الدولة السلجوقية التي وقفت حاجزا منيعا أمام الغزو الصليبي
تاريخ النشر: 13th, July 2023 GMT
الدولة السلجوقية، من كبرى الدول الإسلامية في تاريخ الإسلام. تأسست عام 1037م على يد السلاجقة الأتراك، وامتدت رقعتها في أوج ازدهارها من حدود الصين شرقا إلى البحر المتوسط غربا، وضمت أقاليم ما وراء النهر وإيران وآسيا الصغرى والعراق والشام.
لعبت دورا بارزا في مجرى الأحداث السياسية في المشرق الإسلامي وتصدت لعدد من الفِرق الإسلامية، ووقفت في عصور قوتها حاجزا منيعا أمام الغزو الصليبي.
وشهدت البلاد نهضة علمية وثقافية وشُيّدت المدارس النظامية في مختلف المدن، وازدهرت الحياة الاقتصادية والتجارية وتطور العمران.
ينتسب السلاجقة إلى "سلجوق بن دقاق" أحد أفراد قبيلة "قنق" التي تنتمي إلى قبائل الغز "الأوغوز" الذين عرفوا باسم "الترك".
بدأت منذ منتصف القرن السادس الميلادي حركة من الهجرات الكبيرة للقبائل التركية من موطنها الأصلي آسيا الوسطى وأخذت تتجه غربا نحو آسيا الصغرى، بسبب الظروف الاقتصادية السيئة والحروب المستمرة بين القبائل.
لم تكن قبيلة "قنق" كبيرة وقوية فانضموا تحت لواء قبائل الأوغوز الأخرى، وكان سلجوق بن دقاق القائد العام لجيش "بيغو" أحد ملوك الترك وكان فارسا ذكيا شجاعا استطاع أن يحظى بقيمة كبيرة وقبول واسع لدى الأتراك، فخاف الملك من تنامي نفوذه فحاول قتله وعندئذ انطلق سلجوق مع عائلته وأتباعه واستقروا في مدينة جند.
اتخذ سلجوق مدينة جند قاعدة له حوالي عام 961م وامتنع عن دفع الضرائب للأوغوز، وكان ذلك بمنزلة إعلان استقلال ذاتي، وكان قد اعتنق الإسلام فبدأ بشن غاراته على الترك.
وبعد وفاة سلجوق عام 1007م اعتلى قيادة القبيلة ابنه الأكبر أرسلان "إسرائيل"، فسار على خطى والده في توسيع حدود منطقته.
وفي عام 1020م انتقل السلاجقة إلى بخارى، وأقام أرسلان حلفا مع علي تجين حاكم بخارى وأصبح للسلاجقة قوة عسكرية يُخشى بأسها.
وفي ذلك الوقت كانت الدولة الغزنوية (دولة إسلامية سنيّة امتدت على رقعة واسعة في بلاد الهند وما وراء النهر) في أوج امتدادها وسيطرتها، وشعر السلطان محمود الغزنوي أن تنامي قوة السلاجقة يهدد دولته فقرر كسر شوكتهم.
فقام عام 1024م بخدعة وطلب مجيء أرسلان إلى سمرقند ثم أسره وأرسله إلى الهند حيث مات في السجن، وبعد 4 سنوات خرج السلطان محمود الغزنوي لقتال السلاجقة وأنزل بهم هزيمة ساحقة.
وقد ارتأى ميكائيل السلجوقي الذي خَلَف أخاه أرسلان، أن قوتهم أضعف من أن يواجهوا الغزنويين فقرر إقامة هدنة معهم، ثم أخذ يجمع شتات قومه وينمي قدراتهم العسكرية، ولكنه لم يستطع أن يكمل مسيرته إذ قتل في إحدى غزواته فتولى القيادة ابنه طغرل بك.
وطيلة حكم السلطان الغزنوي محمود لم يتمكن السلاجقة من التصدي للغزنويين، ولما توفي عام 1030م تولى الحكم ابنه مسعود الذي انشغل بالفتن التي ظهرت في الهند وخراسان والتنافس على الملك ولم يتمكن من التفرغ لمجابهة السلاجقة.
فزاد نفوذ السلاجقة وتمكّنوا من الاستيلاء على مرو ومعظم بلاد خراسان، فاضطر السلطان الغزنوي حينئذ للتصدي لهم فجهز جيشا كبيرا لقتالهم وإجلائهم عن خراسان، فزحف الجيش إلى نسا (في جمهورية تركمانستان حاليا)، وباغتوا السلاجقة وانتصروا عليهم وأسر وغنم منهم شيئا كثيرا فتراجعوا تحت ضغط الهزيمة واحتموا بالمغاور والأودية.
ثم إن الغزنويين شُغلوا بجمع الغنائم، فأتيحت الفرصة للسلاجقة لتنظيم صفوفهم من جديد وقاموا بالكرّ على الجيش الغزنوي في معركة ضارية عام 1035م، أسفرت عن انتصار السلاجقة واستيلائهم على كامل خراسان.
ورغم النصر الذي حققوه فقد أقام السلاجقة صلحا مع السلطان الغزنوي وحصلوا على نوع من الحكم الذاتي، إذ قبلوا الدخول في طاعته مقابل إقراره بما في أيديهم من بلاد.
وساعدهم هذا الاعتراف والاستقرار الذي نشأ عنه في تدعيم نفوذهم وبسط سلطانهم وإقامة سلطنة في خراسان تكون ندا للغزنويين.
ثم بدأ السلاجقة في تنظيم غارات والقيام بتمردات وحققوا انتصارات على الغزنويين، وأصبحت قوتهم تشكل خطرا على الدولة الغزنوية، فأمر السلطان بتجهيز جيش كبير لقتالهم، والتقى الجيشان قرب مدينة سرخس عام 1037م، وجرت معركة حامية الوطيس انتصر فيها السلاجقة مرة أخرى.
شكّلت معركة سرخس انعطافة كبيرة في تاريخ السلاجقة، فبعد انتهاء المعركة سار طغرل بك بجيشه إلى نيسابور (في إيران حاليا) فاستولى عليها وجلس على عرش السلطان مسعود وأعلن نفسه سلطانا، ثم أرسل رسالة إلى الخليفة العباسي "القائم بأمر الله" يطلب منه الاعتراف بدولته الجديدة.
ويعد هذا التاريخ البداية الفعلية لقيام دولة السلاجقة، إذ أصبح لها كيان سياسي وحيز جغرافي، واجتمع قادتها على تنصيب طغرل بك سلطانا الذي بدأ فورا بممارسة مهامه القيادية والسياسية والإدارية.
وسميت هذه الدولة "دولة السلاجقة العظام" تمييزا لها عن الدويلات السلجوقية التي نشأت بعد تفككها، ومنذ ذلك الوقت فُتحت صفحة جديدة لمنطقة خراسان وما وراء النهر والمشرق الإسلامي عموما.
