اعتبر محلل شؤون الشرق الأوسط الإسرائيلي زيفي بارئيل، الرئيس المصري حظي بمزايا سياسية واقتصادية سخية طيلة تولي حركة المقاومة الفلسطينية حماس مقاليد الحكم في غزة، لكن كل ذلك سينتهي في النموذج الجديد للقطاع الذي تريده إسرائيل وأمريكا. 

وأوضح بارئيل في تحليل نشرته صحيفة هآرتس العبرية، أن مصر ستجلس في المقعد الخلفي كفاعل في غزة الجديدة (بدون حماس) لعدم وجود خطة لديها للتعامل مع الوضع الجديد؛ الأمر الذي سيعرض مساعي السيسي الرامية لتسريع إصلاحات اقتصاد بلاده الغارق في أسوأ أزماته من سنوات للخطر.

  

ولفت إلى أن السيسي قدم موعد الانتخابات الرئاسية الجارية، التي كان من المقرر إجراؤها في مارس/أذار 2024، من السماح لنفسه بتسريع سلسلة من الإصلاحات المهمة التي يمليها صندوق النقد الدولي. 

إصلاحات صعبة  

ولمنع أي مناقشات لا داعي لها لخطط الإصلاح الاقتصادي الصعبة المحتملة، تم التخلص من المرشح الجاد أحمد طنطاوي من قائمة منافسي السيسي، وتم الإبقاء على 3 مرشحين ليس لديهم مكانة حقيقية أو دعم شعبي. 

والنتيجة متوقعة في الانتخابات الحالية، كما حدث في المرتين السابقتين في عامي 2014 و2018، حيث "فاز" الرئيس بـ 90% من الأصوات في كلتا المسابقتين 

ورأي بارئيل أن الإصلاحات الاقتصادية ستسمح لمصر بتأمين الأقساط التالية من قرض بقيمة 3 مليارات دولار بعد أن جمده صندوق النقد الدولي بسبب تأخر الإدارة في تنفيذ الإصلاحات المذكورة. 

واضاف أن الصندوق يطالب بتعويم سعر صرف الجنيه (العملة)، وخصخصة الشركات التي تسيطر عليها الحكومة، والأهم من ذلك، يخطط الصندوق لتقليص الجزء الذي يسيطر عليه الجيش فى الاقتصاد المصري، والذي يصل وفقا لتقديرات إلى نصف الاقتصاد المصري. 

وفي هذا العام وحده، سيتعين على مصر تسديد نحو 29 مليار دولار أمريكي من إجمالي دينها الخارجي البالغ نحو 165 مليار دولار، فيما يبلغ احتياطيها من العملات الأجنبية نحو 35 مليار دولار، لكن هذه ليست المشكلة الوحيدة. 

ويبلغ معدل البطالة في مصر نحو 17 %، ويصل معدل التضخم إلى 40 %، ويعيش حوالي 60% من السكان البالغ عددهم 105 ملايين نسمة حول خط الفقر. 

وإضافة لذلك، لا توجد استثمارات جديدة قادمة، وعائدات السياحة- التي تصل إلى حوالي 10% من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد- تعاني من تداعيات الحرب في غزة، مما أدى إلى تحطيم التوقعات الاقتصادية للدولة. 

وفي غضون ذلك، فإن مصر، الغارقة في واحدة من أسوأ أزماتها الاقتصادية منذ سنوات، تحتاج إلى هذه الأموال على الفور. 

وبعد الانتخابات الرئاسية سيؤدي التعويم المحتمل للجنيه مرة أخرى إلى خفض قيمتها الرسمية، والتي تبلغ حاليًا 30 ليرة للدولار، أو 45 للدولار في السوق السوداء، وستقود تلك الخطوة حتماً إلى ارتفاع كبير آخر في أسعار السلع الأساسية المرتفعة بالفعل. 

