25 سبتمبر 2023م.. بدعوة كريمة من الكلية الحديثة للتجارة والعلوم، ألقيتُ على طلبتها محاضرة بعنوان «التاريخ العماني.. أداة لفهم الواقع والتخطيط للمستقبل». وقد وجدتْ المحاضرة صدى لدى الطلاب، وطلبت مني الجهة المنظمة بالكلية أن ألقيها مرة أخرى على الطلبة الذين لم يحضروها، وحتى يتيسر الوقت لذلك؛ رأيت أن أضع في هذا المقال بعض الأفكار حول الموضوع، دون أن انحصر فيما قلته بالمحاضرة، فالكتابة تختلف عن الإلقاء، راجياً الله أن يستفيد منها أبناؤنا الطلبة من الكلية وغيرهم.

كان الإنسان فكان التاريخ.. ولا يزال التاريخ يتجدد كل لحظة، لأنه ليس شيئاً زائداً عن فعل الإنسان، فعندما ندرسه فنحن في الحقيقة ندرس الكينونة الإنسانية والهُويات البشرية، فما نحن إلا الإنسان الأول، الذي تراكمت أعماله خلال آلاف السنين. وأي تغيّر في حدث ما؛ كان سيغير خارطة سير البشرية، فلو لم يولد أرسطو(ت:322ق.م) لكانت الفلسفة ليست كما هي الآن، ولربما أخذ التفكير الإنساني منحىً مختلفاً عمّا نراه. وماذا لو مات إسحاق نيوتن (ت:1727م) طفلاً؟ فلربما أن علماء الفلك لم يخرجوا بمركباتهم إلى الفضاء، وعلينا أن نتصور صيرورة العالم لو لم يبعث الله نبي الإسلام محمد بن عبدالله. وهكذا قل عن أي شخص أو حدث. وهذا يعني أن الحضارة التي نعيشها هي سلسلة طويلة ومتداخلة الحلقات من الأحداث، كان يمكن أن تأخذ مساراً آخر فيما لو انقطعت حلقة من السلسلة، فدراسة التاريخ هو لأجل تحقيق وعي بالحاضر وإدراك لمآلات المستقبل.

مرَّ «السجّل التاريخي» بمراحل: الأسطورية والدينية والسياسية والثقافية والذاتية. لم يكن التاريخ في البدء سوى أساطير تناقلتها الأجيال المتتالية، فعندما ندرس تلك الحقب الغابرة؛ فنحن ندرس التصورات الأولى للإنسان، ونظرته البدائية للوجود، وكيف تسير حياته، أكثر مما ندرس حدثاً بعينه. أما في مرحلته التالية ومع نشر الأديان لتعاليمها؛ فقد ارتبط السجل التاريخي بالمعتقدات الدينية، أي أن ما وصلنا من أحداث إنما هو الرؤية الدينية لها، فالتاريخ حينها غالباً ما ينقل شاهداً على صحة معتقدات مَن يرويه وهو رجل الدين. ثم لما ظهرت الدول؛ أصبح السجل التاريخي رصداً للأحداث السياسية، ولحركة القادة وتمدد الدول وانكماشها، فالتاريخ يسجله السياسي. ثم انتقل في العصور الحديثة إلى رصد حركة الاجتماع البشري، خاصةً مع ظهور الطباعة والصحافة، فأصبح التاريخ يكتبه المثقف. واليوم.. في العصر الرقمي، انتقلنا إلى مرحلة جديدة، حيث أصبح في يد كل إنسان هاتف بكاميرته يكتب ويصور به تفاصيل الحياة من حوله باستمرار، وهو ما أسميه بـ«الرصد الذاتي للتاريخ»، والذي من المتوقع أن تتكون منه أكبر قاعدة بيانات رقمية للتاريخ البشري، تحتفظ بأدق تفاصيل حياة الإنسان، فضلاً عن حركة الأحداث، وشبكات العلاقات بينها، وتأثير بعضها على بعض، والتي ستكون غذاءً ضخماً لخوارزميات الذكاء الاصطناعي.