عام 1038م عاد السلطان مسعود لقتال السلاجقة، فغادر غزنة على رأس جيش جرار قاده بنفسه وخاض عدة معارك مع السلاجقة وحاز انتصارات عدة، إلا أن الجولة الفاصلة كانت في معركة "داندانقان" عام 1040م التي أسفرت عن انتصار ساحق للسلاجقة ووضعت حدا نهائيا لحكم الغزنويين في خراسان، ولم يَقدم السلطان مسعود على أية مقاومة وانسحب تماما إلى الهند.
استطاع طغرل بك أن ينال اعتراف السلطان العباسي عام 1041م فاكتسب السلاجقة بذلك صفة شرعية واستطاعوا توسيع حدود مملكتهم بسرعة هائلة.
التوسع في بلاد ما وراء النهر وفارس والعراقبعد أن استقر لهم الأمر في بلادهم أخذ السلاجقة بالتفكير في التوسع على نحو أكبر، وبدأ طغرل بك في توسعه باتجاه بلاد فارس، فتوجه إليها على رأس جيش كبير عام 1041م فهزم الديالمة الإيرانيين الذين كانوا يسيطرون آنذاك على معظم أجزاء بلاد فارس والعراق وانتزع جرجان وطبرستان.
وفي العام التالي، دخلت همذان وخوارزم تحت سيطرته، ثم استولى على كل ما جاورهما وأصبح السلاجقة أكبر قوة في بلاد فارس وما وراء النهر.
وتوالت الهجمات السلجوقية فضموا إليهم الري التي أصبحت عاصمة لهم، ثم فتحوا أصفهان وكرمان وتبريز، ومع هذا التمدد خضعت جميع أقاليم بلاد فارس من بحر قزوين شمالا إلى كرمان في الجنوب وانتهت بذلك دولة الديالمة.
ثم عقد اتفاق بين السلاجقة والملك البويهي حاكم بغداد، ودخلها طغرل بك عام 1055م دخول الفاتحين واستُقبل في جمع حاشد ضمَّ أعيان الدولة والأمراء والوزراء، واعترف به الخليفة سلطانا على المناطق التي كانت بحوزته وأصبح العراق ضمن دائرة نفوذه.
ثم قبض على الملك البويهي من قبل السلاجقة بتهمة تحريض العامة في بغداد واقتيد إلى قلعة طبرك بالري وبقي هناك حتى توفي.
وسلّم الخليفة العباسي بالأمر الواقع فأمر بإسقاط اسم الملك الرحيم من الخطب عام 1055م وبذلك زالت الدولة البويهية الديلمية لتحل محلها الدولة التركية السلجوقية.
ولم يبق للخليفة العباسي سلطة فعلية وأصبح بمنزلة القائد الروحي، وأخذ يعيش على الدخل الذي تدره إقطاعات خصصت له، واعتزل في بيته وفوّض الأمر كله لطغرل بك الذي غدا الحاكم الفعلي.
ثم واصل السلاجقة بعد ذلك هجماتهم نحو بلاد ما وراء النهر في عهد السلطان ملك شاه، واستطاعوا إخضاع بخارى وسمرقند عام 1089م.
كان التهديد الفعلي للإمبراطورية البيزنطية من قبل السلاجقة قد بدأ في عهد الإمبراطور قسطنطين التاسع مونوماكوس.
وكانت بداية توجه السلاجقة نحو الأناضول حين هجم إبراهيم (أخ طغرل بك) على جورجيا وأرمينيا حتى وصل إلى ملاذكرد ثم تابع حتى وصل طرابزون على البحر الأسود، فتصدى له البيزنطيون ودارت بينهما حروب شديدة استطاع السلاجقة أن ينتصروا فيها على البيزنطيين وأنصارهم من الأرمن والجورجيين في معركة كابوترون عام 1048، حينئذ دخل البيزنطيون في مفاوضات مع السلاجقة.
ولم تنجح المفاوضات وفضلت الدولة البيزنطية التقارب مع الدولة الفاطمية بهدف وقف الزحف السلجوقي، وفي عام 1054م قام طغرل بك بالتوغل في الأراضي الأرمنية، ففتح مدينة باركري وصالح أرجيش مقابل فدية كانت تشمل كميات كبيرة من الذهب والخيل.
ثم توجه طغرل بك إلى ملاذكرد (شرق تركيا حاليا) فحاصرها ولكنها استعصت عليه، فاتجه إلى مدينة أرزن فاستولى عليها، ثم عاد لحصار ملاذكرد ففشل في فتحها فانسحب عائدا إلى أذربيجان.
وفي عام 1057م انشغل البيزنطيون بالفتن الداخلية والصراعات على العرش، فاستغل السلاجقة ضعف الثغور فاجتاحوا كبادوكيا في قلب الأناضول، وهاجموا ملطية، وتوغل قتلمش بن إسرائيل (ابن عم طغرل بك) في جوف آسيا الصغرى وفتح قونيا وآقسرا ونواحيهما.
كما توغل السلاجقة في عمق الأراضي البيزنطية في عهد قسطنطين العاشر دوكاس حتى بلغوا مدينة سيواس عام 1059م.
ثم توفي طغرل بك عام 1063م ولم ينجب وريثا للعرش، وكان أخوه جغري بك قد توفي قبله بسنوات فتولى الحكم ابن جغري الأكبر ألب أرسلان.
وقد احتاج السلطان الجديد في مستهل عهده إلى تثبيت أركان حكمه، فاضطر لإخماد عدد من الثورات التي قامت بسبب التنازع على الملك، بدأت بثورة ابن عمه قتلمش بن إسرائيل ثم ثورة عمه بيغو، وكذلك الحركات الانفصالية من الولاة كثورة أمير ختلان، وثورة أمير صغانيان، وثورة أمير كرمان.
وقد بدأ توسع الدولة في عهده باتجاه الأراضي البيزنطية، وكانت الهجمات السلجوقية نحوها حتى وفاة طغرل بك عبارة عن غارات استطلاعية وحماية للثغور ولا تهدف إلى الاستقرار.
قام ألب أرسلان بحملة كبيرة واجتاح شمال أرمينيا كله، ثم استولى على آني عام 1064م مع عدد من المدن والقلاع في جورجيا، وعيّن حاكما من قبله في آني وترك حامية كبيرة، وكانت هذه التدابير بداية استقرار السلاجقة في أرمينيا.
وفي عام 1065م فتح السلاجقة قارص ثم استسلمت لهم جورجيا عام 1068م، واستطاعوا خلال سنتين انتزاع أرجيش وملاذكرد من بيزنطة.
وقد حاول الإمبراطور رومانوس الرابع استرجاع أرمينيا فخرج بجيش كبير لقتال السلاجقة عام 1071م ووقعت بينهما "معركة ملاذكرد"، وكانت نتيجتها انتصار ساحق للسلاجقة وضربة قاضية للبيزنطيين، إذ أسر الإمبراطور مما اضطرهم إلى عقد هدنة مع السلاجقة ودفع فدية مقابل إطلاق سراحه، مع إجبارهم على إطلاق سراح كل الأسرى المسلمين والاعتراف بالحدود التي وصلوا إليها.
وتعد هذه المعركة من المعارك الفاصلة في التاريخ الإسلامي، إذ لم تشكل نصرا عسكريا فحسب، بل كانت انتصارا للدعوة الإسلامية، ففسحت المجال للمسلمين للتغلغل في آسيا الصغرى، كما قضت على التحالف البيزنطي الفاطمي.
