رغم كون الحرب العالمية - على اتساع رقعة أحداثها- مثلا يضرب عندما تذكر ضخامة الخسائر المادية فى الصراعات، فإن ما تكبده قطاع غزة (المنطقة التى لا تزيد مساحتها على ٣٦٥ كيلومترا)، منذ بدء العدوان الإسرائيلى فى السابع من أكتوبر الماضي، يجعل ما حدث هناك "حربا عالمية أخرى" من حيث حجم الدمار، إذ أصبح من الصعب وصف ما أصبحت عليه نسبة كبيرة من المبانى سوى بـ "الركام"، إذا ما قورن الوضع بما لحق بمدن أوروبية كبيرة أثناء الحرب العالمية.


قامت صحيفة "فاينانشيال تايمز" البريطانية بمقارنة بين حجم الدمار الذي شهدته المناطق الحضرية فى قطاع غزة ومدن أوروبية كبيرة أثناء الحرب العالمية الثانية.
وأفادت الصحيفة فى تقرير من قطاع غزة أن نسبة ٦٠٪ من المناطق الحضرية فى شمال غزة تحولت إلى ركام بالكامل بحلول الرابع من ديسمبر الحالي، كما قارنت هذه النسبة بحجم الدمار الذى تعرضت له مدن أوروبية كبرى خلال الحرب العالمية الثانية، موضحة أن مناطق شمال القطاع تعانى من دمار شديد بسبب الهجمات الإسرائيلية.
وأشارت "فاينانشيال تايمز" إلى أن ٦٨٪ من المباني فى مدينة غزة، (عاصمة القطاع)، تحولت إلى أطلال وأنقاض، فيما وصل حجم الدمار الناتج عن غارات الحلفاء فى مدينة هامبورج الألمانية إبان الحرب العالمية الثانية إلى ٧٥٪، كما تعرضت مدينة بولونيا الألمانية لنسبة دمار بلغت ٦١٪ بينما لم يتجاوز الدمار فى مدينة دريسدن الألمانية نسبة ٥٩٪ من المبانى الموجودة فى المدينة.
ووفقًا لما رأته الصحيفة، فإن الخراب الذى لحق بالمناطق المبنية فى قطاع غزة قد تفوق بكثير فى بعض الأحيان حجم الخراب الذي تعرضت له المبانى والبنى التحتية فى ثلاث مدن ألمانية خلال الحرب العالمية الثانية بين عامى ١٩٤٣ و١٩٤٥، عندما استهدفتها غارات الحلفاء بـ ٧١٠٠ طن من القنابل وأودت بحياة حوالى ٢٥ ألف شخص فقط من سكانها.
ونقلت الصحيفة تأكيد الباحثين فى جامعة ولاية أوريجون الأمريكية أن نسبة ٧٠٪ من المناطق المبنية فى قطاع غزة تم تدميرها بشكل كامل وأصبحت أشبه بالأنقاض بسبب الغارات الإسرائيلية، واستند الباحثون إلى صور الأقمار الاصطناعية.
وأشارت الصحيفة إلى أن عدد البنايات التى دمرت بالكامل فى قطاع غزة يبلغ نحو ٨٢ ألفًا و٦٠٠، وأصبحت مجرد أطلال، فيما تعرضت حوالى ١٠٥ آلاف و٣٠٠ بناية لأضرار جزئية.
وأوضحت الصحيفة أن الوضع الكارثى فى قطاع غزة جاء رغم استخدام الطائرات الإسرائيلية لذخائر عالية الدقة والاستهدافية التى تزن ٢٥٠ رطلًا، ولكنها تتمتع بقوة تدميرية هائلة، وهذا الخراب يظل فى مستويات مروعة لا تناسب التقدم التكنولوجى للذخائر المستخدمة.
بالإضافة إلى ذلك، تستخدم إسرائيل قذائف مدمرة من طراز "هيل فاير" الموجهة بالليزر لاستهداف المبانى الصغيرة والأقل حجمًا، والتى تم استخدامها من قبل القوات الأمريكية فى سوريا والعراق، وهى تُعد من الأسلحة الموجهة والتى تتميز بدقتها العالية.
ومع ذلك، لا يزال الدمار والأضرار الهائلة نتيجة الغارات الإسرائيلية على مناطق قطاع غزة، رغم استخدام المقذوفات ذات الدقة العالية، وتشمل هذه الأضرار تدمير المنشآت الحضرية وأضرارًا بالبنية التحتية، بما فى ذلك شبكات الإنارة والمياه.
