في حفل تسلمه جائزة نوبل في الأدب لعام 2023، يون فوسه: تعلمت ألا أبالي بالفشل أو النجاح
تاريخ النشر: 9th, December 2023 GMT
كنت في المدرسة الإعدادية حينما حدث دون سابق إنذار أن طلب مني المعلم أن أقرأ بصوت عال. لا أعرف من أين جاءني ذلك الخوف المباغت الذي غمرني. بدا وكأنني اختفيت في الخوف فهو كل ما كنت إياه. هببت واقفا، وانطلقت أجري خارجا من الفصل.
رأيت عيون التلاميذ الكبيرة وعيني المعلم تتابعني خارج الفصل.
حاولت بعدها أن أفسر سلوكي الغريب بقولي إنني اضطررت إلى الذهاب إلى الحمام.
لاحقني ذلك الخوف من القراءة بصوت عال. ومضى الوقت، فوجدت في نفسي الشجاعة وطلبت من المعلمين أن يعفوني من القراءة بصوت عال؛ لأنني أخافها، فصدقني البعض وتوقفوا عن مطالبتي بذلك، بينما ظن البعض أنني بطريقة أو بأخرى أخدعهم.
تعلمت من هذه التجربة أمرا مهما عن الناس.
وأمورا أخرى كثيرة.
محتمل جدا أن ما تعلمته هو الذي يمكِّنني اليوم من أن أقف هنا وأقرأ ما أقرأ بهذا الصوت العالي أمام جمهور. ودونما أي خوف تقريبا الآن.
ما الذي تعلمته؟
أن الخوف، بطريقة ما، سلبني لغتي، وأن عليّ أن أستردها -إن جاز القول- ولو كان مقدورا لي أن أفعل ذلك، فما له أن يحدث بشروط الآخرين، وإنما بشروطي.
بدأت أكتب نصوصي أنا، قصائد قصيرة، وقصصا قصيرة، واكتشفت أن قيامي بذلك أعطاني إحساسا بالأمان، أعطاني نقيض الخوف. بطريقة ما عثرت داخل نفسي على مكان لي دون غيري، ومن ذلك المكان أمكنني أن أكتب ما يخصني دون غيري.
الآن، بعد قرابة خمسين سنة، لم أزل أجلس وأكتب، ولم أزل أكتب من مكمني السري في داخل نفسي، المكان الذي أصدقكم حين أقول إنني لا أعرف عنه أكثر كثيرا من أنه موجود.
للشاعر النرويجي أولاف هاوج قصيدة يقارن فيها فعل الكتابة بكون المرء طفلا، يقيم أكواخا من غصون الشجر في غابة، ويزحف إليها، موقدا شموعا، جالسا، شاعرا بالأمان في أمسيات الخريف المعتمة.
وهذا في ظني تصوير جيد للطريقة التي أعرف بها فعل الكتابة أنا الآخر. الآن، وقبل خمسين سنة.
وتعلمت المزيد، تعلمت أن ثمة -بالنسبة لي على الأقل- فارقا كبيرا بين اللغتين المنطوقة والمكتوبة، أو بين اللغتين المنطوقة والأدبية. فالمنطوقة في الغالب توصيل أحادي لرسالة مفادها أن شيئا ما يجب أن يكون على هذا النحو أو ذاك، أو هي توصيل بلاغي لرسالة إقناع أو اقتناع.
أما اللغة الأدبية فلا تكون كذلك أبدا، فهي لا تخبر بشيء، وهي معنى أكثر مما هي إفادة، ولها وجودها الخاص.
وبهذا المعنى، فبين الكتابة الجيدة وشتى أنواع الوعظ تناقض واضح، سواء أكان الوعظ في السياسة أم في الدين أم في أي شيء مهما يكن.
وعبر الخوف من القراءة بصوت عال ولجت الوحدة، وما الوحدة إلا حياة الكاتب بلا زيادة أو نقصان، وثمة بقية منذ ذلك الحين.
كتبت كمًّا كبيرا من النثر والمسرح.
وبالطبع ما يميز المسرح هو أنه حديث مكتوب، حيث الحوار، أو الحديث، أو محاولة الكلام في أكثر الأحيان، أو ما قد يكون مناجاة [مونولوج]، يكون قائما على الدوام في كون خيالي، وهو جزء من الكل الذي لا يفيد بخبر، إنما يعني، ويوجد.