أما الإصلاح الآخر، وهو خصخصة الشركات الحكومية وتقليص مشاركة المؤسسة العسكرية في الاقتصاد، فقد يضع الرئيس على مسار تصادمي مع الجيش، الذي أوضح مراراً وتكراراً أنه لن يسمح بأي إضعاف لمكانته. 

ورأي المحلل الإسرائيلي أن الحرب في غزة بين إسرائيل وحماس ستزيد من تفاقم مشاكل الاقتصاد، رغم أنها تساعد في الوقت الحاضر السيسي على تعزيز موقفه السياسي والاقتصادي. 

على سبيل المثال، وافق صندوق النقد الدولي على مناقشة مسألة زيادة حجم القرض الذي يمنحه لمصر إلى 5 مليارات دولار من 3 مليارات دولار. 

ويفتح الاتحاد الأوروبي أيضًا محفظته، ويفكر في تقديم مساعدة تتراوح بين 8 إلى 9 مليارات دولار في شكل إعفاء جزئي من الديون وإعادة هيكلة الديون الحالية، فضلاً عن خطة استثمارية طموحة. 

اقرأ أيضاً

الخوف من التغيير.. كيف ستساعد حرب غزة السيسي في الفوز بالولاية الثالثة؟

 

باعتبارها دولة شاركت في مفاوضات الرهائن، تلقت مصر الامتنان والثناء من الإدارة الأمريكية وتلاشت انتقادات الرئيس جو بايدن السابقة القاسية الموجهة إلى السيسي بسبب انتهاكات حقوق الإنسان. 

ويبقى أن نرى ما إذا كانت إدارة بايدن ستفرج عن مبلغ 85 مليون دولار الذي تم احتجازه سابقًا؛ احتجاجًا على سياسات القاهرة القمعية بحق المعارضين. 

غزة بدون حماس 

وذكر بارئيل أن السيسي، قاوم الخطط الإسرائيلية الرامية لمحاولة تهجير مئات الآلاف من سكان غزة إلى الأراضي المصرية. 

وأوضحت القاهرة أن اعتراضها على هذه الخطط لم يكن لأسباب اقتصادية - إذ تستضيف مصر بالفعل حوالي 9 ملايين لاجئ من الشرق الأوسط وأفريقيا - ولكن بسبب الخطر الذي قد يشكله تدفق اللاجئين من غزة على الأمن القومي للبلاد. 

وفي تصريحات لوزير الخارجية المصري سامح شكري، قال إن مصر فقدت حوالي 3500 من أفراد الأمن المصريين أثناء القتال ضد الإرهاب في سيناء، وآخر ما تحتاجه مصر الآن هو إقامة "إقليم لحماس" داخل حدودها. 

ويدرك السيسي أن ترحيل الفلسطينيين إلى سيناء لن يكون مؤقتًا، كما لن يكون لدى اللاجئين مكان يعودون إليه عندما تنتهي الحرب، وأن إعادة بناء مئات الآلاف من المنازل التي دمرها القصف الإسرائيلي ستستغرق سنوات قبل أن يتمكن أي لاجئ من الأمل في العودة. 

كما يدرك أن ملايين السوريين ومئات الآلاف العراقيين اللاجئين لم يعودوا بعد إلى ديارهم رغم أنهم يستطيعون ذلك. 

بالنظر إلى غزة في اليوم التالي للحرب بين إسرائيل وحماس، فمن المتوقع أن تلعب القاهرة دورا رئيسيا، وسيكون السيسي (بعد إعادة انتخابه المحسومة كرئيس)، الشخصية الرئيسية في تشكيل السياسة المصرية إزاء تلك الملف. 

لكن على الرغم من ذلك، فإن كل ما أوضحه السيسي حتى الآن هو أن الدولة الفلسطينية المستقبلية يجب أن تكون منزوعة السلاح. 

