استعادة شعرية لمحمد الدرَّة وصرخة الأقصى الجريح
تاريخ النشر: 9th, December 2023 GMT
قبل أيام نشرت الجمعية العمانية للكتاب والأدباء، إعلانا تدعو فيه الشعراء العمانيين الذين كتبوا في «طوفان الأقصى» والحرب على قطاع غزة، أن يرسلوا نصوصهم الشعرية إلى الجمعية، لنشرها في كتاب، تضامنا مع الشعب الفلسطيني، وهذا النداء ذكرني بكتابين سابقين، جَمَعا نماذج من كتابات الشعراء العُمانيين، وتفاعلهم الشعري وتعاطفهم الوجداني، مع الانتفاضة الفلسطينية الثانية، «انتفاضة الأقصى» التي اندلعت في سبتمبر عام 2000م، والكتابان الشعريان هما: «محمد الدرَّة.
في كتابه «محمد الدرة»، يجمع الباحث الأديب عبدالله الحارثي مختارات شعرية، كتبت في الطفل الدرة، وارتقاءه إلى مصاف الشهداء، ليصبح الدرة كاسمه، درة فلسطين، لفظتها الأقدار من شاطئها الطفولي، ليصبح رمزا للتضحية والفداء، وذاع صيته وانتشر خبره في كل بقاع العالم، فقد تناقلت وسائل الإعلام خبر مقتله المباشر أمام عدسة التصوير، وكُتبت فيه الكثير من قصائد الرِّثاء، وما يزال مشهد التحام الطفل بأبيه، وهما يحتميان بظل جدار في غزة، ويحاولان اتقاء سيل الرصاص المنهمر عليهما، ماثلا في ذاكرة كل من تابع ذلك المشهد التلفزيوني، كان الأب يحاول أن يستغيث، ويلوِّح بيده على جنود الاحتلال، حتى لا يطلقوا النار عليه، فيما يده الأخرى تمسك بالطفل، وقد ظهر يصرخ مرعوبًا، لكن الطغيان لا يعرف أخلاق التودد، ولا ينجد المستغيث، فأصابت الطفل رصاصة أودت به صَريعا، يصف المشهد محمود درويش في قصيدة مشبعة بالألم، عنوانها: «محمد»، ضمن نصوص الكتاب، يقول:
محمد،
يُعشِّش في حُضْن والده طائرًا خائفًا
مِن جَحيم المَسَاءِ
احمِني يا أبي،
من الطيران إلى فوق،
إنَّ جناحِي صَغيرٌ على الرِّيح
والضَّوءُ أسْوَد.
محمَّد
يريدُ الرُّجُوعَ إلى البَيْتِ،
مِنْ دُوْنِ دَرَّاجَةٍ
أو قمِيصٍ جَدِيدٍ
يُريدُ الذَّهابَ إلى المَقعَدِ المَدْرَسِيِّ
إلى دَفتَرِ الصَّرْفِ وَالنَّحْوِ
خُذنِي إلى بَيتِنا يا أبِي
كَيْ أعِدَّ دُرَوسِي
وأكمِلَ عُمْرِي رُوَيْدًا رُوَيْدا
على شاطِئ البَحْرِ
تحْتَ النَّخِيلِ
ولا شَيْءَ أبْعَد، لا شَيْءَ أبْعَد.
تسجيل حي مروع تابعه العالم، نقلته عدسة مصور فرنسي كان متواجدا لحظة إطلاق النار، ولولا هذا التصوير لما كان لمقتل الطفل أي ذكر أو تأثير، وبعد حادثة استشهاد الطفل الغزاوي في الثلاثين من سبتمبر عام 2000م، تبعه آلاف الشهداء، فالمجازر ما تزال قائمة، تذكِّر بذلك الطفل الدرَّة، وبآلاف الأطفال، الذين هم رموز للصمود، وإن لم يعرفهم أحد.
كتاب محمد الدرة للباحث عبدالله الحارثي، يجمع 144 قصيدة، ويفتتحه بنص شعري كتبه في محمد الدرة، بمثابة أنشودة رقيقة نابعة من انفعاله كشاعر بمشهد استشهاد الطفل:
إليكَ إليكَ يا دُرَّة،
أقدِّمُ أجْمَلَ الدرِّ،
جَمَعتُ مُحَارهُ من عُمْقِ
بَحرٍ غائِرِ القُعْر.
