لجريدة عمان:
2025-07-08@07:58:39 GMT

توني ديفيز والنّزعة الإنسانيّة

تاريخ النشر: 11th, December 2023 GMT

حاول أستاذ الأدب الإنجليزي في جامعة برمنجهام توني ديفيز أن يبحث في كتابه «النّزعة الإنسانيّة» عن معنى محدّد لهذا المصطلح، وكيف تطوّر بعد عصر النّهضة، وارتباطه بالجانب العرقيّ خصوصا عند الرّجل الأبيض، وبالجانب الفلسفي، وقد ترجم الكتاب إلى العربيّة المترجم المصري عمرو الشّريف، وصدر عن المركز القومي للتّرجمة في مصر عام 2018م.

ويرى أنّ «كلمة النّزعة الإنسانيّة نفسها استخدمت لأول مرة ككلمة ألمانيّة .. وترجع أصولها إلى اللّغة والثّقافة اليونانيّة الّتي تستمد منها دلالتها ومصداقيّتها، ومن المرجح أن يكون فريدريش إيمانويل نيثامر (ت 1848م) أول من استخدم مصطلح الإنسانيّة في بداية القرن التّاسع عشر، لكي يشير إلى مناهج الدّراسة الثانوية والجامعيّة التي تعتمد على ما كان يطلق عليه في القرون الوسطى الدراسات الإنسانية، ألا وهي دراسة اللغة اليونانية القديمة واللّاتينيّة .. وسرعان ما التقط مؤرخو الثّقافة من أمثال جورج فويجد وجاكوب بيركهارت (ت 1897م) تلك الكلمة لكي يصفوا العلوم الإنسانيّة الحديثة، والنّهضة كإعادة لبعث الحضارة اليونانية الرومانية وقيمها».

ومع هذا -حسب رؤيته- ظلّت النزعة الإنسانية «كلمة ذات تاريخ شديد التّعقيد، ومعان يصعب حصرها، فضلا عن عدد السّياقات الّتي يمكن أن تظهر فيها»، «فالإنسانيّة تماما كالواقعيّة والرّومانسية هي إحدى تلك الكلمات الّتي يمتدّ حقلها الدّلالي من المعاني المتخصّصة التي يستخدمها المثقفون إلى المعاني التي يشوبها الغموض لشدة عموميتها»، لهذا «تحمل الإنسانيّة حتّى في أكثر السّياقات الوصفيّة حياديّة دلالات قويّة، بعضها سلبيّ وبعضها إيجابيّ لانتماءات أيدلوجيّة مختلفة، وقد أدّى الغموض والعموميّة اللّذان يحيطان بالكلمة إلى أن تصير لفظة استحسان وازدراء على حدّ سواء».

ولعلّ تشعب الحالة المعرفية أمام النزعة الإنسانية جاء كحالة من حالات الانعتاق من النّزعة اللّاهوتية والتّحرّر منها؛ لأنّ النّزعة اللّاهوتية ذاتها لم تكن باسم اللّاهوت المطلق (النّصّ المطلق)، بل صاحبها الشّراك الإنساني لفئة من الكهنوت البشري حتى في النص نفسه، وهذا ظهر بشكل كبير في العصر الوسيط في الجانب المسيحي الكاثوليكي، لهذا حاول البروتستانت الممايزة بين ما هو لاهوتيّ مطلق، وبشريّ تأريخي متحرك.

هذا الانعتاق لم يكن مصاحبا للعقلانيّة الأوروبيّة في التّعامل مع شموليّة النّزعة اللّاهوتيّة، من حيث المرجعيّة ذاتها، ومن حيث الانفكاك بين المقدّس وغير المقدّس، بل شمل الانعتاق لعوامل عديدة، منها ما هو سياسي وحقوقي واجتماعي مثلا، ومدى حضور النّزعة الإنسانيّة في تشكل هذه الجوانب وغيرها، وهذا طبيعي أن يُحدث اضطرابا في ضبط معنى النّزعة الإنسانيّة، إلا أنّ الغاية منها أقرب إلى الوضوح من المصطلح ذاته.