وفيما يتعلق بالفترة الانتقالية، فإن النظام في مصر لا يملك خطة فحسب، بل يتهرب بشكل منهجي من سؤال من سيدير العملية وكيف؟ 

واستشهد المحلل بإجابة وزير الخارجية سامح شكري على هذا السؤال في مقابلة مع مركز أبحاث المجلس الأطلسي قائلا إنه لا تتوفر لديه "أي فكرة عما سيحدث في المستقبل. ليس لدينا أي فكرة عما سيكون عليه الوضع في غزة أو المنطقة في نهاية الصراع". 

ودعا إلى ضرورة التركيز على ما يحدث على الأرض حاليا وإنهاء الصراع، ومن ثم الانتقال إلى تطوير استراتيجية بين مختلف المكونات للوصول إلى وضع أفضل. 

وذكر المحلل أنه فيما يتعلق بغزة الجديدة بدون حماس فإن مصر سيتعين عليها من الاندماج في النظام السياسي والعسكري الذي تديره الولايات المتحدة وإسرائيل والرامي للحفاظ على المصالح الأمنية الإسرائيلية والتأكد من أن غزة لن تصبح تهديدا مرة أخرى.  

ومن ناحية أخرى، أوضحت مصر على مدى عقود، وبشكل أكبر خلال الحرب، أنها لا تنوي تحمل مسؤولية إدارة غزة، حتى ولو بمساعدة قوة متعددة الجنسيات، وسوف تشارك بطبيعة الحال في إعادة إعمار غزة، ما دام ذلك لا يأتي على حساب مواردها المالية. 

وأوضح المحلل الإسرائيلي أن غزة تحت حكم حركة حماس قدمت للسيسي ونظامه مزايا سياسية واقتصادية سخية على مدار سنوات، أما الآن، فقد أصبحت تهديدًا تعتمد إزالته على إسرائيل والولايات المتحدة أكثر بكثير من مصر. 

وخلص بارئيل أن الوضع الجديد في غزة بعد حماس سيكون جديدا على السيسي، ويبدو أنه الرئيس المصري لا يستطيع حتى البدء فى حساب خطواته المقبلة في هذا الملف. 

 اقرأ أيضاً

ولاية رئاسية ثالثة محسومة.. هكذا استفاد السيسي من حرب غزة

 

 

المصدر | زيفي بارئيل/هاآرتس- ترجمة وتحرير الخليج الجديد

المصدر: الخليج الجديد

كلمات دلالية: غزة بدون حماس غزة الجديدة ملیارات دولار بدون حماس فی غزة

إقرأ أيضاً:

بعد 9 أشهر من القتال.. ما المطلوب أن تتنازل حماس عنه!

يمانيون – متابعات
في سنوات خلت، ولا سيما بعد الإعلان عن تأسيس حركة المقاومة الإسلامية “حماس” عام 1987، كان العديد من مراكز الدراسات المختصّة بمتابعة شؤون الحركات الإسلامية يصنّف الحركة بأنها تنظيم راديكالي متشدّد، وخصوصاً في ما يتعلّق بالصراع مع دولة الاحتلال الذي رأت فيه الحركة في ذلك الوقت أنه صراع عقائدي لا يتعلّق بصراع على الحدود الجغرافية لفلسطين المحتلة فحسب، بل بنظرة أشمل، كانت ترى أن اليهود سبب كل الخراب والشر في العالم، ولا بد من مواجهتهم بغض النظر عن الأثمان التي يمكن أن تدفعها الحركة في سبيل ذلك.

