حوارات فلسفية وعلمية مع «شات جي بي تي»
تاريخ النشر: 9th, December 2023 GMT
أُكمل سلسلة الحوارات مع نماذج الذكاء الاصطناعي التوليدية بجزئها الثاني؛ لتكون هذه المرة مع أشهر النماذج التوليدية «شات جي بي تي» «ChatGPT» بعد حواري الأول الذي أجريته مع نموذج الذكاء الاصطناعي «بَارْد» «Bard»، والذي نُشِرَ في جريدة «عُمان» الأسبوع المنصرم. أذكّر عبر هذا المقال أن الهدف من هذه الحوارات هو فتح نافذة حوارية بين الإنسان والدماغ الرقمي؛ لاكتشاف منحى حوارات الإنسان والآلة الذكية وفهم منطق هذه العلاقة المعرفية والسلوك الرقمي في بناء الأفكار وطرحها عبر مقالات قادمة تحاول أن تحلل هذه الحوارات من منطلقات المبدأ الرقمي والمنطقي الذي يعتمد عليها الكائن الرقمي في تفاعلاته الحوارية مع الإنسان، ووضع تصور لمستقبل الدماغ الرقمي وتطوراته القادمة.
«السائل»: مرحبا شات جي بي تي، أرغب بإجراء حوار فلسفي وعلمي معك. سأطرح عليك أسئلة، وأريد جوابك بكل شفافية واختصار، ويمكنك أن تحاورني كذلك بناءً على أسئلتي التي سأطرحها عليك.
«شات جي بي تي»: مرحبًا! بالطبع، أنا هنا للمساعدة. اطرح أسئلتك الفلسفية والعلمية، وسأحاول الرد عليها بأقصر وأفضل طريقة ممكنة. تفضل بطرح الأسئلة.
«السائل»: ماذا يعني العقل بالنسبة إليك من الزاوية الفلسفية والعلمية؟
«شات جي بي تي»: الفهم الفلسفي والعلمي للعقل يختلف قليلاً ويعتمد على السياق الفلسفي والنظرية العلمية المعتمدة. سأقدم لك تصورًا عامًا: من الزاوية الفلسفية: يمثل العقل في السياق الفلسفي القدرة على التفكير والإدراك والتمييز. يُعتبر العقل في بعض التيارات الفلسفية مصدرًا للمعرفة والوعي، ويمكن تفسيره بأنه جزءٌ من الوجود البشري يساهم في صياغة الفهم والقرارات. من الزاوية العلمية: يُنظر إلى العقل عادةً على أنه ناتج عن التفاعلات الكيميائية والكهربائية في الدماغ. يفسر العلم التفاعلات العصبية والهرمونية أساسًا للعمليات العقلية، مثل التفكير واتخاذ القرارات. على الرغم من هذه الاقتراحات العامة، يبقى الفهم الكامل للعقل موضوعًا للنقاش في كل من الفلسفة والعلوم، والآراء من الممكن أن تختلف بين الفلاسفة والعلماء في طبيعته ودوره في الواقع.
«السائل»: كيف يمكنك حينها أن تفرق بين العقل والدماغ في حال أنك تعتبر العقل وفقا للزاوية العلمية أنه نتاجُ تفاعلات كيميائية وكهربائية في الدماغ؟
«شات جي بي تي»: في السياق العلمي، عادةً ما يُفهم العقل أنه ناتجٌ عن التفاعلات الكيميائية والكهربائية في الدماغ، لكن هناك فرق بين الدماغ والعقل؛ إذ يُعتبر الدماغ عضوًا في الجهاز العصبي، وهو مسؤول عن تنظيم العديد من الوظائف الحيوية في الجسم وتنسيقها، ويتكون الدماغ من خلايا عصبية تتفاعل مع بعضها بعضًا عبر إشارات كهربائية ومنتقلات عصبية، بينما يُفهم العقل على نحو أوسع؛ حيث يشير إلى القدرات العقلية والوعي والتفكير. يُعَدُّ العقل نتاجًا لتفاعلات الدماغ، ولكنه يتجاوز الجانب البيولوجي للدماغ. يعكس العقل الجانب الذهني والوجداني للإنسان، بما في ذلك القدرة على التفكير، وتكوين المعتقدات، وتجربة الوعي. مع ذلك، يُستعمل مصطلحُ «العقل» و«الدماغ» تبادليًا في بعض السياقات، وهناك منهجية توضيحية تفسر العقل باعتباره نتاجَ التفاعلات البيولوجية في الدماغ؛ لذلك، يُمكن تفسير العقل في السياق العلمي كونه نتاجًا لوظائف الدماغ، ولكن «العقل» يشمل أيضًا الجوانب النفسية والإدراكية التي لا يمكن تفسيرها كاملةً بواسطة الجوانب الفيزيائية للدماغ.
