقد كان الغز من القبائل التركية المسلمة التي تسكن بلاد ما وراء النهر، فلما استولت عليها الدولة القراخطائية بعد معركة قطوان طرد القراخطائيون الغز فنزحوا إلى خراسان، فحدثت مناوشات بينهم وبين حكامها مما أدى إلى وقوع صدام مسلح بين الجانبين.
فطلب منهم السلطان مغادرة البلاد فرفضوا، فجهّز حملة قادها بنفسه وكان نتيجتها هزيمة السلاجقة وقتل كثيرين منهم وأسر السلطان وجماعة من الأمراء، كما اجتاح الغز مرو ونيسابور وعاثوا في البلاد فسادا وتخريبا.
وقد تمكن السلطان سنجر بعد 3 سنوات من الفرار من الأسر مع مجموعة من أمرائه، وتوجه نحو خراسان ليجمع شتات ملكه الذي توزع بين أقاربه ومماليكه، فاستجاب له عدد من الأمراء والملوك ولكن أيامه لم تطل، حيث توفي عام 1157م عن عمر يناهز 72 سنة، وكان آخر سلاطين السلاجقة العظام.
وبعد وفاة السلطان سنجر انتهز الخليفة العباسي مرحلة الانهيار التي عرفتها الدولة السلجوقية، فاستعان بعلاء الدين تكش الخوارزمي لقتال سلاجقة العراق بقيادة السلطان طغرل، وذلك مقابل إقطاعه البلاد من نيسابور إلى الري.
وبالفعل اقتتل الطرفان قريبا من الري عام 1194م وانهزم الجيش السلجوقي وقتل السلطان طغرل، وزالت بهذه الهزيمة الدولة السلجوقية في العراق.
وانتهى الأمر بسيطرة الخوارزميين على دولة السلاجقة في خراسان وكرمان والعراق، وكان حكم سلاجقة الشام قد زال قبل ذلك بمدة طويلة، أما دولة سلاجقة الروم فقد استمرت حتى القرن الـ 14 الميلادي.
انتقل السلاجقة إلى بخارى عام 1020م وأقاموا حلفا مع حاكم بخارى وأصبح لهم قوة عسكرية يُخشى بأسها (ليوناردو) أبرز سلاطين الدولة السلطان طغرل بك 1037م-1063مهو أبو طالب محمد بن ميكائيل بن سلجوق، يعد المؤسس الحقيقي للدولة السلجوقية وأول سلاطينها، بسط سيطرته ونفوذه حتى شمل خراسان وبلاد فارس والعراق كما حقق انتصارات كبيرة في بيزنطة وجورجيا.
حارب الدولة البويهية وقضى عليها، وشهدت الدولة السلجوقية في عصره تكريما كبيرا للعلماء وشيوخ الصوفية.
السلطان ألب أرسلان 1063م-1072مهو أبو شجاع ألب أرسلان بن السلطان جغري بك السلجوقي، أرسى دعائم دولة السلاجقة ووسع رقعتها فامتدت من أقاصي بلاد ما وراء النهر إلى بلاد الشام وآسيا الصغرى، وأقام لخلفائه دولة قوية ثابتة الأركان.
وفي عهده ووصلت الأنشطة العلمية والثقافية إلى ذروتها، ونشأت نهضة كبيرة في الحياة الاقتصادية والتجارية، وأنشأ وزيره المدارس النظامية التي اكتسبت شهرة عالمية وأصبحت مثالا رائعا يقتدى به في بناء الدول وصناعة الأجيال.
السلطان ملك شاه 1072م-1092مهو أبو الفتح ملك شاه بن السلطان ألب أرسلان بن جغري بك السلجوقي، من أعظم سلاطين السلاجقة، بلغت الدولة في عهده أقصى اتساعها وذروة قوتها.
وعرف عصره نهضة علمية وعسكرية، فبرع في الحروب ورفع العمران وحفر القنوات وأقام الجسور والقلاع، وظهرت معالم الحضارة الراقية في كل ربوع مملكته، كما أسقط المكوس والضرائب وأرسى قواعد الأمن والعدل.
صورة من مدينة فان التركية التي تحتوي على عدد من المساجد التاريخية والمقابر السلجوقية (وكالة الأناضول) السلطان محمود بن ملك شاه 1092م-1094مهو ناصر الدنيا والدين محمود بن ملك شاه بن ألب أرسلان السلجوقي، تولى السلطنة صغيرا في الرابعة من عمره في فترة بدأ الضعف يدب في أوصال الدولة، ولم يستمر حكمه سوى سنتين بقي النزاع على السلطة مستمرا فيهما بين والدته تركان خاتون وأخيه الأكبر بركياروق، حتى مرض محمود ثم توفي تاركا الحكم لأخيه.
السلطان بركياروق بن ملك شاه 1094م-1104مهو ركن الدين بركياروق بن ملك شاه بن ألب أرسلان السلجوقي، حكم الدولة ما يقارب 11 سنة قضاها في صراعات متتالية وحروب عنيفة في سبيل المحافظة على عرشه، وتوفي شابا في وقت بدأ التفكك ينخر عظام السلطنة.
