كيف سقطت منظمات حقوق المرأة والطفل باختبار التعاطف مع ضحايا غزة؟
تاريخ النشر: 12th, December 2023 GMT
اهتمت منظمات حقوق المرأة ومؤسسات رعاية الطفولة والأمومة في مصر والدول العربية على مدار عقود بـ قضايا ختان الإناث، وظاهرة ارتداء الحجاب للفتيات، ومنع زواج القاصرات، وكذلك على قضايا الاعتداء الجسدي والجنسي من الأزواج على الزوجات، وتغيير قوانين الخلع والطلاق وتمكين المرأة من مسكن الزوجية، وأيضا حرية المرأة في الحياة خارج إطار الزواج.
إلا أن تلك المنظمات والمؤسسات التي ظلت لسنوات تتخذ من حقوق المرأة والطفل هدفا للهجوم على الشرع الإسلامي سقطت بامتياز في اختبار الإنسانية والتعاطف والدعم لأطفال ونساء وأمهات غزة التي سقط شهيدا منهم بين 5 آلاف سيدة و7 آلاف طفل.
وعلى سبيل المثال لم يصدر عن "المجلس القومي للطفولة والأمومة" في مصر، عبر صفحته بـ"فيسبوك"، دعم للطفل والمرأة الفلسطينية سوى في إطار ما سمح به النظام من إعلان لجمع المساعدات، بينما لم ينشر المجلس صورة واحدة من جرائم الاحتلال بحق نساء وأطفال غزة، ولم يشارك مقطع فيديو واحد لصراخ الأطفال والأمهات وجثثهم الملقاة بالشوارع والمشافي، بحسب مراقبين.
ورغم أن المجلس، نعى يوم 18 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي وبعد 11 يوما من بدء المجازر الإسرائيلية، ضحايا أطفال غزة، إلا أنه استغل البيان للإشادة بالموقف المصري ومجهودات رئيس النظام عبدالفتاح السيسي.
وفي المقابل، واصل المجلس الحكومي، مناقشة الحقوق النفسية للأطفال والمراهقين، والاحتفال باليوم العالمي للطفل 20 تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، والتحذير من أي خطر أو تهديد لهم عبر الإنترنت، والإعلان عن لقاءات توعوية وتدريبات للقضاء على ختان الإناث بالأقصر وأسيوط والشرقية.
"عربي21"، طرحت التساؤل، "هل سقطت منظمات حقوق الطفل والمرأة المصرية العربية في اختبار غزة؟"، على عدد من الحقوقيات والمهتمات بملفات الأسرة والمرأة والطفل، والخبيرات بالشأن المصري والفلسطيني.
"قمع حكومي وأجندات غربية"
ترى الصحفية والباحثة والإعلامية المصرية المهتمة بالشأن الفلسطيني هبة زكريا، إن "الحاصل لجمعيات المرأة والطفل له مستويين، الأول: أنهم جزء من المجتمع، والمجتمع بقواه المدنية والشعبية بالعالم العربي تم قمعه بالـ10 سنوات الأخيرة مع الثورات المضادة للربيع العربي، بفترة قاسية وساحقة لأي رأي وحراك شعبي".
وتضيف في حديثها لـ عربي21 أنه "تمت السيطرة على منتجات الربيع العربي، وأُفرزت حكومات ديكتاتورية طاغية مهيمنة، لا تعطي مساحة من الحرية، والاستبداد بالنسبة لها الأساس".
وتشير إلى أن "التفاعل مع قضية فلسطين له مستويان أولهما: عاطفي، وهو ما يقال عنه أضعف الإيمان، ثم يتبع هذه العاطفة تقييم عقلاني للموقف وحراك، ويمكن تتجاوز التقييم العقلاني وتدفعنا العاطفة للحراك؛ لكن كل الأبواب أغلقت أمامه".
وتلمح زكريا، إلى أنه يجب "ألا ننسى أنه بوجدان الشعوب ربما وببعض الجمعيات ومنظمات المجتمع المدني هناك رغبة في الحراك، لكن المساحة المتاحة من قبل الأنظمة وفي مقدمتها مصر، محدودة أو قل معدومة".
