لجريدة عمان:
2025-04-01@22:55:13 GMT

الصحافة والمجتمع: من يحمل الآخر؟

تاريخ النشر: 9th, December 2023 GMT

شرفت الأسبوع الفائت بالمشاركة في ندوة «الصحافة العُمانية: الواقع وفرص الاستدامة»، التي نظمتها وزارة الإعلام وذلك في سبيل البحث عن آليات جديدة تحقق الاستدامة لمشهد المؤسسات الصحفية، من ناحية نماذج الأعمال، والفرص المحتملة لتعدد مصادر التمويل، بالإضافة إلى الممكنات المتاحة أمامها لمواكبة نماذج صحافة المواطن، والتدفق الرقمي للأخبار والمعلومات.

في الواقع فإن جدلية (بقاء المؤسسات الصحفية) هي جدلية عالمية. وليس بالضرورة أن يكون مردها إلى عوامل أو محركات من داخل (صناعة الصحافة) – كما وضحت ذلك في الورقة التي قدمتها – وإنما هي عوامل مشتبكة ترتبط أيضًا بالتغيرات النوعية في تلقي الجمهور لمنتج هذه المؤسسات. لنتأمل في المشهد نبدأ في البداية بالوقوف على حجم البيانات التي يتم إنتاجها واستهلاكها في العالم اليوم؛ فالعالم اليوم (حسب بيانات wpdevshed) يتداول اليوم 41.6 مليون رسالة على (واتس أب) في الدقيقة، فيما يصل عدد المكالمات الصوتية ومكالمات الفيديو التي تجري عبر مختلف التطبيقات – 1.3 مليون مكالمة في الدقيقة، وتزيد القصص المنشورة على Instagram Stories عن 347000 مشاركة في الدقيقة عوضًا عن الحجم الهائل للرسائل المتبادلة في تطبيق Facebook Messenger والتي تزيد عن 150000 رسالة في الدقيقة، هذا إلى جانب الصور المنشورة على الفيسبوك والمقدرة بنحو 147000 في الدقيقة. هذه نماذج بسيطة لاستهلاكنا ونشرنا للبيانات على (مواقع وتطبيقات تواصل اجتماعي محددة)، وإلى جانب غيرها من مواقع وتطبيقات التواصل الاجتماعي، تحمل هذه البيانات (المعلومات – الأفكار – المشاعر) التي تولد ما يُعرف في علم السلوك بـ (الحمل المعرفي Cognitive load) وهو أحد أشهر التحيزات السلوكية التي يعتمد عليها تفسير الظاهرة الاجتماعية والسلوكيات العامة اليوم.

يشير الحمل المعرفي إلى «الجهد العقلي أو الطلب المطلوب لأداء مهمة معرفية. ويمكن أن يتأثر ذلك بعوامل مثل تعقيد المعلومات، وعدد المهام التي يتم تنفيذها في وقت واحد، والموارد المعرفية للفرد»، بمعنى أن قدرة الدماغ البشري محدودة في معالجة المعلومات؛ وبالتالي فإن زيادة الأحمال ومصادر المعرفة يؤدي إلى 4 مفقودات مهمة: أولها القدرة على استيعاب المعرفة، ثم فقدان الانتباه، ثم فقدان الاهتمام، ثم التجاهل. وعليه فمع هذا السيل الواسع من المعلومات والأخبار والصور والأفكار والمقاطع وكافة أشكال الوسائط التي يتعرض لها الفرد من خلال وسائل التواصل الاجتماعي فإن ذلك يدفع الفرد إلى الانتقائية في بعض الأحيان، وإلى ما يُعرف أيضًا بتحيز (الخصم الزائد)؛ وهو في معناه البسيط ميل الأفراد إلى تلقي المعرفة والأخبار والمعلومات من المصادر السريعة، بإيجاز، وقت أقل، كلفة أقل، وتحديث فوري يحقق المكاسب المباشرة للدماغ. ولا يتطلب في الوقت ذاته تحليلًا معمقًا، أو بحثًا عن تفاصيل أخرى. وعودة على مسألة (الانتقائية)؛ فإن أحد أهم الظواهر الشائعة عالميًا اليوم هي ظاهرة «تجنب الأخبار»، وحسب تتبعنا التاريخي لتوسع هذه الظاهرة فقد بدأت في صعود كبير منذ عام (2017)، وتعززت في أعقاب جائحة كورونا (كوفيد 19)، يشير تقرير معهد رويترز عن حالة الأخبار الرقمية 2023 إلى أن نحو 36% من الأفراد في العالم يقولون إنهم «يتجنبون أحيانًا» أو «يتجنبون في كثير من الأحيان» تلقي الأخبار؛ وذلك إما من خلال تجنب أنواع معينة من الأخبار، أو تجنب مصادر معينة للأخبار. وفي المجتمع بسلطنة عُمان – ومن خلال الورقة التي أعددناها – فإن هذه الظاهرة موجودة، حيث تتجنب نسب عالية تقترب من 50% من الأفراد التي تم إجراء البحث عليهم أخبارًا مثل: أخبار الرياضة المحلية.

