في الثعالب والدجاج.. الأوليغارشية والقوة العالمية في مجلس الأمن.. قراءة في كتاب
تاريخ النشر: 9th, December 2023 GMT
ما زالت صورة كولن باول يتحدث عن أسلحة الدمار الشامل في العراق في 2003 تقبّح وجه الإدارة الأمريكية، وحتى لا يحتكر الإدارة "الجمهورية" المشهد، نرى اليوم صورة بلينكن وبايدن (الديمقراطيان!!) يتحدثان عن رؤوس أربعين طفلا مقطوعة، في فوتوشوب تمت فبركته بإتقان من منظمة "زاكا" وشركائها، لتبقى هذه الصورة تقبح وجه الإدارة الأمريكية بعد عشرين عاما.
من وجهة نظري الشخصية، ومن وجهة نظر التحليل النفسي أيضا، ليست هذه الصور المفبركة هي التي حددت موقف الإدارة الأمريكية من الحرب على غزة، ولا أظن هذا الفيلم يرتقي حتى إلى مستوى دغدغة مشاعر مسؤولين لا مشاعر عندهم أساسا، في بلد اعتبرت إداراته المتعاقبة منذ بداية القرن، أن الحرب جزء أساسي من استراتيجية البقاء على رأس نظام عالمي سقطت أسنانه وشاب شعره وفقد أهم أركان المناعة الذاتية، التي نصبته سيدا للعالم منذ سقوط الاتحاد السوفييتي ومنظومة حلف وارسو.
وهو يرى في إسرائيل، ولو كان على رأسها نتنياهو وبن غفير، آخر القواعد الاستيطانية الاستعمارية في شرقي المتوسط، وكما قال أكثر من مسؤول صهيوني أمريكي: "عندما تخلينا عن نظام الأبارتايد في جنوب إفريقيا تحّول هذا البلد إلى قيادة مواجهة نفوذنا في القارة الإفريقية كلها"... قالها صهيوني فرنسي أيضا بطريقة أخرى ووقاحة مشابهة: "ما تسمونه نزع الاستعمار أعاد الأقدام السوداء لفرنسا ومعهم ملايين من المهاجرين المغاربة وجعلنا نستجدي السعودية وقطر بل حتى أذربيجان النفط والغاز، فرنسا حتى عام 1960 كانت دولة منتجة للنفط"...
إنه الحنين المفتقد لإدارة التوحش الذي يغذي التيارات الشعبوية على اختلافها، ويضع الناخب الأمريكي بعد أقل من عام من جديد، أمام الاختيار بين الكوليرا والطاعون، أي الغياب الكامل للأفق..
أرسلنا الطبعة العربية لكتاب المفكر والحقوقي الأمريكي جيمس بول إلى المطبعة قبل ثلاثة أيام من المشهد الدرامي لجلسة مجلس الأمن في الثامن من كانون أول / ديسمبر 2023، وتابعت مباشرة نقاشات المجلس الذي التئم لقيام السيد الأمين العام غوتيرس، لأول مرة منذ توليه منصبه، بمواجهة مفتوحة مع السياسة الأمريكية، باستعمال مادة تسمح له بتقدير خطورة المذابح اليومية بحق الفلسطينيين باعتبارها تشكل خطورة على السلم والأمن العالميين.
لم تستطع الثلاثية المعروفة باسم P3 (أي الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وفرنسا) أن تبقى على تماسكها، فرنسا أيدت القرار، بريطانيا امتنعت عن التصويت، أما نائب المندوبة الأمريكية فرفع سلاح الفيتو في وجه شبه إجماع عالمي. بعد هذا القرار، ووصول مئتي طائرة دعم بالمؤن العسكرية وأسطول مقابل شاطئ غزة ومليارات الدولارات العاجلة وخبراء يشاركون غرفة الحرب الإسرائيلية القرار، هل من المجحف أو التجني الحديث عن "الحرب الإسرائيلية ـ الأمريكية على قطاع غزة"؟
كان جيمس يول قد رأى ذلك منذ الحرب اليوغسلافية، ثم في 2003 حين حرر كتابا تُرجم إلى عدة لغات بما فيها العربية: "الحرب والاحتلال في العراق"، ورصده عبر أهم كتاب نقدي لمجلس الأمن في كتاب: "في الثعالب والدجاج: الأوليغارشية والقوة العالمية في مجلس الأمن" الذي صدر في 2017.
تأخرت الترجمة العربية للكتاب بسبب جائحة كورونا وآثارها. ثم ذكّرتنا الحرب في أوكرانيا بأهمية الكتاب التي لا تتناقص، كدراسة للصراع العالمي من أجل الهيمنة والثمن الباهظ الذي يدفعه الناس العاديون.