فينقل ديفيز عن جون سيموندز (ت 1893م) أنّ جوهر النّزعة الإنسانيّة يتمثل «في إدراك جديد لكرامة الإنسان على أنّه كائن عاقل بعيد عن كلّ المحدّدات الثّيولوجيّة، وكذلك أيضا في إدراك أنّ الأدب الكلاسيكيّ وحده هو الذي استطاع أن يعرض النفس البشرية بكامل طاقتها الفكرية وحريتها الأخلاقيّة، وكان ذلك رد فعل ضد السّلطويّة الكنسيّة من ناحية، ومحاولة لإيجاد نقطة محوريّة يتوحد حولها كلّ فكر فيه الإنسان، وقام بفعله من خلال العقل الّذي ثاب إلى رشده، وأدرك قوّته المسيطرة على العالم».

ولارتباط النّزعة الإنسانيّة بالكرامة الإنسانيّة لهذا كانت في مقابل المطلق، «فالنّزعة الإنسانيّة في عصر النّهضة والّتي تعبّر عن جوهر إنسانيّ ثابت لا يتأثر بالزّمان والمكان والظّروف المحيطة»، هذه الرّؤية لم تكن رؤية لغير اللّاهوتيين فحسب، بل هناك من اللّاهوتيين من تبنى ذلك أيضا، ويرجع توني ديفيز تبنيهم إلى محاولة العديد من اللّاهوتيين إلى فصل الكنيسة عن السّياسة، فإذا كانت الكنيسة ذات ارتباط بمطلق النّزعة اللّاهوتيّة؛ فإنّ السّياسة ذات ارتباط بمطلق النزعة الإنسانية المتمثلة في الكرامة الإنسانية، فيرى أنه «كان يُشتبه في أنصار النزعة الإنسانية الأوائل بأنهم خارجون عن صحيح الدّين، بل وكان يظنّ بهم الكفر، وكان معظمهم مثل رجلي الدّين إيرازموس وبرونو مناهضين لتأثير الكنيسة وتدخلها في الشّأن السّياسيّ، على الرّغم من أنهم نادرا ما كانوا مناهضين للدّين».

لهذا يخلص أنّه في الابتداء «تعدّ الإنسانيّة في جذورها فكرة سياسيّة مستمدة من الخطاب الثّوريّ لحقوق الإنسان أكثر منها فلسفيّة، فعندما أعلن روسو في الكتابه العقد الاجتماعي.. أنّ الإنسان يولد حرّا إلّا أنّه مكبل بالأغلال في كلّ مكان»، ثم تطوّرت فلسفيّا بعد ذلك.

هذه الجدليّة مدارها حول مركزيّة الإنسان في الوجود، فهناك نزعتان علويّة لاهوتيّة، يقابلها نزعة إنسانيّة وجوديّة، وكما يرى تولستوي (ت 1910م) في كتابه «في الدّين والعقل والفلسفة» أنّ كلّ دين «يؤسّس لعلاقة بين الإنسان واللّانهائي»، بيد أنّ الإنسان يتضخم في مقابل اللّانهائي، فيحدث تحريف للثّاني، فينسب هذا التّضخم إلى الدّين ذاته، وأهم أسبابه كما يراها النّفعيّة الّتي تنقل البشر من المساواة بين الجميع في مقابل اللّامتناهيّ إلى النّفعيّة الّتي تتمثل في فئة من الكهنوت باسم اللّامتناهي ذاته، «فكلّما يظهر تعليم ديني جديد يحوي في تعاليمه المساواة بين البشر، يحدث مثلما يحدث مع النّاس في الواقع، يحاول المنتفعون من عدم مساواة البشر أن يخفوا هذه القيم الرّئيسة للتّعليم الدّيني بتشويه أصل هذا التّعليم.. ينتج فقط بسبب أنّ المستفيدين من لا مساواة بين البشر، الموجودين في السّلطة والأغنياء.. وحتّى يبرروا موقفهم أمام أنفسهم دون أن يغيروا من أوضاعهم، يحاولون بكل ما لديهم من قوّة أن يلصقوا بالدّين تعليما يمكن أن تكون فيه عدم المساواة ممكنا، وينتج عن ذلك حتما أنّ دينا يتم تحريفه يمكن لمن يتسلّط فيه على الآخرين أن يجد لنفسه مبررا، ينتقل إلى العامة أيضا، ويوحي إليهم بأنّ خضوعهم لمن يتسلطون عليهم أمر من متطلبات الدّين الأساسيّة».