بعد سنوات من تلك الفترة التي شهدت صعوداً كبيراً للحركة على المستوى الشعبي في صفوف الفلسطينيين، وبعد غياب عدد كبير من قادتها المؤسسين نتيجة عمليات الاغتيال الصهيونية المتتالية، أمثال الشيخ أحمد ياسين، والدكتور عبد العزيز الرنتيسي، والدكتور إبراهيم المقادمة وغيرهم الكثير، حدث بعض التغيّر في موقف الحركة في ما يتعلّق بكثير من القضايا التي اعتقد البعض، لا سيّما من أنصارها ومحبّيها، أنها ثابتة ولن تتغيّر، مثل القبول بدولة فلسطينية على حدود الرابع من حزيران للعام 1967، بعدما كانت الحركة ترفع شعار فلسطين من البحر إلى النهر أو المشاركة في الانتخابات البرلمانية الفلسطينية “المجلس التشريعي”، بعدما كانت ترى أن هذه المشاركة تسليم وإقرار باتفاق أوسلو الذي وُقّع بين منظمة التحرير الفلسطينية والكيان الصهيوني عام 1993، والذي عارضته الحركة بشكل واضح لا لبس فيه، ووصفته إبّان توقيعه بأنه خيانة للوطن والشعب، وأنه سيأتي بنتائج كارثية على القضية الفلسطينية لن تكون أقل ضرراً من وعد بلفور المشؤوم.

لاحقاً، اكتسحت حماس انتخابات المجلس التشريعي عام 2006، متفوّقة على حركة فتح التي افتقدت القيادات الشابة أو هكذا أُريد لها، وعانت الكثير من المشكلات على مستوى الإدارة والبرامج وطرح الحلول والرؤى لكثير من القضايا التي كانت تهم الشارع الفلسطيني في تلك الفترة، إضافة إلى تهم الفساد التي لاحقت مجموعة كبيرة من النافذين في كبرى الحركات الفلسطينية، والتي ذاب جزء كبير من أجهزتها وقياداتها في جسم السلطة الفلسطينية، وهو الأمر الذي ترك وما زال آثاراً كارثية في هذه الحركة العريقة والكبيرة.

في الحقيقة، أنا هنا لا أنوي استذكار تاريخ حركة حماس، ولا تعداد إنجازاتها، وهي كثيرة، ولا إخفاقاتها كذلك، ولا أرغب أيضاً في هذا الوقت تحديداً بفتح صفحة الانقسام الداخلي البغيض الذي مرت عليه سنوات طوال من دون تفكيك تداعياته أو معالجة آثاره رغم عديد المحاولات التي بُذلت في هذا الإطار، إذ إن المرحلة الحالية التي تشهد فيها القضية الفلسطينية واحدة من أكثر مراحلها حساسية وخطورة بفعل العدوان الصهيوني تحتّم على الجميع أن يبحث عن القواسم المشتركة بين جميع أبناء الشعب الفلسطيني وبين قواه السياسية المناضلة، والتي كما جرت العادة عند كل الشدائد تُلقي كل خلافاتها وتبايناتها خلف ظهرها، وتنسى أو تتناسى، ولو مؤقتاً على أقل تقدير، كل ما شجر بينها من مشكلات، وتركّز جهودها على مواجهة التحدّيات والمصاعب التي تستهدف كل أبناء هذا الشعب من دون تمييز أو تفريق.

بعد انطلاق معركة “طوفان الأقصى” قبل 9 أشهر تقريباً، والتي فاجأت الكثيرين، سواء من الفلسطينيين أو “الإسرائيليين” وغيرهم في كل أرجاء العالم، تم اتهام حركة حماس من كثير من الأطراف، كان من بينها أطراف فلسطينية، بأنها أخطأت في تقدير الموقف، ولم تحسب حساباً لقوة الطرف الإسرائيلي الذي تعرّض لإهانة غير مسبوقة دفعته إلى الرد بقسوة وعنف كبيرين، ولا للإمكانيات الهائلة التي يملكها، ولا لإمكانية تدخّل حلفائه في العالم، وفي مقدمتهم الولايات المتحدة الأميركية، إضافة إلى تنفيذ الحركة عملية عسكرية هجومية بهذا الحجم غير المسبوق من دون إطلاع أيٍ من حلفائها، سواء الفلسطينيون أو في محور المقاومة، على نياتها ومخططاتها، وهو الأمر الذي اعتقد البعض حينها أنه سيترك آثاراً سلبية في مشاركة هؤلاء الحلفاء في المعركة.

