توني ديفيز والنّزعة الإنسانيّة
تاريخ النشر: 11th, December 2023 GMT
حاول أستاذ الأدب الإنجليزي في جامعة برمنجهام توني ديفيز أن يبحث في كتابه «النّزعة الإنسانيّة» عن معنى محدّد لهذا المصطلح، وكيف تطوّر بعد عصر النّهضة، وارتباطه بالجانب العرقيّ خصوصا عند الرّجل الأبيض، وبالجانب الفلسفي، وقد ترجم الكتاب إلى العربيّة المترجم المصري عمرو الشّريف، وصدر عن المركز القومي للتّرجمة في مصر عام 2018م.
ويرى أنّ «كلمة النّزعة الإنسانيّة نفسها استخدمت لأول مرة ككلمة ألمانيّة .. وترجع أصولها إلى اللّغة والثّقافة اليونانيّة الّتي تستمد منها دلالتها ومصداقيّتها، ومن المرجح أن يكون فريدريش إيمانويل نيثامر (ت 1848م) أول من استخدم مصطلح الإنسانيّة في بداية القرن التّاسع عشر، لكي يشير إلى مناهج الدّراسة الثانوية والجامعيّة التي تعتمد على ما كان يطلق عليه في القرون الوسطى الدراسات الإنسانية، ألا وهي دراسة اللغة اليونانية القديمة واللّاتينيّة .. وسرعان ما التقط مؤرخو الثّقافة من أمثال جورج فويجد وجاكوب بيركهارت (ت 1897م) تلك الكلمة لكي يصفوا العلوم الإنسانيّة الحديثة، والنّهضة كإعادة لبعث الحضارة اليونانية الرومانية وقيمها».
ومع هذا -حسب رؤيته- ظلّت النزعة الإنسانية «كلمة ذات تاريخ شديد التّعقيد، ومعان يصعب حصرها، فضلا عن عدد السّياقات الّتي يمكن أن تظهر فيها»، «فالإنسانيّة تماما كالواقعيّة والرّومانسية هي إحدى تلك الكلمات الّتي يمتدّ حقلها الدّلالي من المعاني المتخصّصة التي يستخدمها المثقفون إلى المعاني التي يشوبها الغموض لشدة عموميتها»، لهذا «تحمل الإنسانيّة حتّى في أكثر السّياقات الوصفيّة حياديّة دلالات قويّة، بعضها سلبيّ وبعضها إيجابيّ لانتماءات أيدلوجيّة مختلفة، وقد أدّى الغموض والعموميّة اللّذان يحيطان بالكلمة إلى أن تصير لفظة استحسان وازدراء على حدّ سواء».
ولعلّ تشعب الحالة المعرفية أمام النزعة الإنسانية جاء كحالة من حالات الانعتاق من النّزعة اللّاهوتية والتّحرّر منها؛ لأنّ النّزعة اللّاهوتية ذاتها لم تكن باسم اللّاهوت المطلق (النّصّ المطلق)، بل صاحبها الشّراك الإنساني لفئة من الكهنوت البشري حتى في النص نفسه، وهذا ظهر بشكل كبير في العصر الوسيط في الجانب المسيحي الكاثوليكي، لهذا حاول البروتستانت الممايزة بين ما هو لاهوتيّ مطلق، وبشريّ تأريخي متحرك.
هذا الانعتاق لم يكن مصاحبا للعقلانيّة الأوروبيّة في التّعامل مع شموليّة النّزعة اللّاهوتيّة، من حيث المرجعيّة ذاتها، ومن حيث الانفكاك بين المقدّس وغير المقدّس، بل شمل الانعتاق لعوامل عديدة، منها ما هو سياسي وحقوقي واجتماعي مثلا، ومدى حضور النّزعة الإنسانيّة في تشكل هذه الجوانب وغيرها، وهذا طبيعي أن يُحدث اضطرابا في ضبط معنى النّزعة الإنسانيّة، إلا أنّ الغاية منها أقرب إلى الوضوح من المصطلح ذاته.
فينقل ديفيز عن جون سيموندز (ت 1893م) أنّ جوهر النّزعة الإنسانيّة يتمثل «في إدراك جديد لكرامة الإنسان على أنّه كائن عاقل بعيد عن كلّ المحدّدات الثّيولوجيّة، وكذلك أيضا في إدراك أنّ الأدب الكلاسيكيّ وحده هو الذي استطاع أن يعرض النفس البشرية بكامل طاقتها الفكرية وحريتها الأخلاقيّة، وكان ذلك رد فعل ضد السّلطويّة الكنسيّة من ناحية، ومحاولة لإيجاد نقطة محوريّة يتوحد حولها كلّ فكر فيه الإنسان، وقام بفعله من خلال العقل الّذي ثاب إلى رشده، وأدرك قوّته المسيطرة على العالم».