يلعب «تكوين العادة» دورًا محوريًا في علاقتنا بوسائل الإعلام عمومًا، فنحن نشأنا في بيوت كانت فيها «الجريدة اليومية» عنصرًا أساسيًا في يوم «البيت»، وجزءا رئيسيا من التكوين الثقافي لأفراد المنزل، كما هو الحال مع التلفاز في مرحلة سابقة، والإذاعات في مراحل أسبق. ورغم إيماننا بمقولة «الوسائل لا تلغي بعضها»؛ إلا إن «تكوين العادة» اليوم انتصر على استهلاك ومعايشة والاتحاد مع الوسيط الرقمي، وصارت المشاركة الرقمية في صنع وتداول واستهلاك الأخبار تفرض على الصحف تعزيز وجودها الرقمي، والهرولة للحاق بأنماط السبق والتحديثات والتصحيح والحصري. وفي هذا الصدد فقد يكون إحدى مقاربات تنشيط الصورة الذهنية للصحافة وربطها بالأجيال هو تحويلها إلى عادة داخل المدارس؛ يقضي الطالب قرابة 12 عامًا بين أروقة المدارس، فماذا لو حثت المدارس طلبتها على قراءة تلك الصحف بشكل يومي، وربطت أنشطتها المدرسية ببعض المصادر المرتبطة بالصحف كتلخيص ومناقشة مقالاتها أو أخبارها السياسية أو الاقتصادية، وربطت بعض أنشطة الصف المرتبطة بمواد مثل (اللغة العربية والدراسات الاجتماعية) بما يرد في الصحف المحلية (وهنا لا أتحدث عن أنشطة الصحافة المدرسية بشكلها الذي نعرفه)، وإنما التفاعل مع الصحافة المحلية بأطروحاتها ومقالاتها. أتوقع أننا سنستطيع إلى حد ما ربط الجيل – ولو نسبيًا – بصورة بعض الصحف، والالتفات إلى الأخبار المعمقة، واكتساب ثقافة التحليل، وتحديد جزء من الولاء لوسيلة «الصحيفة» كوسيلة للمعرفة. والأمر هنا لا نقصد به ما إذا كانت ورقية / أم إلكترونية وإنما فكرة الصحيفة في كليتها كمصدر للمعرفة والتحليل المعمّق.

لا يمكن إذن فصل إعادة نهضة الصحافة عما يحدث في المجتمع، وفي تقديري فإن نقاش الصحافة كـ (صناعة) من ناحية تجارية فحسب سيعيد إنتاج حلول غير مستقرة، وذلك لثلاثة اعتبارات أساسية:

-انتقال حالة المجتمع في علاقة باستهلاك وإنتاج البيانات بما في ذلك (المعلومات والأخبار) إلى علاقة ندية.

-ظهور الفرد الانتقائي والذي يفضل المعرفة السريعة المتنوعة، على حساب المعرفة المتخصصة المعمقة.

-الجمهور باختلافه اليوم هو المستهدف بصناعة الصحافة، ودراسة البنى الذهنية والاجتماعية والمعرفية للجمهور هي المدخل الأساس لإنتاج مواد ووسائل إعلامية أكثر قبولًا وتقبلًا من المجتمع.

مبارك الحمداني مهتم بقضايا علم الاجتماع والتحولات المجتمعية في سلطنة عمان

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: فی الدقیقة

إقرأ أيضاً:

رسالة إلى كل مَن يحمل قلباً مثقلاً باللوم!!

بقلم : تيمور الشرهاني ..