في حقيقة الأمر، يمكن تفهّم اختلاف البعض مع حركة حماس فيما ذهبت إليه صباح السابع من تشرين الأول/أكتوبر من العام الماضي، سواء من ناحية الاستفراد باتخاذ مثل هذا القرار الاستراتيجي الكبير أو في ما يخص عدم وجود خطط قابلة للتنفيذ على مستوى تأمين الجبهة الداخلية في قطاع غزة، لا سيما على صعيد مواجهة الأزمات التي لا تُحصى، والتي نشأت نتيجة العدوان والحصار أو في ما يتعلّق بالأمن الغذائي للمواطنين الذين عانوا المجاعة وما زالوا، أو بتأمين المياه الصالحة للشرب أو الحد الأدنى منها أو الكهرباء، وغير ذلك الكثير من المتطلبات الحياتيّة الضرورية، ولكن من غير المفهوم قيام البعض بالهجوم على الحركة واتهامها بأنها كانت السبب المباشر فيما آلت إليه الأوضاع في قطاع غزة، من جوع وفقر ودمار وإطباق للحصار بصورة شاملة، إلى جانب العدد الهائل من الشهداء والجرحى والمعتقلين والكثير من الأزمات التي لم تكن لتحصل لولا عملية طوفان الأقصى بحسب وجهة نظرهم.

واللافت في الموضوع أكثر أنَّ هناك مطالبات من آخرين بدأ نسقها يرتفع رويداً رويداً بضرورة تقديم حركة حماس، ومعها كل فصائل المقاومة، جملة من التنازلات تكاد تقترب من إعلان الاستسلام بهدف إنهاء العدوان، ووقف مسلسل المذابح والجرائم الذي يُرتكب بحق الفلسطينيين، بغض النظر عن التداعيات الاستراتيجية التي يمكن أن تتركها هذه التنازلات، وإمكانية أن تؤدي إلى نتائج كارثية على مجمل المشروع الوطني الفلسطيني، الذي يعاني أصلاً صعوبات ومشكلات جمّة نتيجة أسباب لا يتّسع المجال لذكرها حالياً.

هذه المطالبات التي تحمل نيات حسنة من البعض، ولا سيما الفلسطينيين منهم، تحمل في طيّاتها خطورة كبيرة، وخصوصاً أنها تتقاطع بشكل أو بآخر مع مطالبات أخرى من دول إقليمية وعالمية تقف على رأسها الولايات المتحدة الأميركية التي قدّمت وما زالت عشرات مليارات الدولارات “للدولة” العبرية من أجل قتل وإبادة سكّان القطاع المنكوب، إضافةً إلى إمدادها بمختلف أنواع الأسلحة التي تقطّع أوصال النساء والأطفال، وتحوّل بعضهم إلى رماد بفعل الموجات الانفجارية الهائلة الناتجة عن قنابلها التي يزن بعضها 2000 رطل ويزيد.

في كل جولات المفاوضات غير المباشرة التي جرت بين حركة حماس كممثل عن فصائل المقاومة الفلسطينية، وبتشاور كامل مع باقي أطراف محور المقاومة في المنطقة، وبين الكيان الصهيوني ومن ورائه أميركا وبريطانيا وغيرهما، والتي جرت في أكثر من عاصمة عربية وأوروبية، كانت حماس تبذل جهوداً كبيرة من أجل إيقاف العدوان ورفع الحصار وإعادة الإعمار، وصولاً إلى إبرام صفقة تبادل أسرى مشرّفة يُفرج بموجبها عن عدد كبير من الأسرى الفلسطينيين الذين يقبع المئات منهم وراء قضبان سجون الاحتلال منذ سنوات طوال.