السلطان محمد بن ملك شاه 1104م-1118مهو غياث الدين أبو شجاع محمد بن ملك شاه بن ألب أرسلان السلجوقي اعترف به الخليفة سلطانا عام 1099م أثناء حكم أخيه السلطان بركياروق، وبهذا أصبح للسلاجقة سلطانان في آن واحد، اصطدما في معارك عنيفة أسفرت عن صلح وتقسيم الدولة وسيطر محمد على المناطق الشمالية منها.
وتفرّد بالسلطة بعد وفاة أخيه وتميز عصره بالتركيز على حرب الحشاشين والحد من تمددهم بشكل لم يسبقه به أحد من السلاطين.
السلطان سنجر بن ملك شاه 1118م-1157مهو معز الدين أبو الحارث سنجر بن ملك شاه بن ألب أرسلان السلجوقي، كان آخر سلاطين السلاجقة العظام، وقد تمكن من إخضاع جميع حركات التمرد في دولته وتأليف قلوب من يطمع في الملك من أسرته وإعادة الهيبة والوحدة والقوة والاستقرار للدولة السلجوقية.
وقد شهدت فترة حكمه نجاحات مبهرة عسكريا وثقافيا، وأصبح عصره من العصور المهمة في تاريخ الأدب الفارسي بسبب تشجيعه للعلم والكتابة.
ولكن في النصف الثاني من حكمه مني بهزائم قاصمة، وخاصة في معركة قطوان وثورة الغز، مما أدى إلى انهيار الدولة، وبموته انتهت دولة السلاجقة العظام.
المصدر: الجزيرة
إقرأ أيضاً:
الوجه الجديد لجائزة السلطان قابوس
أعلنت مساء الأربعاء الماضي أفرع الدورة القادمة من جائزة السلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب التي تحمل رقم 12، والمخصصة هذه المرة للمثقفين العرب، وقد شملت مجالات المؤسسات الثقافية الخاصة عن فرع الثقافة، والنحت عن فرع الفنون، والسِيَر الذاتية عن فرع الآداب، وقد بشرنا سعادة حبيب بن محمد الريامي؛ الأمين العام للجائزة في «المؤتمر الصحفي» في 13 نوفمبر الماضي -(وسأشرح بعد قليل لماذا وضعت «المؤتمر الصحفي» بين علامتَي تنصيص)- بأننا سنشهد في العام القادم «وجهًا جديدًا ورؤية أخرى متطورة جدًّا لجائزة السلطان قابوس»، وسيُعلَن عن ذلك في مؤتمر صحفي يُعقد في فبراير القادم. وقد استبق سعادته أي سؤال حول هذه الرؤية بالقول: «أعلم بأن الإخوة الإعلاميين دائما يقولوا أنت تقول كلام وبعدين ما نشوف منّه شي. لا أنا أعدكم أن هذا العام ستكون أشياء، وأشياء جميلة إن شاء الله، تثري الساحة الفكرية والثقافية والفنية، وتُغنينا عن فتح باب الأسئلة في هذا اللقاء، لذلك أستميحكم عذرا!»
بعد أن أعدتُ مشاهدة هذا التصريح في اليوتيوب سألتُ الذكاء الاصطناعي: ما المقصود بـ«المؤتمر الصحفي؟» فأجابني قبل أن يرتد إليَّ طرْفي: «هو تجمّع إعلامي يعقده شخص أو جهة معينة (مثل مسؤول حكومي أو شركة منظمة أو شخصية عامة) بهدف تقديم معلومات أو تصريحات مهمّة للجمهور عبر وسائل الإعلام. يتميز المؤتمر الصحفي بتوفير فرصة مباشرة للصحفيين لطرح الأسئلة والحصول على إجابات مباشرة من المتحدث أو المتحدثين الرسميين». انتهت الإجابة.
والحال أنه حسب هذه التعريف فإن اللقاء الذي عقده سعادته في نوفمبر الماضي بالصحفيين (وبعضهم جاء من دول عربية شقيقة بدعوة رسمية من مركز السلطان قابوس العالي للثقافة والعلوم لتغطية هذا الحدث الثقافي المهم) لم يكن مؤتمرًا صحفيًّا، وإنما إعلان النتائج من طرف واحد فحسب. ولا أدري لماذا يَمنع مؤتمر صحفي مستقبلي سيُعقد بعد ثلاثة أشهر، الصحفيين والإعلاميين من طرح أسئلتهم في مؤتمر صحفي حاليّ يُعقد اليوم، ولا علاقة له بما سيكون في فبراير. فذلك «المؤتمر (أعني «مؤتمر» نوفمبر») معقود حول نتائج الدورة الحادية عشرة، التي من حق الصحفيين أن يوجهوا أسئلة حولها، سواء إلى لجنة التحكيم التي كانت حاضرة، أو لسعادته شخصيا بصفته مسؤولًا عن الجوانب الإجرائية لهذه المسابقة.