وما ذكره تولستوي يتوافق مع الرّؤية المبدئية الّتي أشار إليها توني ديفيز من ارتباط نشأة النّزعة الإنسانية بالبعد السياسي، والتي تمثلت في نفعيّة البابا والكهنوت باسم الدّين نفسه، لهذا تصوّر أنّ مفهوم المساواة وفق الكرامة الإنسانيّة يتعارض مع الدّين ذاته؛ لأنّه أوجد نفعيّة معينة لفئة من رجال الدّين، كما يصوّرهم المؤرخ الفرنسيّ جورج لوفيفر (ت 1959م) في كتابه «قدوم الثّورة الفرنسيّة 1789م» أنّه «يتمتع رجال الدّين بأعظم الامتيازات.. ومزودون بمحاكم خاصّة، المحاكم الأسقفيّة، ولا يدفعون أيّ ضريبة، ويحدّدون بأنفسهم الهبة المجانيّة التي يمنحونها للملك.. وكانوا أسيادا في العديد من القرى، ويتلقون إتاوات سياديّة.. ويحتكرون التعليم والمساعدة، ويشاركون في فرض الرّقابة على كلّ ما يطبع قانونيّا»، وهذه النّفعيّة من حيث الاستناد الدّيني مرتبطة بالنّزعة اللّاهوتية المطلقة، فكانت النّزعة الإنسانيّة في مقابل تحطيم هذه النّفعيّة التّأريخية من خلال الفصل بين الدّين كجوهر قيميّ، وبين السّياسة المرتبطة بحراك الإنسان ومساواته.

رؤية النّزعة الإنسانيّة لم تعد بعد ذلك لمحاولة الممايزة بين جوهر الدّين وبين تطوّر الاجتماع البشريّ، بما فيه السّياسي، بل أصبحت معقدة بشكل كبير، وأصبحت أقرب إلى العلمويّة والوجوديّة منها من التّنويريّة المسيحيّة الأولى، فهي وإن كانت جدليّة مسيحيّة في ظرف تأريخي معيّن، إلّا أنها اليوم جدليّة عالميّة بما فيها عالمنا الإسلاميّ أيضا، وحاول هشام جعيط في كتابه «أزمة الثّقافة الإسلاميّة» أن يحاول الجمع بين مركزيّة الإنسان من حيث النّزعة الإنسانيّة، وبين النّزعة اللّاهوتيّة في النّصّ الدّينيّ، فيرى أنّه «يوجد في القرآن مركزيّة إنسانية، لكنّها خاضعة للمقاصد والمخطّطات الإلهيّة، وهذا بحدّ ذاته يمثل شكلا من أشكال النّزعة الإنسانيّة، ففي القرآن درجة إنسانيّة أرفع، إنّها مكانة الإنسان في مغامرة الوجود، في غائيّة الخالق، وفي التّاريخ»، بيد أنّ الجدليّة حتّى بحضور هذه المركزيّة في النّصّ القرآني تبقى حاضرة ومتشعبة أيضا؛ لأنّ مساحة مركزيّة الإنسان أوسع من كونه حضورا إجرائيّا، بل هو عامل مهم في صناعة نص أوسع من النّصّ الأول، له هيمنته التّصديقية نسخا وتخصيصا وتقييدا، ثمّ الفهومات الأولى، والّتي أصبحت لها صبغتها اللّاهوتيّة المطلقة مع مرور الزّمن، لهذا لا يمكن بحال تبسيط حضور النّزعة الإنسانيّة في واقعنا الإسلاميّ اليوم، بل أنّ واقع الإسلام السّياسيّ -إن صح التّعبير- مثلا خير مثال لمثل هذه المراجعات، وقراءتها عن عمق بشكل أكبر، وفق النّزعتين اللّاهوتيّة والإنسانيّة.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: ة الإنسان فی کتابه فی مقابل مرکزی ة ة ال تی من حیث