وكانت المعركة نكسة في تاريخ الإمبراطورية البيزنطية، فلم يستطع جيشها الوقوف أمام المد السلجوقي الذي تمكّن فيما بعد من التغلغل في آسيا الصغرى وتأسيس سلطنة سلاجقة الروم على يد سليمان بن قتلمش، تحت سيادة دولة السلاجقة العظام في عهد السلطان ملك شاه.
كما استطاعوا في عهده أيضا السيطرة على القوقاز عام 1078م.
التوسع في بلاد الشامتوغّل السلطان ألب أرسلان في الأناضول وهجم على شمال سوريا، وقدّم أمير حلب محمود بن نصر بتقديم له عام 1071م وأصبح حاكما في حلب باسم السلطان السلجوقي.
وقد عزم السلطان على طرد الفاطميين من الشام، فأمر أتسز بن أوق الخوارزمي بالتوجه في حملة إلى الشام فانتزع الرملة وبيت المقدس ويافا وطبريا.
وفي عام 1072م قُتل السلطان على يد أحد الثوار يدعى يوسف الخوارزمي، وانتقل حكم الدولة السلجوقية إلى ابنه ملك شاه وكان شابا في الـ 18 من عمره، فكان لوزيره نظام الملك فضل كبير في إرساء دعائم الدولة وانتصاراتها الحربية والفكرية والعقائدية.
وقد استهل ملك شاه حكمه بقمع الثورات وحركات التمرد وتأمين الحدود من هجمات القراخانيين والغزنويين.
ثم أكمل مسيرة والده فأرسل أتسز من جديد لغزو بلاد الشام فاستطاع دخول دمشق عام 1076م وبسط نفوذه على كامل الشام من حمص إلى أقصى فلسطين؛ عدا الساحل الذي بقي بيد الفاطميين، ثم أرسل السلطان أخاه تتش إلى الشام وولّاه على دمشق.
كما بعث بحملة إلى مصر وكانت تحت حكم الفاطميين، فدخل السلاجقة أراضيها حتى وصلوا القاهرة وحاصروها ولكنهم لم يتمكنوا من فتحها ورجعوا إلى الشام.
وفي عام 1092م توفي ملك شاه وقد بلغت الدولة في عهده أقصى اتساعها وذروة قوتها من بحيرة خوارزم شمالا إلى حدود الصين جنوبا ومن حدود الصين شرقا إلى سواحل البحر الأبيض غربا.
مرحلة الضعف والانقسام 1092م- 1141مانقضى بموت ملك شاه العصر الذهبي لدولة السلاجقة العظام وبدأ عهد الانقسامات السياسية والحروب بين ورثة العرش السلجوقي، مما أدى إلى تشتيت صفوفهم وإضعاف سلطتهم.
وبمجرد وفاته وقع انقسام كبير بسبب التنازع على الحكم، وكان الصراع قائما بين أنصار ابنه الأكبر بركياروق بن زبيدة ابنة عم ملك شاه الذي كان يبلغ من العمر 13 عاما ويقيم في أصفهان، وبين تركان خاتون زوجة ملك شاه ذات النفوذ الواسع التي كانت في بغداد وكانت تصرّ أن يخلف ابنها محمود والده، رغم عمره الذي لم يكن يتجاوز 4 سنوات.
واستطاعت تركان خاتون أن تنتزع اعتراف الخليفة العباسي لابنها وتمت مبايعته عام 1092م، واشترط الخليفة العباسي أن تكون السلطنة لمحمود والخطبة له، وأن يتولى الأمير أنر قيادة الجيوش وتدبيرها ورعاية البلاد، وأما الوزير تاج الملك أبو الغنائم فله جباية الأموال وترتيب العمال.
وحتى تضمن تركان خاتون السلطنة لابنها سجنت بركياروق، ولكن لم يمض وقت طويل حتى تمكن أنصاره من إخراجه من السجن ونصَّبوه سلطانا على أصفهان، وأصبحت دولة السلاجقة يحكمها سلطانان، محمود في بغداد وبركياروق في أصفهان.
وبعد صراع شديد بين الطرفين هُزمت توركان خاتون، وأجبرت على دفع 500 ألف دينار لبركياروق على أن تبقى أصفهان وبلاد فارس لابنها محمود، بينما تخضع باقي أراضي البلاد لحكم بركياروق.
ومع ذلك فقد استمر النزاع بينهما حتى مرض السلطان محمود وتوفي عام 1094م، عندئذ نُصّب بركياروق سلطانا على جميع السلاجقة ونال اعتراف الخليفة العباسي بذلك.
ولم يستقر الأمر للسلطان، فقد كان بانتظاره إخماد النزاع مع عمه تتش حاكم دمشق وما جاورها الذي استغل الصراع بين أبناء أخيه على السلطة فأراد الحكم لنفسه، فاتجه نحو العراق وأخضع الموصل وأعلن نفسه سلطانا وطلب اعتراف الخليفة الذي أخذ يماطل.
وعقد الجانبان عددا من التحالفات وخاضا صراعات وحروبا مريرة، حتى استقر الأمر لبركياروق بعد مقتل عمه في معركة عنيفة عند قرية داشلو عام 1095م.
كما واجه بركياروق صراعا آخر على جبهة خراسان، إذ قام عمه أرسلان أرغون بعد وفاة ملك شاه بإخضاع مرو وبلخ وترمذ وسائر خراسان، وكتب إلى ابن أخيه يعلن ولاءه ويطلب الاعتراف بحكمه، ولم يستطع بركياروق مجابهة عمه لأنه كان مشغولا بحروبه مع أخيه محمود.
فلما استقر له الأمر أرسل عدة حملات بقيادة عمه بوربرس ثم أخيه سنجر وآخرها قادها بنفسه، حيث انطلق إلى نيسابور لمجابهة الفتنة، غير أن عمه أرسلان أرغون كان في غضون ذلك قد قتل على يد أحد غلمانه.
وبعد انتهاء فتنة أرسلان أرغون دانت خراسان كلها للسلطان عام 1097، فولى عليها أخاه سنجر، وكان واليا على بلاد ما وراء النهر أيضا.
وما إن استقر الحكم نسبيا في يد بركياروق حتى اندلع النزاع من جديد، وهذه المرة بين بركياروق وأخويه الأوسط محمد والأصغر سنجر، وهما من أم واحدة وهي الجارية تاج الدين خاتون السفرية، فاصطفا ضد بركياروق واستمر هذا النزاع 5 سنوات بين عامي 1099م و1104م.
وفي عام 1099م اعترف الخليفة بمحمد سلطانا، وبهذا أصبح للسلاجقة سلطانان معترف بهما من الخليفة في آن واحد، فاصطدما في معارك عديدة وتداولا النصر والهزيمة، وطالت الحروب حتى أنهكت الجانبين وعمّ الفساد والخراب والاضطراب.
وانتهت الحرب بعقد صلح، وتقاسم الأخوة الثلاثة أراضي الدولة السلجوقية، فسيطر محمد على المناطق الشمالية وبركياروق على الأقاليم الجنوبية، أما سنجر فله خراسان وبلاد ما وراء النهر.
