في مواجهة هرتزل.. ماذا قدّم السلطان عبد الحميد للقدس وفلسطين؟
تاريخ النشر: 9th, December 2023 GMT
في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي، ظهرت "الحركة الصهيونية" بوصفها فكرة هدفت إلى إنشاء وطن قومي لليهود، وقد راجت الفكرة بين اليهود في أوروبا الشرقية والوسطى؛ إذ أرادوا الخلاص من العنصرية والعداوة التي كانت قد تملَّكت شعوب هذه المنطقة وحكوماتها تجاههم. وقاد هذه الحركة الصحفي النمساوي الشهير تيودور هرتزل (1860-1904م) الذي استطاع إقامة المؤتمر الصهيوني الأول في بازل بسويسرا عام 1897م، وكان حريصا فيه على إقناع أغنياء اليهود وذوي المكانة النافذة فيهم بضرورة أن يكون هذا الوطن القومي في فلسطين تحديدا، لا في الأرجنتين أو أوغندا اللتين اقترحهما البعض، ومن ثم تشجيع الهجرة اليهودية إليها، وتشكيل الجهاز الإداري للمنظمة وهو "الوكالة اليهودية" لتنفيذ هذه الأهداف، وجمع الأموال والتبرعات.
ولهذا الهدف كثَّفت الحركة الصهيونية من اتصالاتها بالدول الكبرى، واستغلت بصورة جيدة علاقاتها الواسعة مع قادة القارة الأوروبية، وعلى رأسهم القيصر الألماني وليام الثاني الذي كان على علاقة ممتازة بالسلطان العثماني عبد الحميد، وكان الأخير يتقرَّب من الألمان لتحديث الصناعات العسكرية، وإقامة المشروعات العملاقة مثل سكة حديد برلين-بغداد؛ في محاولة منه لصد التمدد البريطاني والفرنسي في المنطقة.
وقد استطاع هرتزل بالفعل من خلال أصدقائه المتنفذين إقناع الإمبراطور الألماني بأهداف الحركة الصهيونية، والتقى به بالفعل بعد عام من انعقاد مؤتمر الحركة الصهيونية الأول، وقد وجَّه القيصر الألماني كلامه لهرتزل قائلا: "قل بكلمة موجزة ماذا يجب أن أطلب من السلطان؟ فأجابه هرتزل: أن يسمح لنا السلطان إنشاء شركة ذات امتياز تحت الحماية الألمانية"[1].
وبالفعل في الاجتماع الذي ضم السلطان عبد الحميد والقيصر الألماني فيما بعد، عرض الأخير أفكار هرتزل وأصدقائه ومطالبهم، وكان رد السلطان سلبيا للغاية، وحين التقى الإمبراطور الألماني هرتزل بعدئذ في القدس قال له إنه -أي الإمبراطور- "يؤيد الجهود التي يبذلها اليهود للنهوض بالزراعة في فلسطين ما دام اليهود يحترمون السيادة العثمانية ويدينون بالولاء للسلطان العثماني"[2].
كانت الرؤية الإستراتيجية لألمانيا في ذلك التوقيت، وفي ظل الصراع والتنافس العالمي بين بريطانيا وفرنسا وألمانيا وروسيا والنمسا-المجر، تتمثل في ضمان وحدة الدولة العثمانية وسلامة أراضيها واستمرارها في وجه القوى الاستعمارية الطامعة فيها، خصوصا البريطانيين والفرنسيين. ولهذا السبب اقتنع الإمبراطور وليام الثاني برفض السلطان عبد الحميد مطالب الصهاينة، ولهذا السبب دعا زعماء الحركة الصهيونية إلى الانصياع التام لهذه الرؤية.
في المقابل، أدرك هرتزل الثوابت الإستراتيجية لألمانيا في ذلك التوقيت، وأنها عائق أمام أحلامهم؛ ولهذا السبب أعلن أن مطالب الحركة الصهيونية لن تتوقف عند ما يريده الألمان ويسعون إليه وإنما ستتجاوزه، وكانت أولى خطواته الجديدة بعيدا عن الألمان سعيه إلى ترتيب لقاء مباشر مع السلطان عبد الحميد لتقديم عرض مغرٍ له في ظل الأزمات المالية التي كانت تواجهها الدولة العثمانية وقتذئذ. وفيما بين عامي 1896-1902م زار هرتزل إسطنبول خمس مرات، نجح في إحداها في مقابلة السلطان عن طريق وساطة صديقه اليهودي النمساوي نيولنسكي الذي كان صديقا للسلطان عبد الحميد[3].
