أولويات النهوض التربوي والتعليمي.. تأريخ لتطور التعليم في قطر (1950-1977)
تاريخ النشر: 9th, December 2023 GMT
حظيت نشأة التعليم النظامي العام وتطوره في دولة قطر باهتمام بعض الباحثين القطريين في الربع الأخير من القرن الـ20، ويأتي في مقدمتهم الأستاذ الدكتور عبد الله جمعة الكبيسي، الذي أعد أطروحة باللغة الإنجليزية عن "تطور التعليم في قطر (1950-1977): مع تحليل بعض المصاعب التعليمية"؛ لنيل درجة الدكتوراه في فلسفة التربية في جامعة دورهام بالمملكة المتحدة عام 1979.
وبعد نيل إجازة الدكتوراه، والعودة إلى جامعة قطر، قدم الدكتور الكبيسي محاضرة عامة عن الأطروحة وموضوعها، فأثنى الحاضرون من أعضاء هيئة التدريس على المحاضرة، وقرظوا أهمية موضوعها وشمولها، واقترح بعضهم عليه "ضرورة ترجمتها إلى اللغة العربية" لتكون متاحة للقارئين بلغة الضاد دون غيرها.
وظلت الأطروحة حبيسة لغتها الأصلية إلى أن قيض الله لها جرّاح قلب يعمل بمؤسسة حمد الطبية، ترجمها إلى اللغة العربية عام 2023. والطبيب الجراح هو الدكتور عامر شيخوني، الذي وصفه الكبيسي بالمتميز ومتعدد المعارف، وثمّن "قدراته الفذة في العلوم الطبيعية والإنسانية والفنية" وإسهاماته في مجالات الترجمة من اللغة الإنجليزية إلى اللغة العربية والعكس (الكبيسي، ص 11)؛ وتقديرا لجهوده السامقة في هذا المضمار فقد منح شيخوني جائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي احتفاء بترجمته الرصينة لكتاب المؤرخة البريطانية ديانا دارك (Diana Darke) المعنون بـ"السرقة من المسلمين (الساراسن): كيف شكلت الحضارة الإسلامية أوروبا".
عرض الكتابصدرت الترجمة العربية الأولى لأطروحة الكبيسي بعنوان "تطور التعليم في قطر (1950-1977): مع تحليل بعض المصاعب التعليمية"، عن الدار العربية للعلوم (ناشرون)، بمركز أعمالها للنشر بمدينة الشارقة، الإمارات العربية المتحدة، عام 2023.
يتكون الكتاب من 340 صفحة من القطع المتوسط، يصدر العمل باستهلالات شكر وعرفان، ولوائح الأشكال والجداول والملاحق، والمقدمة؛ ويعقب ذلك فصول الكتاب التسعة، وملاحقه ومصادره.
يقدم الفصل الأول عرضا وصفيا تحليليا لواقع المجتمع القطري قبل اكتشاف النفط وإنتاجه وتسويقه، متطرقا إلى حياة الأجداد والآباء، التي كان عمادها استخراج المحار من المغاصات المنتشرة في المناطق المرجانية داخل مياه الخليج القطرية والمياه المجاورة لها.
ويستهل الفصل الثاني "تطور التعليم في قطر" بالحديث عن نشأة المدارس التقليدية (الكتاب)، ثم يلقي ضوءا ساطعا على نشأة مدرسة الشيخ محمد عبد العزيز المانع (1882-1965)، التي وصفها المؤلف بأنها كانت "معهدا متقدما للدراسات الإسلامية"، وأبوابه مشرعة لعدد من الطلبة القطريين وبعض زملائهم الوافدين من دول الجوار.
ويقدم الفصل الثالث المعنون بـ"تطور التنظيم الإداري وميزانية التعليم" وصفا تحليليا لتطور التنظيم الإداري للتعليم والميزانيات المرصودة له، ثم يتناول ظاهرة عدم استقرار مديري المعارف في الفترة (1954-1964)، التي شهدت تعاقب 6 مديرين من الدول العربية، لم تستمر فترة عمل بعضهم أكثر من عام دراسي.
وتناول الكبيسي في الفصل الرابع "غياب الإستراتيجية التعليمية"، التي وصفها بالقضية التأسيسية في سلم أولويات النهوض التربوي والتعليمي من حيث نشأة المؤسسات التعليمية، وتطورها حسب احتياجات المجتمع وسوق العمل، وجودة أدائها الوظيفي واستدامته.