وبعد حوالي عام من تاريخ الصلح، مرض بركياروق ثم توفي عام 1104م، وكان شابا في الـ 24 من العمر وقد عهد بالحكم من بعده لابنه ملك شاه وكان طفلا يبلغ من العمر 5 أعوام، فلم يسمح له عمه محمد بتولي الحكم وسيطر على البلاد.
وقد حكم السلطان محمد ما يقارب 13 عاما قضاها في التصدي للإسماعلية حتى توفي عام 1118م على إثر مرض مزمن ألمّ به وكان عمره قد ناهز 37 عاما.
ثم تولى الحكم من بعده ابنه محمود وكان حينئذ في الـ 14 من عمره، لكن عمه سنجر لم يكن ليقبل بهذا الأمر وأعلن نفسه سلطانا على السلاجقة، مما أدى إلى اندلاع القتال بين سنجر وابن أخيه محمود.
وانقضى القتال بإبرام صلح قبل فيه محمود كل شروط عمه، فقرر السلطان سنجر اختياره وليا لعهده ونائبا عنه في العراق، وهكذا تأسست دولة سلاجقة العراق وظل السلطان محمود يحكمها لمدة 14 عاما.
وفي الواقع كانت دولة السلاجقة العظام قد تفككت عقب وفاة بركياروق، وأصبح كل جزء في الدولة تابعا لحاكم مستقل:
الأجزاء الشرقية تخضع لحكم سنجر الأجزاء الشمالية تخضع لحكم أخيه محمد بلاد الشام فتحت سيطرة أبناء تتش آسيا الصغرى تحت حكم أبناء سليمان بن قتلمش كرمان تحت حكم أسرة قارد استقل الأتابكة في ديار بكر وأرمينيةوأخذت جماعة الحشاشين في الاستيلاء على القلاع والتحصن فيها، وبسط الصليبيون سيطرتهم على مناطق الحدود الغربية وأجزاء من بلاد الشام وفلسطين وكانت الخلافة العباسية في بغداد في فترة ضعف وغير قادرة على السيطرة.
شكّلت حالة الانقسام والضعف شرخا في جسم الدولة استطاع أن ينفذ من خلاله الصليبيون وعدد من الفِرق الإسلامية كالحشاشين الذين تمكنوا من توطيد نفوذهم وسيطرتهم.
ففي أثناء الصراعات المريرة من أجل الحكم بدأت الهجمات الصليبية على بلاد المسلمين، فهزم الصليبيون سلطان سلاجقة الروم قليج أرسلان في الأناضول عام 1097م، والأمير التركماني كربوغا في أنطاكيا عام 1098م، ثم عبروا ساحل الشام فمروا بطرابلس التي أعلنت ولاءها لهم واستولوا على القدس عام 1099م، بالإضافة إلى عدد من المدن الفلسطينية وأسسوا إمارتي أنطاكية والرها ومملكة بيت المقدس.
وبسبب هذا الخلاف على الحكم لم تتكاتف الدويلات المتناحرة في دفع خطر الصليبيين، وتكبدت دولة سلاجقة الروم خسائر كبيرة في أراضيها، وبسط الصليبيون سيطرتهم على مساحات واسعة من بلاد الشام.
كما أدى الانقسام والتشرذم إلى ازدياد نفوذ دعوة "النزارية الإسماعيلية الحشيشية" برئاسة الحسن بن الصباح التي شكلت أحد أبرز التحديات التي واجهت الصعود السلجوقي.
وكان الحسن بن الصباح قد اتصل ببلاط ملك شاه وحاول التغلغل فيه، ولما عُرف عن نشاط فرقة الحشاشين مع الفاطميين هرب إلى الري ثم حصّن نفسه وأتباعه في قلاع متناثرة في أقاليم وعرة مثل أقاليم بحر قزوين.
وتراوحت سياسة ملك شاه مع الصباح بين المهادنة والمقاومة، فقد أرسل له بعض فقهاء أهل السنة لمناظرته لكن من دون جدوى، فقد ردّ بمهاجمة قلاعهم ولكنه لم ينجح في القضاء عليهم.
واستغل الحشاشون النزاعات داخل الأسرة السلجوقية بعد وفاة ملك شاه، فأخذت حركتهم تتوسع وتستولي على كثير من الأماكن الحصينة، وتتسللت إلى بلاد السلاجقة وإلى جيوشهم، وكان بركياروق مشغولا بالصراعات الدائرة على السلطة فلم يرغب بمحاربتهم، بل أراد الاستفادة من قوتهم فكثروا في صفوف جيشه وزاد بأسهم.
ثم تفطّن السلطان وخشي أن يستفحل أمرهم، فبدأ بالتصدي لهم عام 1101م وشرع في ملاحقتهم في الأقاليم وقتالهم، ولكنه لم يستطع إيقاف استفحال أمرهم، ومع تنامي ضعف الدولة وتفككها عظم نفوذ الحشاشين وأصبحوا قوة لا تقهر.
وعندما تولى السلطان محمد بن بركياروق الحكم ركز على حرب الحشاشين والإسماعيلية، وشن عليهم هجمات متتالية فأباد الكثير منهم.
وكذلك طاردهم أخوه سنجر في خراسان عام 1104م وقتل أعدادا منهم وحاصرهم في القلاع والقرى، ثم عقد معهم صلحا على ألا يبنوا حصنا ولا يشتروا سلاحا ولا يدعوا أحدا إلى مذهبهم.
وقد استفاد الحشاشون والإسماعيلية كثيرا من وفاة السلطان محمد، فاستغلوا الفرصة للنهوض والانتشار من جديد، لا سيما مع انشغال السلاجقة في الصراع الدائر على الحكم الذي أعقب وفاته، وتمكنوا خلال 15 سنة أعقبت وفاة السلطان محمد من تمديد نفوذهم إلى بلاد الشام ومن الاستيلاء على بعض القلاع والحصون.
وتمكّن الحسن الصباح من ضم المنطقة الواقعة جنوبي بحر قزوين برمتها، وكانت بمنزلة أول دولة للإسماعيلية، إضافة إلى ولاية قهستان، وظلّت كذلك حتى قضى عليهم المغول.
بعد وفاة السلطان محمود أُعلن سنجر سلطانا أعظم للسلاجقة وتمكّن من إخضاع جميع حركات التمرد في دولته وتأليف قلوب من يطمع في الملك من أسرته، مما أدى إلى استقرار الدولة السلجوقية وبذلك استحق لقب سلطان جميع الممالك السلجوقية.
وامتد نفوذه إلى سائر البلاد، وسكت باسمه العملة في جميع هذه الأقاليم وتمكن السلطان سنجر من إعادة الهيبة والوحدة والقوة للدولة السلجوقية.
ثم بدأت الدولة في الانحدار في النصف الثاني من حكمه، وقد شكلت "معركة قطوان" عام 1141م نقطة حاسمة في بداية سقوط دولة السلاجقة، إذ التقى السلاجقة بقيادة سنجر مع جيوش الدولة القراخطائية الصينية الشمالية بقيادة الملك كورخان، واستطاع الصينيون هزيمة السلاجقة هزيمة ساحقة وقتل عدد كبير منهم، كما تمكنوا من أسر سنجر والاستيلاء على بلاد ما وراء النهر.