وبحسب التقرير الذى أوردته "فاينانشيال تايمز"، تستخدم إسرائيل أيضًا مقذوفات موجهة ذات تأثير تدميرى كبير من طراز (أم-١١٧)، والتى تتراوح أوزانها بين ٥٠٠ إلى ٢٠٠٠ رطل، حسب حجم المبانى المستهدفة.
هذه المقذوفات التى استخدمتها الولايات المتحدة سابقًا فى حروبها فى كوريا وفيتنام، وتُعتبر فعالة فى استهداف المبانى الكبيرة وتسبب أمواجًا ارتجاجية قادرة على تدمير الهياكل الأساسية والأنفاق تحت الأرض والملاجئ للقوات المعادية.
وأوضحت الصحيفة البريطانية أنه من الصعب فصل الدمار الذى لحق بالمبانى فى قطاع غزة عن فقدان الأرواح البشرية بين المدنيين.
وأشارت إلى أن عدد القتلى بين سكان البنايات المتضررة فى شمال القطاع زاد إلى أكثر من ١٥ ألفًا منذ بدء إسرائيل حملتها العسكرية الواسعة، وهو رقم يفوق عدد الضحايا المدنيين خلال الغزو الأمريكى للعراق فى عام ٢٠٠٣ الذى بلغ ١٢ ألف مدني عراقي.
فى سياق ذى صلة، ذكرت صحيفة (ليبراسيون) الفرنسية أن جيش الاحتلال الإسرائيلى بدأ استخدام تكتيكات مبنية على الذكاء الاصطناعى خلال هجومه الأخير على قطاع غزة، ما ساهم فى تحسين خطط الهجوم وتحديد الأهداف بشكل أكثر دقة وفعالية، موضحة أن هذا الاستخدام المتقدم للتكنولوجيا سمح بتنفيذ غارات مكثفة نادرة، مما أدى إلى تكبيد أضرار هائلة وخسائر بشرية كبيرة بين السكان المدنيين.
وأكدت الصحيفة - فى تقريرها الأخير - أن الغارات لا تزال مستمرة على القطاع، حيث يتعرض المدنيون لهجمات جوية وقصف من الأسلحة الثقيلة التابعة لجيش الاحتلال، فيما تظل الأمور بعيدة عن التهدئة، خاصة بعد إعلان حكومة حماس نهاية الهدنة التى استمرت لمدة أسبوع وانتهت فى أول ديسمبر الجاري.
وأشارت الصحيفة إلى تزايد حصيلة القتلى فى القطاع، حيث وصل العدد إلى أكثر من ١٦ ألف شخص منذ بداية الهجوم فى أكتوبر الماضي، مع حوالى ٧ آلاف شخص فى عداد المفقودين، منهم نحو ٤٧٠٠ امرأة وأطفال.
وأضافت الصحيفة أن الوضع الحالى فى غزة يماثل بقسوته وتدميره الصراعات الدائرة فى هذا القرن، حيث تمنع الضربات المستمرة فرق الإغاثة الدولية من أداء دورها المعتاد فى تقديم المساعدة وجمع المعلومات حول الخسائر البشرية والدمار الذى خلفه القصف الإسرائيلي.
ورأت الصحيفة الفرنسية أن المأساة التى تعرض لها سكان قطاع غزة تجاوزت مرحلة الجدل، حيث أصبحت واقعًا مروعًا لا يمكن إنكاره ولا مناقشته، مشيرة إلى أنه حتى رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو أقر فى بيان لقناة (سى بى إس) الأمريكية بفشل جيش الاحتلال فى تقليل الخسائر بين المدنيين لعدة أسابيع.
وأوضحت الصحيفة أنه خلال شهر ونصف الشهر الذى سبق الهدنة، تم تدمير أكثر من نصف المبانى فى شمال قطاع غزة أو تعرضت لأضرار جسيمة، وتم هدم أجزاء كبيرة من الأحياء بما فى ذلك البنية التحتية بأكملها، مستندة إلى تأكيدات جيش الاحتلال الإسرائيلى نفسه، حيث أعلن أنه استهدف ١٥ ألف هدف بعد ٣٥ يومًا من الحرب حتى ١٠ نوفمبر، وأطلق نحو ٩٠ ألف قذيفة مدفعية عيار ١٥٥ ملم بحلول ٢٨ نوفمبر.
وأشارت إلى أن هذه الإحصائيات، التى لم يتم تحديثها بشكل كبير منذ ذلك الحين، لا تزال تحتفظ بصدارتها كما لا تُنشر علانية، ما يعكس حجم الدمار والتدمير الهائل فى المنطقة المزدحمة بالسكان.
 