كتب الحارثي تقديمًا تناول فيه تفاصيل الأحداث الثقافية التي كانت تقام في أيام اندلاع الانتفاضة، حينها كانت مدينة صحار على موعد مع الدورة الثانية من «مهرجان الشِّعر العماني»، بمشاركة مائة شاعر من العمانيين، في مساء ذلك اليوم بثت قنوات التلفزة مشهد استشهاد الدرة، فكانت فاجعة وسابقة لم يعتد عليها المشاهد، مع أن قتل الأطفال يتكرر كثيرًا، ويعرفه أهل فلسطين.
يتحدث الحارثي في تقديمه عن التماع فكرة الكتاب، وعن القصائد التي كتبت بعد ذلك في رثاء الطفل الدرَّة من الشعراء العرب، وحث أصدقائه على جمع القصائد التي تكتب في الدرة، حتى تيسرت له مجموعة منها، كتبها شعراء من عمان ودول الخليج والوطن العربي، فجاء الكتاب أشبه بمهرجان كبير، حشد كبار الشعراء، كتبوا قصائد ونصوص رثائية في هذا الطفل الذي أصبح رمزا.
وما يميز كتاب محمد الدرة لعبدالله الحارثي، هو جمعه لأهم النصوص والقصائد العمانية والعربية التي قيلت في الطفل الشهيد الدرة، ولم يقتصر فقط على الشعر الفصيح، بل كان للشعراء الشعبيين حضور فيه، كما يتضمن الكتاب مجموعة مختارة من الرسومات واللوحات لفنانين تشكيليين عمانيين، زينت صفحات الكتاب.
من الشعراء العمانيين المشاركين في الكتاب بنصوص رقيقة، قصيدة لناصر بن سليمان السابعي، وهو غنائية في بنيتها اللغوية، وإيقاعها العروضي يهيئها أن تكون نشيدًا:
يا عَصَافيرُ صَباحِي غَرِّدِي
يا أزاهيرُ عُهُودي وَرِّدِي
واعزفي يا أمُّ في عُرْسِ النَّوَى
لحْنَ شَوْقٍ أبَدِيٍ زَغرِدِي
عِندَما يَنتفِضُ الصُّبْحُ على
نغمَةِ الشادِي ولحْنِ المُنشِدِ
أما تجربة الكاتبة تركية البوسعيدية، فهي مماثلة للسابقة، زينت غلاف كتابها لوحة للتشكيلي والنحات الراحل: أيوب بن ملنج البلوشي (ت:2018م)، وجمعت في كتابها 27 قصيدة من شعراء عمانيين، كتبوا في الدرَّة والأقصى وفلسطين، خرج الكتاب بعنوان: «صَرخة الأقصَى الجَريح»، وهو صرخة شعرية من شعراء عمانيين، تنوعت فيه القصائد بين المقفاة والمرسلة، من بينهم: اليقظان بن طالب الهنائي (ت: 2001م)، الذي شارك بقصيدة «كتائب الدرَّة»:
وَظنَنتُ أنكَ يا محَمَّد
في الطريقِ بجَانِبي
وَحَسِبتُ أنكَ
مَنْ يُهوِّنُ
في الزَّمان مَصَاعِبي
فأرَحْتُ عند صَباحِ خَطوِكَ
ليلَ كلِّ مَتاعِبي
ولبِثتُ أرْقبُ في انتشائِكَ
كلَّ عُمْري الغائِبِ.
وهناك قصيدة أخرى للشاعر حسن المطروشي، مطلعها:
قادِمُونَ غَدًا لاقتِسَامِ الوُرُود.
قادِمُونَ طيُورَ أذانٍ،
كأنَّ مَسِيحًا يَعُود.
وقصيدة للشاعرة د. سعيدة بنت خاطر الفارسية:
شكرا شارُون ولا تأسَفْ
أغرَيْتَ رِياحِي كيْ تعْصِفْ
صَمَتَتْ تسْتافُ هَزائِمِها
وتِلال الحُزنِ لها مِعطف.