وتوضح أن "هذه النقطة الأولى والكاشفة أن منظمات المجتمع المدني وحقوق المرأة والطفل جزء من مجتمع يتم قمعه بمنظماته وأفراده وهيئاته وتشكيلاته وبكل شيء فيه طالما خارج إطار النظام، ولا توجد مساحة لحرية للتعبير عن أية أفكار أو انفعلات، إلا في إطار ما تريده السلطة ويخدم أهدافها".
النقطة الثانية، وفقا للباحثة المصرية، هي "نشأة تلك المنظمات بمصر ودول عربية، فنجد أن المتعلقة منها بالمرأة والطفل وحقوقهما نشأت في إطار أجندة غربية أكثر منها أجندة وطنية، ووضعت الأجندة الغربية أولويات لحقوق المرأة والطفل وفقا لمفاهيمها الغربية، وطبقا لثقافة وخصوصية المجتمع الغربي، وبحسب نظرته لنا".
وتضيف أنه "وبعيدا عن نظريات المؤامرة، وبافتراض حسن النية لديها، فإنها بشكل منهجي وعلمي تماما نشأت في ظل أجندات غير وطنية بل في ظل أجندات دولية غربية تضع أجندتها وأولوياتها وتتبنى دعمها بناء على تبني هذه الأجندة، التي لو نحينا أية أهداف مغرضة معينة، فيبقى الهدف المنطقي أمامها نظرة غربية لمجتمعاتنا وقياس أولوياتهم على مجتمعاتنا".
وتتساءل زكريا: "أين خصوصية مجتمعاتنا وأولوياته واحتياجاته؟"، مجيبة: "لا ولم يوجد، ولذلك نجد قضاياهم تركز على الخلع وقضايا شخصية أثارت جدل المجتمع أكثر من مراعاة حقوق المرأة والطفل، ونرى نتيجتها الآن بارتفاع نسب الطلاق وغيرها، في إطار عوامل أخرى".
وتختم رؤيتها بالقول: "لو سحبنا هذا على الحالة الراهنة في فلسطين؛ سنجد أن الجمعيات الغربية التي تعمل من منظور حقوقي وإنساني متعاطفة من هذا المنطلق، ولأنها متسقة مع أجندتها فتعاطفها ظاهر، بالإضافة لمساحة الحرية المتاحة، عكس الوضع لدينا؛ فليس هناك أجندة متسقة مع خصوصياتنا ولا مساحة حرية نعبر بها عن هذا الحراك".
"أجندة الممول"
وتعرب الحقوقية هبة حسن، عن أسفها الشديد بسبب حالة التناقض بين ما كانت تتبناه منظمات حقوق المرأة ومؤسسات رعاية الطفولة والأمومة المصرية والعربية، وبين صمتها وعدم دعمها للطفل والمرأة الفلسطينية.
المدير التنفيذي لـ"التنسيقية المصرية للحقوق والحريات"، تضيف لـ"عربي21"، أن "كثير من المنظمات تعمل فيما يشغل داعمها وممول أنشطتها، وبحسب أجندة قد تختلف عن أولويات واهتمامات مجتمعاتها".
وتؤكد أن "هذا يظهر خاصة بالمنظمات العاملة بمنطقتنا العربية، وما تثيره من قضايا وملفات لا تمثل في الحقيقة المشاكل الحقيقية لمجتمعاتنا".
وتشير إلى أنه "حتى من تجتهد من المنظمات للاهتمام بالأولويات الحقيقية فإنها تتأثر بالضغوط التي تمارسها اللوبيات، والجهات الكبرى، وهذا ما ظهر بقوة بالحالة الفلسطينية".
وتوضح أن "قليل من الأحرار والشرفاء من المؤسسات التي تفاعلت مع واقع الجرائم التي ترتكبها إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني، وفي ذروته مع النساء والأطفال".
وتتعجب قائلة: "وكأن آلاف الشهداء والجرحى غير مرئيين بالشكل الكافي لينالوا دعم تلك المنظمات، أو لنكن أكثر دقة، فالتجاهل سيد المشهد، حيث يقابل الحقيقة وفضحها ضغوط بل وتضييق واتهامات معلبة".
