دعكم من التعددية القطبية؛ لأن صراعا عسكريا عالميا ثنائي القطب قد بدأ، وسوف يتكشف في أطوار، فيكون حربا ملتهبة في أماكن معينة ولمدد زمنية طويلة، ويكون حربا باردة في أماكن وأوقات أخرى، وسيكون المبدأ المنظم للشؤون الجيوسياسية لسنين تنتظرنا. وما هو بـ«صدام حضارات» مثلما قال أستاذ جامعة هارفرد الراحل صمويل هنتنجتن في مطلع تسعينيات القرن الماضي، ولكنه صدام أنظمة قيمية واسعة، قد تكون نتاج ثقافات قومية وتراثات عتيقة، لكنها في جوهرها ذات أصول حديثة وما بعد حديثة.
إنه صراع بين قطبين يشمل الحرب العالمية على الإرهاب وصراع قوى عظمى. وبدلا من أن يحل الأخير محل الأولى -حسب المعهود والطبيعي- في أعقاب نهاية حروب الشرق الأوسط الأمريكية بعد 9/11 وغزو روسيا الشامل لأوكرانيا في عام 2022، جرت المأساتان جنبا إلى جنب، ويضم جانب من هذا الصراع دول العصابات من قبيل روسيا وكوريا الشمالية، والدول الشمولية من قبيل الصين وكوريا الشمالية أيضا، ودولة ثورية مثل إيران بكل أتباعها في الشرق الأوسط، وحركة هي في الوقت نفسه عتيقة وصناعية وما بعد صناعية: هي حركة معاداة السامية، وأعداء الغرب هؤلاء أشد رعبا وعدمية من الاتحاد السوفييتي القديم أو الصين على عهد ماو تسيتونج.
فلقد كان القادة السوفييت -وقد نجوا من تطهير ستالين ثم من الحرب العالمية الثانية- يجتنبون المخاطرات بشكل عام في أفعالهم. فإن لم يجتنبوها كانوا يدفعون الثمن. لقد نشر نيكيتا خروشف صواريخ نووية في كوبا في أواخر عام 1962 فأدى بذلك إلى أزمة مع واشنطن تحتم عليه فيها في نهاية المطاف أن يتراجع، وأطيح به من القيادة السوفييتية بعد سنتين. كما عجَّل غزو ليونيد بريجنيف لأفغانستان سنة 1979 بانهيار النظام السوفييتي برمته.
أما عن ماو، بكل الأعمال التي اقترفها في حق شعبه خلال خمسينيات القرن الماضي وحتى أوائل السبعينيات، فكان يمكن أن يبدو لاعبا عقلانيا في العلاقات الخارجية. أما المحصول الحالي من الأشرار فيمثل عنصرا بشريا أشد إثارة للاضطراب مما واجهه الغرب خلال الحرب الباردة حين كانت الأيديولوجية الماركسية اللينينية الصارمة التي اتبعها خصومنا تزيد إمكانية التنبؤ بتفكيرهم.
وهؤلاء الجدد مترابطون في ما بينهم. فروسيا من خلال جماعة فاجنر التابعة لها تهدد بإرسال نظام دفاع جوي إلى حزب الله -وكيل إيران- لمساعدته في محاربة إسرائيل على الحدود اللبنانية الإسرائيلية. والتحالف العسكري الحديث لروسيا مع إيران، الذي تأسس في الأشهر الأخيرة، ويزود موسكو بالخامات والطائرات المسيرة في حربها ضد أوكرانيا، يجعل الرئيس فلاديمير بوتين حليفا فعليا للقائد الإيراني الأعلى علي خامنئي ضد إسرائيل. وتبعث كوريا الشمالية أيضا السلاح إلى موسكو فتستعمله في حربها على أوكرانيا، حتى مع دعم الصين لروسيا واستفادتها من الإلهاء الناجم عن هجوم حماس على إسرائيل. فترتبط على هذا النحو حربا أوكرانيا وغزة.
وفي هذا كله، يجب علينا في الغرب أن نتحرى الحرص ونحن نصف جانبنا. فلسنا عالم الدول الديمقراطية، وليس ذلك فقط لأن شيئا من قبيل معاداة السامية قد ضرب -كشأنه دائما- بجذوره داخل الدول الديمقراطية، وإنما لأن جانبنا أيضا يحتوي على دول أوتقراطية محافظة في الخليج العربي والأردن ومصر وغيرها، وجميع هذه الدول تناصر الوضع الإقليمي الراهن وتعارض تغيير الأنظمة الحاكمة في المنطقة.