وقصيدة أخرى للشاعرة مريم الساعدي، تقول:
إلى محمد
كم تشتَهيكَ أنامِلُ كفِّي
تبارَكَ فيكَ الرُّجُولة
ومَعنَى البَطولة
وَعَزْمًا تجَلَّى
يُزيِّنُ قبرَك بالكبرِياء.
وقصيدة أخرى لأمل القاسمي منها هذا النص:
أرْضُ فلسطين
يا نبْضَ العِرْقِ الصَّامِدِ بينَ عُروقٍ ماتَتْ
مِنْ دُون حَيَاء
شُهَداؤكِ كانوا جِزْعَة أنْوارٍ ودِمَاء.
وقصيدة للشاعر هلال بن محمد العامري (ت: 2022م):
سَجَى الطفلُ بينَ النَّدَى والدِّمَاء
فوْقَ لهيبِ السُّفُوحِ
على قارِعاتِ المَدَى،
والحُزنُ أرْجُوحَةٌ
في مَهَبِّ الحِجَارَة
والوَقتُ مِقصَلة الليل..
في تقديمها كتبت تركية البوسعيدية: عن موقف سلطنة عمان إزاء ما حدث، وإغلاق مكتب «التمثيل التجاري الإسرائيلي» بمسقط، ونظيره في تل أبيب، وأشارت إلى جموع المتظاهرين الذين ملؤا الشوارع، استنكارًا لما يحدث في فلسطين من تنكيل وتخريب.
واليوم حين ننظر إلى كلا التجربتين، ونقرأ النصوص الشعرية في الكتابين، يعود بنا الخيال إلى 23 عامًا ماضية، هي المدة الزمنية التي تفصل بين «انتفاضة الأقصى» في سبتمبر عام 2000م، و«طوفان الأقصى» في السابع من أكتوبر هذا العام، وبين الزمنين جيل شد أزره، كانوا أطفالًا فأصبحوا رجالًا، وجيل آخر كانوا شبابًا وأصبحوا كهولًا، وجيل آخر انتقل إلى العالم الآخر، وغزة فلسطين عروسٌ لا تكبر.
ترى ماذا ستكتب أقلام الشعراء والأدباء عن هذا الطغيان، وبم تجيش القرائح عن «طوفان الأقصى»؟!، وأنهار الدم التي تسيل، حتى أصبحت غزة مقبرة، ومدينة أشباح، تهاوت فيها البيوت والمجمعات السكنية والمستشفيات، هل ستأتي قصائد الشعراء أكثر بلاغة من أحزان أمهات ثكلى على فلذات الأكباد، ولا يزال أعداد الضحايا تتكاثر.
أما جمال الدرِّة والد الطفل الشهيد محمد، فقد رأيناه قبل أيام في مقطع متحرك، جاثمًا أمام جثامين أخوته الذين فقدهم، جرَّاء القصف الإسرائيلي الجائر على غزة، وكأنه يستعيد المشهد من جديد، مشهد استشهاد ابنه قبل 23 عامًا، واستشهاد إخوته في الأيام الأولى من اندلاع الحرب على غزة، ولكنه ظهر منهكًا، وقد رَسَمَت التجاعيد على وجهه خارطة الشقاء.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: محمد الدرة ل الدر
إقرأ أيضاً:
عن فلسفة النبوغ الشعري وأسباب التردي.. كيف نعرف أصناف الشعراء في زمن السيولة التواصلية؟
لا تَقُلْ شعراً ولا تهمم به … وإذا ما قلت شعرًا فأجد
هذا ما قاله الإمام محمد بن مناذر محذرا من الخوض في غمار الشعر إذا لم يكن لدى الشاعر ملكة تمكّنه من مجاراة فحول الشعراء من جهة، ومشيرا إلى سلطة الشعر وقوة تأثيره في جمهور المتلقين من جهة أخرى. أما دعبل بن علي الملقّب بشيطان الشعر، فقد قال مبينا عزمه نظم شعر فريد ينال به إعجاب الناس، ويصل إلى أصقاع الأرض رواية وتأثيرًا وجودة:
سأقضي ببيت يحمد الناس أمره … ويكثر من أهل الروايات حامله
يموت ردي الشعر من قبل أهله … وجيده يبقى وإن مات قائله
