غزة في قلوب العُمانيين
تاريخ النشر: 9th, December 2023 GMT
د. سلطان بن خميس الخروصي **
sultankamis@gmail.com
خلال أكثر من سبعة عقود ونصف العقد شكلت القضية الفلسطينية مرتكزًا محوريًا نحو السيادة الاستراتيجية والحلم الخالد في سبيل الوحدة العربية، فمرّت هذه القضية بموجات ارتدادية متتالية وبقيت بين فرٍّ وكرٍّ لتشي بواقع هُلامي للمشروع العربي الوجودي، والذي تجسد آخره في الصمت المخزي تجاه الإبادة الإنسانية للأطفال والنساء والحياة في قطعة أرض لا تتجاوز (360 كم2) أُمطرت بعشرات الأطنان من أدوات القتل والتدمير والإبادة.
كل ذلك وسط تجاهل عربي مُخزٍ وتصفيق غربي منافق عن الديمقراطية والحُرية، وأمام كل هذا التعرِّي الأخلاقي والقومي والإنساني والديني ينبري الموقف العُماني المسؤول سلطاناً وحكومة وشعباً بعمق صناعة القرار السياسي والانتماء القومي الأصيل مع كثير من المُتغيرات والمساومات وتقلّب الأمزجة والأنظمة وازدواجية الولاءات والانتماءات الإقليمية والدولية، حيث التَّمسُك بالموقف الرزين المتين في تقييمه للحق العربي متضلّعاً بقاعدة الثوابت والأولويات، لتظل مواقفه خالدة يشدو برُبابتها التأريخ؛ فيَسمع أثيرها جموع الأُمم والشعوب، ليرشفوا من مَعِينِ جنائِنِها أُرجوزة المدنِّيَة والتحضُّر وصناعة السياسة واحترام الإنسانية وحق تقرير المصير.
نأت عُمان الخالدة بنفسها عن صخب ازدواجية المعايير وتمييع المفردات والمفاهيم، فسلطان البلاد المفدى وفي خطابه السامي أثناء افتتاح مجلس عُمان نجده يُشدَّد على موقف البلاد الثابت والحضاري بحق الشعب الفلسطيني بأرضه وسمائه، ويُجرِّم مجازر الصهيونية تجاه الحياة الإنسانية الكريمة، ليتناغم مع خطاب جلالته رسائل سماحة الشيخ أحمد الخليلي المفتي العام لسلطنة عُمان، والتي يبارك فيها أفعال المقاومة وحركات التحرر الوطنية والدعوة لمقاطعة الشركات الداعمة للصهاينة ومن عاونهم، ويوجه خطاباته ونداءاته لعلماء الأمة بأن يتحملوا ذنب صمتهم عند الله تعالى عن إزهاق الأرواح بدون وجه حق في غزة، ليكتمل بهاء الموقف العُماني المشرِّف شعبًا وحكومة من خلال دعوة عُمانية خالصة بمحاكمة دولية لمجرمي الحرب في غزة والتي جسَّدتها الصحافة العُمانية الرسمية والخاصة بكل مصداقية وجُرأة وشفافية عبر صفحاتها الأولى، ويكون للشعب ومؤسسات التنشئة الاجتماعية كلمتها الثابتة الراسخة جنبا إلى جنب مع سلطانها ومؤسسات الدولة والصحافة في المظاهرات الجماهيرية التي يقودها ثُلَّة من الشباب المؤمن بمبادئه والقابض على ثوابته كالقابض على الجمر، وغرس تلك السجايا في نفوس النشء عبر المؤسسات التربوية و تكريس ثقافة وقيمة الدفاع عن الوطن والتضحية من أجله، وتعزيز قيم الولاء والانتماء التي هي مكون رئيسي نصَّ عليه النظام الأساسي للدولة.
إنَّ الهجمة المستعرة في الفترة الأخيرة على الموقف العُماني الواضح والصريح والجريء في مناصرة القضية الفلسطينية، والدعوة لإنصاف الإنسان في قطاع غزة بحقه في الحياة الكريمة ووقف حمام الدم وآلة الموت الصهيونية المُستعرة لها مآرب واهية سمجة يقتات على فتاتها زُمرة مراهقة من مرتزقة المواقف والمصالح، فهم يعرفون تاريخ هذا البلد العظيم ومواقفه السيادية الرصينة في الكثير من القضايا القومية والعالمية، فما جرى تروجيه بأنه تعزيز لقيم العنف وخلق جيل متضلِّع بالكراهية تجاه القوميات والأديان الأخرى في إشارة إلى اليهود ما هو إلا تكريس لسياسة التطبيع والانبطاح في القيم والثوابت بعدما أتعبتهم الفلسفة السياسية والتربوية في القدرة على خلق جيل يحمل في صدره حب فلسطين وعروبتها وطيفها الديني القويم، لقد آلمتهم صلاة الجمعة التي ما فتأت تُذِّكر العالم بحق الحياة للفلسطينيين الذين أغرقوا أرضهم بدمائهم الزكية وصلاة الغائب على أرواحهم الطاهرة في ظل صمت عربي مُخيف والخشية حتى من رفع أكف الضراعة لله تعالى بأن ينصرهم ويرحم شهداءهم، عُمان ليست بحاجة لأنَّ تُعلِّمها الصُّحف الصفراء، ولا أن يقوِّم ويقيّم مواقفها صُغراء القلم وتُجَّار المواقف، ولا أن يوجَّه سفينتها الأقزام والقراصنة فهم رُبَّان البحار على مدار الزمان، بل هي تُلجم تلك الأفواه بالإرث التاريخي المُشرِّف تجاه القضايا العربية والإقليمية منطلقة في ذلك من إرثها الحضاري ومسؤوليتها الأخلاقية والإنسانية.
