في وقت من الأوقات أعطى علماء العلاقات الدولية ومخططو السياسة الخارجية اهتمامًا وافرا لما يسمى بالمنظمات والحركات غير الحكومية NON-STATE ACTOR كفاعل دولي شديد التأثير على مجرى الأحداث وعلى صنع أزمات إقليمية ودولية كانت تتفوق بها أحيانا على تأثير دول صغيرة وأحيانا متوسطة.

وبين السبعينات والتسعينات من القرن الماضي كانت حركات تحرر وطني مشروعة مثل منظمة التحرير الفلسطينية في الشرق الأوسط ومنظمة المؤتمر الإفريقي في إفريقيا الجنوبية وحركة الشين فين في أوروبا نماذج حاضرة باستمرار.

سلّمت هذه الحركات أسلحتها وتخلّت عن البندقية بعد أن حققت أهداف نضالها. حصلت جنوب إفريقيا على حريتها ووقّعت شين فين على اتفاق سلام جعلها جزءا من حكومة إيرلندا الشمالية.

وتخلّت منظمة التحرير الفلسطينية عن المقاومة وبدأت تفقد رمزيتها العالمية في النضال بعد أن وقّعت على اتفاقية أوسلو المجحفة عام ١٩٩٣.

في مطلع الألفية الجديدة وفي غياب حركات التحرر ورموزها المضيئة نشطت في فراغها الحركات الإرهابية وهي أيضا من الناحية النظرية البحتة فاعل دولي غير حكومي ولكن بلا قضية مشروعة ولا علاقة لها بقواعد العدالة في القانون الدولي. نشطت القاعدة وداعش وحركة الشباب الصومالي وحركات التفوق العرقي الأبيض التي أحياها صعود الشعبوية اليمينية المتطرفة في الغرب.

انتقل الاهتمام البحثي في العلاقات الدولية بهذا من تثمين دور الفاعل الدولي غير الحكومي إلى دراسة ما بات يعرف بفرع علم مكافحة الإرهاب وبنيت جهود التفكيك التحليلي وبناء الاستراتيجيات على مواجهة التطرف ومراقبة حركة الأموال واستثمار وسائل التواصل الاجتماعي في تجنيد الشباب للحركات الإرهابية.

وحدها حركات المقاومة الفلسطينية واللبنانية كفاعلين غير حكوميين في السياسة والعلاقات الدولية تمكنت تدريجيا بصبر شديد من إعادة الألق لمفهوم حركات التحرر الوطني حتى حسمت ذلك تاريخيا في هجوم حماس في السابع من أكتوبر على جيش ومستوطنات الاحتلال الإسرائيلي. فالحدث كان كبيرا وتاريخيا حتى إن استراتيجيين أمريكيين من مؤسسة الأمن القومي النافذة يعتبرونه أكبر تهديد تواجهه الولايات المتحدة منذ الحرب العالمية الثانية. الحدث اعتبر في السياق الأطلسي والغربي الذي يشمل أيضا اليابان وأستراليا ونيوزيلندا أكبر هدية استراتيجية حصلت عليها الصين وروسيا.

على مستوى الشرق الأوسط اعتبر محلل بوزن توماس فريدمان أنها قادت إسرائيل لغضب انتقام أعمى قد يدمر الهندسة التي أقامها كيسنجر للشرق الأوسط منذ محادثات قصر الطاهرة مع السادات عام 1973.

يعلم الجميع ويصمت عن أن هذه الهندسة قضت على مفهوم العالم العربي وحولت معظمه لدول قُطرية متنازعة متنافسة فيما بينها أو ممزقة داخليا بحروب أيديولوجية أو طائفية أو عرقية ممهدة الطريق لما عاصرنا من نمط هيمنة خانق لواشنطن ووكيل مصالحها إسرائيل على كامل المنطقة العربية.