وفي ما يتعلق بالنثر، ميخائيل باختين محق إذ يذهب إلى أنه مزاج تعبيري، فمحض فعل الإفادة ينطوي في نفسه على صوتين.
وتحرِّيا للتبسيط، أقول، هو صوت الشخص الذي يتكلم، ويكتب، وصوت الشخص المكتوب عنه. وغالبا ما ينزلق أحد الاثنين في الآخر حتى ليكاد يستحيل معرفة لمن أي منهما.
يصبحان ببساطة صوتا مكتوبا مزدوجا، وهذا أيضا بطبيعة الحال جزء من الكون المكتوب، والمنطق الساري فيه.
فلكل عمل كتبته -إذا جاز القول- كونه الخاص به، وعالمه، عالم جديد في كل مسرحية وفي كل رواية.
أما القصيدة الجيدة -وقد كتبت قدرا كبيرا من الشعر- فهي أيضا كونها الخاص، وهو يرتبط أساسا بذاتي، ثم إن من يقرأها بوسعه أن يدخل كونا هو القصيدة، نعم فهي أقرب إلى الوصل منها إلى التواصل، والحق أن هذا قد يصدق على كل شيء كتبته.
وثمة أمر واحد أكيد، أني لم أكتب قط تعبيرا عن نفسي -مثلما يقولون- وإنما فرارا بالأحرى من نفسي. وانتهى بي الأمر مسرحيا، نعم، فماذا أنا قائل في هذا؟
كتبت روايات وشعرا ولم أجد بنفسي رغبة في الكتابة للمسرح، ولكنني بمرور الوقت فعلت هذا لأنني ـ في سياق مبادرة حكومية لتمويل كتابة المزيد من المسرحيات النرويجية الجديدةـ تلقيت ما بدا لي -أنا الكاتب الفقير- قدرا جيدا من المال؛ لأكتب المشهد الافتتاحي في مسرحية، فانتهيت إلى أن كتبت المسرحية كلها، هي الأولى بين مسرحياتي، ولم تزل الأكثر عرضا، وهي "شخص ما سوف يجيء".
تبين أن المرة الأولى التي كتبت فيها مسرحية هي المفاجأة الكبرى في حياتي كلها ككاتب؛ لأنني في النثر والشعر على السواء كنت قد حاولت أن أكتب ما هو في العادة -أي في اللغة المنطوقة المعتادة- لا يمكن أن يقال في كلمات. نعم، هذا صحيح. حاولت أن أقول ما لا يقال، وجاء ذلك في حيثيات منحي جائزة نوبل.
وأهم ما في الحياة لا يمكن أن يقال، وإنما أن يكتب، بتحريف مقولة جاك دريدا الشهيرة. لذلك أحاول أن أمنح الحديث الصامت كلمات.
وحينما كنت أكتب المسرح، كان بوسعي أن أستعمل الحديث الصامت، والناس الصامتين، على نحو مغاير تماما للنثر والشعر. لم يكن عليَّ سوى أن أكتب كلمة "سكوت" فإذا الحديث الصامت موجود. وكلمة "سكوت" في مسرحي هي بلا شك الكلمة الأهم والأكثر استعمالا، سكوت طويل، وسكوت قصير، وسكوت وحسب.
في هذه السكتات قد يوجد الكثير للغاية، أو القليل للغاية. شيء ما لا يمكن أن يقال، شيء ما لا يريد أن يقال، أو خير سبيل لأن يقال هو ألا يقال أي شيء. لكن، أظل على يقين كبير من أن ما يتكلم في السكتات هو الصمت.
في نثري، ربما يكون للتكرارات جميعا وظيفة مماثلة للسكتات في مسرحي. أو لعل هذا -على الأقل- هو ظني فيها، وهو أنه في حين يوجد في المسرحيات حديث صامت، فهناك لغة صامتة وراء اللغة المكتوبة في الروايات، ولو أن لي أن أكتب أدبا جيدا، فلا بد من التعبير عن هذا الكلام الصامت أيضا، ففي (السباعية) على سبيل المثال، هذه اللغة الصامتة، ولنضرب مثالين بسيطين وملموسين، هي التي تقول إنه يحتمل تماما أن يكون آسلي الأول وآسلي الثاني شخصا واحدا، وأن الرواية الطويلة كلها، ذات الصفحات الألف والمئتين، قد تكون التعبير المكتوب عن حاضر واحد منتزع.