الشعر كما يُقال رأس الأدب، وقد وضع الرّافعي يده على مكمن النبوغ في الأدب وسرّه حين قال في كتابه (وحي القلم): "سِرّ النبوغ في الأدب وفي غيره هو التوليد، وسر التوليد في نضج الذهن المهيأ بأدواته العصبية، المتجه إلى المجهول ومعانيه كما تتجه كل آلات المرصد الفلكي إلى السماء وأجرامها؛ وبذلك العنصر الذهني يزيد النابغة على غيره، كما يزيد الماس على الزجاج، والجوهر على الحجر، والفولاذ على الحديد، والذهب على النحاس؛ فهذه كلها نبغت نبوغها بالتوليد في سر تركيبها؛ ويتفاوت النوابغ أنفسهم في قوة هذه الملكة، فبعضهم فيها أكمل من بعض، وتمد لهم في الخلاف أحوال أزمانهم ومعايشهم وحوادثهم ونحوها؛ وبهذه المباينة تجتمع لكل منهم شخصية وتتسق له طريقة؛ وبذلك تتنوع الأساليب، ويعاد الكلام غير ما كان في نفسه، وتتجدد الدنيا بمعانيها في ذهن كل أديب يفهم الدنيا، وتتخذ الأشياء الجارية في العادة غرابة ليست في العادة، ويرجع الحقيقي أكثر من حقيقته".
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2مر كالنيزك وخلّف كل هذا الضجيج.. الغياب المدوي لتيسير السبولlist 2 of 2استحقاق أدبي أم حسابات سياسية؟.. جدل فوز كمال داوود بالغونكور الفرنسيةend of listويؤكد ابن رشيق القيرواني في كتابه "العمدة في محاسن الشعر وآدابه" هذه الفكرة بقوله "إنما سمي الشاعر شاعرا لأنه يشعر بما لا يشعر به غيره، فإذا لم يكن عند الشاعر توليد معنى ولا اختراعه، أو استظراف لفظ وابتداعه، أو زيادة فيما أجحف فيه غيره من المعاني، أو نقص مما أطاله سواه من الألفاظ، أو صرف معنى إلى وجه عن وجه آخر؛ كان اسم الشاعر عليه مجازًا لا حقيقة، ولم يكن له إلا فضل الوزن".
هذا الكتاب حظي بانتشار واسع وقبول حسن، مما دفع العلماء لامتداحه كابن خلدون إذ قال: إن كتاب العمدة هو الكتاب الذي انفرد بهذه الصناعة وأعطاها حقها ولم يكتب فيها أحد قبله ولا بعده مثله (الجزيرة)إذن يمكننا القول إنّ عنوان النبوغ والفرادة والتميّز في الشعر هو التوليد، فبقدر ما يكون الشّاعر قادرًا على تطويع لغة النّاس العاديّة لتوليد معانيَ تبهرهم ويفغرون أفواههم عند سماعها يكون شاعرًا حقيقيا.
لماذا يتردّى الشعراء ويفقد الشعر بريقه؟لم يكن للشعر لدى العرب قديما منازعٌ، وكان بمنزلة تخوّله رفع أقدار الناس أو الحطّ منها، وكان نبوغ شاعر في قبيلة ما مدعاة فخر وفرح عريض، وقد عبّر أبو عمرو بن العلاء عن أهمية الشعراء لدى العرب فشبّههم بالأنبياء في قبائلهم، ثم ذكر بعض الأسباب التي أدت إلى تراجع مكانتهم لدى القبائل العربية عامة؛ إذ قال:
"كانت الشعراء عند العرب في الجاهلية بمنزلة الأنبياء في الأمم حتى خالطهم أهل الحضر فاكتسبوا بالشعر فنزلوا عن رتبهم، ثم جاء الإسلام ونزل القرآن بتهجين الشعر وتكذيبه، فنزلوا رتبة أخرى، ثم استعملوا الملق والتضرع فقلوا واستهان بهم الناس".
إذن، كان للشاعر مكانة مهمة تقترب من حدِّ التقديس كالأنبياء، إذ كان للناس لهم حاجة لأنهم يمثلون لسان قبائلهم، يقيدون المآثر ويُخوّفون الأعداء من جهة، وكانوا يتمتعون برؤية خاصة للكون ويذودون عن أقوامهم وقبائلهم بالكلمة من جهة أخرى، غير أن مكانة الشعر والشعراء تراجعت حين خالط أهلُ البادية أهلَ الحضر وصاروا إلى التكسّب بالشعر، فغدا وسيلة نفع شخصية لا جمعية.