عبد الحميد يطرد هرتزلعرض هرتزل عبر وسطاء أن تردَّ بريطانيا جزيرة قبرص التي احتلتها سنة 1878م إلى الدولة العثمانية، وأن تسعى الحركة الصهيونية بكل قوة لإيقاف الدعم الأوروبي للقضية الأرمنية التي أخذت تهدد وحدة الدولة العثمانية في شرقي الأناضول، ولم يقبل السلطان بهذه العروض أيضا. ورغم ذلك، نجح هرتزل بعد وساطات أخرى في لقاء السلطان عبد الحميد، وذلك في 18 مايو/أيار 1901م. وفي ذلك اللقاء الذي سجّله هرتزل في مذكراته قال السلطان عبد الحميد بوضوح تام: "إنني لن أسير أبدا في هذا الأمر، لا أقدر أن أبيع ولو قدما واحدة من البلاد لأنها ليست لي، بل لشعبي، ولقد حصل شعبي على هذه الإمبراطورية بإراقة دمائهم، وقد غذُّوها فيما بعد بدمائهم، وسوف ندافع عنها بدمائنا قبل أن نسمح لأحد باغتصابها منا"[4].
ورغم أن رد السلطان عبد الحميد كان قاطعا وكافيا، فإن هرتزل لم يتوقف عند محاولاته المتكررة بتقديم عروض أكثر إغراء لعل السلطان يلين ويسمح ببيع فلسطين، فقدم عرضا ماليا مُغريا وهو مبلغ 5 ملايين ليرة ذهبية (نحو 1.5 ملايين جنيه إسترليني)، قائلا إن اليهود "يستعطفونكم للهجرة إلى فلسطين المقدسة، ولقاء أوامركم العالية الجليلة، نرجو التفضل بقبول هديّتهم خمسة ملايين ليرة ذهبية"[5].
منذ انطلق المؤتمر الأول للحركة الصهيونية في بازل بسويسرا، كان السلطان يتابع نشاط الحركة من خلال مخابراته ورجاله في أوروبا، وعلى الأخص كبار قادة الحركة مثل هرتزل وبعض الكتاب الصحفيين والحاخامات ورجال الأعمال. وقد أدرك خططهم وأهدافهم بعيدة المدى، ومن ثم في لقاء ثانٍ طرد السلطان هرتزل ومَن معه، وذكر عبد الحميد تفاصيل اللقاء في مذكراته التي جاء فيها: "لليهود قوة في أوروبا أكثر من قوتهم في الشرق، ولهذا السبب فإن أكثر الدول الأوروبية تحبذ هجرة اليهود إلى فلسطين لتتخلص من العِرق السامي الذي زاد كثيرا… لذلك، علينا أن نقف في وجه فكرة توطين المهاجرين في فلسطين.. لن يستطيع رئيس الصهاينة هرتزل أن يقنعني بأفكاره.. إنه يسعى لتأمين أرض لإخوانه اليهود بممارسة الزراعة في فلسطين"[6].
ماذا قدم السلطان عبد الحميد للقدس؟كانت فكرة الحركة الصهيونية وهجرة اليهود لفلسطين قد سبقت مؤتمر الحركة بعقدين على الأقل، حيث كانت هناك هجرة شبه نظامية لليهود منذ عام 1882م، لا سيما بعد اتهام يهود روسيا بالتورط في اغتيال القيصر الإسكندر الثاني وتعرضهم للتضييق في دول أوروبا الشرقية بعدها. ورغم ذلك، لم تتعد نسبة المهاجرين إلى فلسطين 2% من إجمالي تلك الهجرات اليهودية وقتها، ورغم ضآلة هذه النسبة انتبه متصرف القدس العثماني لهذه الهجرات، فأرسل إلى إسطنبول حيث ردَّت عليه الحكومة العثمانية بعدم السماح لليهود بالاستيطان في فلسطين[7].