ولكن الخطاب الصامت -أو اللغة الصامتة- يتكلم في الغالب من خلال كلية العمل، سواء أكان رواية أم مسرحية، أم إنتاجا مسرحيا، فليست أجزاؤه نفسها هي المهمة، وإنما كليته، التي لا بد أن تحضر أيضا في كل تفصيلة مفردة، أو لعلي أتجاسر وأتكلم عن روح الكلية، الروح التي تنطق على نحو ما من قريب ومن بعيد في آن واحد، فما الذي تسمعونه حينئذ، لو أنصتم الإنصات الكافي؟ تسمعون الصمت. ولقد قيل إنه في الصمت وحده يمكن الإنصات لصوت الله،
ربما.
ولنرجع الآن إلى الأرض، أريد أن أذكر شيئا آخر أعطتنيه الكتابة للمسرح. الكتابة عمل وحدة، مثلما قلت، والوحدة أمر طيب، ما بقي طريق العودة إلى الآخرين مفتوحا، وهذا اقتباس من قصيدة أخرى لأولاف هاوج.
وما أسرني حينما رأيت للمرة الأولى شيئا كتبته معروضا على الخشبة، هو أن ذلك نقيض الوحدة، إنه الرفقة، نعم، إبداع الفن من خلال الاشتراك في الفن الذي منحني إحساسا عظيما بالسعادة والأمن.
لاحقني هذا الفهم منذ ذلك الحين، وأعتقد أنه أدى دورا في أنني لم أستمر وحسب، بروح وادعة، وإنما شعرت أيضا بشيء من السعادة حتى من الإنتاجات الرديئة لمسرحياتي.
المسرح في الحقيقة فعل إصغاء عظيم، فالمخرج لا بد -أو يجب على الأقل- أن ينصت إلى النص، مثلما ينصت إليه الممثلون وإلى بعضهم بعضا وإلى المخرج، ومثلما ينصت الجمهور إلى العرض كله.
وفعل الكتابة عندي إنصات، فحينما أكتب لا أتهيأ مطلقا لذلك، لا أخطط لأي شيء، أمضي مصغيا. فلو أن لي أن أستعمل استعارة لفعل الكتابة، فلا بد أن تكون استعارة الإنصات.
وإذن، من نافلة القول أن الكتابة تذكرنا بالموسيقى. وفي وقت معين، من سني، مراهقتي، انتقلت ببساطة من شخص منهمك في الموسيقى إلى الكتابة. الحقيقة أني توقفت كلية عن عزف الموسيقى بنفسي أو الاستماع إليها، وبدأت أكتب، وبكتابتي حاولت أن أبدع شيئا مما كنت أمر به عندما أعزف. ذلك ما فعلته آنذاك، وما زلت أفعله اليوم.
وأمر آخر، قد لا يخلو من غرابة، هو أنني عندما أكتب، عند نقطة معينة ينتابني دائما الإحساس بأن النص مكتوب بالفعل، وموجود في موضع ما بداخلي، وأن كل ما أنا بحاجة إليه هو أن أدون هذا النص قبل أن يختفي.
بين الحين والحين يمكنني أن أفعل ذلك دونما إدخال أي تغيير، وفي أحيان أخرى يتعين عليّ أن أبحث عن النص بإعادة كتابته، وقصه، وتحريره، والمحاولة الحذرة لإخراج النص المكتوب بالفعل.
انتهيت، أنا الذي لم أشأ أن أكتب للمسرح، وأنا لا أفعل إلا ذلك على مدى قرابة خمسة عشر عاما. بل المسرحيات التي كتبتها عرضت، وبمرور الوقت تم إنتاجها مرارا في بلاد كثيرة.
مازلت عاجزا عن تصديق ذلك.
حقا إن الحياة لا تصدق.
كما أنني لا أصدق أنني واقف الآن هنا أحاول أن أقول كلمات معقولة، لا أكثر ولا أقل، عما يعنيه أن أكتب، بمناسبة منحي جائزة نوبل في الأدب.