وتتابع: "كما رأينا وفي حالة فجة إلغاء إقامة المنسقة العامة للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية بالأراضي الفلسطينية المحتلة، أعلى مؤسسة دولية، ولم يجد الموقف استنكارا كافيا من دول ومؤسسات منادية بحقوق الإنسان وتلتزم بالمواثيق الدولية".
حسن، تشير إلى نموذج لقضايا مماثلة لجرائم قتل الفلسطينيين ولاقت اهتمام المنظمات وظهرت فيها كمدافعة عن حقوق المرأة والطفل، قائلة: "للأسف الواقع العام كذلك، ومنه موقف تلك المنظمات من وفاة الإيرانية مهسا أميني في أيلول/ سبتمبر 2022، عند اعتقالها بسبب رفضها ارتداءها الحجاب بشكل صحيح".
وتلمح إلى أن "تعرض أميني، للضرب ووفاتها بنوبة قلبية، حالة استحقت بالطبع التعاطف والدفاع عنها من كل المنظمات المتحدثة عن العنف ضد المرأة وقد فعلت، ولكن آلاف الحالات المماثلة في غزة وبدون اعتقال أو تحقيق تموت فقط لأنها أرادت الحرية أو ربما حياة بسيطة مع أسرهم في بيوتهم".
"أصيبت بالخرس"
وفي حديثها لـ"عربي21"، تتحدث الناشطة الحقوقة أسماء مهاب، عن إنشاء الأمريكية كاري تشابمان "التحالف الدولي للمرأة" كأول منظمة تدافع عن حقوق المرأة وذلك ببرلين في 3 حزيران/ يونيو 1904، متسائلة: عن مبادئها ومبادئ ما تلاها من جمعيات؟ وعن ماذا يدافعون وبأي مرجعية؟.
وتشير إلى أنها "تعمل على تعزيز حقوق المرأة والمساواة بين الجنسين، ومرجعيتها تتمسك برؤية نسوية شاملة ومتعددة ومتجذرة بالمُثُل الليبرالية التقدمية، ومن هنا كان الرابط بينها وبين ما تلاها من منظمات المرأة والتوجه نحو سن القوانين ومع دعم الأعمال الفنية لهم".
وتؤكد أن تلك القوانين والأعمال الفنية "رسخت لأهداف ثابتة ظهرت جلية في إدعاء أن حرية المرأة بتخليها عن عاداتها وتقاليدها، ومساواتها بالرجل، وتمثل ذلك بقضايا (الإرث، والعمل)، وسن قوانين الطلاق والخلع".
وترى مهاب، أنها "مسميات تم العزف عليها وتصفيتها من محتواها وتشويه الجانب الإيجابي منها وكل ما يرتبط بالدين".
وهنا تسأل: "لماذا المرأة؟"، لتجيب قائلة: "لأنها ببساطة قوامة الشعوب وأساس المجتمع، وانهيار المجتمعات يأتي من المرأة، لذلك كانت الحرب الضروس عليها".
وتضيف: "وتحتاج المرأة بفلسطين لدعم حقيقي الآن، فهي شهيدة وجريحة وأم الشهداء والجرحى، التي تحطم بيتها، وضاع مالها"، متسائلة: "فهل هناك احتياج أكثر من ذلك؟، وأين دور المنظمات الدولية والحقوقية التي طالما تشدقت بحقوق المرأة؟"، مجيبة: "أصيبت بالخرس".
وتوضح أنه "ليس هذا هدف تلك المنظمات، فهدفها الحقيقي من حقوق المرأة تفريغها من القيم، بينما المرأة التي تحافظ على قيمها ووطنها وحريتها ليس لها لسان يدافع عنها، من مدعي الدفاع عن حقوق المرأة".
أما عن منظمات الأمومة والطفولة تقول الناشطة المصرية: "حدث ولا حرج"، متسائلة: أين دورهم مع قتل حوالي 8 آلاف طفل فلسطيني، وجرح وإعاقة أضعاف ذلك؟، أين صوتهم وحناجرهم التي صدعونا بها عندما نادوا بحقوق الطفل؟".
وواصلت تساؤلاتها: "هل نجحوا بإنقاذ الطفل بمجتمعات انتشر بها أطفال الشوارع وأصبحوا قنابل موقتة؟، أم استُخدموا لحماية الأنظمة؟، خاتمة بقولها: "ولكن ستجدهم حاضرين بشدة للحديث عن زواج القاصرات، وقوانين الخلع، والطلاق، وتمكين المرأة من مسكن الزوجية".