وقد احتال اليهود على هذا القرار بدخولهم حُجَّاجا إلى بيت المقدس ثم البقاء لفترات أطول من مدة التأشيرات التي كانوا يحصلون عليها من القنصليات العثمانية، ثم كانوا يطلبون الحماية من الدول الأوروبية وعلى رأسها بريطانيا وفرنسا، بموجب قانون قديم سمح لهذه الدول وغيرها ببسط حمايتها على الأقليات الدينية داخل الدولة العثمانية. وفي مواجهة ذلك، فرض السلطان قيودا إضافية على دخول اليهود، وأصدر في إطار ذلك عدة فرمانات، فجاء في فرمان عام 1884م لمتصرف "والي" القدس العثماني بأن الحُجاج اليهود يمكنهم دخول أراضي متصرفية (مقاطعة) القدس فقط إذا كان بحوزتهم جوازاتهم التي تحمل التأشيرة العثمانية، وعند دخولهم يدفعون تأمينا لضمان رحيلهم بعد 30 يوما.
وفي عامي 1890م و1891م صدرت ثلاثة فرمانات سلطانية، أولها يقضي بطرد المهاجرين اليهود إلى أميركا لأن من شأن وجودهم إنشاء حكومة يهودية في القدس مستقبلا، وثانيها يقضي بعدم إسكان اليهود في فلسطين لضررهم، أما الثالث فحذَّر من أن هجرة اليهود وعملهم في الزراعة يهدف إلى إقامة دولة يهودية والإضرار بمصالح السكان الفلسطينيين. ولهذا السبب جاءت الأوامر لمتصرف القدس عام 1892م بمنع بيع الأراضي الميرية (أراضي الدولة العثمانية) في فلسطين لليهود حتى ولو كانوا رعايا عثمانيين[8].
في الوقت نفسه، حرص السلطان عبد الحميد على دعم القدس والمقدسيين بكل الطرق الممكنة، كما فتح الباب أمام الطلبة المقدسيين للالتحاق بالمدارس والجامعات العثمانية، لا سيما جامعة إسطنبول. وهناك أمثلة على ذلك، منها الطبيب حسام أبو السعود الذي أتمَّ الدراسة في أواخر القرن التاسع عشر، واشتهر بعلاجه للمقدسيين الفقراء، بل وتزويدهم بالأدوية مجانا، ومثل علي النشاشيبي الذي درس الطب البيطري في الجامعة ذاتها، وكذلك درس نظيف الخالدي الهندسة في عصر السلطان عبد الحميد وقد أسهم لاحقا في إنشاء سكة حديد الحجاز[9].
يذكر مؤرخ القدس وفلسطين "عارف العارف" العديد من المنشآت التي أقامها السلطان عبد الحميد في القدس، وعلى رأسها خط سكة حديد القدس–يافا بطول 87 كيلومترا، الذي استمر العمل فيه ثلاث سنوات بين عامي 1889-1892م، حيث سهَّل انتقال المقدسيين وأدى إلى ازدهار الاقتصاد المحلي في المدينة التي أصبح الانتقال إليها أكثر سهولة من مواني يافا على البحر المتوسط. كما حرص عبد الحميد على الاهتمام بالبنية التحتية في المدينة المقدسة، حيث رفع البلاط القديم من شوارعها وأزقتها عام 1885م ووضع بدلا منه بلاطا استمر وجوده حتى سبعينيات القرن العشرين كما يذكر العارف[10].
ومن أهم المنشآت الأخرى التي أنشأها عبد الحميد في القدس المستشفى البلدي عام 1891م، الذي أُقيم في حي الشيخ بدر غربي المدينة، وشبكة الهاتف التي شيَّدها بمعاونة المهندسين المقدسيين عام 1905، كما أنشأ برج الساعة فوق باب الخليل سنة 1909م. ولئن أسهم السلطان سليمان القانوني في حل مشكلة توفر المياه في القدس عبر "بركة السلطان" التي أمدت المدينة بالمياه طوال العام، مع العديد من الأسبلة المائية في القدس التي تناولناها في مقال سابق بعنوان "في عصر السلطان سليمان القانوني"؛ فإن حفيده السلطان عبد الحميد حرص على ترميم الأسبلة القديمة وإنشاء أخرى جديدة. ففي عام 1907م، قرر السلطان عبد الحميد إنشاء سبيل باب الخليل الملاصق لسور المدينة الذي هدمه الإنجليز بعد احتلالهم القدس سنة 1917م، كما جدد عبد الحميد عمارة السبيل الكبير في الحرم القدسي، وكذلك سبيل باب القطانين ودرج الصخرة من الغرب، وسبيل السلطان المملوكي قايتباي[11].