إقرأ أيضاً:

الفلسفة الإنسانية

 د. صالح بن ناصر القاسمي

كثيرًا ما سمعنا عن مصطلح الفلسفة، وقد ارتبط هذا المصطلح بالحضارة اليونانية التي تُعدّ الفلسفة مفخرة فكرية شغلت العالم قرونًا عديدة.

وظهر العديد من الفلاسفة الذين شغلوا الدنيا بأسرها بما طرحوه من أفكار ونظريات وتعريفات أصبحت محل اشتغال ونقاشات أثّرت الساحة الفكرية العالمية.

حيث أصبح الفضاء الكوني هو أساس الاشتغال الفلسفي اليوناني، ليتجاوز بعد ذلك الفضاء الكوني ويهتم بالإنسان كونه إنسانًا، فبعد أن تجاوز التعريف التقليدي للفلسفة، الذي كان محددًا بمعرفة الكون وقراءة الطبيعة، وصل إلى الإنسان ومعرفة أنماط تفكيره وأسلوب حياته.

ولعل هذا التحول من دراسة الوجود الخارجي إلى تأمل الإنسان الداخلي، هو ما مهّد لظهور ما يُعرف لاحقًا بفلسفة القيم والأخلاق، حيث لم يعد السؤال عن "ما الكون؟" فقط، بل "ما الخير؟"، و"كيف ينبغي أن أعيش؟". وهذه الأسئلة هي جوهر الفلسفة الإنسانية التي تقيس القيمة لا بالحسابات المجردة، بل بتأثيرها على إنسانية الإنسان وكرامته وسكينته.

ونحن لا نريد أن نتعمق في الحديث عن الفلسفة بالمعنى الذي تناوله الفلاسفة ومعاركهم الفكرية ونظرياتهم التي شغلت العالم، بل أردنا أن نتناول الحديث بشكل مبسط عن الفلسفة الإنسانية التي وُلدت بمعية الإنسان، ثم تدرجت معه لترافقه إلى آخر رحلة في عمره الجسدي، بمعنى فلسفة أسلوب الحياة، وكيف لهذا الإنسان أن يختار من بين تلك الفلسفات ما يجعله يشعر بالسعادة والطمأنينة، وللطمأنينة التي شددنا عليها.

إن بداية الخيط الذي يستطيع القارئ الابتلاء به لنبدأ معه وقلتنا المعرفية، هو الحديث النبوي الشريف: (كل مولود يولد على الفطرة)، والفطرة هنا يُقصد بها الحق والاستقامة ونقاء السريرة، التي تمكّنه من معرفة الله والاقتراب منه إلهًا واحدًا لا شريك له.

وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا الأصل الفطري بقوله تعالى: ﴿فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا﴾ (الروم: 30)، وهذه الفطرة هي أساس الفلسفة الإنسانية التي تنبع من داخل النفس السليمة قبل أن تتأثر بالعوامل الخارجية.

لكن الفطرة، وإن كانت أصلًا نقيًّا، تحتاج إلى رعاية وتوجيه، فبعض البيئات تُنمّي في الإنسان القيم التي تعزز هذا النقاء، وبعضها الآخر يُشوش عليه بمفاهيم مغلوطة أو ضغوط نفسية واجتماعية تُبعده عن ذاته الأصيلة. ولهذا كانت التربية، والمحيط، والتجربة، أعمدة أساسية في تشكُّل الفلسفة الإنسانية لدى الأفراد.