حددنا تاريخ إصدار هذه الطبعة في 12 أكتوبر 2023. وبعد السابع من أكتوبر، قررنا تأجيل الطباعة من جديد. حيث كثفت حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة من جديد، بتفاصيل غنية، الضعف البنيوي لمجلس الأمن وكشفت حجم الافتراءات التي تحمي سمعته عادة. وكما كانت الحال في حرب العراق والعديد من الصراعات الأخرى، كان المجلس مجرد دراما مسرحية تافهة، أمام جريمة إبادة جماعية موصوفة الأركان، سجيناً من قِبَل أقوى أعضائه، عاجزا عن إدانة همجية نظام الأبارتايد الإسرائيلي، أو تأمين الحد الأدنى مما يسميه ميثاق الأمم المتحدة "صون السلام والأمن الدوليين".
خص الكاتب الكبير الطبعة العربية بمقدمة جديدة "ما وراء الثعالب والدجاج" مطولة ومزيدة كتبها خصيصا لقراء العربية.
عند صدور كتاب جيمس أ. بول "في الثعالب والدجاج: الأوليغارشية والقوة العالمية في مجلس الأمن"، طلبتُ منه المشاركة في ندوة نظمها المعهد وحضر إلى جنيف للحديث عنه.
قلت في الندوة يومها، "مجلس الأمن يحمل صفات السلطة التوتاليتارية (الشمولية) بكل تفاصيل تعريف الفيلسوفة حنه أرندت للكلمة". فاعترض سفير دولة دائمة العضوية على ما قلت، فاستشهدت بجملة من الكتاب يقول فيها جيمس بول: "يُنتج المجلس القانون الدولي، ويطبقه، ويحكم على من يتهمه بخرق القانون الدولي. إنه هيئة تشريعية وتنفيذية وقضائية معاً ـ مزيج خطير."، فتدخل بالقول: "وهل تريده أن يتقاسم حل مشكلات مصيرية مع ممثلي دول صغيرة غير قادرة على دفع أجرة مقر بعثتها في نيويورك"! فقلت له: لا تحتاج إجابتك إلى أي تعليق".
جاءت "الحرب على الإرهاب" لتطعن الحركة الحقوقية العالمية خنجرا في الصدر، توقف الحديث عن إصلاح الأمم المتحدة، وألغيت عمليا عشرية المنظمة الدولية "لإعلاء ثقافة اللا عنف والسلام لصالح أطفال العالم (2001-2011)"، وتوقفت الجهود الغنية لتطوير مفهوم "الأمن الإنساني"، وجرت عولمة حالة الطوارئ في "انتصار" للحرب والأمن القومي على الحقوق والعدالة والسلام، انتصار أشد من الهزائم عارا.كنت شخصيا مع جيمس بول في العقد الأخير من القرن الماضي في صلب تحرك مدني دولي لإصلاح الأمم المتحدة. وأذكر أنه في مناسبة الذكرى الخمسين لولادة الأمم المتحدة، كنت يومئذ نائبا لرئيس الفدرالية الدولية لحقوق الإنسان وكان جيمس بول مديرا لأول مكتب للفدرالية وراء الأطلسي، طلبتُ أن يتضمن بيان الفدرالية حديثا واضحا حول العطب وهيمنة مجلس الأمن وضرورة الإصلاح بداية من إلغاء ما يسمى بحق النقض "الفيتو".
وقف المدير التنفيذي، وهو غير منتخب، وليس له حق التصويت، بشدة ضد اقتراحي، في حين انضم لي غير الفرنسيين في القيادة. فنظر المدير التنفيذي إلى رئيس الفدرالية "الفرنسي" وقال له: سيخلق لنا هذه الموضوع مشكلة كبيرة، لا تسألني بعدها لماذا أوقف الاتحاد الأوربي مساعداته لنا؟ كان الموقف الفرنسي الرسمي ضد أي إصلاح يمس مجلس الأمن. ففرنسا وبريطانيا مجتمعتين لا تمثلان أكثر من 2% من سكان كوكبنا، ولهما 40% من القرار في مجلس الأمن.
نظر إليّ رئيس الفدرالية قائلا: يمكنك أن تكتب ما تشاء حول إصلاح مجلس الأمن والأمم المتحدة لكن باسمك الشخصي. فضحكت وبقيت في الاجتماع صامتا دون أية مشاركة حتى في الفقرات الأخرى للبيان.