المصدر: البوابة نيوز

كلمات دلالية: غزة العدوان الإسرائيلي فايننشال تايمز الحرب العالمية الثانية الحرب العالمیة الثانیة فى قطاع غزة حجم الدمار أکثر من إلى أن

إقرأ أيضاً:

طوفان الأقصى.. مفاجأة كبرى تعيد تشكيل قواعد الاشتباك.. تحول استراتيجي

في سياق حواري فكري معمّق تطلقه صحيفة "عربي21" حول عملية "طوفان الأقصى" وتداعياتها السياسية والفكرية فلسطينياً وعربياً ودولياً، تطرح هذه الورقة أسئلة مركزية عن طبيعة هذه العملية: هل كانت خطأً تاريخيًا مكلفًا أم خطوة استراتيجية جريئة لخلخلة ثوابت المعادلة الإقليمية والدولية بشأن فلسطين؟ ما بين من اعتبرها مغامرة متهورة ومن قرأ فيها نقطة تحوّل في مسار النضال الفلسطيني، تتعدد الروايات وتتناقض التقييمات، وهو ما يستدعي تفكيك خلفيات القرار وقراءة أبعاده في ضوء ما قبله وما تلاه.

هل ارتكبت حماس خطأ قياسيا ألحق ويلحق ضررا تاريخيا بالقضية الفلسطينية عبر عملية طوفان الأقصى؟ هل ثمة من تحكم بالقرار داخل الحركة ودفعها إلى تنفيذ هجوم غير مسبوق في حجمه وقوته وأثره على إسرائيل لتبرير حرب إبادة حقيقية للشعب الفلسطيني ولدفع ما تبقى منه إلى خارج فلسطين التاريخية؟ هل كانت إسرائيل على علم بالهجوم فلم تحبطه لكي تستخدمه من بعد ذريعة في تدمير غزة وترحيل المنظمات المقاتلة إلى خارج القطاع ومن ثم ختم القضية الفلسطينية بالشمع الأحمر؟ بالمقابل هل كانت لدى حماس استراتيجية مدروسة مدخلها عملية 7 أكتوبر ومخرجها تغيير المعادلات المتعلقة بغزة وبالقضية الفلسطينية؟ تلك هي أبرز الاحتمالات التي يتم تداولها في سياق تحليل خلفيات ودوافع عملية "طوفان الأقصى".

كانت الطرق المؤدية لحل سياسي للقضية الفلسطينية عبر مشروع الدولتين، مقفلة تماما منذ سنوات. لقد أقفلت إسرائيل هذه الطرق بدعم أمريكي صريح، وبدا أن الإقفال لا يعوق التطبيع الإبراهيمي مع الدول العربية..إذا كان فعل الخطأ خاضع للنقاش، في ضوء تطورات الحرب، وهي الأطول في تاريخ الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، فإن الاحتمال الثاني يقع تحت عنوان نظرية المؤامرة وبالتالي لا يصح كفرضية جدية في تفسير استراتيجية حماس في هذه الحرب. يبقى الاحتمال الثالث وهو يتناسب مع معطيات الصراع التي كانت متوفرة قبل الحرب، ومع التفسير الإسرائيلي للعملية بوصفها معركة وجود "إما نحن وإما هم" بحسب ردود فعل قيادة الحرب الإسرائيلية. ويتناسب أيضا مع رواية حماس الرسمية التي صدرت في 21 يناير ـ كانون الثاني عام2024 وفيها تؤكد على أن العملية تمت للحؤول دون "تصفية القضية الفلسطينية"، ولا شيء حتى الآن يوحي بان لدى الحركة استراتيجية مختلفة عن تلك التي وردت في الرواية.