وإذا كان كل إنسان يولد مزودًا بالاستعداد الفطري لقبول الحق واختيار الأسلوب الصحيح لمسار حياته، فمن الطبيعي أن مسار الحياة يحتاج إلى نظام متكامل يحفظ لهذا الإنسان السير في مسار واضح رصين، يكفل له سلامة الجسد والروح والعقل.
وقد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم هذا التوازن في قوله: (إن لبدنك عليك حقًّا، وإن لعينك عليك حقًّا، وإن لزوجك عليك حقًّا...)، في دعوة واضحة لتنظيم نمط الحياة بما يضمن السلامة الجسدية والنفسية والروحية، وهي جوهر الفلسفة الإنسانية.

ومع امتلاك الإنسان لآلة العقل والاستعداد الفطري، إلا أنه معرض إلى خلل قد يصيب ذلك النظام، بسبب عوامل خارجية تجعله ينحرف عن مساره الأصلي.
ويكفي أن نستحضر قصة قابيل وهابيل، حيث كان الانحراف في الفكر والسلوك أول مظهر بشري لخروج الإنسان عن فطرته، فقتل قابيل أخاه بدافع الحسد والرغبة في السيطرة، مع أنهما ابنا نبي، مما يدل على أن البيئة والاختيار الفردي يؤثران على المسار الفلسفي في حياة الإنسان.

وهنا تبرز أهمية الوعي الذاتي، فليس كافيًا أن نولد بفطرة سليمة أو نعقل الأشياء، بل علينا أن نُدرّب أنفسنا على التأمل والنقد والتصحيح المستمر. وهذا هو ما يجعل الفلسفة الإنسانية حيّة، غير جامدة، تنمو مع التجربة، وتُهذّب بالألم، وتسمو بالتفكر، كما قال الله تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا﴾.

والإنسان يجد نفسه في هذه الحياة أمام خيارات عديدة، حيث يبدأ كل شخص بتقييم هذه الخيارات ليختار ما يراه مناسبًا، ويجعله منهجًا لحياته.

هذا الاختيار ينتج عنه منهج فلسفي يلتزم به الإنسان ويطبقه، بل وينصّب نفسه مدافعًا شرسًا عنه، ومن هنا يبدأ الآخرون بوصف ذلك المنهج بقولهم: إن فلانًا له فلسفة مختلفة.

نعم، إن اختيار أسلوب الحياة الذي نعيشه ما هو إلا فلسفة، لها ما يبررها في عقولنا، وهي تلك النظرة التي ننظر بها إلى الأشياء والمواقف والأفكار، وتُميزنا عن غيرنا.
وفي هذا الإطار، نجد أن الفلسفة الإنسانية لا تعني التنظير فقط، بل تبدأ من تفاصيل الحياة اليومية: كيف تتعامل مع من يخالفك؟ كيف تتخذ قراراتك؟ كيف تنظر إلى النجاح والفشل؟ هذه كلها تمظهرات حقيقية لفلسفتك، وإن لم تكتبها في كتاب.

ومع هذا، هناك مشتركات فلسفية تجمع ذلك الإنسان مع محيطه ومجتمعه الذي يعيش فيه.

فعلى مستوى الديانة، يشترك مع الآخرين في العقيدة التي يؤمن بها، والتكاليف التي عليه أن يلتزم بها، حتى ينعم بتناسق روحاني وطبيعي وهو يعيش في ذلك الوسط.
وقد قال الله تعالى في هذا السياق: ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ﴾ (الأنبياء: 92)، فالدين لا ينظم العلاقة بين الإنسان وربه فقط، بل يبني مجتمعات تقوم على وحدة القيم والمصير.

وبجانب المشترك الديني، هناك مشتركات فلسفية من ناحية القيم والمبادئ والأخلاق، يتشارك بها الإنسان مع محيطه الذي يعيش فيه، وهي بمثابة دستور اجتماعي يحفظ له كرامته، بل يشعره بالاستقرار.

وقد رأينا ذلك في قصة الصلح بين الأوس والخزرج في المدينة المنورة، حين بُني المجتمع الإسلامي على أسس إنسانية راقية من الإخاء والتكافل والتسامح، وهي فلسفات حياة قبل أن تكون تشريعات.