في واقع الأمر، هذا صراع ثنائي القطب بين قوى الوضع الراهن وحركات ترغب في الإطاحة بنظام ما بعد الحرب الباردة القائم، إما بالاستيلاء على الأرض كما تفعل روسيا بغزو أوكرانيا، أو في سعي الصين المحتمل مستقبلا لدمج تايوان، أو بمحو شعب كامل وذلك هو هدف التحالف الإيراني في ما يتعلق بإسرائيل. إنه النظام في مقابل اللانظام. هذا في نهاية المطاف ما يجري حوله الصراع العالمي الذي لم يزل ناشئا.
لقد حاول الفاشيون النازيون واليابانيون، خلال الحرب العالمية الثانية، أن يحلوا محل عالم منظم نسبيا قائم في حدود معاهدات سلام ما بعد الحرب العالمية الأولى، من خلال القتل الجماعي الثوري والغزو العسكري والتطرف. وبالمقارنة، كان خصوم الغرب في الحرب الباردة حذرين. ولذا فإننا نعيش في عصر جيوسياسي جديد يناقض -برغم جميع الاختلافات الكبرى- مجازر ميادين القتال والهولوكوست والإمبراطوريات المتهاوية، وهو أشبه قليلا بالاضطراب العنيف في ما بين عامي 1939 و1945 منه بفترة الهدوء النسبي في أعقاب ذلك.
من الناحية الجيوسياسية، يقوم الصراع أيضا بين قوى مركز الأرض الأوراسية المتمثلة في روسيا والصين وكوريا الشمالية وإيران وقوى أطراف الأرض البحرية في الأساس، مع تنويعات من قبيل الولايات المتحدة وأوروبا ومنطقة المحيطين الهندي والهادئ وإسرائيل والقوى العربية السنية المحافظة من الخليج إلى البحر الأحمر والبحر المتوسط. ولقد كتبت عن هذه التمايزات الجغرافية في كتابي «انتقام الجغرافيا» الصادر سنة 2012.
غير أنه نظرا لنجاح التكنولوجيا في كبت الجغرافيا، وخلقها من خلال وسائل الإعلام الرقمية منصة عالمية لسياسات الأداء، فمن الأفضل أن نفهم المواجهة ثنائية القطب الجديدة باعتبارها حرب أفكار ذات تداعيات جيوسياسية وعسكرية. وما تقسيم مركز الأرض وأطرافها بالتقسيم المفرط في التجريد بحيث يستحيل تصور السبل التي يضطرب من خلالها النظام العالمي. فمعاداة السامية تحقق ذلك؛ لأنها اندلعت في نسختها الأخيرة بسبب الحرب بين إسرائيل وحماس، واستشرت منذ ذلك الحين في جميع أنحاء الغرب، وكذلك في الإمبراطورية الروسية والصين. وتشهد على ذلك أعمال الشغب الشبيهة بالمذبحة في جمهورية داغستان الروسية في أواخر أكتوبر ردا على وصول رحلة جوية من إسرائيل، والهجمات على اليهود في وسائل التواصل الاجتماعي الصينية التي ساعدها موقف بكين المؤيد لفلسطين.
ومعاداة السامية لها جذور تاريخية عميقة، إذ يستدعي المصطلح كراهية اليهود في أوروبا العصور الوسطى، والمجازر التي ارتكبت في حق اليهود في منطقة الاستيطان الروسية قبل مطلع القرن العشرين وفي مطلعه، لتبلغ ذروتها في الهولوكوست النازية. والهولوكوست بصفة خاصة أعطت معاداة السامية صبغة العصر ما بعد الصناعي، إذ باتت تجمعات خطوط السكك الحديدية علامة على كل من العصر الصناعي وعلى قطارات نقل اليهود إلى معسكرات الموت.
لكن معاداة السامية يمكن أن تكون ما بعد صناعية أيضا بارتباطها بأشكال التواصل الحديثة، حتى عندما تأتي في إطار نزاع إقليمي قديم بين الإسرائيليين والفلسطينيين.
تقع إسرائيل في قلب حرب جيوسياسية علمية. وذلك لأن إسرائيل في ما يبدو لن تتراجع. فإسرائيل ليست إدارة بايدن التي تعطي الأوكرانيين المساعدة والسلاح الكافيين فقط لإرهاق الروس، ولا تعطيهم ما يكفي لتحقيق نصر حاسم. وليست الرئيس الصيني شي جينبنج الذي ينتظر الفرصة ليخطو خطوته الدراماتيكية قاضيا بها على استقلال تايوان الفعلي، بل وما هي بإيران التي ربما تنشد جميع فوائد الوجود على عتبة التحول إلى قوة نووية دون أن تستعمل فعليا القنبلة.