القضية الفلسطينية قبل "الطوفان"

ثمة إجماع على أن التخطيط لهذه العملية قد استغرق وقتا طويلا ولعله استند إلى معطيات ثابتة يمكن حصرها بالخطوط العريضة التالية:

1 ـ كانت الطرق المؤدية لحل سياسي للقضية الفلسطينية عبر مشروع الدولتين، مقفلة تماما منذ سنوات. لقد أقفلت إسرائيل هذه الطرق بدعم أمريكي صريح، وبدا أن الإقفال لا يعوق التطبيع الإبراهيمي مع الدول العربية (الإمارات العربية المتحدة والبحرين والسودان والمغرب الأقصى). كان واضحا أن التطبيع مع البحرين بصورة خاصة، ما كان يمكن أن يتم لولا الموافقة الضمنية من المملكة العربية السعودية التي كان من المرجح أن تسير على هذا الطريق في العام الماضي. والواضح أن تطبيع السعودية مع إسرائيل سيهمش المعترضين  ويعزلهم في جامعة الدول العربية أو على الأقل سوف يُضعفُ موقف الجزائر وهي الدولة  الأبرز في هذا الاتجاه.

أضف إلى ذلك أن التطبيع يهمش التيار الفلسطيني المقاتل، ويفقده الغطاء العربي، بل يزيد من ارتباطه بالمحور الإيراني، من دون أن يفتح أمامه الأفق الإسلامي الرسمي المندرج في إطار "منظمة المؤتمر الإسلامي" التي تَرسمُ سياساتها تحت السقف الخليجي عموما والسعودي بصورة خاصة.

من يحتاج إلى براهين إضافية يمكنه العودة إلى المواقف التي اتخذتها "منظمة المؤتمر الإسلامي" خلال حرب غزة المستمرة والتي لم تتجاوز سياسة الجامعة العربية، هذه السياسة التي تتبنى موقف منظمة التحرير الفلسطينية والسلطة الوطنية بزعامة الرئيس محمود عباس. معلوم أن حكومة عباس انتقدت توقيت وأسلوب عملية "طوفان الأقصى" وحَمّلتْ حماس مسؤولية وتداعيات العملية على غزة والشعب الفلسطيني وانتقدت في الوقت نفسه سياسة التدمير والإبادة الإسرائيلية للشعب الفلسطيني في القطاع والضفة الغربية.

التفاهم السعودي الإيراني

2 ـ كان محور الممانعة عشية "الطوفان" يشهد تطورات ملفتة أبرزها التقارب والتفاهم السعودي ـ الإيراني، عبر اتفاق تم توقيعه في بكين وبإشراف صيني في مارس ـ آذار عام 2023 وأدى إلى عودة السفير الإيراني إلى الرياض بعد قطيعة بدأت في العام 2016 وبأثر من هذا التفاهم تم تخفيض التوتر بين السعودية والحوثيين حلفاء إيران.

وفي المحور نفسه، وقع لبنان وإسرائيل في أكتوبر  ـ تشرين الأول عام 2022 على اتفاق ترسيم الحدود البحرية بين البلدين بإشراف أمريكي، وكان من المفترض أن يستكمل هذا الاتفاق عبر مفاوضات غير مباشرة برعاية المبعوث الأمريكي نفسه (عاموس هوك شتاين) لترسيم الحدود البرية، وذلك بموافقة ضمنية من حزب الله أو على الأقل من دون اعتراض علني، بل ذهب رئيس الجمهورية السابق ميشال عون شريك الحزب في اتفاق مار مخايل ( 6 شباط فبراير 2006 ) إلى حد القول في مقابلة مع محطة "المنار" إن مصير العلاقات بين لبنان وإسرائيل بعد ترسيم الحدود البرية، سيكون كمصير العلاقات بين فرنسا وألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، حيث حلت محل الحروب الماضية علاقات صداقة وتعاون (أول نوفمبر ـ تشرين الثاني عام 2022 ). ولنا أن نتخيل كيف سيكون الموقف لو رُسِّمتْ الحدود البرية بين لبنان وإسرائيل لجهة دعم حماس عسكريا عبر الحدود المُرَسّمة.