وحصولي على الجائزة يتعلق -في حدود ما أفهم- بمسرحياتي ونثري.
بعد أن كتبت المسرحيات فقط لسنين كثيرة، بدا على حين غرة أنني اكتفيت، بل فاض بي، وقررت التوقف عن كتابة المسرحيات.
لكن الكتابة كانت قد باتت عادة لي ولم يعد بوسعي أن أتخيل حياتي بغيرها، ولعلكم تعدون ذلك -شأن مارجريت دورا- مرضا، فقررت الرجوع من حيث بدأت، فأكتب النثر وأنواعا أخرى من الكتابة، مثلما فعلت لنحو عقد تقريبا قبل بداية المسرحية.
وذلك ما فعلته على مدار السنوات العشر إلى الخمس عشرة الماضية. حينما عاودت كتابة النثر بجدية، لم أكن على يقين من أنني لم أزل قادرا على القيام بذلك. كتبت أولا (الثلاثية)، ولما حصلت على جائزة الأدب من المجلس الشمالي عن تلك الرواية، بدا لي ذلك تأكيدا عظيما لأن لدي ما أقدمه بوصفي كاتب نثر أيضا.
ثم كتبت (السباعية).
وفي ثنايا كتابتي تلك الرواية، مررت ببعض أسعد لحظاتي كاتبا، ومن هذه مثلا حينما يعثر آسلي على آسلي الآخر مستلقيا في الجليد فينقذ هذا حياته. أو النهاية، حينما يشرع آسلي الأول، وهو الشخصية الرئيسية، في رحلته الأخيرة، في مركب -مركب صيد قديم- برفقة آسليك، صديقه الأقرب والوحيد، للاحتفال بالكريسماس مع شقيقة آسليك.
لم تكن لدي خطة لكتابة رواية طويلة، ولكن الرواية بطريقة أو بأخرى كتبت نفسها، وأصبحت رواية طويلة، وكتبت أجزاء كثيرة في تدفق وانسيابية فبدا كل شيء في موضعه الصحيح.
وأعتقد أنني في ذلك الوقت كنت أقرب ما أكون إلى ما قد تطلقون عليه السعادة.
في (السباعية) كلِّها ذكريات عن كثير من أعمالي الأخرى التي كتبتها، ولكنها حاضرة في ضوء آخر. وعدم وجود نقطة نهاية الجملة في الرواية كلها ليس اختراعا. كل ما في الأمر أنني كتبت الرواية على ذلك النحو، في حركة واحدة لم تستوجب نقطة.
قلت في حوار مرة إن الكتابة صلاة، وشعرت بحرج حينما نشر ذلك. ولكنني قرأت لاحقا، ما وجدت فيه عزاء، وهو أن فرانز كافكا قال ذات يوم مثل قولي هذا. فمن الجائز قول ذلك إذن؟
قوبلت كتبي الأولى بمراجعات سيئة للغاية، ولكنني قررت ألا أنصت إلى النقاد، وأن أثق في نفسي، وأبقى على الكتابة. ولو لم أفعل ذلك، لتوقفت عن الكتابة بعد أن صدرت روايتي الأولى (أحمر، أسود) قبل أربعين سنة.
في وقت لاحق نلت مراجعات جيدة، بل وبدأت أتلقى جوائز، ثم خطر لي أن من المهم أن أستمر بالمنطق نفسه، فإذا كنت لم أنصت للمراجعات السيئة، فلن أسمح للنجاح أن يكون له تأثير عليّ، وسوف أتشبث بكتابتي، وأستمسك وأتعلق بما أبدعت.
وأحسب أن هذا ما تمكنت من القيام به، وإنني لأعتقد -حقا- أن ذلك ما سوف أفعله حتى بعد حصولي على جائزة نوبل.
عندما تم الإعلان عن حصولي على جائزة نوبل في الأدب، تلقيت الكثير من الرسائل الإلكترونية والتهنئات، وبالطبع سررت سرورا عظيما، وكانت أغلب التهنئات بسيطة ومبهجة، لكن بعض الناس كتبوا أنهم صرخوا من فرط الفرحة، وآخرون أنهم تأثروا إلى حد البكاء، فكان ذلك مؤثرا بحق.