ولارتباط النّزعة الإنسانيّة بالكرامة الإنسانيّة لهذا كانت في مقابل المطلق، «فالنّزعة الإنسانيّة في عصر النّهضة والّتي تعبّر عن جوهر إنسانيّ ثابت لا يتأثر بالزّمان والمكان والظّروف المحيطة»، هذه الرّؤية لم تكن رؤية لغير اللّاهوتيين فحسب، بل هناك من اللّاهوتيين من تبنى ذلك أيضا، ويرجع توني ديفيز تبنيهم إلى محاولة العديد من اللّاهوتيين إلى فصل الكنيسة عن السّياسة، فإذا كانت الكنيسة ذات ارتباط بمطلق النّزعة اللّاهوتيّة؛ فإنّ السّياسة ذات ارتباط بمطلق النزعة الإنسانية المتمثلة في الكرامة الإنسانية، فيرى أنه «كان يُشتبه في أنصار النزعة الإنسانية الأوائل بأنهم خارجون عن صحيح الدّين، بل وكان يظنّ بهم الكفر، وكان معظمهم مثل رجلي الدّين إيرازموس وبرونو مناهضين لتأثير الكنيسة وتدخلها في الشّأن السّياسيّ، على الرّغم من أنهم نادرا ما كانوا مناهضين للدّين».
لهذا يخلص أنّه في الابتداء «تعدّ الإنسانيّة في جذورها فكرة سياسيّة مستمدة من الخطاب الثّوريّ لحقوق الإنسان أكثر منها فلسفيّة، فعندما أعلن روسو في الكتابه العقد الاجتماعي.. أنّ الإنسان يولد حرّا إلّا أنّه مكبل بالأغلال في كلّ مكان»، ثم تطوّرت فلسفيّا بعد ذلك.
هذه الجدليّة مدارها حول مركزيّة الإنسان في الوجود، فهناك نزعتان علويّة لاهوتيّة، يقابلها نزعة إنسانيّة وجوديّة، وكما يرى تولستوي (ت 1910م) في كتابه «في الدّين والعقل والفلسفة» أنّ كلّ دين «يؤسّس لعلاقة بين الإنسان واللّانهائي»، بيد أنّ الإنسان يتضخم في مقابل اللّانهائي، فيحدث تحريف للثّاني، فينسب هذا التّضخم إلى الدّين ذاته، وأهم أسبابه كما يراها النّفعيّة الّتي تنقل البشر من المساواة بين الجميع في مقابل اللّامتناهيّ إلى النّفعيّة الّتي تتمثل في فئة من الكهنوت باسم اللّامتناهي ذاته، «فكلّما يظهر تعليم ديني جديد يحوي في تعاليمه المساواة بين البشر، يحدث مثلما يحدث مع النّاس في الواقع، يحاول المنتفعون من عدم مساواة البشر أن يخفوا هذه القيم الرّئيسة للتّعليم الدّيني بتشويه أصل هذا التّعليم.. ينتج فقط بسبب أنّ المستفيدين من لا مساواة بين البشر، الموجودين في السّلطة والأغنياء.. وحتّى يبرروا موقفهم أمام أنفسهم دون أن يغيروا من أوضاعهم، يحاولون بكل ما لديهم من قوّة أن يلصقوا بالدّين تعليما يمكن أن تكون فيه عدم المساواة ممكنا، وينتج عن ذلك حتما أنّ دينا يتم تحريفه يمكن لمن يتسلّط فيه على الآخرين أن يجد لنفسه مبررا، ينتقل إلى العامة أيضا، ويوحي إليهم بأنّ خضوعهم لمن يتسلطون عليهم أمر من متطلبات الدّين الأساسيّة».