ينبغي التذكير أن إيران اختارت في خضم حرب غزة رئيسا يريد التفاهم مع أمريكا واستبعدت مرشحين راديكاليين يشبهون الرئيس السابق أحمدي نجاد الذي كان يتوقع زوال إسرائيل في "مدى قريب".في السياق يمكننا الاستناد إلى تصريح شهير (25 يناير ـ كانون الثاني 2025) لمحمد جواد ظريف نائب الرئيس الإيراني السابق للشؤون الاستراتيجية، إذ يؤكد أن اجتماعا إيرانيا أمريكيا كان من المقرر أن يعقد في 9 أكتوبر تشرين الأول عام 2023 فأطاحه هجوم 7 أكتوبر، وكأنه أراد القول إن حماس قطعت الطريق على مساومة محتملة بين الولايات المتحدة وإسرائيل حول الملف النووي الإيراني. معلوم أن ظريف كان قد انتقد في وقت سابق سياسة بلاده تجاه حماس بقوله  إن "طهران تريد أن تكون فلسطينية أكثر من الفلسطينيين".

هنا ينبغي التذكير أن إيران اختارت في خضم حرب غزة رئيسا يريد التفاهم مع أمريكا واستبعدت مرشحين راديكاليين يشبهون الرئيس السابق أحمدي نجاد الذي كان يتوقع زوال إسرائيل في "مدى قريب".

يفصح ما تقدم عن تطور ملفت في محور الممانعة باتجاه التهدئة والابتعاد عن استراتيجية زوال إسرائيل التي كانت شعارا ثابتا في خطب فصائل المحور، لكن ذلك كله لم يترك أثرا ملحوظا في خطب الأمين العام الراحل لحزب الله السيد حسن نصر الله الذي أكد في أكثر من مناسبة أن الحرب المقبلة مع إسرائيل ستكون على أرض فلسطين التاريخية، ناهيك عن حرص الحزب  على التدريب المتواصل لفرقة الرضوان من أجل اجتياح الجليل الأعلى في "الحرب المقبلة".

الحكومة الإسرائيلية الأكثر تدينا وتطرفا

3 ـ في نهاية ديسمبر ـ كانون الأول عام 2022 تشكلت الحكومة الأكثر تطرفا والأكثر تدينا في تاريخ إسرائيل، وبدا من خلال رموزها انها حكومة حرب في الخارج و انقسام و صراع داخل إسرائيل سرعان ما سينفجر حول صلاحيات المحكمة العليا. تعزز مع هذه الحكومة احتمال  الحرب ضد لبنان وربما اجتياح غزة، وستكون احياء القدس والمسجد الأقصى وبؤر الاستيطان أحد أبرز أهدافها، وسيكون تعدي أنصارها على المسجد الأقصى عنوانا لعملية الطوفان في أكتوبر ـ تشرين الأول 2023.

كان تشكيل هذه الحكومة يعني بالنسبة لحماس والفصائل الفلسطينية الأخرى، إقفال كل الطرق الممكنة على أي حل للقضية الفلسطينية. وسيكون لديها القدرة والتغطية على الرد بقسوة على المقاومة الفلسطينية في غزة. سوف تبرهن عن ذلك في عملية (الدرع والسهم) في 9 مايوـ أيار عام 2023  إذ قتلت قادة بارزين في حركة "الجهاد الإسلامي" خلال أيام قليلة.

كانت حكومة نتنياهو تبحث عن حرب لأسباب عديدة، من بينها توسيع الاستيطان ودرء الانقسامات الداخلية، حرب مع الفلسطينيين أو لبنانيي حزب الله، وبالتالي من الصعب الرهان معها على هدنة أو على أي أفق آخر غير الحرب معها.