"مخترقة فكريا"
وتقول الكاتبة المتخصصة بشؤون الأسرة والمجتمع فاطمة عبدالرؤوف، في حديثها لـ"عربي21": "يمكن وصف موقف النسويات المصريات والعربيات مما يحدث من انتهاكات مريعة على المرأة الغزاوية بأنه موقف مخجل متخاذل".
وتوضح أنه "أمر يمكن فهمه في سياق أن معظم هذه الشخصيات والتيارات النسوية مخترقة فكريا، وأيضا غالبا ما يكون عملها لقضايا بعينها بحسب التمويل الذي يقدم لها".
وتضيف: "بل يمكن القول إن موقف النسويات المصريات والعربيات هو أسوأ بكثير من موقف النسويات في الغرب الذين وجدنا لديهم تعاطفا تجاه المرأة الغزاوية أكثر مما نجد عن المصريات والعربيات".
وتشير إلى أنه "عندما تسخر إحدى النسويات المصريات من فتاة فلسطينية تشكو من انعدام أدوات الرعاية الصحية وما يسببه ذلك من ضغط إضافي على النساء، ناهيك عن الأمراض الناجمة عن ذلك، فترد النسوية بسخرية على هذه الاستغاثة وتعتبرها رفاهية، وهذا إنما يدل على تبلد الشعور والاستعلاء وممارسة العنف اللفظي والنفسي على نساء غزة ".
وتواصل: "وعندما تنشر نسوية شهيرة فيديو هذه الأيام عن كيف ترفض النساء تدخل الرجال في انتقاء نمط ملابسهن، بينما لا نجد على صفحتها فيديو واحد يدافع عن حياة الفلسطينيات المنتهكة؛ فهو أمر لا يثير دهشتي فهذا هو المتوقع من هذه الحركات النسوية".
وتؤكد أنها "ليست حركات تحرر وطني، ولا تأبه حقيقة بالمشكلات الحقيقية التي تعاني منها النساء ولا أولوياتهن، بل هن يقمن بمحاولة فرض القضايا على النساء".
وتلفت إلى أنه في غزة "امرأة تلد في الشارع، وامرأة تلد بعملية قيصرية دون أي تخدير، ونساء يعانين من الجوع، ونساء معتقلات، ونساء مصابات، ونساء يُقتلن بوحشية، لا يحركن شعور النسويات ولا يفرضن أولوية".
وتضيف: "بينما يتحدثن وفي ظل هذه الأوضاع المتفجرة عن عدم مساواة المرأة الفلسطينية بالرجل في قانون الأحوال الشخصية، وعن العنف النفسي الذي يتعرضن له من الرجل الفلسطيني داخل العائلة".
وختمت متسائلة: "أي عين عوراء، وأي مشاعر عمياء، وأي عقل مغيب، يحكم النسويات العربيات، ولكن؛ فتش عن التمويل".
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة مقابلات سياسة دولية منظمات المرأة مصر التناقض مصر حقوق الإنسان المرأة منظمات تناقض سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة حقوق المرأة والطفل تلک المنظمات منظمات حقوق إلى أنه فی إطار
إقرأ أيضاً:
كيف أضعف قطع المعونات الأميركية التحقيق بجرائم الحرب في سوريا؟
وجهت قرارات الرئيس الأميركي دونالد ترامب بقطع المساعدات الخارجية، ضربة موجعة لعدد من المنظمات الإنسانية والحقوقية العاملة في ملفات العدالة والتحقيق بجرائم الحرب التي ارتكبها نظام الرئيس المخلوع بشار الأسد وأطراف أخرى.
ومن بين أبرز تلك المنظمات التي تأثرت بهذه السياسة منظمة الدفاع المدني السوري "الخوذ البيضاء" التي وثقت آثار القصف والدمار طوال سنوات الحرب في سوريا، و"الشبكة السورية لحقوق الإنسان" التي أسهمت في جمع الأدلة وتسجيل الشهادات المتعلقة بجرائم النظام السوري، والآلية الدولية المحايدة والمستقلة التي تدعم جمع الأدلة حول سوريا، إضافة إلى منظمات أخرى.