وهناك مشاريع أخرى تنموية حرص عبد الحميد على إنشائها في القدس مثل نقل مياه قرية أرطاس الواقعة على مسافة 12 كيلومترا جنوب المدينة لمواجهة سنوات الجفاف، لا سيما بعد ازدياد عدد السكان فيها. والشيء اللافت أن الإنجليز حوَّلوا هذه المياه عن القدس سنة 1925م. وقد اهتم السلطان عبد الحميد كذلك بالمنشآت الدينية في المدينة، وعلى رأسها المسجد الأقصى ومسجد قبة الصخرة، حيث جُدِّد بُنيانه وفُرشه، وكذلك المنشآت التعليمية، حيث أمر واليه على القدس أحمد رشيد بك سنة 1906م بإنشاء المدرسة الرشيدية[12].
وهكذا رأينا أن محورين أساسيين شغلا السلطان عبد الحميد الثاني فيما يتعلق بالقدس طوال فترة حكمه التي امتدت بين عامي 1876-1909م، الأول هو وقوفه حائط صد قويا أمام الأطماع الصهيونية في فلسطين، حيث قاوم مغرياتهم المالية بشدة في وقت كانت الدولة العثمانية تتعرض فيه لأزمات اقتصادية وسياسية عاصفة، وكان المحور الثاني حرصه على الإنشاء والتعمير والترميم في منشآت المدينة المقدسة، وكذلك احتضان العديد من شبابها النابهين في الجامعات العثمانية وعلى رأسها جامعة إسطنبول.
_________________________________________________
المصادر
[1] رجاء جارودي: فلسطين أرض الرسالات السماوية ص115. [2] The Jewish Encyclopedia, Vol 12 P677. [3] سمير أبو الرب: وثائق أساسية في الصراع العربي الصهيوني 1/128، 158. [4] سمير أبو الرب: السابق نفسه. [5] أحمد نوري النعيمي: اليهود والدولة العثمانية ص139. [6] عبد الحميد الثاني: مذكراتي السياسية ص34، 35. [7] عبد العزيز محمد عوض: مقدمة في تاريخ فلسطين الحديث ص48، 49. [8] وليد صبحي وعمر صالح: إجراءات الدولة العثمانية لمنع التسلل الصهيوني إلى متصرفية القدس ص110. [9] بشير بركات: القدس الشريف في العهد العثماني ص136، 137. [10] عارف العارف: المفصّل في تاريخ القدس ص303. [11] عارف العارف: السابق ص306. [12] عارف العارف: السابق ص307، 308.المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: عبد الحمید الثانی الدولة العثمانیة الحرکة الصهیونیة ولهذا السبب وعلى رأسها فی فلسطین فی القدس لا سیما
إقرأ أيضاً:
عادات وتقاليد رمضان بالقاهرة في العصر المملوكي
يُعتبر العصر المملوكي في مصر (1249: 1517) من أزهى العهود التي شهدت إحياء سلاطين المماليك للفنون والعمارة وحب العلم والعلماء والميل إلى التقوى والورع وحب الخير والتقرب إلى الله بكثرة الأعمال الخيِّرة كبناء المساجد والمآذن ودور العلم والزوايا والأضرحة وأماكن تناول الطعام للفقراء «الخنقاة»، والمشافي والمصحات. وأظهروا كذلك ذوقًا رفيعًا في العمارة والتحف والفنون بكل أشكالها تفوقوا فيها على الدول الأوروبية، ولهذا يُعَد عصر المماليك من أمتع العصور في تاريخ مصر لما اتصف به من الغرائب واحتوى عليه من المتناقضات.