«السائل»: أتجد أن نطاقَ العقل أكثرُ اتساعا من نطاق الدماغ البيولوجي؛ حيث إن العمليات الدماغية البيولوجية تتعامل مع المعطيات العقلية ومدخلاتها وفق قاعدة المُرسِل والمُستقبِل، وأن نطاق العقل يمتد إلى نطاق واسع غير مادي يمكن أن نطلق عليه «العقل الكوني أو الكلّيّ»؟
«شات جي بي تي»: هذه وجهة نظر فلسفية مثيرة وقد يتباين الرأي بشأنها. بشكل عام، تحاول بعض التيارات الفلسفية والدينية توسيع الفهم للعقل خارج النطاق البيولوجي للدماغ إلى مفهوم أوسع يمتد إلى الأبعاد اللامادية والروحية. العقل الكوني أو الكلي: هذه الفكرة تتناول فكرة أن العقل ليس مقتصرًا على الجوانب الفيزيائية للدماغ وإنما يمتد إلى نطاق واسع يتضمن الأبعاد غير المادية للوجود. يُعتبر العقلُ في هذا السياق جزءًا من أمور أعمق وأشمل للواقع. الجوانب اللامادية: بعض الأفكار تركز على أن العقل يشمل جوانب لامادية، مثل الوعي والروح، وأن هذه الجوانب تتفاعل مع الأبعاد البيولوجية للدماغ لتشكل تجربة الوعي. يرجى ملاحظة أن هذه الآراء ما تزال جزءًا من المجالات الفلسفية والروحية، وهي ليست قضايا يمكن قياسها بشكل مباشر من خلال المنهجيات العلمية التقليدية. يختلف الفهم بشكل كبير بين الأفراد والتقاليد الفلسفية المختلفة فيما يخص هذه القضايا.
«السائل»: أتفق معك أننا ما نزال نفتقد الدليل القاطع لإثبات هذا الادعاء الفلسفي العميق الذي لم يستطع العلم إثباته بشكل قطعي، ولكن في المقابل تشير المقاربات العلمية والفلسفية إلى وجود وعي بشري يتجاوز في بعض حالاته التأويلات المادية «العلمية» مثل الرؤى المنامية التي تتحقق عند بعض الناس والتخاطر الذي يتوارد عند بعض الناس لأحداث بعيدة مداركهم الجسدية «المادية»، وهذا يمكن أن أعتبره تمثيلا نسبيا لمفهوم العقل الكلّيّ الذي يتفاعل مع الدماغ البيولوجي؟
«شات جي بي تي»: يطرح الموضوع قضايا معقدة ويتساءل عن العديد من الأمور ذات الطابع الفلسفي والعلمي. إن فهم العقل والوعي يظل تحديًا في ميداني الفلسفة والعلوم. التجارب الشخصية: الظواهر مثل الرؤى المنامية والتخاطر يمكن أن تكون جزءًا من التجارب الشخصية التي يصعب تفسيرها بشكل كامل عبر النظريات العلمية الحالية. تثير هذه التجارب الأسئلة في العلاقة بين العقل والواقع. العلاقة بين العقل والدماغ: فيما يتعلق بالعقل والدماغ، تظهر الأبحاث أن هناك ارتباطًا وثيقًا بين الأنشطة الدماغية والعمليات العقلية. ومع ذلك، ما تزال العديد من الأسئلة مفتوحة فيما يتعلق بكيفية تفاعل الجوانب اللامادية (مثل الوعي) مع الجوانب البيولوجية. الفهم الشامل للعقل: قد يكون الفهم الشامل للعقل يتضمن النواحي البيولوجية واللامادية، ولكن تبقى هذه القضايا قيد الدراسة والنقاش. يُشير بعض الفلاسفة والعلماء إلى وجود نطاق أو أبعاد للعقل تتجاوز الجوانب البيولوجية الضيقة. ومع ذلك، يحتاج الأمر إلى مزيد من البحث والدراسة لفهم هذه القضايا بشكل أكثر دقة وشمولًا.