ويأتي الإجراء الأميركي بوقف المساعدات في حين لا تزال ذاكرة السوريين مثقلة بصور المجازر، والمقابر الجماعية، وآلاف الصور للمختفين قسرا منذ بداية الثورة السورية، مع أملهم في تحقيق العدالة وملاحقة مرتكبي هذا الانتهاكات بعد سقوط النظام، فكيف ستؤثر هذه السياسة على مسار التحقيق بجرائم الحرب، وما البدائل المتاحة لتعويض التمويل الأميركي لهذه المنظمات؟
اعتمدت العديد من المنظمات الإنسانية والحقوقية في سوريا خلال سنوات الثورة على التمويل الأميركي بشكل مباشر عبر الوكالة الأميركية للتنمية الدولية، أو غير مباشر من خلال برامج ومشاريع تشرف عليها منظمات دولية أخرى، وقد مثل هذا الدعم ركيزة أساسية في استمرار أنشطتها، في مختلف القطاعات الإغاثية والخدمية وتوثيق الانتهاكات.
وبلغت نسبة مساهمة الولايات المتحدة بتمويل الاستجابة الإنسانية والنداء الطارئ المشترك بين الوكالات في سوريا خلال 2024، 24.6%، وفي عام 2023 بلغت 20%، مما يجعلها أكبر جهة مانحة إنسانية منفردة للاستجابة في سوريا، وذلك بحسب تحليل أصدره منتدى المنظمات غير الحكومية العاملة في شمالي سوريا.
وذكر التحليل المنشور في 26 فبراير/شباط الماضي، أن 1,2 مليون شخص لا يتلقون الآن المساعدة المخطط لها نتيجة تعليق الولايات المتحدة مساعداتها، إلى جانب وجود 62% من المنظمات التي شملها الاستبيان ذكرت أن برامجها الممولة من خارج الولايات المتحدة قد تأثرت أيضًا بسبب التجميد الأميركي، الذي كان مشروطًا بمراجعة وزير الخارجية، لكن المراجعة "ليست واضحة ولم يتم الإعلان عنها".
إعلانوتعد الوكالة الأميركية للتنمية الدولية أكبر ممول لمنظمة الدفاع المدني السوري، منذ ما يقارب 10 سنوات، ويشكل الدعم الذي تقدمه نحو 27% من ميزانيتها، وقد أسهم هذا التمويل بإنقاذ أرواح الكثير من السوريين خلال الأعوام الماضية، أما باقي تمويل الخوذ البيضاء فيأتي من تبرعات مساعدات خارجية من حكومات وأفراد آخرين، وذلك حسب تصريح نائب مدير المنظمة فاروق حبيب للجزيرة نت.
ويوم 20 يناير/كانون الثاني، اليوم الأول لعودته إلى البيت الأبيض، وقع ترامب أمرا تنفيذيا قضى بتجميد المساعدات الخارجية الأميركية لمدة 90 يوما، بذريعة "مراجعة الكفاءة والاتساق مع سياسة الخارجية الأميركية"، وصرح ترامب بأنه يريد أن يكون الإنفاق الخارجي أكثر انسجامًا مع أهداف سياسته الخارجية ونهجه "أميركا أولًا".
توقيت حساس
رغم أن قرار الولايات المتحدة بتخفيض أو إيقاف مساعداتها الخارجية للمنظمات الإنسانية والجهات العاملة في مجال العدالة والإغاثة لم يكن موجها حصرا إلى سوريا، إذ شمل بحسب وزير الخارجية الأميركية ما يقارب 5800 منظمة حول العالم، فإن توقيته شكّل صدمة خاصة في السياق السوري.
ويعود السبب في ذلك إلى تزامن القرار الأميركي مع مرور سوريا بمرحلة انتقالية شديدة التعقيد بعد سقوط نظام الأسد، وتزايد الحاجة فيها إلى مختلف أنواع الدعم، وعلى رأسها جهود المحاسبة والعدالة.
ويرى مراقبون أن التعامل مع ملف العدالة في هذه المرحلة هو أمر حساس جدا، ليس فقط لأنه يرتبط بمحاسبة ضباط ومسؤولي النظام البائد، وإنما لأنه يتقاطع مباشرة مع جهود بناء دولة حديثة تقوم على القانون والمؤسسات.