من المهم لطالب العلم؛ بمختلف تخصصاته، أن يدرس حركة التاريخ، ففي ذلك وعي بوجوده الإنساني. وعلى الطالب العماني أن يدرس تأريخ بلاده خاصة، فالدرس التاريخي ضرورة وجودية، وليس ترفاً ثقافياً، فعندما يتخرج الطالب سيواجه فضاءً منفتحاً تتشظى فيه الهُويات الخاصة، ولن يجد عاصماً لهُويته إلا تاريخ بلاده. وعُمان.. أرض - كغيرها - صنعها التاريخ، ومن حُسن الحظ أنها تملك سجلاً تاريخياً جيداً، فهناك الكثير من الكتب والوثائق العمانية التي تحتوي على مواد تاريخية، بعضها مصدري؛ كتب زمن وقوع الحدث أو قريباً منه، لكن ذلك لا يعني أنه كله مرصود، بحيث أصبح سجلاً مغلقاً. بل على العكس، فلا يزال خط سير تاريخنا غير مكتمل. فإن كان «علم التاريخ» بطبيعته «معرفة متحركة»، فإن «علم التاريخ العماني» من أكثرها ديناميكية، بمعنى أنه خاضع لمراجعة الأحداث في الوثائق التاريخية: هل هي واقعة فعلاً؟ وهل تسلسلها صحيح؟ هل يوجد بينها تداخل؟ وهل الحدث يطابق سير التاريخ العام أم أنه بناء سردي متوهم؟ كل ذلك؛ يجعلنا أمام تغيّر مستمر في رسم الخارطة التاريخية للحدث العماني.

هذه المعرفة المتحركة.. تجعل بناء سجل التاريخ العماني بطيئاً إلى حدٍّ ما، لما يعانيه تاريخنا من «فراغات»، ولعل أطول فترة في العهد الإسلامي عانت من الفراغات هي ما بين سقوط الدولة المركزية الأولى عام 273هـ نتيجة «فتنة الإمام الصلت بن مالك وموسى بن موسى»، وبين قيام الدولة اليعربية بتنصيب الإمام ناصر بن مرشد اليعربي عام 1033هـ، ولذلك ينبغي أن تتركز عليها الدراسات لسدها. لكنها ليست الوحيدة ولا الأخيرة، فلا تزال تحدث في تأريخنا «فراغات»، ولذلك على المؤرخين إعادة النظر في السردية التاريخية العمانية؛ من جهة، وتلافي القصور في تدوين الأحداث المعاصرة؛ من جهة أخرى.

سجل التاريخ العماني.. يعاني كذلك مما أسميته بظاهرة «الاستلاب الحضاري في الثقافة العمانية»، و(أقصد بالاستلاب الحضاري في الثقافة العمانية.. الحالة المعرفية التي بُني عليها تصور الذهن العماني، الذي يُرجع كثيراً من المنجز الحضاري العماني لفاعلين غير عمانيين، دون أن يُنتَبه لذلك)، «جريدة «عمان»، 5/ 10/ 2020م». إن كثيراً من الأعمال الحضارية في عمان تنسب إلى الفرس كبناء بعض القلاع والحصون والمستوطنات الآثارية، في حين.. لا يوجد شاهد آثاري على ذلك. بل إن الأفلاج العمانية التي هي تطور حضاري نابع من البيئة العمانية، وزّع «الاستلاب الحضاري» أصل نشأتها بين نسبته للفرس مثلما تذهب بعض الدراسات الاستشراقية كما في أعمال البريطاني جون ولكنسون، وبين «جن النبي سليمان» كما في الثقافة الشعبية. إننا بحاجة إلى «تعمين» عناصرنا الثقافية المستلبة ذهنياً.