في كتاباتي انتحارات كثيرة، لدرجة ألا يروق لي التفكير في ذلك، خفت أن أكون بذلك قد أسهمت في إضفاء شرعية على الانتحار، فكان مما أثر عليّ أكثر مما عداه قول البعض صراحة إن كتابتي ببساطة شديدة هي التي أنقذت حياتهم.
وبمعنى من المعاني كنت أعرف دائما أن الكتابة قادرة على إنقاذ الحياة، ولعلها أنقذت حياتي أنا شخصيا. لو أن كتابتي قادرة أيضا على المساعدة في إنقاذ حياة آخرين، فما من سعادة تفوق سعادتي بهذا.
شكرا لكم في الأكاديمية السويدية أن منحتموني جائزة نوبل في الأدب.
وشكرا لك يا رب.
* عن ترجمه ماي بريت أكيرهولت إلى الإنجليزية
** نشر نص الخطبة في موقع جائزة نوبل الرسمي مع إشارة إلى أن يوسه قد ألقاها في السابع من ديسمبر الجاري في الأكاديمية السويدية باستوكهولم. وإشارة أخرى إلى أن الأكاديمية تسمح للصحف في أي لغة بنشرها، ولا يمتد ذلك الإذن إلى الكتب إلا بموافقة أخرى من الأكاديمية.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: جائزة نوبل فی الأدب بصوت عال لی على إلى أن
إقرأ أيضاً:
كريم وزيرى يكتب: حكايات القوادم.. عندما كتبت كوكب الشرق مقالًا عن الحب
فى ستينيات القرن الماضى، وتحديدًا فى العدد رقم ١٤٤ من مجلة «آخر ساعة»، نشرت أم كلثوم مقالًا بعنوان «الحب فى الحقيقة والفن»، حيث خرجت كوكب الشرق عن إطار الأغانى والكلمات الموزونة لتخاطب قراءها مباشرة عبر قلمها، متناولة مفهوم الحب بين الواقع والفن.
المقال كان بمثابة نافذة جديدة لجمهورها، إذ أتاح لهم رؤية جديدة للفنانة التى ما دام عبرت عن مشاعرهم بأغانيها.
جاء المقال فى وقت كانت فيه مصر تمر بمرحلة سياسية واقتصادية استثنائية، إذ كانت البلاد تعيش أجواء ما بعد ثورة ٢٣ يوليو، حيث سادت الروح القومية وشهدت حركة التصنيع القومية وبناء السد العالى، رغم التحديات الاقتصادية التى فرضها التوتر السياسى فى المنطقة وحرب اليمن، وكانت هذه الحقبة مليئة بالأحداث الكبرى التى شكلت وعى المصريين ومواقفهم تجاه القيم الإنسانية الأساسية مثل الحب والتضحية والانتماء.
فى هذا السياق، قررت أم كلثوم أن تكتب عن الحب، ليس فقط بوصفه شعورًا إنسانيًا، بل كقيمة مركزية فى حياتنا اليومية وعلاقاتنا، وهذا القرار لم يكن غريبًا على فنانة عُرفت بدورها الوطنى والاجتماعى، حيث سخرت فنها ليكون صوتًا للوطن والمواطن وجعلت أغانيها يعبر عن مكنونات ما يشعر به المواطن فى وقت حزنه وفرحه وحتى انتصاراته.
وتناولت أم كلثوم فى مقالها الحب كقيمة إنسانية شاملة، مؤكدة أن الحب ليس مجرد كلمات معسولة أو مشاعر مؤقتة، بل هو كما كتبت «فعل مستمر يتطلب الصبر والإخلاص»، وطرحت تساؤلًا مهمًا «هل الحب الذى نراه فى الأفلام والأغانى يشبه الحب الذى نعيشه فى حياتنا؟».
وبواقعية شديدة، أجابت بأن الفن غالبًا ما يقدم صورة مثالية للحب، قائلة «الحب فى الفن قد يكون حلمًا ورديًا، لكنه لا يعكس كل جوانب الحقيقة، بل يلبى رغبة الإنسان فى الهروب من قسوة الواقع»، وهذا التصور الواقعى يتماشى مع فلسفتها الفنية، حيث كانت دائمًا تسعى لتقديم فن يمس القلوب ولكنه يعكس الحياة بمصداقية.