وفي هذا السياق يقول ستيفن راب، السفير الأميركي السابق المعني بجرائم الحرب، والذي زار سوريا في فبراير/شباط، في تصريحات لإذاعة صوت أميركا "هذه ليست سوى بداية العدالة الانتقالية في سوريا، والمهمة هائلة"، محذرا من أن توقف المساعدات الأميركية يعقّد مهمة جمع الأدلة وأخذ عينات الحمض النووي من الناجين وأسر الضحايا.
إعلانورغم سقوط النظام في ديسمبر/كانون الأول الماضي، وبدء مرحلة جديدة في سوريا، فلا يزال أكثر من 130 ألف شخص في عداد المفقودين، حسب الشبكة السورية لحقوق الإنسان، مما يؤكد أن البلاد ما زالت بحاجة ماسّة إلى الدعم الدولي لمواصلة العمل على ملفات المقابر الجماعية، وتحديد هوية الضحايا، ومحاسبة المتورطين.
وفي هذا السياق، يقول فاروق حبيب إن وقف التمويل جاء بمرحلة حرجة تمر بها سوريا، لأنها بأمسّ الحاجة للدعم في ظل الاحتياجات الإنسانية والإغاثية المتزايدة بعد سقوط النظام البائد، وعندما ازدادت الحاجة إلى الخوذ البيضاء بشكل ملحوظ في جميع أنحاء سوريا.
اضطرت العديد من المنظمات السورية والدولية العاملة في مجال التوثيق والمساءلة المتعلقة بجرائم الحرب في سوريا إلى تقليص نشاطاتها أو الانسحاب من بعض الملفات بسبب شح التمويل، نتيجة السياسة الأميركية الجديدة، والتي تأمل هذه المنظمات أن تكون مؤقتة.
ومن أبرز تلك المنظمات "الشبكة السورية لحقوق الإنسان" والتي يقول مديرها فضل عبد الغني للجزيرة نت إن التخفيض المفاجئ في الدعم الأميركي أثر بشكل كبير جدا على عملهم، وقال "كنا نخطط هذا العام لتقديم طلب دعم إلى مكتب حقوق الإنسان في الخارجية الأميركية للعمل على ملفات إضافية في مسار المحاسبة، وبشكل أساسي عمليات تحليل المعلومات والبيانات، قبل عملية إيقاف الدعم الأميركي".
ويضيف عبد الغني "لدينا آلافٌ وآلاف من الوثائق، تحمل تفاصيل كثيرة قد تُساعد العائلات في الكشف عن مصير أحبائها، لأن هذه الوثائق غالبًا ما تحتوي على أسماء المعتقلين، وتاريخ قتلهم أو نقلهم إلى المقابر، بل وحتى أسماء الجناة أيضًا.
وكانت الشبكة السورية لحقوق الإنسان، حسب عبد الغني، خصصت ميزانية لتوظيف باحث جديد هذا العام، وتكريس جهوده لتلك الوثائق، وبعد عملها من المملكة المتحدة وقطر خلال سنوات الصراع السوري، كانت الشبكة تتطلع أيضًا إلى افتتاح مكتب جديد في دمشق، ولكن وقف تمويل الوكالة الأميركية للتنمية الدولية لها أعاق كلا الأمرين.
إعلان
آثار كارثية
ومن المنظمات الحقوقية المتضررة منظمة "النساء الآن من أجل التنمية"، وهي منظمة نسوية سورية تأسست عام 2012، تدعم المنظمة البحث عن الأشخاص المفقودين، وتقدم الدعم النفسي والاجتماعي للناجين من الاعتقال، إلى جانب أنشطة أخرى.
أحد برامجها الأكثر تأثرا بتجميد التمويل هو الدعم الذي تقدمه لـ6 مجموعات تركز على الاختفاء القسري، وتشمل هذه المجموعات رابطة عائلات قيصر، وعائلات من أجل الحرية، ورابطة المعتقلين والمفقودين في سجن صيدنايا، ومسار.