جاءت "الحرب على الإرهاب" لتطعن الحركة الحقوقية العالمية خنجرا في الصدر، توقف الحديث عن إصلاح الأمم المتحدة، وألغيت عمليا عشرية المنظمة الدولية "لإعلاء ثقافة اللا عنف والسلام لصالح أطفال العالم (2001-2011)"، وتوقفت الجهود الغنية لتطوير مفهوم "الأمن الإنساني"، وجرت عولمة حالة الطوارئ في "انتصار" للحرب والأمن القومي على الحقوق والعدالة والسلام، انتصار أشد من الهزائم عارا.
كان الحصار على الحركة كبيرا ووسائل الضغط والإكراه ثقيلة، إلا أنه لم يتمكن من "ديناصورات" المقاومة المدنية على الصعيد العالمي، ومن هؤلاء وفي مقدمتهم الأمريكي جيمس أ. بول الذي حرص على إتمام ما بدأ، من تفكيك لسلطات مجلس الأمن التعسفية، ودكتاتوريته المعلنة على رؤوس الأشهاد، أو كما كان يقول الفقيد، سيرجيو ديميلو، الدكتاتورية الوحيدة التي تدافع عنها الديمقراطيات الغربية باعتبارهم لها "دكتاتورية الضرورة".
على منهج "ما قل ودل" وفي قرابة المئة وخمسين صفحة، يستعرض جيمس أكثر من 75 عاما من تاريخ مجلس الأمن. ومن أقدر منه على ذلك، وقد استقر أكثر من عشر سنوات في شقة مقابلة لمقر الأمم المتحدة، باحثا ومناضلا وصوتا لأكثر من 32 منظمة دولية (منها اللجنة العربية لحقوق الإنسان والمعهد الإسكندنافي لحقوق الإنسان)، في أهم المعارك الحقوقية في الثلاثين عاما الأخيرة. ورغم الحصار الإعلامي الغربي، تُرجمت أهم تقاريره وكتبه للغات عديدة. تحدث عن "سوريا بدون قناع"، عن النتائج الكارثية للعقوبات، عن "الحرب والاحتلال في العراق"، وحرصنا على نقل أعماله إلى العربية.
في هذا الكتاب، الصادر عن المعهد الإسكندنافي لحقوق الإنسان ومنشورات زمكان، يكشف جيمس بول خفايا الغرفة السوداء لمجلس الأمن، بمعلومات موثقة يصعب الرد عليها من محامي المجلس. يعدد بشكل موثق إخفاقاته الكبيرة وأثرها على السلم والأمن الدوليين. ويبرز في الوقت نفسه، أهمية وجود هيئة دولية تعاونية لبناء العدالة والسلام والأمن على الصعيد العالمي.
لأهمية هذا العمل، وفي وضع دولي جعل من الصعب على الضحايا شراء قوتهم اليومي، فكيف بهم في شراء كتاب، قرر المعهد الإسكندنافي لحقوق الإنسان تزويد كل من يطلب نسخة إلكترونية مجانية وقررت منشورات زمكان المسؤولة عن الطباعة الورقية بيع الكتاب بتكاليف الطباعة.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي أفكار كتب تقارير كتب مجلس الأمن كتاب امريكا مجلس الأمن كتاب عرض كتب كتب كتب كتب كتب كتب أفكار أفكار أفكار سياسة سياسة أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان فی مجلس الأمن أکثر من
إقرأ أيضاً:
بهاء طاهر يعيد قراءة النهضة العربية!
(1)
... وما زلنا مع إضاءات بهاء طاهر الثقافية والفكرية والنقدية (أو بالجملة طرح قراءة في كتاباته غير الإبداعية) وهو الجانب الذي لم يحظ بالاهتمام والقراءة والتحليل، مثلما حظيت أعماله الروائية والقصصية الرائعة، ويبدو أن هذا الأمر يشكل "ظاهرة" في سياق الثقافة العربية الحديثة، فجل الاهتمام ينصب على الأعمال الإبداعية الخالصة للكتاب المبدعين، وأقلها -وربما ندرة منها- ينصب على جهودهم الأخرى خارج دائرة الإبداع الخالص..
حدث هذا مع المنفلوطي، وأحمد شوقي، وحافظ إبراهيم، في عصور الإحياء، وحدث مع توفيق الحكيم، ويحيى حقي، ونجيب محفوظ، ويوسف إدريس، فيما بين العشرينيات والخمسينيات، ومع صلاح عبد الصبور الذي تركز الدرس كله والبحث كله على دواوينه الشعرية ومسرحياته، ولم يُلتفت في الأغلب الأعم إلى أعماله وكتاباته "النثرية" التي جاءت وحدها في أحد عشر مجلدا شملت أعماله وكتاباته الصحفية والنقدية والسياسية والتاريخية وفي السيرة الذاتية وفي المسرح والسينما! وهلم جرا!