وفي عهد المماليك بلغتِ العناية بالاحتفال بشهر رمضان حدًّا لا يُوصف تفوقوا فيه على مَن سبقهم وجاء بعدهم بسبب كثرة العادات والتقاليد المرتبطة بالشهر الكريم حتى كانت ليالي رمضان غاية في الأبهة والفخامة. وقد وُصفت مصر في عهدهم بسحر الشرق، لأنه كان عصر العلم والفن والأدب، بل عصر التدين لاهتمام سلاطين المماليك ومنهم قايتباي وبيبرس وبرقوق وقنصوه الغوري وأبو الدهب وغيرهم من السلاطين والأمراء والموسرين بالاحتفال بالمناسبات والأعياد الدينية. وتدل العمارة التي تركوها على عظمة هذا الفن وذوقه الرفيع في حينه، وقد اهتم المماليك بالمظاهر الاجتماعية وعرفوا حياة الترف والنعيم والبذخ حتى جاءت احتفالاتهم بمظاهر رائعة وبخاصة في شهر رمضان كاستطلاع الهلال عندما كان يجتمع الفقهاء من خلال منارة مدرسة المنصور قلاوون بالنحاسين وعند ثبوت الهلال يعودون مع المقربين من أصحاب المهن والطوائف حاملين الفوانيس والشموع التي تتزين بها القاهرة بأزهى أنواع الزينات ثم تُعلن الطوائف الصيام، وبعدها يجلس السلطان في الميدان تحت القلعة ويتقدم إليه القضاة الأربعة الحنفية والشافعية والمالكية والحنابلة وكبار رجال الدولة لتهنئته بدخول شهر رمضان.
وقد ارتبط شهر رمضان في عهد المماليك بالكثير من المظاهر الاحتفالية ومنها إقامة المراسم الدينية وإحياء الليالي في الأضرحة ولدى الأولياء وإقامة ليالي السهر وانتشار التزاور بين الناس وانتشار الأطعمة المميزة التي كانوا يُعِدونها لهذا الشهر كالكنافة والقطايف، وكانتِ الحلوى الرمضانية تباع بأنواعها المختلفة في سوق الحلاوين، وتباع الشموع في سوق الشماعين، وإعداد السحور ومدفع الإفطار ورؤية الهلال والاحتفال الخاص بليلة القدر التي كان يقام لها احتفال كبير يحضره السلطان أو الوالي والقضاة والعلماء ومشايخ وطلاب الأزهر ويتم خلالها توزيع الجوائز. ويُؤْثر عنهم أنهم أول مَن فكر في قراءة صحيح البخاري من اليوم الأول في رمضان بالجامع الأزهر ويتم ختمه في العشر الأواخر من الشهر الكريم أو في ليلة العيد يحضره السلطان والقضاة الأربعة ويتم توزيع الخلع والهبات على العلماء والفقهاء وطلبة الأزهر والأيتام والأرامل والمرضى والمهاجرين.
ويقال أيضًا إنهم أول من رصدوا في حجج أوقافهم العقارات والأطيان الزراعية وخصصوا من ريعها جزءًا للصرف منه في شهر رمضان على وجوه البر والإحسان وتعمير المساجد ولإقامة الشعائر الدينية ومساعدة الفقراء والأرامل والأيتام، ثم جزءًا آخر للأئمة وخطباء المساجد وطلبة العلم ومشايخ التصوف. كما اعتاد سلاطين المماليك إعتاق ثلاثين عبدًا في رمضان، وكانوا أول مَنِ استخدم المشكاوات التي تميزت بالفن والثراء الزخرفي الذي لا يضاهيه فن في الإضاءة ليلاً وبخاصة إضاءة المساجد طوال ليالي شهر رمضان، وقد اشتُق اسم مشكاة من القرآن الكريم. وخلال الشهر الكريم عبر عهود المماليك كانت تُقدَّم كميات كبيرة من الأطعمة والمأكولات المختلفة وتقدم إلى الشعب كالدقيق والسكر والياميش والذبائح التي كان يتم توزيع معظمها على الفقراء والمساكين، وكانت تنتشر خلال الشهر الكريم أيضًا الأسمطة وموائد الرحمن أمام المساجد وفي بيوت الأمراء من أجل الفقراء. ومن أشهر السلاطين الذين ضربوا مثالاً في الخير وحب الإنفاق السلطان بيبرس والسلطان برقوق الذي كان ميَّالاً للبر والإنفاق ويوزع الذبائح على الفقراء والمحتاجين، وقد بلغت كمية السكر التي قُدمت من جانب السلطان محمد ابن قلاوون سنة 775 هجرية 3000 قنطارًا تم توزيعها على الفقراء والمحتاجين ليصبح المماليك (ورثة الدولة الأيوبية ومن قبلها الفاطمية) أشهر مَن أدخل الكثير من المظاهر الاحتفالية للمناسبات الدينية في مصر وبخاصة في شهر رمضان، ظل الكثير منها باقيًّا في مصر وبخاصة في القاهرة وأحيائها التراثية والشعبية إلى يومنا هذا.