وكانت معركة قطوان نتيجة طبيعية لتمدد الدولة القراخطائية البوذية، التي أصبحت متاخمة لحدود الدولة السلجوقية فحصل بينهما احتكاك ومناوشات كانت نتيجتها الاقتتال.
وانتهز إستز سلطان خوارزم هزيمة سنجر فاستولى على سرخس ثم مرو ونيسابور وبيهق، ولكن كورخان هاجمهم فيما بعد وأخضعهم لحكمه.
وكانت ثورة الغز التي اندلعت عام 1153م الفتنة الأخيرة التي قضت على السلاجقة العظام في المشرق.
وقد كان الغز من القبائل التركية المسلمة التي تسكن بلاد ما وراء النهر، فلما استولت عليها الدولة القراخطائية بعد معركة قطوان طرد القراخطائيون الغز فنزحوا إلى خراسان، فحدثت مناوشات بينهم وبين حكامها مما أدى إلى وقوع صدام مسلح بين الجانبين.
فطلب منهم السلطان مغادرة البلاد فرفضوا، فجهّز حملة قادها بنفسه وكان نتيجتها هزيمة السلاجقة وقتل كثيرين منهم وأسر السلطان وجماعة من الأمراء، كما اجتاح الغز مرو ونيسابور وعاثوا في البلاد فسادا وتخريبا.
وقد تمكن السلطان سنجر بعد 3 سنوات من الفرار من الأسر مع مجموعة من أمرائه، وتوجه نحو خراسان ليجمع شتات ملكه الذي توزع بين أقاربه ومماليكه، فاستجاب له عدد من الأمراء والملوك ولكن أيامه لم تطل، حيث توفي عام 1157م عن عمر يناهز 72 سنة، وكان آخر سلاطين السلاجقة العظام.
وبعد وفاة السلطان سنجر انتهز الخليفة العباسي مرحلة الانهيار التي عرفتها الدولة السلجوقية، فاستعان بعلاء الدين تكش الخوارزمي لقتال سلاجقة العراق بقيادة السلطان طغرل، وذلك مقابل إقطاعه البلاد من نيسابور إلى الري.
وبالفعل اقتتل الطرفان قريبا من الري عام 1194م وانهزم الجيش السلجوقي وقتل السلطان طغرل، وزالت بهذه الهزيمة الدولة السلجوقية في العراق.
وانتهى الأمر بسيطرة الخوارزميين على دولة السلاجقة في خراسان وكرمان والعراق، وكان حكم سلاجقة الشام قد زال قبل ذلك بمدة طويلة، أما دولة سلاجقة الروم فقد استمرت حتى القرن الـ 14 الميلادي.
هو أبو طالب محمد بن ميكائيل بن سلجوق، يعد المؤسس الحقيقي للدولة السلجوقية وأول سلاطينها، بسط سيطرته ونفوذه حتى شمل خراسان وبلاد فارس والعراق كما حقق انتصارات كبيرة في بيزنطة وجورجيا.
حارب الدولة البويهية وقضى عليها، وشهدت الدولة السلجوقية في عصره تكريما كبيرا للعلماء وشيوخ الصوفية.
السلطان ألب أرسلان 1063م-1072مهو أبو شجاع ألب أرسلان بن السلطان جغري بك السلجوقي، أرسى دعائم دولة السلاجقة ووسع رقعتها فامتدت من أقاصي بلاد ما وراء النهر إلى بلاد الشام وآسيا الصغرى، وأقام لخلفائه دولة قوية ثابتة الأركان.
وفي عهده ووصلت الأنشطة العلمية والثقافية إلى ذروتها، ونشأت نهضة كبيرة في الحياة الاقتصادية والتجارية، وأنشأ وزيره المدارس النظامية التي اكتسبت شهرة عالمية وأصبحت مثالا رائعا يقتدى به في بناء الدول وصناعة الأجيال.
السلطان ملك شاه 1072م-1092مهو أبو الفتح ملك شاه بن السلطان ألب أرسلان بن جغري بك السلجوقي، من أعظم سلاطين السلاجقة، بلغت الدولة في عهده أقصى اتساعها وذروة قوتها.
وعرف عصره نهضة علمية وعسكرية، فبرع في الحروب ورفع العمران وحفر القنوات وأقام الجسور والقلاع، وظهرت معالم الحضارة الراقية في كل ربوع مملكته، كما أسقط المكوس والضرائب وأرسى قواعد الأمن والعدل.
هو ناصر الدنيا والدين محمود بن ملك شاه بن ألب أرسلان السلجوقي، تولى السلطنة صغيرا في الرابعة من عمره في فترة بدأ الضعف يدب في أوصال الدولة، ولم يستمر حكمه سوى سنتين بقي النزاع على السلطة مستمرا فيهما بين والدته تركان خاتون وأخيه الأكبر بركياروق، حتى مرض محمود ثم توفي تاركا الحكم لأخيه.
السلطان بركياروق بن ملك شاه 1094م-1104مهو ركن الدين بركياروق بن ملك شاه بن ألب أرسلان السلجوقي، حكم الدولة ما يقارب 11 سنة قضاها في صراعات متتالية وحروب عنيفة في سبيل المحافظة على عرشه، وتوفي شابا في وقت بدأ التفكك ينخر عظام السلطنة.
السلطان محمد بن ملك شاه 1104م-1118مهو غياث الدين أبو شجاع محمد بن ملك شاه بن ألب أرسلان السلجوقي اعترف به الخليفة سلطانا عام 1099م أثناء حكم أخيه السلطان بركياروق، وبهذا أصبح للسلاجقة سلطانان في آن واحد، اصطدما في معارك عنيفة أسفرت عن صلح وتقسيم الدولة وسيطر محمد على المناطق الشمالية منها.
وتفرّد بالسلطة بعد وفاة أخيه وتميز عصره بالتركيز على حرب الحشاشين والحد من تمددهم بشكل لم يسبقه به أحد من السلاطين.
السلطان سنجر بن ملك شاه 1118م-1157مهو معز الدين أبو الحارث سنجر بن ملك شاه بن ألب أرسلان السلجوقي، كان آخر سلاطين السلاجقة العظام، وقد تمكن من إخضاع جميع حركات التمرد في دولته وتأليف قلوب من يطمع في الملك من أسرته وإعادة الهيبة والوحدة والقوة والاستقرار للدولة السلجوقية.
وقد شهدت فترة حكمه نجاحات مبهرة عسكريا وثقافيا، وأصبح عصره من العصور المهمة في تاريخ الأدب الفارسي بسبب تشجيعه للعلم والكتابة.
ولكن في النصف الثاني من حكمه مني بهزائم قاصمة، وخاصة في معركة قطوان وثورة الغز، مما أدى إلى انهيار الدولة، وبموته انتهت دولة السلاجقة العظام.