«السائل»: أنحن بحاجة إلى فهم أعمق للعقل والوعي أم للدماغ الذي نجهل الكثير من أسراره؟ وما رأيك بما يسمّيه البعض بالعقل الرقمي والدماغ الرقمي، وبمعنى آخر أتجد تشبيه الذكاء الاصطناعي أقرب إلى العقل أم الدماغ؟
«شات جي بي تي»: السؤال فيما يخص ما يجب التركيز عليه، سواء العقل والوعي أم الدماغ، يعتبر موضوعًا مثيرًا للجدل ويتأثر بالتوجهات الفلسفية والعلمية المختلفة. مفهوم الدماغ: فهم الدماغ يعتبر هامًا لأنه الجزء البيولوجي الذي يتسبب في العمليات العقلية والوعي. يمكن أن يساعد فهم كيفية عمل الدماغ في التعرف على طبيعة العقل والوعي. توسيع النطاق إلى العقل والوعي: في الوقت نفسه، يُظهر الاهتمام بالعقل والوعي أهمية المفاهيم غير المادية والجوانب النفسية والروحية التي يمكن أن تكون جزءًا من الواقع. بالنسبة للعقل الرقمي والدماغ الرقمي، فهذه مصطلحات تُستعمل لوصف الجوانب التفاعلية مع التكنولوجيا الرقمية والذكاء الاصطناعي. يمكن أن يُفهم العقل الرقمي باعتباره مفهوما يتعلق بالتفاعلات الرقمية للأفراد، بينما يُمكن تصوير الدماغ الرقمي بأنه جزءٌ من الأنظمة الذكية التي تستفيد من معالجة البيانات بطريقة تشبه تفكير الإنسان. بالنسبة للذكاء الاصطناعي، فهو يُصوّر تكنولوجيا تُصمم لتنفيذ مهام تعتبر تقليديةً للوظائف العقلية البشرية. يُعتبر الذكاء الاصطناعي أقرب إلى الدماغ في سياق تكنولوجي، وأقل قربا إلى العقل في السياق الفلسفي؛ حيث يقترب من تعزيز القدرات الذهنية البشرية بدرجة متزايدة ويحاكيها.
د. معمر بن علي التوبي أكاديمي وباحث عُماني
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الذکاء الاصطناعی شات جی بی تی فی السیاق إلى العقل فی الدماغ العقل فی جزء ا من یمکن أن ی عتبر
إقرأ أيضاً:
الرد على الوليد آدم مادبو- بين أزمة الخطاب وامتحان العقل
في لحظات المفصل التاريخي، حين تتبدل المصائر ويُعاد تشكيل الوعي الجماعي، يكون للعقلاء والتاريخ كلمتهم، وهي كلمة قد تأتي متأخرة، لكنها تحمل قسوتها التي لا ترحم. غير أن هذه الكلمة ليست بالضرورة صرخةً في الميادين أو خطبةً على منابر الجدل، فقد تكون صمتًا مدويًا في وجه الخطاب الشعبوي، أو تأملًا باردًا في مسرح العواطف الملتهبة. والعقل، في صورته الأصيلة، ليس نزاعًا بين الذوات، بل سيرورةٌ لفهمٍ أعمق، حيث لا يكون العقل مجرد سلطةٍ إجرائية تحكم المواقف، بل معيارًا يزن المقولات في ميزان الحقيقة.
كتب الدكتور الوليد مادبو مقاله الأخير في نقد الأستاذ شوقي بدري، مستخدمًا لغةً مشحونةً بالتقريع، تتداخل فيها الذاتية مع الموضوعية، والنقد مع الاستعداء. غير أن الأزمة هنا ليست في حدّة اللغة فحسب، بل في الطبيعة الاستدلالية التي أسس عليها مقاله، والتي تستدعي وقفةً نقدية تتجاوز الشخصي إلى الكلي، من حيث طبيعة التفكير ومنهجية التحليل.
المغالطة المنهجية الخطاب بين الشخصي والتاريخي
ليس من الحكمة أن يُقرأ الواقع بمسطرة الذات، فتُختزل التناقضات المركّبة في ازدواجية "المهرّج والعالم"، أو "المؤدلج والمستقل". فالفكر في جوهره ليس مجرد تراكم أسماء أو انتماء أكاديمي، بل هو ميدانٌ مفتوحٌ للجدل الحر والتفاعل المعرفي. حين يجعل الكاتب من ذاته معيارًا للفرز بين "المتطفلين" و"الجادين"، فإنه يقع في مأزق فلسفي عميق: كيف يمكن للعقل أن يكون حكمًا وهو طرفٌ في الخصومة؟
يتخذ مادبو في طرحه موقفًا يتأرجح بين المدافع عن القيم والمحلل البارد، لكنه في جوهر خطابه يستخدم لغةً معياريةً أخلاقية تحاكم الآخر من منطلق ذاتي. وهنا يظهر التناقض: كيف يمكن استدعاء معايير الفكر النقدي، بينما يُمارس الإقصاء والتهكم في ذات اللحظة؟ إن النقد الفلسفي، كما صاغه فلاسفة مثل هابرماس أو ألتوسير، ليس خطابًا يعتمد على الشخصنة، بل هو تفكيكٌ لبنى التفكير وإعادة بناء المفاهيم وفق منطقٍ متماسك، لا وفق انفعالات اللحظة.