وقد أبدت حماس، بحسب اعتراف الوسطاء أنفسهم، مرونة كبيرة في هذا الجانب، وقدّمت بعض التنازلات التي رأت أنها لن تخلّ بالمبادئ التي تم التوافق عليها بين فصائل المقاومة، والتي تسعى في الأساس إلى حفظ حقوق الشعب الفلسطيني والمحافظة على منجزات معركة طوفان الأقصى، والتي لا يجوز التفريط بها مهما كلّف الأمر.

الحديث عن تعنّت حماس والمقاومة كان يصدر على الدوام عن دولة الاحتلال التي يعرف الجميع، بمن فيهم الأميركيون، أن رئيس وزرائها لا يرغب في التوصّل إلى وقف لإطلاق النار، وأنه يسعى لإطالة أمد الحرب المجنونة التي يشنّها جيشه ضد قطاع غزة لأطول فترة ممكنة، وأن مماطلته وتسويفه التي لا تخفى على أحد تهدف في المقام الأول إلى المحافظة على كرسي الحكم في “إسرائيل”، والذي يهتز من تحته بشدّة خلال الفترة الأخيرة ويقترب من السقوط نتيجة الإخفاقات، سواء في قطاع غزة أو على الحدود الشمالية مع لبنان، والتي يقترب محورها من الانفجار الشامل نتيجة تواصل العدوان على غزة.

في اعتقادي، الحملة الممنهجة التي يشارك فيها العديد من الأطراف العربية والغربية للضغط على حركة حماس لتقديم جملة من التنازلات، والتي يوازيها ارتفاع في وتيرة العدوان على مختلف مناطق القطاع، كما يحدث في رفح منذ شهرين أو حي الشجاعية ومنطقة تل الهوا شرق وجنوب غرب مدينة غزة، إضافة إلى تشديد الحصار بشكل غير مسبوق، ستشهد مزيداً من الحراك خلال الأيام والأسابيع القادمة. هذا الأمر بدا واضحاً في التصريحات الأميركية الأخيرة التي حمّلت حماس مسؤولية عدم التوصّل إلى اتفاق حتى الآن، وهو الأمر الذي ردّت عليه في أكثر من تصريح ولقاء صحافي.

بعد هذا الوقت الطويل من القتال الصعب والقاسي في شوارع القطاع المحاصر وأزقّته، وبعد إخفاق وفشل واضحين لجيش الاحتلال في تحقيق أيٍ من أهداف الحرب المعلنة، وفي ضوء المزيد من التأزّم على مستوى العلاقات الداخلية الإسرائيلية، التي باتت تُلقي بظلالها القاتمة على المشهد الصهيوني بكل تفاصيله، وهو الأمر الذي دفع البعض في الدولة العبرية إلى إبداء مخاوفه من مغبّة انفلات الأمور من عِقالها، سواء في ما يتعلّق بالعلاقات الداخلية الصهيونية التي يتوقّع الكثيرون ارتفاع وتيرة الخلافات بداخلها، بما يمكن أن يصل في وقت ما إلى ما يشبه الحرب الأهلية بين اليهود المتدينين المتطرفين من جهة والصهاينة العلمانيين من جهة أخرى أو في ما يتعلّق بإمكانية تحوّل الحرب على غزة إلى مواجهة إقليمية من العيار الثقيل، يُجمع كل قادة الاحتلال أنها لن تكون في مصلحة “دولتهم”، وخصوصاً أن جيشهم العالق في رمال غزة لا يملك الإمكانيات البشرية والتسليحية لمواجهة حرب على أكثر من جبهة، إضافةً إلى وضع الجبهة الداخلية في الكيان الصهيوني، والتي لا يمكن لها أن تتحمّل الضغط الناتج من مواجهة من هذا النوع.