لقد هدد رئيسها بنيامين نتنياهو باجتياح غزة مرارا، لكنه اعتمد نهجا تكتيكيا خلال الشهور الأخيرة التي سبقت هجوم 7 اكتوبر، إذ سمح للقطريين بإرسال أموال لحركة حماس واأعتقد أن ترتيبات معينة معها، يمكن أن تعزل حركة "الجهاد الإسلامي" والفصائل الأخرى. وقد برهن لوزرائه  على نجاح هذا التكتيك خلال عملية "الدرع والسهم" التي استثنت حماس ولم  تبادر الحركة لإطلاق صواريخها على إسرائيل دعما للجهاد الإسلامي التي  تحملت  منفردة نتائج حرب الأيام الخمسة (أيار مايو 2023.)

كان نتنياهو يروج لفرضية مفادها أن حماس تريد الحكم في غزة وأنها ليست مستعجلة لإشعال حرب مع إسرائيل تقوض سلطتها. ولعل هذا الاعتقاد هو الذي حمله على تخفيف حجم الفرقة العسكرية في غلاف غزة التي يقدر عددها بالآلاف في ظروف المجابهة، لكنها لم تتجاوز الـ 700 جندي وضابط خلال هجوم 7 أكتوبر.

كانت حكومة نتنياهو تبحث عن حرب لأسباب عديدة، من بينها توسيع الاستيطان ودرء الانقسامات الداخلية، حرب مع الفلسطينيين أو لبنانيي حزب الله، وبالتالي من الصعب الرهان معها على هدنة أو على أي أفق آخر غير الحرب معها.وتفيد أنباء أخرى أن الحكومة كانت قد أرسلت مئة جندي من هذه الفرقة إلى الضفة الغربية نظرا لتقديرها أن لا خطر على جبهة غزة وأن لا شيء يستدعي حشدا عسكريا أكبر.

أغلب الظن أن حماس كانت على علم بحسابات نتنياهو وبما يدور في فرقة غزة لذا كان هجومها على الفرقة صاعقا ومدمرا يشبه بالقياسات المحلية هجوم 6 أكتوبر عام 1973 على الجبهتين المصرية والسورية، ومن غير المستبعد أن يكون اختيار 7 أكتوبر موعدا  "للطوفان" بمثابة استعادة محلية لحرب أكتوبر المذكورة .

تعثر "الربيع العربي"

4 ـ في هذا الوقت كان العالم العربي يعاني من مخاض "الربيع" الذي هدد وحدة بلدان، بدلا من تغيير أنظمة الحكم فيها، كما هي حال اليمن وليبيا وسوريا والسودان، وأقفل أبواب التغيير الداخلي من دون صعوبات تذكر في تونس ومصر. معلوم أن البلدان التي حطمها "الربيع" كانت الأقرب إلى تيار المقاومة المسلحة للاحتلال الإسرائيلي وكانت تحتفظ بوزن مهم في جامعة الدول العربية. كانت ليبيا مصدرا أساسيا من مصادر تمويل التيار الفلسطيني واللبناني المقاوم منذ انقلاب معمر القذافي في العام 1969 وحتى سقوطه في 20 أكتوبر 2011.

وانطلقت من سوريا الرصاصات الفلسطينية الأولى ضد الاحتلال الإسرائيلي بمبادرة من الضابط السوري أحمد سويداني عام 1965 وقد دفع النظام السوري السابق ثمنا باهظا لرفضه طرد حماس والمنظمات المقاتلة من سوريا بعد احتلال العراق فضلا عن احتضانه وتسليحه المقاومة اللبنانية للاحتلال الإسرائيلي في صيغتها التعددية الأولى ومن ثم في صيغتها الاسلامية. وقد تعرض السودان للعزل والتقسيم بعد أن صار قاعدة للأممية الإسلامية وللإخوان المسلمين بزعامة الدكتور الراحل حسن الترابي وأصبح بعد "الربيع العربي" منصة لصراع داخلي مميت على السلطة لم تتم فصوله بعد. ولعل اليمن البلد الوحيد الذي لم تتضرر فيه القضية الفلسطينية جراء الربيع العربي. فقد كانت صنعاء في عهد الرئيس الراحل علي عبد الله صالح قاعدة لحماس ولمنظمة التحرير الفلسطينية على حد سواء وصارت في معركة "طوفان الأقصى" حليفا مقاتلا مع غزة ولبنان.