وأرجأ المؤلف الإجابة عن سؤال غياب الإستراتيجية التعليمية إلى الفصلين الخامس والسادس، حيث عالج مشكلات المناهج من حيث التخطيط، وتنظيم البرامج الزمنية، وأساليب التقييم؛ فانتقد مخططات المناهج التي خصصت وقتا طويلا للغة العربية، والدين الإسلامي، والرياضيات، بلغ في المراحل الثلاث الأولى 76% من مجموع الساعات الدراسية، وذلك على حساب مواد أخرى، مثل الرياضة، والفنون والعلوم، والصحة. فضلا عن غياب الأنشطة المدرسية، وسوء أساليب التدريس القائمة على الحفظ والتلقين، وعدم ملاءمة البيئات المدرسية.
ويرى المؤلف أن تأثير مثل هذه السياسات قد أفرز 3 مظاهر سلبية. أولها، أن البيئة التعليمية قد شجعت "طاقم التعليم المحافظ والكسول وغير المؤهل" آنذاك على "معارضة كل محاولة لتحديث المنهاج التعلمي وأساليب التدريس"، بحجة أن النظام التعليمي الموجود يتسق مع توجهات السلطات السياسية.
وثانيها، إحباط "روح الأمل والإبداع لدى المعلمين والطلبة". وثالثها، فقدان الحماس في أوساط المعلمين والطلبة لتأسيس الجمعيات والنوادي الاجتماعية في المدارس، مما أفضى إلى ضعف الحياة الاجتماعية في حواضنها المعرفية.
ورابع تلك المظاهر، التركيز الزائد على الكتب والامتحانات، التي تشكل من وجهة نظر الكبيسي نصف العملية التعليمية، ويتمثل النصف الثاني في "خلق ظروف تعليمية" مواكبة، تؤهل الطلبة من نقاش القضايا التي تتعلق بمستقبلهم والحياة الاجتماعية والأكاديمية في مدارسهم بنوع من الحرية والإرشاد السديد، بعيدا عن روح التسلط التربوي (الكبيسي، ص 189-190).
وفي الفصل السادس والسابع والثامن ناقش المؤلف 3 قضايا مهمة، أولها مشكلات المعلمين والمعلمات، وضعف تأهيلهم المهني، الذي انعكس سلبا على مخرجات العملية التعليمية من الطلبة؛ وثانيها مشكلة الأبنية المدرسية من حيث الشكل والمضمون والعدد ومدى تأثير ذلك على البيئة المدرسية، وانعكاساتها السلبية على المخرجات التعليمية؛ وثالثها، ظاهرة الرسوب والتسرب التي شملت المراحل التعليمية الثلاث، وطبيعة الجهود التي بذلتها وزارة التربية والتعليم لمعالجتها. ولم يمنع هذا النقد البناء الكبيسي من التماس العذر لأوجه القصور التي صاحبت بدايات العملية التعليمية، مرجعا ذلك إلى "قلة الموارد المادية والبشرية، ودرجة الوعي المجتمعي بأهمية التعليم النوعي، وتأثيراته الإيجابية على متطلبات التنمية البشرية".
وبعد هذه النظرة التحليلية الثاقبة لواقع التعليم ومشكلاته في دولة قطر خلال عقوده الثلاثة الأولى (1950-1977)، شكل الفصل التاسع ذروة سنام الأطروحة موضع العرض والتحليل؛ حيث اجتهد المؤلف فيه لدعوة المسؤولين بوزارة التربية والتعليم إلى إعادة النظر في الأسس النظرية، والبرامج العملية الهادفة إلى تطوير جميع مكونات المؤسسة التعليمية.
وقدم جملة من المقترحات الموضوعية، التي وظف بعضها لاحقا في تطوير مؤسسات التعليم العام؛ وتطابق بعضها مع تقارير الخبراء المحليين والخارجيين الذين كلفتهم الوزارة بمراجعة النظم التعليمية في عقد التسعينيات؛ لكن الكبيسي عاب على الجهات التنفيذية قصورها في وضع بعض التوصيات المرجعية موضع التنفيذ، الأمر الذي زاد المشكلات الرئيسة تعقيدا وتضخما.
أهمية الكتابتتجلى أهمية هذا الكتاب في النقاط الآتية:
أولا، تعد أطروحة الكبيسي أول دراسة شاملة في عرض وتحليل نشأة التعليم العام وتطوره في دولة قطر، إذ بدأت بالعام 1950 وانتهت بالعام 1977، حين أصدر الشيخ خليفة بن حمد آل ثاني قانون تأسيس جامعة قطر، معززا لبنة التعليم العالي التي شكلت كليتا التربية للبنين والبنات حجر زاويتها عام 1973.