وما ذكره تولستوي يتوافق مع الرّؤية المبدئية الّتي أشار إليها توني ديفيز من ارتباط نشأة النّزعة الإنسانية بالبعد السياسي، والتي تمثلت في نفعيّة البابا والكهنوت باسم الدّين نفسه، لهذا تصوّر أنّ مفهوم المساواة وفق الكرامة الإنسانيّة يتعارض مع الدّين ذاته؛ لأنّه أوجد نفعيّة معينة لفئة من رجال الدّين، كما يصوّرهم المؤرخ الفرنسيّ جورج لوفيفر (ت 1959م) في كتابه «قدوم الثّورة الفرنسيّة 1789م» أنّه «يتمتع رجال الدّين بأعظم الامتيازات.. ومزودون بمحاكم خاصّة، المحاكم الأسقفيّة، ولا يدفعون أيّ ضريبة، ويحدّدون بأنفسهم الهبة المجانيّة التي يمنحونها للملك.. وكانوا أسيادا في العديد من القرى، ويتلقون إتاوات سياديّة.. ويحتكرون التعليم والمساعدة، ويشاركون في فرض الرّقابة على كلّ ما يطبع قانونيّا»، وهذه النّفعيّة من حيث الاستناد الدّيني مرتبطة بالنّزعة اللّاهوتية المطلقة، فكانت النّزعة الإنسانيّة في مقابل تحطيم هذه النّفعيّة التّأريخية من خلال الفصل بين الدّين كجوهر قيميّ، وبين السّياسة المرتبطة بحراك الإنسان ومساواته.
رؤية النّزعة الإنسانيّة لم تعد بعد ذلك لمحاولة الممايزة بين جوهر الدّين وبين تطوّر الاجتماع البشريّ، بما فيه السّياسي، بل أصبحت معقدة بشكل كبير، وأصبحت أقرب إلى العلمويّة والوجوديّة منها من التّنويريّة المسيحيّة الأولى، فهي وإن كانت جدليّة مسيحيّة في ظرف تأريخي معيّن، إلّا أنها اليوم جدليّة عالميّة بما فيها عالمنا الإسلاميّ أيضا، وحاول هشام جعيط في كتابه «أزمة الثّقافة الإسلاميّة» أن يحاول الجمع بين مركزيّة الإنسان من حيث النّزعة الإنسانيّة، وبين النّزعة اللّاهوتيّة في النّصّ الدّينيّ، فيرى أنّه «يوجد في القرآن مركزيّة إنسانية، لكنّها خاضعة للمقاصد والمخطّطات الإلهيّة، وهذا بحدّ ذاته يمثل شكلا من أشكال النّزعة الإنسانيّة، ففي القرآن درجة إنسانيّة أرفع، إنّها مكانة الإنسان في مغامرة الوجود، في غائيّة الخالق، وفي التّاريخ»، بيد أنّ الجدليّة حتّى بحضور هذه المركزيّة في النّصّ القرآني تبقى حاضرة ومتشعبة أيضا؛ لأنّ مساحة مركزيّة الإنسان أوسع من كونه حضورا إجرائيّا، بل هو عامل مهم في صناعة نص أوسع من النّصّ الأول، له هيمنته التّصديقية نسخا وتخصيصا وتقييدا، ثمّ الفهومات الأولى، والّتي أصبحت لها صبغتها اللّاهوتيّة المطلقة مع مرور الزّمن، لهذا لا يمكن بحال تبسيط حضور النّزعة الإنسانيّة في واقعنا الإسلاميّ اليوم، بل أنّ واقع الإسلام السّياسيّ -إن صح التّعبير- مثلا خير مثال لمثل هذه المراجعات، وقراءتها عن عمق بشكل أكبر، وفق النّزعتين اللّاهوتيّة والإنسانيّة.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: ة الإنسان فی کتابه فی مقابل مرکزی ة ة ال تی من حیث
إقرأ أيضاً:
هيئة إغاثة فلسطينية لـ«البوابة نيوز»: الوضع الإنساني بغزة «كارثي» والاحتلال يكذب
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
علّق رئيس هيئة فلسطين العربية للإغاثة والتنمية الأهلية في قطاع غزة، الدكتور حازم الصوراني، على تصريحات وزارة الخارجية الأمريكية بشأن أن إدارة الرئيس جو بايدن خلصت إلى أن إسرائيل لا تعرقل حاليًا المساعدات المقدمة لغزة وبالتالي لا تنتهك القانون الأمريكي.
ونفى «الصوراني» في تصريحات خاصة لـ«البوابة نيوز»، تصريحات الخارجية الأمريكية، ومزاعم الاحتلال الإسرائيلي بشأن زيادة كمية المساعدات التي تدخل إلى قطاع غزة في الأيام الأخيرة، وذلك تحت ضغط أمريكي. وأنها قامت بفتح معبر جديد لهذا الغرض.
من سيئ إلى أسوأوقال إن الوضع في قطاع غزة ينتقل من سيئ إلى أسوأ كل يوم، وأن كل ما تروج له إسرائيل والإدارة الأمريكية محض أكاذيب، مشيرا إلى أن بعض الفلسطينيين فارقوا الحياة بسبب تفشي الجوع والأمراض.
وأضاف «الصوراني»: "نحن الفلسطينيين في قطاع غزة نسمع تصريحات إدارة بايدن وجيش الاحتلال ونتعجب لها، نحن نعلم ان الإدارة الأمريكية تدعم الاحتلال الإسرائيلي في قتل وتجويع وتشريد الفلسطينيين يوميا".