كانت حماس جزءا لا يتجزأ من حركة "الربيع العربي" وبالتالي كان عليها أن تتحمل هي الأخرى جزءا من الفشل الذي أصابه، ولعلها اختارت أهون الشرين إذ أجرت تغييرا جذريا في قيادة غزة، واختارت يحي السنوار قائدا ورئيسا غزاويا للحركة (2017 ـ 2024) ثم رئيسا مركزيا لحماس بعد اغتيال إسماعيل هنية في طهران (31تموز ـ يوليو 2024) حتى استشهاده (16 تشرين الأول ـ أكتوبر 2024). وثبتت محمد الضيف في موقعه القيادي وبدا أن الحركة تستعد من جهتها أيضا لحرب مع الاحتلال فتعوض فشل رهانها على "الربيع العربي" وتستأنف الارتباط القوي بمحور الممانعة.

سيعبر يحي السنوار عن استراتيجيته القتالية بتصريح شهير قال فيه "سنجعل نتنياهو يندم على اليوم الذي ولدته فيه أمه" ويبدو أن هجوم 7 أكتوبر كان تطبيقا حرفيا لهذا التصريح.

 الحرب الأوكرانية والانتخابات الأمريكية

5 ـ على الصعيد الدولي بدا أن أنظار العالم شاخصة على الحرب الأوكرانية التي شغلت الغرب وروسيا وشكلت أولوية لدى القوى الأوروبية والأمريكية. أغلب الظن أن هذه الحرب كانت بالنسبة لحماس فرصة لشن عمل عسكري كبير تنقسم حوله القوى الغربية وتتشتت بين حربين، لكن هذا التقدير إن صحَّ، لم يكن متناسبا مع علاقة حماس الضعيفة بموسكو، ومع حرص روسيا الدائم على أمن إسرائيل. هذا ما يحملني على الاعتقاد بأن حماس ربما كانت ترجح حربا قصيرة أو متوسطة مع إسرائيل، تتيح هامشا للمناورة أمام الروس والصينيين من أجل طلب التهدئة حفاظا على الاستقرار في الشرق الأوسط ليتبين من بعد أن الحركة نفسها فوجئت بحجم وتأثير وخطورة عمليتها العسكرية على الاحتلال.

في هذه الظروف انطلقت عملية "طوفان الأقصى" لم تكن قفزة انتحارية في هاوية سحيقة ولم تكن مغامرة غير محسوبة النتائج وهي بالطبع ليست مؤامرة منسقة مع نتنياهو من أجل طي صفحة القضية الفلسطينية إلى الأبد. أما فصولها الدموية التي لم تتم بعد فهي دليل آخر على أن المصير الموعود للشعب الفلسطيني هو الإبادة السياسية أو الإبادة الجسدية.6 ـ من جهتها كانت حكومة نتنياهو الجديدة تراهن على التغيير القادم في الانتخابات الأمريكية، إذ تفصح المؤشرات عن ارتباك ظاهر في أداء الرئيس بايدن وضعف ذاكرة لا يتناسب مع شروط الموقع الأول في رأس السلطة الأكبر والأهم في العالم. وكانت استطلاعات الرأي تكشف عن حظوظ مرتفعة لدونالد ترامب في العودة إلى البيت الأبيض. وإن عاد سيواصل حتما سياسته المؤيدة من دون تحفظ لإسرائيل، وبالتالي استئناف المزيد من الاتفاقات الإبراهيمية التي تتيح "حلاً " للقضية الفلسطينية عبر التطبيع ومن دون تقديم تنازلات.

تجدر الإشارة إلى أن عهد بايدن لم يشهد مبادرات سلمية أو مساع جدية من أجل تطبيق حل الدولتين، بل بدا وكأنه استمرار لعهد ترامب تجاه القضية الفلسطينية وإن بلغة وبشعارات مختلفة وغير مستفزة.

بالمقابل لم يكن لدى السلطة الفلسطينية ولدى حماس أيضا ما يمكن الرهان عليه في أمريكا، لا في عهد بايدن (ولا في عهد ترامب المقبل على أية حال)، مع فارق أن احتمالات المجابهة مع الرئيس القادم أكبر بكثير من سلفه.