في ضوء كل ذلك، هناك محاولات لمزيد من الضغط على حركة حماس لقبول المقترح الأميركي لوقف إطلاق النار، والذي عدّه بايدن خطة إسرائيلية في الأساس، فيما تنصّل منه نتنياهو على الهواء مباشرة في المقابلة التي أثارت جدلاً كبيراً على إحدى القنوات الصهيونية التلفزيونية، قبل أن تعود مصادر صهيونية وتؤكد التزامه به.

هذا الضغط الذي ألمحت إليه الكثير من الجهات العربية والأوروبية، والذي تتحاشى حركة حماس الإشارة إليه علانية حفاظاً على علاقاتها بالعديد من الأطراف في المنطقة، يبدو أنه يهدف إلى دفع الحركة إلى تقديم تنازلات في عدد من الملفات، وإن كان لا يُطلب منها ذلك صراحة، إلا أن المتتبّع للتصريحات الصهيونية والأميركية تحديداً يمكن له اكتشاف الكثير من النقاط التي يرغب الحليفان الاستراتيجيان في الحصول عليها حتى من دون تضمينهما في مقترح الاتفاق.

النقطة الأولى تتعلّق بفك الارتباط بين المقاومة في قطاع غزة من جهة، والضفة المحتلة ومدينة القدس من جهة أخرى، إذ يسعى العدو الإسرائيلي للحصول على ضمانات بعدم مشاركة المقاومة في غزة في أي مواجهة قادمة يكون عنوانها القدس أو المسجد الأقصى، بحيث تُترك القدس وأقصاها لأهلها فقط، وهم الذين كانوا على الدوام يسندون ظهورهم على ركنهم الشديد في غزة، والذي لم يخذلهم في معظم المحطّات التي تطلبت تدخلاً مباشراً وعاجلاً.

هذا الحال ينسحب، بحسب الرغبة الصهيونية ، على مدن الضفة المحتلة أيضاً، والتي يحتاج الاحتلال فيها إلى إطلاق يده للقضاء على كل مظاهر المقاومة في مخيماتها وقراها، من دون أن ترفع المقاومة في غزة البطاقة الحمراء في وجهه، كما حدث في عدد من المرات، والتي خاضت فيها المقاومة في القطاع مواجهات عسكرية بغض النظر عن فترتها الزمنية من أجل ردع الاحتلال عن مواصلة جرائمه في الضفة.

النقطة الثانية هي رغبة العدو في ضمان امتناع المقاومة في قطاع غزة عن إعادة بناء قوّتها العسكرية بالصورة التي كانت قبل الحرب أو بصورة أكثر تنظيماً وأكثر فاعلية، وهو، أي العدو، يريد فرض نظريته الأمنية والعملياتية على كل جغرافيا القطاع بما يشبه الحالة الموجودة في مدن الضفة المحتلة، بحيث تتحوّل الفصائل المقاتلة التي ذاق بأسها خلال مراحل المعركة الحالية إلى ما يشبه قوات الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية في الضفة، والتي لا تضطلع بأي من الأدوار المنوطة بها في حفظ أمن المواطنين وحمايتهم من الأخطار التي تحدق بهم صباحاً مساء بفعل اعتداءات جيش الاحتلال والمستوطنين، فيما تنتفض لإعادة مستوطن أو جندي صهيوني دخل إلى إحدى المدن الفلسطينية عن طريق الخطأ.

ثمة نقطة ثالثة وأخيرة، حتى لا نطيل، تتعلّق بإعادة الإعمار بعد انتهاء الحرب، والتي تُعتبر إحدى أهم نقاط الخلاف بين المقاومة والعدو، إذ إن هناك رغبة إسرائيلية في التدخّل في كل ما يحتاجه القطاع من أدوات ومواد الإعمار، سواء على صعيد النوع أو الكم، وهو بذلك يسعى إلى إطالة فترة الإعمار إلى أجل غير مسمّى، ولا سيما أن إصلاح وتجاوز الأضرار الناتجة من العدوان الحالي تحتاج، بحسب كثير من الجهات المختصّة، إلى أكثر من 10 سنوات وربما يزيد، إضافة إلى مليارات الدولارات التي لا يبدو أن الاحتلال سيسمح بتدفّقها بسلاسة ويُسر، كما حدث خلال الحروب السابقة، والتي ما زال البعض من المواطنين لم يستلم التعويضات الخاصة بها حتى وقتنا الحالي.