إسرائيل، مهما بلغ انقسام حكومة الوحدة الوطنية لديها من وراء الستار، ومهما بلغ انقسام شعبها حيال مصير رئيس الوزراء بنيامين نتانياهو، متحدة اتحادا مطلقا تجاه ضرورة تدمير حماس.
وتدمير حماس -الذي ربما يكون على بعد كثير من الأسابيع والشهور- سيكون له توابع لا يمكن التنبؤ بها. فضراوة الحرب الجوية والبرية في بيئة حضرية مزدحمة ولفترة زمنية ممتدة سوف تغضب الشعوب في شوارع القاهرة وبغداد وعمّان وأماكن أخرى. وسوف يكون لهذا آثار ثانوية على أنظمة الحكم العربية المحافظة التي تضمر الأمل في دمار حماس، وإن زعم أغلبها عكس ذلك في العلن. وما زيارة الرئيس الإيراني للمملكة العربية السعودية في الحادي عشر من نوفمبر إلا ظهور لوحدة سطحية عابرة لا أكثر.
في حال إمهالها أسابيع كافية من الحرب المكثفة في غزة، مع احتمال تدمير حماس، قد تشعر إيران أنه ما من خيار لها إلا إطلاق العنان لحزب الله في شمال إسرائيل. وفي نهاية المطاف، قد تشتعل حرب الظل القائمة بين إسرائيل وإيران -وتتضمن تخريب إسرائيل الصناعي للمواد النووية الإيرانية والاغتيال المشتبه به لعلماء نوويين إيرانيين- وقد تتحول إلى صراع واسع النطاق.
وإنني أطرح هذه النظرية أساسا بسبب الحميمية والرعب الشديدين اللذين شهدهما السابع من أكتوبر حيث لقي أكثر من ألف ومئتي إسرائيلي مصرعهم في ظروف مقبضة، بما لعله غيَّر الحسابات الإسرائيلية تجاه إيران ووجَّهها وجهة أشد حسما نحو عمل عسكري في نهاية المطاف.
بمرور الوقت، وبينما تقترب إسرائيل من إلحاق الهزيمة بحماس، وبينما يترنح الشرق الأوسط من عواقب ذلك، وبينما يصبح النظام الحاكم الإيراني أشد يأسا، وبينما تستمر حرب أوكرانيا في إضعاف الإمبراطورية الروسية ككل، قد تتبدد عتمتنا الحالية، مع معاناة أعدائنا للخطر.
على سبيل المثال، قد تكون حرب أوكرانيا محض تقدم لاضطراب قبيح في أماكن أخرى من روسيا، حيث أمدت جمهوريات سيبيرية -من قبيل بورياتيا وتوفا- حرب أوكرانيا بقوات، وماتت من قواتها أعداد أكبر ممن ماتوا من أعراق روسية أخرى تنتمي إلى أماكن من قبيل موسكو. فلعل الإمبراطورية الروسية -باستمرار هذا التجمد في أوكرانيا- تبدأ عاجلا أم آجلا في الانهيار.
أما عن إيران، فإن الحكم الديني هناك يقوم على قاعدة تأييد ضيقة. وإيران يجري تشبيهها ببلد من 88 مليون كوري جنوبي تحكمهم زمرة من الكوريين الشماليين. ففي العام الماضي وقعت مظاهرات كبيرة مناهضة للحكومة، تدعو إلى التغيير. ولم تكن تلك هي الأولى من نوعها، ففي أعوام 2009 و2017 و2018 و2019 وقعت انتفاضات هائلة معادية للنظام.
والطريق طويل بين الاحتجاجات واضطرابات سياسية حقيقية. ولكن مظاهرات شاملة هي التي أطاحت بنظام الشاه في عام 1979. ويجب أن نكون قادرين على تخيل نظام ما بعد ثوري في إيران، أو أن نتخيل على أقل تقدير اضطرابا يبدأ في شل حركة بنية السلطة القائمة. وقد يساعد حدث من الخارج، من قبيل هجوم إسرائيلي أو إسرائيلي أمريكي ناجح على المنشآت النووية والصاروخية الإيرانية، في تحقيق ذلك.