على كل حال، سنقف في هذه الحلقة على كتابٍ غاية في الأهمية والقيمة والنظر لبهاء طاهر، صدرت طبعته الأولى عن سلسلة كتاب الهلال سنة 1993، وصدرت طبعته الأخيرة عن دار الشروق بالقاهرة قبل سنواتٍ قليلة من رحيل بهاء طاهر بزياداتٍ طفيفة، يقول صاحب «خالتي صفية والدير» في ختام الطبعة الأخيرة التي صدرت في حياته عن (دار الشروق):
"ومع أن سنين كثيرة قد مضت منذ ظهور الطبعة الأولى في عام 1993، فلم أشعر أنني بحاجة إلى تغيير شيء مما ورد فيه. فما زلتُ مقتنعًا بفكرته الأساسية، وأتمنى أن يقتنع بها غيرى. لم أحذف سوى بعض الأخطاء التي ظهرت في الطبعة الأولى، وأهمها -للغرابة- كانت إضافة عبارات لم أكتبها ولم أستَشَر بشأنها. كنت وقتها مقيمًا خارج الوطن في جنيف، وربما كان هذا عذرًا للقائمين على طباعة الكتاب حينها لعدم تمكنهم من الاتصال بي، واستشارتي بشأن هذه الإضافة"!!
(2)
ربما يكون أدق وصف لهذا الكتاب، ما وصفه به صاحبه من أنه "صعود الدولة المدنية وانحسارها"؛ إذ يطرح فيه صاحبه "رؤية مثقف مصري وعربي" معاصر لمسيرة التنوير والنهضة منذ الطهطاوي، ومرورا بطه حسين وتوفيق الحكيم ويحيى حقي، ووصولًا إلى جيل يوسف إدريس، وجيل الستينيات الذي كان بهاء طاهر نفسه ينتمي إليه.
والجزء الأول منه؛ مكرس لبيان خُطى التقدم التدريجي لخروج مجتمعنا من ظلام العصور الوسطى إلى أنوار الحداثة والحرية. وحاول الكتاب أن يبين الأدوار التي لعبها المثقفون لإحداث هذه النقلة التاريخية على امتداد قرن ونصف القرن من الزمان تقريبًا. أما الفصول الأخيرة من الكتاب فتعرض خُطى التراجع التدريجي والمنظم لمشروع "النهضة" ذاك، بغية العودة من جديد إلى المنظومة الفكرية للدولة العثمانية "التي يتغزل بها الآن كثيرون على غير علم، رغم أنها قد أشفت بمصر على الهلاك كما يبين هذا الكتاب"، بحسب مؤلف الكتاب.
وعبر فصول الكتاب، وموضوعاته ومعالجاته الرصينة القيمة، يرصد بهاء طاهر "العلاقة بين الثقافة والحرية" أو بتعبير أدق -كما يوضح طاهر نفسه- تدور فصول الكتاب بأكملها حول "ثقافة الحرية"، منطلقًا من أن قيام الدولة المصرية "الحديثة" على يد محمد علي باشا، قبل ما يزيد قليلًا على قرنين من الزمان، قد أنقذ هذا الوطن (بالمعنى العربي والقومي) من الهلاك الفعلي والاندثار الذي لحق شعوبًا أخرى، ويرى أن المثقفين قد لعبوا أهم الأدوار في إحداث التغيير الفكري الذي قاد مصر، ومعها العالم العربي خطوة خطوة، رغم الهزائم والانكسارات، لتصبح في كل مرحلة أفضل مما كانت عليه من قبل.
يقول صاحب «واحة الغروب»: "وأنا أفهم أن هذا القدر من التقدم الذي حققناه خلال تلك الفترة الوجيزة لا يرضينا الآن على أي نحو، وأن الفرق بين التوقعات والواقع ما زال شاسعًا، وأنه ما زال علينا أن نفعل الكثير.. كل ذلك حق، فأما القول بأننا كنا نعيش عصرًا ذهبيًا قبل قيام الدولة الحديثة، ثم جاءت هذه الدولة لتدخلنا في ثقافة «التبعية» و«الاستعمار»، فهو قول أبسط ما يقال عنه إنه يجهل كل الجهل ما كنا فيه، وما أصبحنا إليه".