ثم جاء الإسلام ونزل القرآن بالتقليل من شأن الشعر والشعراء عامة بعد أن كانوا بمنزلة الأنبياء، وذلك بوصف معظمهم بالغَيّ والضّلال والنفاق واستثناء القلة الصالحة، ثم تحوّل الشعر بعد ذلك في العصور الإسلامية اللاحقة إلى أداة للتملّق والتضرع والشكاية والتسول والاستعراض الفني؛ فحطّ ذلك كلّه من مكانته وأُزيح الشعر عن عرشه الذهبي لدى المجتمع العربي آنذاك.
وكذلك عبّر ابن رشيق عن أهمية الشعر والشعراء لدى العرب قديما، مستشهدًا بسعادة أي قبيلة بنبوغ شاعر لديها، فقال موصّفا حال القبائل العربية في الجاهلية:
"فإذا نبغ في القبيلة شاعر أتت القبائل فهنأتها، وصنعت الأطعمة، واجتمع النساء يلعبن بالمزاهر كما يصنعن في الأعراس، ويتباشر الرجال والولدان؛ لأنه حماية لأعراضهم، وذَبٌّ عن أحسابهم، وتخليد لمآثرهم، وكانوا لا يهنئون إلا بغلام يولد أو شاعر ينبغ أو فرس تنتج".
على أن كلام ابن رشيق هذا لا يُؤخذ على محمل توصيف الواقع والحقيقة تصويرا حرفيا، إذ لم تحدثنا كتب الأخبار فيما أعلم عن احتفال أي قبيلة بنبوغ شاعر لديها، فالأمر مدعاة فخر وسرور كبير، غير أنه يحمل وجوهًا أخرى؛ فعلى الرغم من أن الشاعر يذود عن عرض قبيلته ويرد على أعدائها ويرفع شأنها بشعره الرصين ويقلل من شأن خصومها ومُبغضيها، ويترنم ذووه وأبناء قبيلته بجميل شعره ويتحمسون وينقادون وراء كلماته إن وافقت مصلحة القبيلة ورأي أسيادها، فإن نبوغ أحد أفراد القبيلة بالشعر لا يجعله سيدًا فيها إذا لم يكن له من نسبه مساعد ومعين، وعنترة بن شداد خير مثال على ذلك.
كما أن نبوغ شاعر في القبيلة لا يجعل كلامه مسموعًا مطاعا إن لم يكن من الأساس سيدًا أو من أبناء الرؤساء والوجوه الكبيرة في القبيلة مثل كليب بن ربيعة وعمرو بن كلثوم ودريد بن الصمة وغيرهم، فإذا وافقت موهبة الشعر نسبًا عريضا في القبيلة كان فوزًا عظيما بالنسبة لهم، وإلّا فإنه محض شاعر يذيع صيته بقدر خدمته لأبناء قبيلته وافتخاره بهم وتقديمهم على مَن سواهم، وبقدر قدرته على إغاظة أعدائهم بشعره.
وقد يكون النبوغ بالشعر سلاحًا ذا حدّين إذا لم يوافق أهواء القبيلة وتوجّهاتها الفكرية وسلوكها العام في تعاملها مع القبائل الأخرى، كالشاعر الغلام القتيل طرفة بن العبد مثلا؛ كان شاعرا فذًا لكنه كان شابا عابثا متمردا، وكذلك عروة بن الورد الشاعر الصعلوك.