وأوضح أن أعضاء الإدارة الأمريكية يخرجون علينا كل يوم بتصريحات، مفادها أنهم يضغطون على الاحتلال من أجل دخول المساعدات للفلسطينيين في قطاع غزة، وعلى الجانب الآخر يستهدف جيش الاحتلال معظم هذه المساعدات".
وتابع «الصوراني»: إسرائيل تسمح بدخول بعض المساعدات التي تعتبرها "إنسانية" ولكي تخرج أمريكا وتقول أن تل أبيب لا تعرقل دخول المساعدات ولكنها تعلم أن تلك الشاحنات التي سمحت بمرورها لن تكفي أحدا".
الاحتلال يضلل الرآي العاموأكد أن "جيش الاحتلال يمارس محاولات تضليل للرأي العام، وهو يكذب ويقول إنه يسمح بإدخال المساعدات إلى قطاع غزة"، مضيفا أن جيش الاحتلال ما زال يحاصر القطاع ويمنع عنه المساعدات والسلع والبضائع، في إطار سياسة التجويع، ما أدى إلى انتشار المجاعة بشكل كبير بين صفوف المواطنين.
وأشار رئيس المنظمة الإغاثية الى أن قوات الاحتلال تغلق جميع المعابر مع قطاع غزة، فمعبر رفح مغلق منذ ما يزيد عن 190 يوما، مذكرا بأن أكثر من 600 ألف طن من المساعدات والمواد الغذائية والسلع والبضائع مكدسة على الجانب الآخر من المعبر، لكن الاحتلال يرفض إدخال هذه المساعدات، الأمر الذي فاقم الواقع الإنساني بشكل كبير جدا.
وناشد المجتمع الدولي، والدول العربية والإسلامية، سرعة التحرك لإنقاذ قطاع غزة الذي يعاني من حصار خانق وأزمة إنسانية حادة، وأوضح أن الوضع في غزة وصل إلى مرحلة لا يمكن تحملها، مع تزايد تهديدات الجوع والمرض الذي يواجهه السكان.
وأكد «الصوراني» ضرورة الضغط على الحكومات الدولية والمنظمات الإنسانية للوقوف إلى جانب أهل غزة وتوفير الاحتياجات الأساسية من أجل تخفيف المعاناة المستمرة.
وشدد على أن إيصال صوت غزة للعالم مهم جداً، مؤكداً ضرورة إنهاء الحصار المفروض على الشعب الفلسطيني في القطاع.
وقال «الصوراني»: غزة تعيش في واقع قاسٍ من قصف وحصار مستمر، حيث يعاني أهلها من نقص حاد في مقومات الحياة الأساسية مثل الكهرباء والماء والدواء. ومنذ ما يقارب عقدين، يخضع سكانها لحصار خانق، مما يزيد من معاناتهم الاقتصادية والنفسية والاجتماعية. الحروب المتتالية دمرت المنازل والمرافق، وأدى العنف المستمر إلى آثار نفسية كبيرة على الأطفال".
وتابع: رغم هذه الظروف الصعبة، يتمسك أهل غزة بالصمود والإصرار على الحياة، مؤكدين أن الأمل لا ينقطع حتى في أصعب الظروف. ومع ذلك، تظل التساؤلات قائمة حول مدى استمرار هذا الوضع، ومدى استجابة العالم لمعاناة غزة".
وفي 13 أكتوبر 2023، بعث وزيرا الخارجية والدفاع الأمريكيان، أنتوني بلينكن ولويد أوستن، رسالة إلى المسؤولين الإسرائيليين، وزير الحرب حينذاك يوآف غالانت ووزير الشؤون الاستراتيجية رون ديرمر، تحذر من أن المساعدات العسكرية الأمريكية قد تتعرض للخطر إذا لم يتم إدخال مساعدات إنسانية إلى قطاع غزة خلال 30 يومًا.
في هذا السياق، أطلقت لجنة خبراء مدعومة من الأمم المتحدة تحذيرات عاجلة بشأن تدهور الوضع في غزة، محذرة من خطر المجاعة الوشيك، خاصة في المناطق الشمالية من القطاع.
كما حذرت وزارة الصحة في غزة من تفاقم حالات سوء التغذية بين جميع الفئات العمرية. ومع ذلك، ترفض إسرائيل الاستجابة لتلك التحذيرات، بينما تواصل هجومًا عسكريًا في شمال القطاع منذ نحو 40 يومًا، وسط مزاعم بتطهير عرقي للمناطق هناك.