نحن الآن في عالم تؤدي فيه أزمة ما إلى أزمة تالية، وتؤدي في النهاية إلى تغيير ديناميكي في الجغرافيا السياسية. وهذا ما يسمى أحيانا اسم «الأزمة المتعددة». ولكن المصطلح لا يشير تماما إلى حالة عدم الاستقرار العسكري التي بدأت تحدث. وبطبيعة الحال، كان هذا هو الحال مرارا على مدار التاريخ، ولكن الآن -بسبب تكنولوجيا الاتصالات بكل مظاهرها- تسارعت وتيرة الأحداث.
لقد بدأت الحرب العالمية الثانية فعليا في عام 1931 مع الغزو الياباني لمنشوريا، رغم أنها لم تبدأ بشكل جدي إلا بعد الهجوم الألماني على بولندا في عام 1939. وكانت تلك الحرب عملية استمرت في نهاية المطاف لأربعة عشر عاما. وليست الحرب معركة مستمرة. فمن الممكن أن تبدأ وتتوقف، ثم تبدأ من جديد. وسوف تنتهي حرب إسرائيل وغزة بتحول في الشرق الأوسط، وهو ما سوف يؤدي بعد ذلك إلى تداعيات، وتداعيات عنيفة في كثير من الأحيان. أما عن روسيا، فحالات الجمود الميدانية تصل إلى نهايتها، وعندما يحدث ذلك، ستجد روسيا نفسها أضعف مما كانت عليه منذ عقود في القوقاز وآسيا الوسطى وفي نقاط أبعد إلى الشرق.
ويلوح في الأفق من وراء كل هذا صراع الولايات المتحدة والصين بشأن تايوان، وإذا ما تحول هذا الصراع يوما إلى العنف فإنه قد يؤدي إلى انهيار الأسواق المالية وسلاسل التوريد فورا، ناهيكم عن تأثيراته العسكرية المتطورة. إن روسيا وإيران تشهدان انحدارا نهائيا، حتى لو أن بوسع التراجع الاقتصادي الصيني أن يؤدي إلى المزيد من القومية المدمرة. والولايات المتحدة لديها مشاكلها الداخلية الخاصة. وفقط في ظل تراجع القوى العظمى، وإن اختلفت المعدلات، يمكننا أن نتحدث عن عالم متعدد الأقطاب مضطرب على نحو أساسي، ولا علاقة له بالنظام الخادع الذي تشير إليه الأمم المتحدة، أو مجموعة العشرين، أو الجنوب العالمي. وفي المستقبل المنظور، سوف تكون الجغرافيا السياسية ثنائية القطب في الأساس، وستكون كذلك على نحو مخيف.
روبرت دي كابلان مؤلف ومراسل أجنبي. أحدث مؤلفاته هو « The Loom of Time: Between Empire and Anarchy, from the Mediterranean to China»
عن صحيفة نيوستيتسمان
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: فی نهایة المطاف معاداة السامیة الحرب العالمیة الشرق الأوسط من قبیل من خلال ما بعد فی عام
إقرأ أيضاً:
شولتس يكشف طريقة تفكير بوتين في حرب أوكرانيا
قال المستشار الألماني أولاف شولتس إن محادثته مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الجمعة، لم تكشف عن أي مؤشرات على تغيير في طريقة تفكيره في الحرب في أوكرانيا ودافع عن قراره بالتواصل معه رغم تعرضه لانتقادات حادة.
وفي حديثه بمطار برلين، الأحد، قبل مغادرته لحضور قمة مجموعة العشرين في البرازيل، ذكر شولتس أن محادثته مع بوتين كانت ضرورية لتبديد أي أوهام قد تكون لدى الرئيس الروسي بشأن تخلي الغرب عن دعمه لأوكرانيا.
وقال المستشار الألماني إنه يرى عدم تواصل أي زعيم أوروبي مع بوتين في وقت تتواصل فيه واشنطن بشكل متكرر معه ليس بالأمر الصائب، في إشارة إلى العودة القريبة لدونالد ترامب إلى الرئاسة الأميركية.
وقال للصحفيين: "كانت المحادثة مفصلة للغاية لكنها ساهمت في إدراك أمر وهو أن آراء الرئيس الروسي بشأن الحرب لم تشهد تغير يذكر.. وهذا ليس نبأ جيدا".
وتحدث بوتين وشولتس هاتفيا، يوم الجمعة، لما يقرب من ساعة، وهي أول محادثة هاتفية مباشرة بينهما منذ ما يقرب من عامين.