الصين وروسيا

 7 ـ كانت الصين بالنسبة لحماس طرفا دوليا يمكن الاعتماد عليه في الصراع مع إسرائيل عموما وفي الرهان على موقفه المؤيد في حالة الهجوم المباغت على إسرائيل. ذلك أن بكين ترغب في تعزيز علاقاتها مع الدول العربية، لذا تهتم بالقضية الفلسطينية التي تعتبر قضية العرب الأولى على الصعيد الدولي، أضف إلى ذلك أن مشروع طريق الحرير يمر في الشرق الأوسط والعالم العربي بصورة خاصة، وبالتالي لا بد من دور سياسي صيني مباشر في هذه المنطقة لاحظنا بوادره الأولى في رعاية الاتفاق السعودي ـ الإيراني كما مر معنا من قبل، وستعمد بكين إلى رعاية مصالحة فلسطينية ـ فلسطينية وصدور إعلان بكين الفلسطيني في شهر تموز ـ يوليو عام2024.

معلوم  أن روسيا والصين تعترف بالدولة الفلسطينية منذ شهر تشرين الثاني ـ نوفمبر عام 1988 وتؤيدان حل الدولتين ومن المستبعد أن تقف موقفا مناهضا لفلسطين في المؤسسات الدولية.

من غير المستبعد أن تكون حماس قد ناقشت في أطرها القيادية تقديرا للموقف يشمل المحاور التي وردت أعلاه ولعلها توصلت إلى قناعة بأن محور الممانعة الذي كان يشدد على مرأى ومسمع من يرغب على وحدة الساحات، ويتحدث قادته بتصميم غير مسبوق عن حرب، إذا ما اندلعت مع إسرائيل، قد تكون الأخيرة وقد تسقط فيها كل قواعد الاشتباك على كل الجبهات ولا سيما الجبهة اللبنانية التي حققت ردعا غير مسبوق لإسرائيل منذ العام 2006. بيد أن المحور نفسه كان يشهد تطورات قد تبعده عن جبهات القتال المباشرة في وقت تحتشد فيه مؤشرات خطيرة  حول  تهميش القضية الفلسطينية عبر الاتفاقات الابراهيمية  والاستيطان والتعرض للمسجد الأقصى احد اهم رموزها.

في هذه الظروف انطلقت عملية "طوفان الأقصى" لم تكن قفزة انتحارية في هاوية سحيقة ولم تكن مغامرة غير محسوبة النتائج وهي بالطبع ليست مؤامرة منسقة مع نتنياهو من أجل طي صفحة القضية الفلسطينية إلى الأبد. أما فصولها الدموية التي لم تتم بعد فهي دليل آخر على أن المصير الموعود للشعب الفلسطيني هو الإبادة السياسية أو الإبادة الجسدية.

 لعل "طوفان الأقصى" أشبه بـ "دوسة قدم في بيت نمل" تتيح خلط أوراق وموازيين قوى وتفصح عن رهانات كانت واقعية سنأتي على ذكرها.

*باحث في أكاديمية باريس  للجيوبوليتيك

مقالات مشابهة

  • رئيس الوزراء خلال احتفالية "يوم التفوق" بهيئة قناة السويس: تحول جذري في أنشطة وخدمات القناة يعزز مكانتها العالمية
  • منظمة “أطباء بلاحدود”: قطاع غزة تحول إلى مقبرة جماعية
  • أطباء بلاحدود: قطاع غزة تحول لمقبرة جماعية حتى لمن يحاول المساعدة
  • الصحة العالمية:أكثر من 10% من الأفغان قد لا يحصلون على الرعاية الصحية نهاية عام 2025
  • كم عدد السنوات اللازمة لإزالة ركام الحرب من غزة؟
  • الأونروا : إسرائيل استهدفت أكثر من 400 مدرسة في غزة
  • ترامب: الضربة على سومي «مروّعة» .. وزيلينسكي يدعوه لزيارة أوكرانيا وتفقد الدمار
  • تحول الطاقة والاقتصاد الدائري أبرز محاور "أسبوع عُمان للاستدامة" و"مؤتمر عُمان للبترول والطاقة".. 11 مايو
  • طوفان الأقصى.. مفاجأة كبرى تعيد تشكيل قواعد الاشتباك.. تحول استراتيجي
  • أبو العينين: لدينا معدل نمو إيجابي رغم التحديات العالمية