** باحث ومتخصص في الشؤون التربوية والاجتماعية والثقافية
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
أمل في الحياة
يعود علينا شهر رمضان محملا بنفحاته الإيمانية التي ينتظرها السواد الأعظم منا خلال هذا الشهر الكريم، الذي فرض صيامه على المسلمين، كونه يمثل محطة مهمة فـي سلوك العبادة الذي يمارسه المجتمع وأصبح قبلة الطائعين ومأوى السائلين لربهم العطايا، ويتحول ليله إلى ممارسة للعبادة وأيامه لقراءة القرآن والطاعات وصلة الرحم بين أفراد المجتمع، ولأنه شهر عبادة فأن الكثير من الممارسات التي يقوم بها الفرد يتطلع فـيها إلى رضوان رب العباد وإلى تعظيم حرمة هذا الشهر وتقديم كل ما يمكن من عمل إنساني يستفـيد منه الآخر.
هذا الشهر الكريم هو شهر الإنسانية والرحمة التي تعني أن يبادر فـيه الفرد المسلم إلى فعل الخير فـي المجتمع وإلى المساهمة فـي إعانة الآخرين الذين يحتاجون إلى مستلزمات حياتهم اليومية، لذلك تجد أن المبادرات الإنسانية أكثر فـيه من شهور العام، التي يراد لها أن تكون خالصة لوجه الله تعالى دون غيره.
ولأن هذه المبادرات الإنسانية التي نشهدها تتزايد من عام إلى آخر، فهي تمثل روح المجتمع وتكاتفه وتعاضده، وهو الذي حث عليه رب العزة والجلالة، فالبرامج التي تفك كرب الناس ومعاناتهم هي الهدف الأسمى والأوحد الذي يُراد منه أن يكون إنسانيا خالصا.
وقد نجحت هذه البرامج فـي مجتمعنا من إفطار صائم ومساعدة المعسرين ماليا كبرنامج «فك كربة» من الهبات والتبرعات ومساعدة الآخرين والتي كلها عن طريق الجمعيات الخيرية والمهنية والمبادرات الشخصية والعائلية ومؤسسات القطاع الخاص، الهادفة إلى حث الناس على المساهمة ولو باليسير المتوفر، التي فـي النهاية تفرج عن سجينا حُبس بسبب عدم قدرته على إيفاء مطالب الآخرين، أو أسرة منتجة تبحث عن بيع لمنتجاتها، أو محتاج إلى ترميم منزله، ولديه من أفراد الأسرة من الذين يحتاجون إلى مأوى صحي يليق بهم، أو من تكالبت عليه الديون.
لدينا فـي المجتمع العديد من هذه الحالات التي نحتاج إلى الالتفات إليها وأن نشعر بمعاناتها من عدم قدرتها على دفع فواتير الماء والكهرباء والاتصالات ومستلزمات الحياة، ومن يقبعون خلف الزنازين لعدم قدرتهم على الإيفاء بمطالب الآخرين، وإلى الذين صدرت بحقهم أحكام لا تترك لهم مجالا فـي البحث عن أعمال، ومن فئات الشباب الباحثة عن عمل لتسطيع البدء من جديد.
كل هذه الحالات تحتاج إلى إعادة النظر إليها، وإيجاد معالجات عصرية تحفظ كرامة الناس، وتعينهم على الحياة، وتفتح طريقا لهم نحو المستقبل، ومساعدة المعسرين فـي محنهم، فهؤلاء كلهم أبناء هذا الوطن وجميعنا مسؤولون عن حالتهم، وعلينا قبل كل شيء أن نستشعر معاناتهم.
وليس أفضل من رمضان يقربنا إلى هذه الحالات ويفتح لهم آفاقا ارحب فـي الحياة ، من خلال كل المبادرات التي تطرح، ولعل جمع كل الجهود التي تبذل فـي برنامج واحد تشرف عليه جهة واحدة مع دعم حكومي خاص لمعالجة عديد القضايا التي تنشأ، سيحقق المزيد من النجاحات، وسيعيد بناء ذلك الإنسان الذي يعاني من ظروف الحياة وشظفها، لنستطيع معا أن نجعله قادرا على البدء فـي استئناف بناء مستقبله، فالحياة لا تتوقف عند معضلة، بل لدينا من الإرادة أن نجعلها محطة نتجاوزها بتكاتف الجميع، خاصة أولئك الذين ينتظرون رمضان ليهبوا للآخرين أملا فـي الحياة.