على الجانب الآخر، رأت أم كلثوم أن الحب الحقيقى فى الحياة اليومية «ليس مجرد مشاعر عابرة، بل تجربة مليئة بالتحديات تتطلب التفاهم والتضحية»، ورأت أن الحب الواقعى يتمثل فى قبول الآخر بعيوبه قبل مميزاته، وهو علاقة تقوى مع الزمن رغم الصعوبات.
ولربما يعكس التحليل العميق لكوكب الشرق فى مقالها نضجًا كبيرًا فى فهم العلاقات الإنسانية، وربما جاء نتيجة لتجاربها الشخصية والفنية الكثيرة التى خاضتها خلال رحلتها الفنية والإنسانية، حيث عاشت حياة مليئة بالتحديات والنجاحات التى جعلتها أكثر قدرة على فهم جوهر المشاعر الإنسانية.
ولم تنس أم كلثوم فى مقالها أن تربط مفهوم الحب بالوطن، معتبرة أن حب الوطن هو النموذج الأسمى للحب الحقيقى وكتبت وقالت «حب الوطن هو أصدق أنواع الحب وأكثرها تضحية، إنه حب يتطلب الإيمان بالقضية والعمل من أجلها مهما كانت التحديات»، وشددت على أن الوطن يستحق التضحية والصبر، فهو الحب الذى يربط الإنسان بجذوره وهويته.
ولا يخف على أحد ما قدمته أم كلثوم لمصر وللقوات المسلحة، من دعم معنوى ومادى فى أحلك الظروف التى مرت بها مصر أثناء نكسة ١٩٦٧ والكم الهائل من الحفلات التى وهبت أرباحها للمجهود الحربى، والتى انعكست بصورة واضحة فى كلماتها الصادقة فى مقالها.
وفى سياق الحديث عن حبها لمصر، ذكرت أم كلثوم قائلة «لم يكن صوتى يغنى لمصر فقط، بل كان ينبض بحبها، هى ملهمتى ووطنى الذى أعطيته كل ما أملك»، وتأتى هذه الكلمات كتعبير عن ارتباطها العميق بوطنها، الذى انعكس فى كل أغنية قدمتها، سواء كانت «إنت عمري» أو «مصر التى فى خاطرى».
وكتبت أم كلثوم مقالها بأسلوب بسيط، لكنه مشحون بالمعانى العميقة، ولم تستخدم لغة معقدة أو فلسفية، بل لجأت إلى أسلوبها المعتاد الذى يمزج بين الحكمة والدفء، لتصل إلى جمهورها بطريقة تشبه حديثها معهم على المسرح.
ومن خلال هذا المقال، وجهت أم كلثوم عدة رسائل مهمة حول مفهوم الحب، أولها أن الحب ليس مثاليًا، مؤكدة أن الحب الواقعى ليس قصة خيالية أو حلمًا ورديًا، بل هو علاقة تتطلب بذل الجهد والإخلاص.
كما أشارت إلى أن الحب فى الأغانى والأفلام قد يكون مبالغًا فيه، لكنه يظل وسيلة للتعبير عن أحلام الناس ورغباتهم، ودعت إلى ضرورة التمييز بين الحب كما يُقدم فى الأعمال الفنية والحب كما يُعاش فى الحياة.
ولو قرأنا مقال أم كلثوم اليوم، لوجدناه لا يزال يحمل رسائل صالحة لكل زمان، ففى العصر الحالى، يواجه الحب تحديات مختلفة، من ضغوط الحياة إلى تأثير التكنولوجيا على العلاقات وأصبحت وسائل التواصل الاجتماعى تؤثر بشكل كبير على كيفية فهم الناس للحب وتوقعاتهم منه، وأصبحت العلاقات أكثر سطحية فى كثير من الأحيان، مما يجعل كلمات أم كلثوم تذكيرًا بأهمية التركيز على جوهر الحب الحقيقى الذى ينبع من القلب ويُثبت نفسه بالأفعال.
اختتمت أم كلثوم مقالها برسالة تدعو القراء إلى التفريق بين الحب المثالى الذى قد يظهر فى الفن والحب الواقعى الذى يعيشونه وقالت، «الحب ليس قصة مثالية، بل هو علاقة حقيقية تثبت نفسها بالأفعال»، مشيرة إلى أن التحديات اليومية هى ما يجعل الحب واقعيًا ومستمرًا.