المصدر: الجزيرة
إقرأ أيضاً:
المدفع العثماني الذي غير التاريخ.. هدم سور القسطنطينية وهزم الأسطول الإنجليزي
في عام 1807 اندلعت حرب كبيرة بين بريطانيا والدولة العثمانية، ونظرا إلى خريطة التحالفات العالمية السياسية وقتها، فقد قررت الدولة العثمانية التحالف مع فرنسا التي كان يقودها نابليون الطامح لإنشاء إمبراطورية صاعدة في القارة الأوروبية ضد روسيا القيصرية، حينها أقنع الكونت سباستياني سفير نابليون في إسطنبول العثمانيين بإلغاء امتيازات روسيا وفتح مضيق الدردنيل للسفن الفرنسية فقط، مقابل دعم فرنسي ضد التمرد في صربيا واستعادة الأراضي التي فقدها العثمانيون في البلقان.
ولما كانت روسيا حليفة لبريطانيا آنذاك، حرص البريطانيون على فرض هيبتهم بالتدخل العسكري والبحري للضغط على العثمانيين، خاصة أن بريطانيا كانت زعيمة البحار في ذلك الحين، ولكن من اللافت أن الحملة بدأت بسلسلة من الإخفاقات عقب دخولها مضيق الدردنيل كان أبرزها احتراق إحدى كبريات سفن أسطولها ثم جنوحها وانفجارها، ورغم هذه النكسات بدا وكأن الأحداث تميل لصالح البريطانيين في بدايتها؛ إذ كانت المقاومة العثمانية شبه معدومة، حيث تزامن الهجوم مع نهاية شهر رمضان من عام 1807، ولم يُظهر المدافعون مقاومة تُذكر.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2لماذا اغتال بيبرس السلطان قطز في وهج الانتصار؟list 2 of 2كيف واجه العثمانيون وحشية دراكولا الحقيقي؟end of list تاريخ المدافع حتى الدردنيلكل ذلك جرّأ بريطانيا على مطالبتها السلطان سليم الثالث بطرد السفير الفرنسي سباستياني، والتخلي عن الأسطول العثماني، وفوق ذلك التنازل عن مواقع الدردنيل لصالح حلفائها الروس، وقد رفض السلطان سليم الثالث هذه المطالب المجحفة، وهو ما جعل قائد الأسطول البريطاني داكوورث يأمر بالتوغل أكثر في المضيق في فبراير/شباط 1807، حيث تمكن من تدمير بعض القوات البحرية العثمانية، لكنه سرعان ما فشل في السيطرة على إسطنبول بسبب مفاجأة لم يكن يتوقعها تمثلت في مقاومة مدفعية عثمانية عنيفة وتحصينات دعمها الفرنسيون.
تمكنت المدافع العثمانية وعلى رأسها مدفع "الدردنيل" المصنوع عام 1464 من إلحاق أضرار كبيرة بالأسطول البريطاني، حيث بلغت الخسائر البريطانية 42 قتيلا و235 جريحا و4 مفقودين، نتيجة القصف المدفعي العثماني العنيف الذي كان من بين أدواته مدفع "الدردنيل" العملاق الذي أُنشئ في عصر السلطان محمد الفاتح قبل ذلك بأكثر من ثلاثة قرون ونصف، وهو ما دفع القائد البريطاني جون توماس داكوورث إلى الانسحاب من المعركة في مارس/آذار من العام نفسه.
إعلانوهنا يُطرح سؤال لافت، كيف أمكن لأسطول بريطانيا الحديث الذي كان يُعدّ الأقوى في عصره آنذاك، أن يُردّ على أعقابه بواسطة أسلحة بعضها يعود إلى القرون الوسطى؟
هذا سؤال أجاب عنه محررو موسوعة "أسئلة التاريخ"؛ فقد رأوا أن العثمانيين كانوا يعلمون أن هذه المدافع شديدة الفعالية والنجاح؛ لأنها سبق أن أثبتت ذلك في معارك مختلفة. والمدفع العملاق "الدردنيل" المعروض اليوم في متحف الأسلحة الملكية الإنجليزية أهداه السلطان العثماني عبد العزيز لملكة بريطانيا، وقد صنعه عام 1464 الصانع العثماني الأسطى منير علي، مقتديا بمدافع استُخدمت قبل ذلك بـ11 عاما، كان قد صممها الحرفي المجري أوربان، وكان أول استخدام لها في حصار القسطنطينية عام 1453، ويُنسب إلى ثلاثة من هذه المدافع العثمانية العملاقة أنها كانت مسؤولة عن إسقاط أسوار العاصمة البيزنطية، التي صمدت مدة ألف عام أمام المهاجمين!
يمتد تاريخ المدفع منذ القرن الثاني عشر الميلادي حيث ظهر أول مرة في الصين وكان نسخة مطوّرة من الرمح الناري، وهو سلاح استخدم البارود لإطلاق بعض المقذوفات، وبحلول أواخر القرن الثالث عشر دخل المدفع ساحة المعارك، ثم انتشر في أنحاء أوراسيا ومصر وبلاد الشام والمغرب الأقصى خلال القرن الرابع عشر، ثم تطور لاحقًا إلى أشكال متعددة، كبيرة للحصار وصغيرة للمعارك الميدانية، وحلّ تدريجيًّا محل أدوات الحصار التقليدية كالمنجنيق.
ومع تطور المدفعية أصبحت المدافع أخف وأسرع وأكثر قدرة على المناورة، وظهرت تحصينات جديدة لمواجهة قوتها التدميرية، كما غيّر المدفع شكل المعارك البحرية، إذ مكّن السفن من الاشتباك عن بُعد بقوة نارية قاتلة، وفي العصر الحديث خاصة مع إدخال التحزيز الحلزوني في الماسورة، ازدادت دقة المدفع وأصبح أشد فتكا خصوصا ضد قوات المشاة، وفي الحربين العالميتين أدى المدفع دورا محوريًّا وكان السبب الرئيسي في عدد كبير من الضحايا، ولا تزال المدافع الحديثة خاصة الآلية قريبة في تصميمها من نماذج الحرب العالمية الثانية، مع بعض التغيرات في عيارات المدافع البحرية.
هذا السلاح الثوري الذي ظهر في الصين في فترة مبكرة من القرن الثاني عشر وصل في غضون عشرين إلى ثلاثين عامًا إلى كل من العالم الإسلامي وأوروبا المسيحية، حيث ظهرت المدافع لأول مرة في المعارك الميدانية والحصارات في أوروبا، خاصة في عشرينيات وثلاثينيات القرن الرابع عشر (1320–1330م)، وقد أدى العثمانيون دورا مهمًّا في تطوير المدافع والأسلحة النارية اليدوية، وفي نشرها داخل العالم الإسلامي.
ولا يُعرف على وجه الدقة منذ متى بدأ العثمانيون استخدام المدافع والأسلحة النارية فأقدم التواريخ التي يوردها المؤرخون الأتراك والأجانب والتي تعود إلى أعوام (1354، 1364، 1386، 1389) تعتمد على مؤرخين عاشوا بعد تلك الأحداث بعدة أجيال مثل المؤرخ عاشق باشا زاده (توفي بعد سنة 889هـ/1484م)، وكذلك المؤرخ نشري، وكمال باشا زاده، وشيكاري، لذا فهي محل جدل إلى اليوم.