وإذا تأملنا المجتمعات الناجحة اليوم، فإننا نلحظ أنها لا تنهض فقط بالبنية التحتية، بل بفلسفة العيش المشترك، والعدالة، واحترام الإنسان. فحين تتبنّى المجتمعات مبادئ إنسانية عليا كقيم دستورية، فإنها تضع الأساس لعصر من النضج والتوازن الحضاري.

وبجانب اشتراكه الفلسفي في محيطه القريب، هناك مجتمع عالمي يُفترض أن يكون مثاليًا، يجتمع فيه العالم على مبادئ وقيم وأخلاق إنسانية عالمية، يسميه البعض: المشتركات الإنسانية، وبواسطتها يعيش العالم في سلام، ويعمل فيه الجميع تحت قاعدة التدافع التي ينتج عنها رُقي حضاري وتطور المجتمعات.

وهذا ما أشار إليه القرآن الكريم في قوله تعالى: ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ﴾ (البقرة: 251)، فالاختلاف الفلسفي والتدافع الأخلاقي حين يكون مبنيًا على القيم، لا يُنتج حربًا، بل يُثمر حضارة.

هذه الفلسفات هي التي يُفترض أن تسود أفكار الإنسان العالمي، لكن المفروض ليس دائمًا هو الواقع، فالخلل الذي يَعرض في التفكير هو الذي يُفسد النظام، ويجعل الإنسانية تعيش حالة من التوترات والصراعات.

وفي زمن تتكاثر فيه الأفكار وتتنافس فيه الفلسفات، لم يعد كافيًا أن نمضي في حياتنا بنسخ مكررة من معتقدات لم نختبرها، أو مواقف لم نُمحّصها، بل صار من الواجب أن نُراجع أنفسنا بصدق: ما الذي نؤمن به حقًّا؟ وما الذي نُمارسه فقط لأنه مألوف؟ هذه المراجعة ليست ضعفًا، بل وعي ناضج يُمهّد لفلسفة إنسانية أصيلة، تُبنى على التفكر لا على التلقين، وعلى الرحمة لا على التعصب.

إذاً، ونحن نتناول الحديث عن الفلسفة، نفرق بين الفلسفة بمعناها الفعلي كما تناولها الفلاسفة اليونانيون ومن جاء بعدهم، بما فيهم الفلاسفة العرب والمسلمون، وبين الفلسفة الإنسانية التي تعني أسلوب الحياة، ونظرة الإنسان إلى الأشياء، وتلك المشتركات القيمية والمبادئ الأخلاقية التي يتشارك بها مع الحضارات الإنسانية المختلفة، والتي نستطيع أن نُطلق عليها: الفلسفة الإنسانية العالمية، والتي هي السبيل الوحيد للتعايش السلمي، إذا ما استطعنا أن نجعلها شعارًا عالميًا يلتزم به الجميع.

 

مقالات مشابهة

  • التنافر المعرفي
  • ترامب ريفييرا.. خطة سرية لتهجير الفلسطينيين من غزة برعاية معهد توني بلير
  • إليك ما نعرفه عن آليات إدخال المساعدات لغزة والبروتوكول الإنساني
  • مدير أمن العاصمة عدن يبحث مع الصليب الأحمر سبل تعزيز الدعم الإنساني للسجون
  • وزيرة التضامن: دعم الهلال الأحمر لقطاع غزة مثال للتكامل الإنساني الإقليمي
  • «الفارس الشهم 3» تواصل تقديم دعمها الإنساني في غزة
  • اجتماع برئاسة باجعالة يناقش أوضاع مكاتب الشؤون الاجتماعية وتعزيز العمل الإنساني
  • الفلسفة الإنسانية
  • "قطر الخيرية" وأوتشا تنظمان لقاء استراتيجيا لتعزيز التنسيق الإنساني والإنمائي في سوريا
  • الأونروا: إسرائيل فشلت في استبدال منظمتنا ومراكزنا هي العصب الإنساني في غزة