وتعليقا على ذلك، تقول رؤى الحموي، مديرة برامج العدالة في المنظمة خلال تصريحات صحفية "لقد توقفت جميع أنشطة دعم بناء القدرات لهذه المجموعات من الضحايا"، مشيرة إلى أن "الدعم النفسي والاجتماعي وإدارة الحالات وأنشطة المناصرة كلها توقفت".
أما بالنسبة لمنظمة "الخوذ البيضاء"، فيشير فاروق حبيب إلى وجود دعم خاص من الخارجية الأميركية يتعلق بملفات المفقودين والاستجابة للمقابر الجماعية، لكنه يقول إن "توقيف الدعم من وكالة التنمية الأميركية له آثار كارثية على عمل المنظمة وعلى الاستجابة الطارئة، ونبذل جهودنا لاستعادة العقد مع الوكالة، لأننا لا نستطيع استبداله سريعا".
وفي وثائق موجهة إلى الكونغرس الأميركي، أظهرت قائمة بمنح المساعدات الخارجية من الوكالة الأميركية للتنمية إلغاء عقد بقيمة 30 مليون دولار مخصص للخوذ البيضاء، بدأ في فبراير/شباط 2023، وتم إنفاق جزء من أمواله قبل إلغائه، وذلك حسب تقرير لشبكة سي إن إن.
هل من بديل؟على الرغم من صعوبة إيجاد بدائل كافية لتعويض التمويل الذي كانت تقدمه الوكالة الأميركية للعدالة والتنمية، فإن العديد من الإجراءات والخطوات التي يمكن اتخاذها بديلا لهذا التمويل، أو حلا يمكن أن يساعد في الجهود الرامية إلى التحقيق بجرائم الحرب، وتوثيق الانتهاكات.
إعلانوفي هذا السياق، يوضح مدير المركز التعليمي لحقوق الإنسان في ألمانيا، علاء الدين آل رشي، في حديثه للجزيرة نت، أنه إلى جانب الحاجة إلى دعم وتدريب فرق سورية محلية على تقنيات التوثيق، وجمع الأدلة وفق المعايير الدولية، بما يقلل من الاعتماد على الخبرات الأجنبية المكلفة، يمكن اعتماد الحلول التالية بديلا عن التمويل الأميركي:
تنويع مصادر التمويل، عبر بناء شراكات مع الاتحاد الأوروبي، وكندا التي ما تزال تلتزم بدعم حقوق الإنسان والعدالة الدولية. والضغط الحقوقي والدبلوماسي، عبر تكثيف حملات المناصرة لتحفيز الدول على الوفاء بالتزاماتها الأخلاقية والقانونية تجاه ضحايا الحرب، وإنشاء صندوق دولي مستقل، بإشراف الأمم المتحدة لدعم مشاريع البحث عن المفقودين وملاحقة مجرمي الحرب، بعيدا عن مزاجية السياسات المتقلبة للدول الكبرى.
وكانت ألمانيا قد أكدت في 30 ديسمبر/كانون الأول أنها ستدعم مشروعات بقيمة 60 مليون يورو في سوريا، منها 7 ملايين لمنظمات غير حكومية، لتعزيز التعليم وحقوق المرأة ومجالات أخرى في أعقاب الإطاحة بنظام بشار الأسد حسب ما أفادت به وكالة رويترز. ودعا وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني خلال مشاركته في مؤتمر بروكسل يوم 17 مارس/آذار "المجتمع الدولي إلى مواصلة التزاماته تجاه الشعب السوري وعدم السماح للقرارات السياسية بتعطيل جهود المساعدة الأساسية".
من جانبه، يشدد فضل عبد الغني على أهمية تعدد مصادر الدخل، ويدعو رجال الأعمال السوريين في العالم للعودة إلى فترة الخمسينيات من تاريخ سوريا، عندما كانت البرجوازية السورية تهتم بالشأن العام، وتمول الأنشطة التي لها أبعاد سياسية واجتماعية، كتأسيس المنتديات، ودعم مؤسسات المجتمع المدني الوطنية.
يرى مراقبون أن التعويل على بدائل متعددة أصبح هو الضمانة الوحيدة لمنع ضياع حقوق عشرات الآلاف من الضحايا السوريين الذين ينتظرون العدالة، وسط عالم تتغير فيه الأولويات بتغير الحكومات.
إعلان