عندما يقوم فاعل غير حكومي مثل المقاومة الفلسطينية بقلب كل التوازنات وتجميد رسم الخرائط المشبوهة لشرق أوسط عرضها نتانياهو بكل غرور وتفاخر على منبر الجمعية العامة للأمم المتحدة قائلا إنها ستغير الشرق الأوسط إلى الأبد. عندما يوقظه طوفان الأقصى مما يصفه المعلقون الإسرائيليون من خدر أحلامه الوردية على كابوس أصدر فعليا حكم الإعدام على مستقبله السياسي وبات أمر تنفيذه ينتظر فقط نهاية الحرب الجارية في غزة يفرض نفسه ذلك على كل العلوم الاجتماعية. تبدت قدرة حماس والجهاد على خلق أزمة دولية إقليمية غير مسبوقة لم تحدث منذ حرب أكتوبر ٧٣ عندما يصف الأمريكيون أن حدث السابع من أكتوبر الذي باغتت حماسُ به الموساد والشاباك وأمان و«السي آي أيه» بأنها أحلك ليال عاشها بايدن منذ دخل البيت الأبيض.

فشلت كل الجهود الأمريكية والإسرائيلية لدمغ حماس بالإرهاب أو لربط عمليتها المشروعة بعمليات القاعدة وداعش. ونجحت صحافة المواطن ووسائل التواصل الاجتماعي في تكذيب كل ادعاءات قطع رؤوس الأطفال واغتصاب النساء ومواجهة السيل العرم من عملية التضليل الإعلامي الذي مارسته مؤسسات الإعلام الغربية الكبرى التقليدية من تلفزيون وإذاعة وصحافة.

وانفجرت المظاهرات الحاشدة في العواصم الغربية ضد وحشية العدوان الإسرائيلي ومؤيدة لحرية فلسطين وشرعية مقاومة النظام العنصري الاستيطاني الوحيد الباقي على الكرة الأرضية.

وضاعف الصمود الأسطوري للمقاومة من حماس والجهاد والشعبية وغيرهم على عدوان إسرائيلي - أمريكي مستمر بخلل فادح في توازن القوى من حيث الأعداد ونوع التسليح في زيادة مزيد من تقدير واهتمام باحثي العلاقات الدولية في قدرة الفاعل غير الحكومي على ممارسة صراع عسكري وإدارة مفاوضات هدنة ورهائن بقدرات وخبرات تفوق ما لدى بعض الدول. دليل آخر على تنامي الدور الفاعل غير الحكومي في تحديد مصائر الإقليم تمثّل فيما قامت به الولايات المتحدة وحشدت له كل زعماء الغرب وزعماء المنطقة من ترغيب لدرجة التوسل وترهيب لدرجة الصدمة والرعب وذلك فقط للضغط على إيران لكي تضغط على حزب الله اللبناني وهو فاعل آخر بارز غير حكومي لعدم الدخول مع إسرائيل في حرب شاملة. الولايات المتحدة تريد أن تنقذ إسرائيل وهي تعلم أنها كمجتمع ودولة لا يقويان على حرب طويلة على عدة جبهات في وقت واحد.

على أنه من الإنصاف القول إن تنامي دور حزب الله وحماس والجهاد وبعض الفصائل المسلحة القريبة من التوجه السياسي الإقليمي لإيران كفاعلين غير حكوميين إنما يعود في جزء مهم منه لمبالغة وتجبر الهندسة الأمريكية للشرق الأوسط في نصف القرن الأخير في تقييد حرية السياسة الخارجية للدول العربية وجعل قدرتها على المناورة واتخاذ قرارات ذات طبيعة استقلالية تتعارض ولو بقدر ضئيل مع المصالح والتوجهات الأمريكية عملا شديد الخطورة. يقول وربما يفاخر المحللون الأمريكيون والإسرائيليون في خلاصات متكررة إن فشل أغلب العرب في اتخاذ موقف موحد لصالح الفلسطينيين وارتعابهم من استخدام أي ورقة ضغط من أوراق الضغط العديدة لديهم على إسرائيل والولايات المتحدة لفرض وقف فوري لإطلاق النار.. هو دليل جديد على عجز العرب المستمر منذ عقود على ممارسة رد الفعل المناسب حتى في القضايا التي تهدد زمنهم ووجودهم كجماعة قومية وثقافية.