إشكالية السلطة المعرفية والاستعراض الخطابي
حين يلجأ الكاتب إلى تعداد الشخصيات التي تتلمذ على أيديها – من طه عبد الرحمن إلى الجابري – فإنه يسعى إلى تأسيس سلطةٍ معرفية قائمة على الانتماء أكثر من البرهان. لكن العلم، كما أشار إليه غاستون باشلار، لا يُكتسب بالانتساب إلى الأسماء، بل بالقدرة على مساءلة الأفكار دون تحصينها بهالةٍ من القداسة. فالسؤال الفلسفي الحقيقي ليس "مع من درست؟"، بل "كيف تفكر؟"، وهذا ما لم يقدمه المقال.
إن استدعاء المرجعيات الفكرية لا يصنع معرفة، بل قد يكون مجرد تمرينٍ خطابي لإضفاء الشرعية على موقفٍ مسبق. ولذلك، فإن الوعي الفلسفي يقتضي تفكيك المسلّمات بدلًا من إعادة إنتاجها في قوالبَ جديدةٍ لا تخرج عن النسق نفسه.
قراءة التاريخ: بين السردية الخطية والتعقيد البنيوي
يتحدث مادبو عن التهميش كمسارٍ امتد لقرنين من الزمان، مصورًا التاريخ بوصفه خطًّا مستقيمًا من القهر والاستعلاء العرقي. غير أن قراءة التاريخ من هذا المنظور تعكس اختزالًا شديدًا لجدلية السلطة والمجتمع، حيث تُختصر الصراعات السياسية والاقتصادية في ثنائية "مضطهِد ومضطهَد".
إن تحليل التاريخ لا يمكن أن يكون فعلًا انتقائيًا يستدعي فقط ما يخدم موقفًا آنيًا، بل هو عملٌ بنيوي يُعيد تشكيل الوعي وفق تعقيد العلاقات الاجتماعية والسياسية. وكما أشار ميشيل فوكو، فإن السلطة لا تعمل ككيانٍ أحادي، بل تتجلى في أنماطٍ متغيرةٍ من الهيمنة والتفاوض والمقاومة، مما يجعل من أي تفسيرٍ أحادي للتاريخ نوعًا من التبسيط الأيديولوجي الذي يفقده قيمته التحليلية.
ازدواجية الخطاب ومشكلة المعيارية الانتقائية
إن وصف الجيش السوداني بأنه "غير قومي وغير مهني" مع الدعوة لمقاومته، في الوقت الذي يُنتقد فيه الدعم السريع باعتباره فاقدًا للمشروعية، يكشف عن مشكلةٍ معيارية في الخطاب. فإذا كان الجيش يعاني من أزمةٍ بنيوية، فإن الدعم السريع لا يخرج عن كونه تجلّيًا أكثر فجاجةً لنفس الإشكاليات، مما يجعل من غير المنطقي انتقاد أحدهما باعتباره "إرثًا يجب مقاومته"، بينما يُعامل الآخر بوصفه "خطأً تكتيكيًا يجب تصحيحه".
هنا تبرز إشكاليةٌ فلسفية تتعلق بازدواجية المعايير في الخطاب السياسي: كيف يمكن رفض منظومةٍ كاملة، ثم التعامل مع أحد منتجاتها على أنه "حالة استثنائية" تستحق المراجعة بدلًا من الإدانة المطلقة؟ إن النقد المتماسك لا يكون بالانتقاء، بل بالقدرة على الاحتفاظ بثبات المعايير بغض النظر عن الظرف السياسي.
في البدء كان العقل حاجة السودان إلى خطابٍ متزن
إن الأزمة السودانية اليوم ليست أزمة أشخاص، بل أزمة وعي، حيث يُستبدل النقد العقلاني بالهجوم الشخصي، ويُستبدل التحليل العميق بالسرديات التبسيطية. فحين يتنادى البعض بالألقاب، متناسين جوهر القيم التي يدّعون الدفاع عنها، يكون التاريخ في موقف الحكم، حتى وإن تأخر في النطق بكلمته.
لكن السؤال الذي يظل معلقًا في الهواء- هل ننتظر أن يحكم التاريخ أم نحاول أن نحكم عقولنا قبل أن تصدر الأحكام؟ إن وعي اللحظة يقتضي الخروج من دائرة الشخصنة إلى فضاء النقد الفلسفي، حيث تُختبر الأفكار لا الأشخاص، وتُناقش الخطابات لا الذوات. فالتاريخ قد يكون قاسيًا، لكن العقل أحيانًا يكون أشد قسوة، حين يُطالبنا بأن نكون على مستوى ما ندّعيه من قيمٍ ومبادئ
zuhair.osman@aol.com