على كل حال، المطلوب من حماس والمقاومة أن تتنازل عنه كثير، وهو في حال حدوثه لا سمح الله يعني من دون أدنى شك أن كل التضحيات التي قدّمها شعبنا في غزة والضفة، وفي باقي ساحات المقاومة في المنطقة، ستذهب أدراج الرياح، وستخرج “إسرائيل” المأزومة والغارقة في دوامة من المشكلات والأزمات منتصرة، وهو الأمر الذي سيترك تداعيات هائلة على مجمل المشروع الوطني الفلسطيني، وعلى مشروع المقاومة الذي اشتدّ عوده وقوي ساعده في كل المنطقة.

بالتأكيد، نحن على ثقة تامة بأن هذا الأمر بإذن الله لن يحدث، وأن حماس وكتائبها المظفّرة والجهاد وسراياها البطلة وكل قوى المقاومة الشريفة والعزيزة التي قدّمت تضحيات كبيرة وغير مسبوقة، وبذلت في سبيل منع انتصار العدو المجرم كل جهد ممكن، ووقفت كالجبل الشامخ في وجه التهديدات والابتزازات والإغراءات لن تكون إلا كما عهدها شعبها وأمّتها وفيّة وأمينة على مصالحة، وحريصة على أن يعيش بكرامة وحرية، مهما كان طالت فترة العدوان، ومهما ازدادت كلفته.

نحن على ثقة على الرغم من تضاؤل فرص الوصول إلى وقف لإطلاق النار بفعل التعنّت الصهيوني المعتاد والتساوق الأميركي الواضح، بأن نهاية هذا العدوان باتت قريبة، وأن سيوف الاحتلال التي أشهرها في وجه غزة ومقاومتها وشعبها ستتكسّر عما قريب، وأن كل الخطط التي يتم الحديث عنها “إسرائيلياً” وأميركياً لليوم التالي لتوقف العدوان لن ترى النور بإذن الله، وسترتد مكايدهم إلى نحورهم، وستسقط أوهامهم كأحجار الدومينو، كما سقطت نخبة جنودهم وضباطهم في تل السلطان والشابورة والشجاعية والزيتون وجباليا وعبسان.

مقالات مشابهة

  • ضحايا هجوم حماس يقاضون هذه الدول بالمحكمة العليا الأمريكية
  • بعد 9 أشهر من القتال.. ما المطلوب أن تتنازل حماس عنه!
  • التغيير الوزاري في مصر.. تحديات اقتصادية وسياسية وإقليمية ودولية
  • «المتحدة»: مزايا استثنائية وتذاكر مجانية لأسر وأبناء الشهداء في مهرجان العلمين
  • رويترز: نازحو لبنان بدون عمل ويعانون ظروفا قاسية ويتمنون انتهاء الحرب
  • 30 يونيو.. سطرت مستقبل الجمهورية الجديدة بإصلاحات اقتصادية وسياسية واجتماعية
  • 38 اتفاقية بقيمة 75 مليار دولار بين مصر وأوروبا.. هل تنقذ السيسي؟
  • يستغل الانتخابات الأمريكية ويحاول تجميل صورته.. نتنياهو يبحث عن «الجائزة الكبرى» وجملة مزايا في واشنطن!
  • فرص عمل وإعفاءات مالية.. مزايا عديدة في بطاقة الخدمات المتكاملة لذوي الهمم
  • صفقات لشركات أوروبية بأكثر من 42 مليار دولار في مصر