اليوم نعيش في عالم تسوده النزعات الفردية والصراعات اليومية، يطل علينا بيت الشعر الخالد ليذكرنا بدرس إنساني عظيم: “وإذا الحبيبُ أتى بذنبٍ واحدٍ جاءت محاسنه بألفِ شفيع”. هذه الكلمات ليست مجرد أبيات شعرية تنتمي إلى الماضي، بل هي فلسفة حية تصلح لأن تكون دليلاً في علاقاتنا المعاصرة. فكم من علاقات انهارت بسبب زلة واحدة، وكم من صداقات انتهت بسبب موقف عابر، بينما كان بالإمكان إنقاذها لو تذكرنا المحاسن قبل أن نحكم على الأخطاء.
الحياة الإنسانية في جوهرها سلسلة من التجارب والأخطاء والتعلم، ومن المفارقات أننا نطلب التسامح لأنفسنا بينما نكون قساة في الحكم على أخطاء الآخرين. الشاعر هنا يقدم لنا عدسة مختلفة للنظر إلى من نحب، عدسة تكبر المحاسن وتجعل الذنب الواحد يبدو صغيراً في بحر الإيجابيات. لكن السؤال الذي يطرح نفسه: لماذا نجد صعوبة في تطبيق هذا المبدأ في حياتنا اليومية؟ الإجابة قد تكمن في طبيعتنا البشرية التي تميل إلى التركيز على السلبيات، وهي ظاهرة نفسية معروفة باسم “الانحياز السلبي” حيث يعلق في أذهاننا موقف سلبي واحد أكثر من مائة موقف إيجابي.
في العلاقات الزوجية على سبيل المثال، كم من أزواج تحولت حياتهم إلى جحيم بسبب التركيز على الأخطاء ونسيان سنوات من الإيجابيات؟ وفي الصداقات، كم من صداقة عريقة انتهت بسبب موقف واحد بينما كانت تستحق الفرصة الثانية؟ وحتى في بيئات العمل، نجد أن المدير الناجح هو الذي يحسن الموازنة بين تقييم أخطاء موظفيه والاعتراف بجهودهم وإنجازاتهم. الفيلسوف نيتشه كان محقاً عندما قال إن التسامح من صفات الأقوياء، لأن الضعيف فقط هو من يصر على التمسك بالأخطاء ويرفض منح الفرص.
التاريخ الإسلامي يحفل بالمواقف التي تجسد هذا المعنى، فحينما أخطأ أحد الصحابة في معركة أحد، لم يمح النبي صلى الله عليه وسلم كل فضائله وإنجازاته بسبب خطأ واحد. وفي تراثنا العربي أمثلة لا تحصى عن العفو عند المقدرة، وعن النظر إلى الإنسان ككل متكامل وليس كمجموعة من الأخطاء المنفصلة. الحكمة تكمن في أن نتعلم كيف نزن الأمور بميزان عادل، فلا نغفل عن الأخطاء تماماً، ولا نجعلها تطغى على كل ما سبقها من إيجابيات.
فالحياة قصيرة جداً لنحولها إلى سجل للحسابات والمواجزات، والإنسان الناضج هو من يعرف كيف يضع الأمور في نصابها، فلا يبالغ في التقدير ولا في الإقصاء. البيت الشعري الذي بدأنا به ليس مجرد كلمات، بل هو منهج حياة يدعونا إلى الرحمة والتوازن في أحكامنا. فكما نتمنى أن يغفر لنا أخطاؤنا، علينا أن نتعلم كيف نغفر للآخرين، لأن المحاسن الحقيقية تستحق أن تكون شفيعاً للذنوب، ولأن القلوب الكبيرة فقط هي التي تعرف كيف تحب بعيوبها وكمالاتها معاً.

تيمور الشرهاني

مقالات مشابهة

  • سيارة تعبر الطريق وتصطدم بأخرى في القاهرة الجديدة بدون إصابات
  • المنظمات الأهلية الفلسطينية: أوضاع غزة تتدهور والمجتمع الدولي متخاذل
  • عيد الكذب: عندما يتحول المزاح إلى أزمة عالمية في زمن المعلومات الزائفة
  • غياب الصحافة المصرية عن مران بيراميدز بسبب الأهلي .. تفاصيل
  • تايلاند.. انفجار قارب يحمل 31 سائحاً
  • في الذكرى 84 لتأسيسها.. نقيب الصحفيين يوجه رسالة مؤثرة للجمعية العمومية
  • رسالة إلى كل مَن يحمل قلباً مثقلاً باللوم!!
  • روشتة لتفادي خناقات العيد فى البيوت المصرية
  • «دويتشه فيله»: كيف أصبحت تغطية الأحداث فى غزة مهمة مميتة للصحفيين؟.. استشهاد 50 ألفا ونزوح جميع السكان فى عدوان الاحتلال على غزة
  • الهلال الأحمر يحمل الاحتلال المسؤولية عن سلامة وحياة 9 مسعفين محاصرين في رفح