إن بناء الاجتماع البشري في عمان جرى على وقع التاريخ، وأظهر مثال على ذلك ما جرى في الدولة الحديثة، فالنظام السياسي.. الذي سارت عليه الدولة بحسب رؤية السلطان قابوس بن سعيد (ت:2020م) طيّب الله ثراه، بإمكاننا فهمه في ظل التوازن بين سرديات الماضي ومعطيات الحاضر وطموحات المستقبل، لم تنبتّ الدولة عن ماضي عمان، فضلاً أن تتنكب له، ولذلك؛ احتفت بالتراث، وأنشأت له وزارة، وأولته عنايتها، ومن أهم المشاريع التي تبنتها الحكومة التنقيب عن المواقع الآثارية، وترميم المباني الأثرية من قلاع وحصون وأسوار، وقد نص النظام الأساسي للدولة في نسخته التي أصدرها جلالة السلطان هيثم بن طارق أدام الله مجده بالمرسوم السلطاني رقم (6 /2021)، في: 6/ 1/ 2021م، على أن (تلتزم الدولة بحماية تراثها الوطني المادي وغير المادي، والمحافظة عليه، كما تلتزم بصيانة تراثها المادي وترميمه، واسترداد ما استولي عليه منه. والاعتداء عليه والاتجار فيه جريمة على النحو الذي يبينه القانون). ومن أهم هذه المشاريع كذلك.. جمع المخطوطات والوثائق العمانية والحفاظ عليها، وتمكينها للباحثين، وتحقيقها ونشرها. كما أن مجال البحث الأكاديمي في أغلبه بحث في معارف الأسلاف، وهذا يعني أننا لا زلنا نكتب مفرداتنا الحاضرة بمداد آبائنا.

وبعد؛ فإن كان للتاريخ هذا الأثر العميق على الإنسان، فحري بنا أن نقرأه جيداً لنرسم خارطة مستقبلنا بصورة صحيحة، علينا أن نفهم مكوناتنا بموضوعية، لأن الخلل في التعامل مع الإنسان وعلاقاته الاجتماعية التي هي نتاج تأريخي بالأساس قد يؤدي إلى عواقب وخيمة، وأحداث الربيع العربي كشفت كثيراً من الخلل في فهم التاريخ والتعامل مع الإنسان العربي، الذي هو ككل البشر كائن تاريخي بالمقام الأول.

واقعاً.. أننا ننظر إلى أنفسنا بعين التاريخ، لكن لا يعني هذا أن نظل محتجزين في الماضي، وإنما علينا أن نفهمه، لنستمد منه عناصر قوتنا ونتجاوز إخفاقاته. وصفوة القول.. إننا ندرس التاريخ لكي نخرج من الماضي ونحن متمسكون بهُويتنا الحضارية إلى مستقبل واعٍ بمآلاته.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: التاریخ العمانی

إقرأ أيضاً:

القبض على مدير إدارة المساحة والتخطيط بجهاز الشيخ زايد

ألقت أجهزة الأمن بالجيزة القبض على مدير إدارة المساحة والتخطيط بجهاز الشيخ زايد.

وأفادت التحريات، أنه ضبط متلبسا برشوة قدرها مليون و211 الف جنية من صاحب شركة.

حرر محضر بالواقعة، واحيل لجهات التحقيق.

مقالات مشابهة

  • القبض على مدير إدارة المساحة والتخطيط بجهاز الشيخ زايد
  • حلقة عمل تستعرض مسيرة سفينة السنبوق في التاريخ العماني
  • حزب الله وتحديات ما بعد الحرب: أي مشروع للمستقبل؟
  • 9 نقاط لفهم تغيير الفئات الكبيرة من العملة السودانية وآثارها الاقتصادية
  • السويح: الجلسة التي دعا إليها تكالة غير قانونية وغير مكتملة النصاب
  • إنستجرام يحيي التاريخ المصري القديم عبر تجربة الواقع المعزز
  • ايها المواطن ، ليحلم كل منا بشكل الدولة التي يريد
  • المخرج محمد الشرقاوى في حواره لـ«البوابة نيوز»: مسرح المواجهة والتجوال أداة للتغيير وبناء الإنسان.. 200 ليلة عرض تجوب القرى والنجوع لترسيخ الروح الوطنية
  • أداة مبتكرة لقياس ضغط الدم والسكري عن بُعد
  • هذه الدولة خلال ساعات قليلة تشهد أكبر “مذبحة بحرية” في التاريخ