إعلانومع ذلك، فمن المرجح أن العثمانيين تعرفوا على الأسلحة النارية في الربع الأخير من القرن الرابع عشر عبر العديد من الدول المجاورة التي استخدمت هذه التقنية العسكرية مثل المماليك والبندقية، ودوبروفنيك، والبوسنة، وصربيا، وجنوة، وبيزنطة، أو من خلال رعايا هذه الدول.
ويستدل الباحث المجري غابور أغوستون (Gábor Ágoston) المتخصص في التاريخ العسكري العثماني على ذلك في بحث له عن المدفعية العثمانية معتمدا على تسجيل في دفتر إجمالي التيمارات (الإقطاعات العسكرية) في عهد السلطان مراد الثاني (ت 1451م)، ويتحدث عن شخص اسمه "طوبجي عمر" -والطوبجي في اللغة العثمانية هو العسكري المتخصص في سلاح المدفعية- كان أحد أصحاب الإقطاعات العسكرية في زمن السلطان بايزيد الأول الصاعقة، ويؤكد غابور أن فن المدفعية قد بدأ يتشكل في الدولة العثمانية كمؤسسة منظمة منذ عهد بايزيد الأول.
وقد استخدم العثمانيون المدافع في محاولات حصار إسطنبول أعوام 1392 و1402 و1422، إلا أنهم لم يحققوا نتائج حاسمة خلالها، أما في حصار سالونيك عام 1430، فقد نجحوا في استخدام المدفعية بفعالية، وخلال حروب العثمانيين مع المجر في أربعينيات القرن الخامس عشر، تعرفوا كذلك على مدفعية الميدان المسيحية وتكتيك "العربات الحصينة" المعروف بالألمانية باسم "واغنبورغ" (Wagenburg)، الذي استُخدمت فيه المدفعية أيضا.
ومنذ ذلك الحين ازدادت أهمية المدافع في كل من الحصارات والمعارك الميدانية العثمانية، وكما أظهرت حملة فتح إسطنبول عام 1453، فقد استخدم العثمانيون المدافع وتكنولوجيا البارود الجديدة بكفاءة عالية، سواء في هدم التحصينات أثناء الحصار أو في إغراق السفن.
مدافع أوربان والدردنيل العملاقةوقُبيل حصار القسطنطينية بدأت الاستعدادات عبر إبرام سلسلة من الاتفاقيات مع القوى المحيطة بالحدود بهدف تقليل التهديدات الخارجية خلال الحصار، وبالتوازي مع هذه الإجراءات انطلقت التحضيرات العسكرية، وكان أبرزها تصنيع أدوات هجوم فعالة قادرة على اختراق التحصينات الدفاعية للمدينة.
ومن أهم هذه التحضيرات إنتاج مدافع قادرة على إلحاق أضرار كبيرة بأسوار إسطنبول الحصينة، وفي هذا السياق قدّم صانع المدافع المجري أوربان خدماته للسلطان محمد الفاتح، وأسهم في تصنيع أقوى المدافع آنذاك وهي مدافع استمرت فعالياتها عدة قرون، وبحسب المؤرخ البيزنطي المعاصر لفتح القسطنطينية ميخائيل دوكاس فقد عرض أوربان خدماته على الإمبراطورية البيزنطية أولا غير أن الإمبراطور قسطنطين الحادي عشر رفض العرض؛ لعدم قدرته على دفع الأجر المطلوب، كما أن الإمبراطورية لم تكن تمتلك المواد الخام اللازمة لصناعة مثل هذا السلاح العملاق بمواصفات أوربان.
وكما يوضح الباحث غابور أغوستون كانت المدافع العملاقة قد بدأت الظهور في حروب الحصار الأوروبية، إلا أن أوربان أراد أن يأخذ هذا المفهوم إلى أبعد مدى، وهكذا قرر عرض خدماته على الطرف الآخر السلطان محمد الفاتح، وقد سأل السلطانُ أوربانَ عما إذا كان قادرا على صناعة مدفع يستطيع تحطيم أسوار القسطنطينية، فجاء رد أوربان واثقًا:
"بوسعي أن أُسبك لك مدفعًا يطلق قذيفة بالحجم الذي تطلبه، لقد درستُ أسوار المدينة عن كثب، ويمكنني أن أحيلها إلى غبار، بل إنني أستطيع بمقذوفات مدفعي أن أُسقط ليس فقط هذه الأسوار، بل حتى أسوار بابل ذاتها".
وهكذا بدأ أوربان عمله في العاصمة العثمانية القديمة أدرنة، حيث حفر قالبا ضخما في الأرض وصب فيه البرونز المنصهر، وكانت النتيجة ولادة أحد أكبر المدافع في التاريخ، وهو المدفع المعروف بـ"البازيليكا" (Basilica)، أو مدفع أوربان، كما واصل أوربان صناعة مدافع أخرى حتى حلول موعد الحصار في مايو 1453، لكنها لم تصل إلى حجم هذا المدفع العملاق.
إعلانكان طول مدفع أوربان العملاق يزيد على 27 قدمًا (نحو 8.2 أمتار)، وكان ضخما لدرجة أنه كان لا بد من تفكيكه ونقله باستخدام 60 ثورا، بمرافقة طاقم يصل إلى 400 رجل، كما بلغ قُطر فوهته نحو 30 إنشا (76 سم)، وبلغ سُمك جدرانه البرونزية 8 إنشات (20 سم)، وكان يُطلق قذيفة عملاقة مصممة لتحطيم التحصينات من أول ضربة. أما المدفع المعروض عند مدخل المتحف العسكري في تركيا اليوم، والتابع لفترة الفتح العثماني، فقد صُنع بجسم واحد، ويبلغ وزنه 15 طنًّا، وطوله 424 سم، وقطره الخارجي 63 سم.
وبعد مدفع أوربان يأتي مدفع "الدردنيل" من حيث الضخامة والأهمية حيث صُنع أيضا في عهد السلطان محمد الفاتح، وقد تَبيَّن من النقوش المنقوشة عليه أنه من صنع الحرفي "الأسطى منير علي" بعد نحو عشر سنوات من فتح إسطنبول سنة 1464م، ويتشابه مدفع الدردنيل في تقنيته وبنيته مع مدفع أوربان، فكلاهما يتكون من جزأين يُربط أحدهما بالآخر بوصلات لولبية، مما يسمح بتجميعهما في ميدان المعركة.
وقد صُمم مدفع الدردنيل أيضا على أنه سلاح للحصار، وكان يزن 16.8 طنًّا، ويبلغ طوله 17 قدما (حوالي 5.2 أمتار)، بقُطر يقارب 3.5 أقدام (نحو 1.1 متر)، وكان يطلق قذيفة ضخمة لمسافة تبلغ حوالي ميل ونصف (نحو 2.4 كم)، ولكي تحقق هذه المدافع العملاقة أكبر قدر من الفاعلية، خاصة مع قلة عدد مقذوفاتها اليومية التي بلغ أقصاها سبعة مقذوفات، وبُطء عملية الإطلاق نفسها، فقد صنع العثمانيون مئات من المدافع الأصغر حجما والأكثر فعالية وحركة لإشغال البيزنطيين عن إصلاح الأجزاء التي كانت تُهدم بفضل المدافع العملاقة، وخاصة مدفع أوربان.