وبعد ذلك صدر عدد من الدراسات التي تناولت نشأة التعليم وتطوره في دولة قطر، بعضها استأنس بأطروحة الكبيسي وبعضها الآخر لم يطلع عليها؛ لكنها جميعا كانت أقل منها عمقا وأضيق نطاقا. ونذكر منها على سبيل المثال: ورقة أحمد عمر الروبي عن "معالم تطوير التعليم العام في دولة قطر خلال القرن العشرين واتجاهات تطويره مع مطلع القرن الواحد والعشرين"، التي قدمها في ندوة تطوير التعليم العام بدولة قطر، كلية التربية، جامعة قطر، بين السابع والثامن من أكتوبر/تشرين الأول 1997، ص 297-343؛ وورقة محمود مصطفى قمبر عن "تطوير التعليم في دولة قطر: إستراتيجيات وآليات"، التي قدمها في الندوة نفسها، ص 505-564؛ وورقة يوسف إبراهيم العبد الله عن "التعليم في قطر في مرحلة التحول (1954-1964)" التي عرضها في اللقاء العلمي السنوي الـ20 لجمعية التاريخ والآثار بدول مجلس التعاون لدول الخليج العربية، 2019، ص 473-506.
نعم إن أطروحة الكبيسي تؤرخ لفترة ماضية كان لها نجاحاتها وإخفاقاتها؛ لكنها تظل مرجعا مهما؛ لكل باحث ينوي دارسة نشأة التعليم العام في دولة قطر ومراحل تطوره، والتحديات التي واجهت العملية التعليمية على أرض الواقع، ومقارنة ماضي التعليم المتعثر بحاضره النهضوي، واستشراف مستقبله؛ ليكون مواكبا لمتطلبات الثورة الصناعية الرابعة ورؤية قطر الوطنية (2030).
ثانيا، أسس الكبيسي أطروحته ذات الفصول التسعة -الجامعة المانعة- على كم هائل من المصادر الأولية المكتوبة والشفوية، والمراجع الثانوية، والزيارات الميدانية داخل قطر وخارجها، فضلا عن الجداول الإحصائية التي استند إليها في تحليله الكمي لبعض المشكلات والقضايا، والصور التوضيحية والأشكال التي تعكس جوانب متعددة من العملية التعليمية.
ثالثا، يعد صاحب الأطروحة من رواد التعليم الحديث في دولة قطر، إذ حصل على درجة الدكتوراه في فلسفة التربية، جامعة دورهام، المملكة المتحدة (1979)، وعمل أستاذا بقسم أصول التربية، كلية التربية، جامعة قطر (1979-1999م)، ونائبا لمدير الجامعة (1980-1986) ثم رئيسا لها (1986-1994). وبعد تقاعده عن العلم الجامعي، منح رتبة أستاذ متميز (2006- مدى الحياة). كما عمل عضوا في العديد من المنظمات والهيئات الدولية والإقليمية، فضلا عن هذا كله فللكبيسي العديد من الأبحاث المنشورة في دوريات علمية ودور نشر إقليمية، استند معظمها إلى أطروحته النواة، ونذكر منها: "محاولات إصلاح نظام التعليم في دولة قطر، 1990-1998، حولية كلية التربية، جامعة قطر، العدد 15، 1999، ص 549-585؛ النظام التعليمي في دولة قطر: التعلم لمرحلة جديدة، الدوحة: دار الثقافة للطباعة والنشر والتوزيع، 2010.
وفي الختام يطيب لي أن أزف التهنئة الصادقة إلى الأستاذ الكبيسي على ترجمة هذه الأطروحة المرجعية للغة العربية وإخراجها إلى دائرة ضوء أوسع، لتكون متاحة للقارئين والباحثين وصنّاع السياسات التعليمية في دولة قطر.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: العملیة التعلیمیة التعلیم العام فی دولة قطر جامعة قطر
إقرأ أيضاً:
من أولويات ما بعد الحرب مجلس وزاري أعلى لمكافحة الجريمة
وسط زحمة التحديات التي تواجه البلاد في مرحلة ما بعد الحرب، من إعادة الإعمار إلى معالجة آثار الانهيار المؤسسي، هناك خطر لا يعلو صوته لكنه لا يقل خطورة: الجريمة. التي تستغل الفوضى، وتتمدد في غياب أو ضعف الرقابة، وتتشكل كل يوم في صورة جديدة. من السطو المسلح إلى الاتجار بالبشر، ومن المخدرات إلى الابتزاز الرقمي، وحتى جرائم الاحتيال المعقدة… كل ذلك أصبح مشهداً يوميًا في بعض المناطق، ينذر بأننا أمام موجة أمنية جديدة لا تكفي فيها المعالجات التقليدية.