نكوص الدولة الوطنية العربية عن القيام بمبادرات في السياسة الخارجية وانسحاب مصر من القيادة التقليدية للعالم العربي إلى شؤونها الداخلية منذ زيارة السادات للقدس وعدم تقدم أحد لتحمل تكاليف وتضحيات دور القيادة بعدها وكذلك عجز السلطة الفلسطينية بعد وفاة عرفات كرمز جامع عن حماية شعبها وحماية حقوقه ترك فراغا سياسيا هائلا تقدمت إلى ملئه منظمات وحركات المقاومة خاصة مع وجود حليف إقليمي مثل الجمهورية الإسلامية الإيرانية. فمصالح الأمن القومي ومقتضيات تحقيق نفوذ في دوائر سياستها الخارجية تمر عبر كبح الهيمنة الإسرائيلية على المنطقة وكيلا عن المصالح الإمبريالية أو ما تسميه هي الاستكبار الأكبر.

حسين عبد الغني إعلامي وكاتب مصري

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: الشرق الأوسط

إقرأ أيضاً:

مستشار ترامب: التطبيع بين إسرائيل والسعودية أولويتنا القصوى 

 

الجديد برس|

 

أعلن مايك والتز، مستشار الأمن القومي لإدارة الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب، أن تحقيق اتفاق سلام بين “إسرائيل” والسعودية هو “أولوية قصوى” لدى الإدارة المقبلة.

 

وقال والتز، في مقابلة مع قناة “فوكس نيوز” إن الوقت حان لعقد اتفاق جديد من شأنه تحقيق الاستقرار في الشرق الأوسط، مضيفا: “أعتقد أن الوقت حان الآن لصياغة اتفاق ما، من شأنه ليس فقط منع تكرار أحداث 7 أكتوبر، بل وتحقيق الاستقرار الحقيقي في الشرق الأوسط”.

 

وأشار والتز إلى أن اتفاقيات “أبراهام” حول تطبيع العلاقات بين إسرائيل والإمارات والبحرين الموقعة في عام 2020، هي بمثابة المثال على اتفاق كهذا.

 

وقال: “هذه هي الجولة التالية من اتفاقيات أبراهام”. ووفقا له، فإن هذا احتمال “لاتفاق تاريخي هائل سيغير المنطقة. هذا أحد الأسباب التي تجعلني أعتقد تماما أن إيران أشعلت النار في حماس، حتى ينفجر كل شيء”.

 

وأضاف والتز أيضا بشأن إيران قائلا إن موقف ترامب هو أنه لن يسمح لها بالحصول على أسلحة نووية، وأن “جميع الخيارات مطروحة على الطاولة”.

 

مقالات مشابهة

  • هبة القدسي: التوصل لاتفاق بين حماس وإسرائيل تصدر المشهد في أمريكا
  • مستشار ترامب: التطبيع بين إسرائيل والسعودية أولويتنا القصوى 
  • إعادة تموضع إيران في الشرق الأوسط
  • الصحف العربية: مفاوضات غزة تتصدر الشرق الأوسط.. والقبس تتحدث عن خطة الحكومة اللبنانية الجديدة.. والرياض تحتفي باجتماعات سوريا
  • حماس لم تسلم ردها بعد عدم تسليم إسرائيل خرائط الانسحاب
  • حركات المقاومة الفلسطينية تناقش الصيغة النهائية لـ”وقف اطلاق النار”
  • «بلينكن»: الولايات المتحدة ومصر وقطر عملوا على مقترح نهائي لوقف إطلاق النار في غزة
  • النرويج تستضيف محادثات حول حل الدولتين في الشرق الأوسط
  • إدارة ترامب تحث إسرائيل على ضبط النفس وتجنب التصعيد في المنطقة
  • ليتفرغ للشؤون الداخلية.. ترامب يطالب إسرائيل بالتهدئة في الشرق الأوسط