وكما يذكر الباحث ج. هـ. ليفروي، في دراسته "المدفع العظيم لمحمد الثاني" كان من اللافت أن مدفع الدردنيل الذي أنشأه الأسطى منير علي العثماني ظلّ في الخدمة العسكرية حتى عام 1807، حيث استُخدم في ذلك العام أثناء الهجوم الذي شنّه الأميرال البريطاني جون توماس داكوورث على إسطنبول في الحملة البريطانية، إذ أُطلق لمنع عبور السفن البريطانية مضيق جناق قلعة.
وفي عام 1868 نُقل مدفع الدردنيل إلى بريطانيا ليُهدى إلى الملكة فيكتوريا من قبل السلطان عبد العزيز، بمناسبة زيارته الرسمية للمملكة المتحدة، وكما يذكر أحمد قآن طوقصون في دراسته "مقارنة الخصائص الباليستية لمدفع أوربان مع نظرائه في القرن الخامس عشر"، فقد صُنع كل من مدفع أوربان والدردنيل العملاقة في الدولة العثمانية بتقنية الصب المكون من قطعتين، بحيث تتكون كل منهما من سبطانة (فوهة الإطلاق) وحجرة البارود، ويتم ربط الجزأين معًا باستخدام وصلة لولبية (برغي)، وقد استخدم البرونز في عملية الصب، لكنه كان يتطلب دقة عالية خاصة عند إدخال القصدير في التركيبة، لأن إنتاج كميات كبيرة عبر قنوات صب طويلة يؤدي إلى توزيع حراري غير متجانس، وهذا التفاوت في الحرارة يقلل من سيولة المعدن المنصهر، ويؤدي إلى تكدّس القصدير في مناطق معينة.
ونتيجة لذلك كان يطرأ تغير في خواص المعدن من أبرزها التغير في قيمة الصلابة (hardness) بين أجزاء المدفع، وبحسب طوقصون فقد أظهرت القياسات التي أجريت على مدفع الدردنيل أن قيمة الصلابة كانت تقل تدريجيا باتجاه فوهة السبطانة، ويُستدل من ذلك على أن المدفع صُبَّ بشكل عمودي مع توجيه الفوهة إلى الأسفل أثناء عملية التصنيع.
أما المنطقة التي تحتوي على الوصلة اللولبية فقد تميزت بصلابة أعلى نسبيا نتيجة المعالجة الميكانيكية التي خضعت لها، مما أدى إلى تقوية المعدن موضعيًّا. ومع ذلك فإن ارتفاع الصلابة المفرط يقلل من "الليونة" (القدرة على الامتصاص)، وبالتالي يضعف مقاومة المعدن للضغط العالي والحرارة الشديدة الناتجين عن عملية الإطلاق.
ويذكر المؤرخ ميخائيل دوكاس أن مدفع أوربان كان يُطلق خلال حصار القسطنطينية ما بين ثلاث وسبع طلقات يوميًّا، وكان يُبرد بكميات كبيرة من زيت الزيتون بين الطلقات للحيلولة دون تشقق المعدن أو انفجاره بسبب درجات الحرارة العالية الناتجة عن الاحتراق المتكرر.
ولم تكن أسوار القسطنطينية وكيفية هدمها هي وحدها التي تشغل عقل الفاتح في ذلك الحين، وقد وجد ضالته في مدفع أوربان العملاق، فقد كان يهتم كذلك بضرورة إمطار الأساطيل البيزنطية والأوروبية الداعمة لها والراسية في مضيق البوسفور وقتها، وكيفية القضاء عليها أيضا بواسطة المدافع، ولكن المشكلة الكبرى وقتها أن المدافع كانت تُمطر بطريق مستقيمة.
إعلانوالحق أن السلطان محمد الفاتح كان يمتلك بفضل مواهبه المتعددة معرفة فنية دقيقة في مجال تقنية المدافع، فيذكر المؤرخ البيزنطي كريتوفولوس في تاريخه الذي خصصه للفاتح أنه خلال الحصار تساءل السلطان محمد الفاتح عمّا إذا كان من الممكن قصف السفن البيزنطية الراسية في البوسفور بواسطة المدافع، لكن المحيطين به أوضحوا أن إطلاق النار من المدافع الموجودة حينها غير ممكن بسبب العوائق التي تشكلها أسوار منطقة غلَطة، لأنها تمنع القذائف من بلوغ أهدافها بصورة مباشرة.
وفي ظل تلك الظروف اقترح السلطان محمد الفاتح تصنيع نوع جديد من المدافع، يعمل بطريقة القصف القوسي العالي، على غرار قذائف الهاون في وقتنا الحاضر، بحيث تطلق القذيفة إلى الأعلى لتسقط عموديا وبقوة على السفن المستهدفة وتغرقها، ووفقًا للمؤرخ كريتوفولوس، فقد صُنع هذا المدفع فعلا، واستُخدم ضد سفن المدافعين البيزنطيين، وحقق نجاحًا كبيرا في تدميرها.
ونظرًا إلى أن تقنية المدافع والمعرفة المعدنية المرتبطة بها كانت لا تزال في مراحلها المبكرة خلال القرن الخامس عشر، فقد صُنعت المدافع آنذاك من الحديد المطروق أو البرونز، وكان إطلاق القذائف يتم من خلال حشو المدفع من الفوهة بالبارود والمقذوف، ثم إشعال النار عبر فتحة صغيرة تُعرف باسم "فتحة الإشعال".
مع أن بعض هذه المدافع استُخدمت خلال فتح إسطنبول، فقد تم في عهد السلطان محمد الفاتح تصنيع مدافع بأعيرة مختلفة، وقد وصلت إلينا منها ستة نماذج في يومنا هذا؛ أربعة من هذه المدافع لا تزال محفوظة في إسطنبول، ويوجد مدفع منها في متحف السلاح الوطني التاريخي في مدينة تورينو بإيطاليا، وآخر في متحف "فورت نيلسون" بمدينة بورتسموث في إنجلترا.
وبسبب نجاحها الساحق في هدم أسوار القسطنطينية وسقوط الإمبراطورية البيزنطية يبدو أن المدافع العثمانية العملاقة أثرت في القوى الأوروبية في ذلك الوقت، فثمة تشابه كبير للغاية بين رسومات الرسام الإيطالي الشهير ليوناردو دافنشي (1452- 1519) وبين المدافع العثمانية العملاقة، الأمر الذي يكشف أنها أحدثت ثورة في عالم التصنيع العسكري الأوروبي في ذلك الحين.
ولدينا ما يثبت أن دافنشي كان مهتما بإبرام علاقات مع سلاطين الدولة العثمانية وخاصة السلطان بايزيد الثاني إذ عرض عليه إنشاء جسر على مدخل القرن الذهبي بالبوسفور، وهو ما يذكره إبراهيم المرعشي في مقالته عن "ليوناردو دافنشي والإمبراطورية العثمانية".