وأنا شخصيا أميل إلى هذا الرأي، بل وأعتقد بصوابه اعتقادًا شبه كامل، وقد بنيتُ فصول كتابي «سيرة الضمير المصري ـ علامات في الفكر العربي الحديث» على فرضية صواب هذا الرأي، ومنطقيته، وعقلانيته، واعتماده أساسًا لقراءة تاريخ الفكر العربي الحديث، ولتاريخ النهضة والاستنارة العربية كلها، منذ الحملة الفرنسية بل ومن قبلها بحوالي نصف القرن، وحتى ما بعد الحرب العالمية الثانية وفي أعقابها.
(3)
إن نهضتنا الحديثة قد بدأت باتصالنا بالغرب، ويرى بهاء طاهر أن ذلك قد تم بفضل تأسيس دولة محمد علي باشا (1801-1848) لا بسبب الحملة الفرنسية على مصر والشام (1798-1801) كما يذهب البعض، وينحاز بهاء طاهر إلى الرأي الذي يقول إن الحملة الفرنسية قد أخَّرت النهضة، ولم تساعد عليها (وسيفصل بهاء طاهر هذا الرأي من خلال فصول الكتاب)، ذلك أن الثقافة الحديثة برغم تأثرها الواضح بالاتصال بالغرب، فإنها أيضا تكن اقتباسًا مباشرًا منه أو نقلًا حرفيًا عنه، بل تبلورت في معظم الأحيان من خلال الصراع المباشر مع الغرب، ومن خلال الرفض للكثير من قيمه ومنطلقاته، إذ كان ذلك الاتصال في حقيقته فرصة للمراجعة، ولمحاولة تأكيد الذات بالعودة إلى الثوابت الثقافية للذات المصرية والعربية، ولإحياء القيم النبيلة في حضارتنا الإسلامية الزاهرة التي طمستها عصور الظلام المملوكية العثمانية، ومن هنا كان صراع الثقافة العربية الحديثة ضد "التغريب"، وضد "التتريك" معًا، سعيًا لتأكيد ذاتية ثقافية مستقلة.
وبالمناسبة، يمكن الإشارة هنا إلى اللحظة التي قرر فيها الحاكم محمد علي باشا باقتراح سديد من مستشاره الثقافي (الشيخ حسن العطار، ومن بعده الشيخ رفاعة الطهطاوي) تعريب الديوان الحكومي (أو الأميري) واعتماد اللغة العربية إلى جوار "التركية" لغة المراسلات والمراسيم الحكومية الأميرية، وتم تطبيق هذا الأمر على جريدة "الوقائع المصرية" الرسمية التي كانت تحرر بالتركية فقط، ثم صارت تحرر بالتركية والعربية معا، إلى أن أصبحت تحرر بالعربية وحدها فقط.
ويرى بهاء طاهر أن إرادة الحاكم وحدها، ولو كان في مثل عزيمة وإصرار وطموح محمد علي، لم تكن تكفي أبدًا لإحداث تغيير هائل بمثل هذا الحجم في المجتمع، وإنما الفضل يرجع إلى واحدٍ من إنجازاته الكبرى في تحقيق تلك النقلة الهائلة، ويعني بذلك -بطبيعة الحال- نشر التعليم العصري الحديث، وتأسيس المدارس التجهيزية والمتخصصة لتخريج المؤهلين للخدمة في الجهاز الإداري للدولة.
يقول بهاء طاهر "فإذا كان هذا الجندي الألباني الطموح قد أراد أن يحكم مصر على الطريقة العثمانية، وأن يورثها لخلفائه ليحكموها بالطريقة نفسها، فإن المدارس هي التي خرجت المثقفين الرافضين لهذا الأسلوب في الحكم، ولهذه الطريقة في الحياة، ومع نشوء جيل جديد من المتعلمين بدأ الصراع لانتزاع الحقوق والحريات، بالتدرج ودونما انقطاع".
(4)
نشرت فصول الكتاب متفرقة في مراحل مختلفة، قبل أن يقرر صاحبها أن يجمعها بين دفتي كتاب، ولكنها كلها تدور في فلك اهتمامات واحدة انشغل بها بهاء طاهر سواء في عمله القصصي أو النظري؛ وهي: "الحرية"، و"دور المثقف في المجتمع"، و"العلاقة بالآخر والصلة بالغرب".
نعم. يمكننا أن نطمئن تمامًا إلى اعتبار هذا الكتاب «أبناء رفاعة» (أو على الأقل في اعتقاد وتصور كاتب هذه السطور) هو شهادة بهاء طاهر الأمينة وقراءته الصادقة عن هذا العصر؛ وخاصة في "بواكيره الأولى" التي شهدت مخاض البحث عن النهضة العربية التي ما زلنا نبحث عنها حتى اللحظة!