ومما لا بدّ منه عند الحديث عن تردّي مكانة الشعر إلى جانب ما قاله المعرّي آنفا ملاحظة طبيعة المجتمع وتحولاته، فعندما كانت الطبيعة العسكريّة تغلب على المجتمع، وعندما كانت ثقافة الإغارة هي السائدة، كان الشعر متسيّدًا على الخطابة التي يحتاجها النّاس بشكل أكبر في حالات السلم والاستقرار المجتمعي، وقد عبّر المعري عن ذلك فيما ينقله عنه الجاحظ في "البيان والتبيين"، إذ قال:
"كان الشاعر في الجاهلية يقدَّم على الخطيب لفرط حاجتهم إلى الشعر الذي يقيد عليهم مآثرهم ويفخّم شأنهم، ويهول على عدوهم ومن غزاهم، ويهيب من فرسانهم ويخوف من كثرة عددهم، ويهابهم شاعر غيرهم فيراقب شاعرهم. فلما كثر الشعر والشعراء، واتخذوا الشعر مكسبة ورحلوا إلى السوقة، وتسرعوا إلى أعراض الناس، صار الخطيب عندهم فوق الشاعر"
على أن أساس هذا التفاضل ليس فنيا، بل يقوم على أسس موضوعية تستند إلى مدى الحاجة إلى الفن الأدبيّ في الواقع الاجتماعي والسياسي والعسكري.
مراتب الشعراء وأثر تردي الشعر في التقسيمتحدث الشاعر عبد الرّازق عبد الواحد في إحدى مقابلاته عن موقف طريف حدث في مجلس الجواهري الذي كان يضمّ كبار الشعراء؛ فقال: كان كبار الشعراء يهابون أن يلقوا الشعر بين يدي الجواهري في مجلسه، فحدث يومًا أن دخل شاب متحمّسٌ إلى المجلس لا يعرفه منّا أحد ولا يعرفه الجواهري، ومن دون أن يستأذن بدأ يلقي قصيدة بين يدي الحاضرين، وكانت ركيكة ضعيفة، وعندما انتهى منها وقبل أن ينطق أحدنا بكلمة، بدأ بإلقاء قصيدة ثانية، فلمّا انتهى سأل الجواهري عن رأيه بما ألقاه من الشعر؛ فقال له الجواهري:
"يا بُنَيّ الشعراء ثلاثة؛ شاعر عظيم، وشاعر، وحمار، أنا شاعر، بقي شاعر عظيم وحمار فاقتسمهما أنت والمتنبّي كيفما تشاء!"
ومثل هذا كثيرٌ في كلام الأقدمين قبل المعاصرين، ومن طريف ما قيل في تقسيم الشعراء:
"الشعراء فاعلمنَّ أربعة
فشاعر يجري ولا يُجرى معه
وشاعر من حقه أن ترفعه
وشاعر من حقه أن تسمعه
وشاعر من حقه أن تصفعه".
فالشعراء ليسوا سواء لدى الناس وفي موازينهم، ويُنظر إلى قبول الناس للقصيدة وتصديقهم لما جاء فيها من مدح أو هجاء وفقا لقبولهم لقائلها وتصديقهم له في أحيان كثيرة، وبحسب موقفهم من المقول فيه في أحيان أخرى، وقد يخضع موقفهم لتقييم القائل والمقول فيه والمقول نفسه، لكن مما لا خلاف فيه أن للشعر فيما مضى سطوة كبيرة على أفهام الناس وآرائها، وقد قال ابن رشيق القيرواني متحدثا عن قوة الشعر وتأثيره الكبير في الناس:
"إنما قيل في الشعر: إنه يرفع من قدر الوضيع الجاهل مثل ما يضع من قدر الشريف الكامل، وإنه أسنى مروءة الدَّنيّ وأدنى مروءة السَّريّ"
ويفسر هذا القول بقدرة الشعر على رفع مقام الإنسان الخامل الذكر وتصديره، وفسر وضع الشعر للمرء وحطه من شأنه مستشهدا بالنابغة الذّبياني الذي مدح النعمان بن المنذر ملك المناذرة، وتكسّب بشعره عنده وتواضع له مدحًا واعتذارا، فحط من شأن نفسه وهو من أشرف بني ذُبيان ومن شعراء المعلقات المشهورين.
وذهب ابن قُتيبة في كتابه "الشعر والشعراء" إلى تقسيم الشعر إلى أربعة أضرب؛ أولها ما حسن لفظه وجاد معناه، وثانيها ما حسن لفظه وحلا، فإذا فتشته لم تجد هناك طائلا، وثالثها ما جاد معناه وقصرت ألفاظه عنه، ورابعها ما تأخر لفظه وتأخر معناه، وضرب مثلاً لكل نوع منها.