وفي الحقيقة فإن سعادته تجاوز في ذلك اللقاء الحديث عن الجوانب الإجرائية إلى الحديث باسم لجان التحكيم، وقال كلامًا يثير الكثير من الأسئلة، خصوصًا في مجال الشعر. ذلك أننا اعتدنا أن تكون الجائزة المخصصة للعُمانيين جائزة تشجيعية لا تقديرية، أي أنها تُمنح لعمل واحد فقط من أعمال المتقدِّم للمسابقة، لا لمسيرته الثقافية كاملة كما هي الحال في الجائزة المخصصة للعرب. ومن هنا فإن تصريح سعادته- باسم لجنة تحكيم الشعر- فجّر تساؤلات عدة حول عدالة هذا التحكيم، فقد طرح سعادته أحد شروط نيل العمل الشعري الجائزة على هيئة تساؤل: «هل هذا العمل الذي قُدِّم يتكئ على رصيد سابق، سواء كان من حيث وجود منشورات أو دواوين سابقة، وكذلك من حيث ارتباط هذا الشعر بنتاجات أخرى، وأيضًا مدى تقبُّل الذائقة العامة لهذا الشعر، ولا أقصد بالذائقة هنا انحدار المستوى، ولكن أقصد نمطية الشعر ومحتواه وما يمكن أن تدور حوله هذه القصائد التي قُدِّمتْ». انتهى تصريح سعادته الذي يقول ضمنيًّا: إن الموضوع الذي يطرقه الديوان هو الذي يحدد فوزه من عدمه، لا كيف تناول الشاعر هذا الموضوع، وإن أي شاعر تقدم بديوانه للمسابقة لن يفوز مهما كانت القوة الفنية لديوانه ما لم يكن له دواوين سابقة، ولن يفوز إذا كان يكتب قصيدة النثر، مهما كانت قصائده جميلة، لأن «الذائقة العامة» في عُمان على الأقل لا تتقبّل هذا النوع من الشعر. والسؤال الذي كان يمكن أن يطرحه صحفيّ على سعادته لو أنه سمح بالأسئلة: «هل يتم تحكيم المسابقات الأدبية والفكرية حسب «الذائقة العامة» أم حسب «الذائقة الخاصة» التي تمثلها لجنة التحكيم؟، والسؤال الآخر الذي كان ممكنًا أن يسأله صحفي ثان: «هل هذا رأي سعادتك الشخصيّ أم هو رأي لجنة التحكيم؟».
وإذا كان سعد البازعي قد فاز بجائزة السلطان قابوس في النقد لمجمل أعماله النقدية، وفاز بها علي الحجّار لمجمل تجربته الغنائية، وفاز واسيني الأعرج بالجائزة لمجمل تجربته الروائية، أي أن هؤلاء الثلاثة كان لديهم تراكم كبير من الأعمال أهلهم لنيل الجائزة التقديرية، فإن التساؤل هنا حول تخصيص جائزة الآداب للعام القادم حول السير الذاتية، ونحن نعلم أنه لا تراكم في هذا الجنس الكتابي، فالمرء يكتب سيرته مرة واحدة فقط، حتى وإن نُشِرت أحيانًا على أجزاء، وعليه فإنه جنس كتابي يصلح لجائزة تشجيعية على عمل واحد لا لجائزة تقديرية تُمنح لأعمال كثيرة متراكمة. كما أن طرحها بصيغة الجمع «السير الذاتية» وليس «السيرة الذاتية» يطرح تساؤلات أخرى، قد تحتاج إلى توضيحات مستقبلًا أثناء وضع شروط المسابقة.
وإذْ ننتظر بترقّب الوجه الجديد لجائزة السلطان قابوس الذي بشرنا به سعادته، فإنه لا يسعني إلا أن أطرح اقتراحَيْن يمكن أن يصبّا في تطوير الجائزة ويُسهما في صنع هذا الوجه الجديد؛ الأول: أنه آن الأوان لينال المثقف والأديب والفنان العُماني جائزة تقديرية عن مجمل أعماله، أسوة بأخيه العربي، لا تشجيعية عن عمل واحد فقط، وقد أثبت مبدعونا العمانيون في السنوات الماضية أنهم ليسوا فقط قادرين على المنافسة على جوائز عربية ودولية، وإنما أيضًا الفوز بهذه الجوائز. أما الاقتراح الثاني: فهو أن يكون إعلان الفائزين بأفرع الجائزة الثلاثة من قِبَل لجان التحكيم نفسها، كما هي حال مسابقات عربية كثيرة، وأن تتلقى هذه اللجان أسئلة الحاضرين وتجيب عنها، وهذا من شأنه أن ينأى بأمانة الجائزة عن أي تساؤلات قد تثيرها- لا سمح الله- هذه النتائج.
سليمان المعمري كاتب وروائي عماني