من هذا المنطلق، أرى أن الوقت قد حان للتفكير خارج الأطر المعهودة، وأن نرتقي في مستوى المواجهة إلى مستوى الدولة نفسها، عبر إنشاء “مجلس وزاري أعلى لمكافحة الجريمة”، لا يكون حكرًا على وزارة الداخلية، بل يضم كل الأطراف ذات الصلة: وزارات العدل، المالية، التعليم، التعليم العالي، الشؤون الاجتماعية، الشؤون الدينية، النيابة العامة، وكل الوزارات و المؤسسات ذات الصلة بالإضافة إلى قادة الأجهزة النظامية.
لماذا هذا المجلس؟
لأن الجريمة لم تعد مسألة شرطية فقط. أصبحت تمس كل قطاع في الدولة، ولهذا، لا بد من مظلة سيادية تنفيذية عليا تعالج المسألة بمنظور شامل، تنسّق الجهود، وتوحّد السياسات، وتتخذ قرارات مشتركة.
ما الذي يمكن أن ينجزه هذا المجلس؟
1. يضع استراتيجية وطنية واضحة وعملية لمكافحة الجريمة، ترتكز على تحليل الواقع لا الأمنيات.
2. يحدد الأولويات حسب درجة الخطورة وانتشار الظاهرة.
3. يضمن تنسيقًا حقيقيًا بين مؤسسات الدولة لا مجرد مخاطبات ورقية.
4. يطور برامج تدريب حديثة تستجيب لتطور الجريمة.
5. يقيس مستوى الأداء الأمني باستمرار لتقويم الخطى.
6. يدعم الشراكة المجتمعية، لأن المواطن هو خط الدفاع الأول إذا تم إشراكه لا تهميشه.
كيف يُقام هذا المجلس؟
الأمر لا يحتاج إلى معجزة، بل إلى إرادة. يُنشأ بقرار من مجلس السيادة الانتقالي، ويُسن له قانون خاص يُسمى “قانون المجلس الأعلى لمكافحة الجريمة”. يترأسه السيد وزير الداخلية، وتُنشأ له أمانة فنية تتبع للوزارة تُعنى بالتحضير والتنسيق ومتابعة التنفيذ.
ما الذي نكسبه من هذه الخطوة؟
أولاً: تنسيق فعلي وفاعل بين المؤسسات، لا مجرد اجتماعات شكلية.
ثانيًا: كفاءة في استخدام الموارد، وهي شحيحة بطبيعة الحال في هذه المرحلة.
ثالثًا: شعور أكبر بالأمن لدى المواطن، وهذا مفتاح الاستقرار.
وأخيرًا: تأسيس لمرحلة جديدة من العمل الأمني في السودان، تقوم على الجهد الجماعي لا الفردي.
ولماذا أتوقع أن يجد المقترح اهتمامًا؟
لأن من يقود وزارة الداخلية اليوم، السيد الفريق شرطة بابكر سمرة، ليس غريبًا عن هذا الملف. بل هو من أبناء هذه المؤسسة، ومن الذين خدموا في قلب العمل الجنائي، حين كان على رأس الإدارة العامة للمباحث الجنائية المركزية. ومن خبر دهاليز الجريمة ومكافحتها، يدرك تمامًا أن الأمر لم يعد يحتمل التأجيل، وأن المعالجة الجزئية صارت تُكلفنا أكثر مما تنفعنا. وكما تقول المقولة الأجنبية
،”There is no permanent benefit from temporary solutions! ”
“لا توجد فائدة دائمة من الحلول المؤقتة! ”
لذا أتوقع من سيادته أن يتلقف هذا المقترح، لا كفكرة جديدة، بل كامتداد طبيعي لمسيرة مهنية نعرف أنه يؤمن بها ويعي أهميتها.
خلاصة القول…
لسنا في ترف تنظيمي، بل في مواجهة وجودية مع الجريمة التي تتكاثر حين يغيب التنسيق بين مؤسسات الدولة. ومجلس كهذا لن يكون مجرد لجنة عليا أخرى، بل سيكون بمثابة غرفة عمليات وطنية تُعيد ترتيب أولويات الدولة في ملف الأمن، وتنقله من طور التفاعل إلى طور المبادرة.
نعم، بلادنا تستحق هذا الجهد. والأمن، كما نعلم، لا يُصنع بالشعارات، بل بالرؤية والعمل المشترك.
✍️ عميد شرطة (م)
عمر محمد عثمان
6 يوليو 2025م