سبّبت الحرب العالمية الثانية العديدَ من المآسي للبشرية على مدار فترتها الممتدّة لأكثر من ست سنوات، والتي أحكم خلالها النازيون قبضتهم على القارة الأوروبية بقيادة أدولف هتلر. الشاب الذي يُعالج في مستشفى باسفالك العسكري جراء إصابته بالغازات السامة، عندما وقعت ألمانيا على شروط الهدنة، بعد الحرب العالمية الأولى، والذي ثار ساخطًا على اعتراف ألمانيا بالهزيمة، ما جعله يعقد العزم على الثأر.

وفي صيف 1919 أصبح هتلر العضو رقم (7) في حزب العمال، ولم يمض وقت طويل حتى تولى رئاسته، واستغل موهبته الخطابية في اجتذاب الجماهير والتسلل إلى أعماقها بمهاجمته المستمرة لمعاهده فرساي التي قلّمت أظافر ألمانيا وأغرقتها في كل المتاعب التي لن تنتهي إلا بإلغاء هذه المعاهدة بشروطها المجحفة. ولما ضمن هتلر تدفق الجماهير للانضمام إلى حزبه الصغير، طوَّر من سياسته وغيّر اسم الحزب إلى حزب العمال الألماني القومي الاشتراكي الوطني.
وكان هذا الحزب القلب النابض واليد المحركة لجميع الأعمال التي قام وأمر بالقيام بها هتلر. فما إنْ قُرعت طبول الحرب حتى بدأت عمليات احتلال الدول والأقاليم المجاورة لألمانيا؛ فضمت النمسا والتشيك وبلجيكا وفرنسا وروسيا وهولندا وبولندا وسلوفينيا وسلوفاكيا وأوكرانيا وروسيا. ضمت هذه الدول بكل ما فيها من أراض وبشر وثروات طبيعية وأملاك شخصية (تعرضت للمصادرة فيما بعد) إلى كيان جديد تحت قيادة حزب نازي اسمه: (ألمانيا النازية)، وعاصمته: (برلين الكبرى). كان ردّ اعتبار ألمانيا هو هدف هتلر الرئيس. فالذل الذي مثلته اتفاقية فرساي أصاب ألمانيا بخيبة الأمل نتيجة تقلص مستعمرات ألمانيا وخسارتها لأقاليم كانت تمثل أهمية اقتصادية لها، مع الثقل الذي أصاب ميزانيتها نتيجة التزامِها دَفْعَ تعويضات فاقت 100 مليار مارك ألماني.
وتُعَدّ معاهدة فرساي أحد أسباب قيام الحرب العالمية الثانية، لكنّ كُره هتلر لليهود يمثل سببًا أقوى، حيثُ بدأ عمليات سرقة ومصادرة منظمة للمقتنيات والآثار والكنوز الثقافية، كاللوحات الفنية والمخطوطات النادرة والكتب، وبشكل عام كل ما له رمز ثقافي أو ديني. هدف هذه السرقات النازية هو تجريد اليهود من أملاكهم التي تمثل ثرواتهم الحقيقية، وتضييق الخناق عليهم بسرقة أو بمصادرة هذه الرموز كانت غاية هتلر الكبرى. ومن أجل ذلك؛ خوّل عملاءَ معينين من الحزب النازي الحقَّ في القيام بهذه المصادرات على امتداد الأقاليم المنضمة شرقًا وغربًا. وفي حقيقة الأمر، بدأت هذه الحوادث قبل الحرب العالمية الثانية، وعلى نحو دقيق في عام 1933 بعد انتخابات الحزب النازي في مارس من العام نفسه حين كان هتلر مستشارًا لألمانيا.
ابتدأت هذه الثكنات عملها في مصادرة اللوحات الفنية المملوكة لليهود خصوصًا، وكانت المصادرات تقع في جميع الأقاليم المنضمة بلا استثناء، وإن كان أكثرها في ألمانيا وفرنسا وبولندا وفي بعض الأقاليم التابعة لإيطاليا. ومآل هذه اللوحات النهائي يقع تحت يد هتلر، فيحتفظ ببعضها، ويتقاسم بعضَها الآخر مع كبار الجنرالات في الحزب النازي، ويوضع منها ما يزيّن اجتماعاتهم النازية لتحقيق انتصار معنوي، ويقدَّم بعضُها للحكومة النازية لتضعَها في متاحف تُفْتتح بها معارضُها لعرض اللوحات المسروقة برعاية هتلر. وكان بعضها يُقايَضُ به لتمويل نشاطات الحزب النازي ولا سيَّما في سنوات الحرب الأخيرة. وكان هتلر يفضل الاحتفاظ باللوحات التي يزيد عمرها الزمني على حد معين، وتلك التي تكون مملوكة لعائلات يهودية ثرية اقتنت هذه اللوحات عبر أجيالها المتعاقبة، وغيرها التي يكون لها قيمة مادية كبيره توازي قيمتها الأدبية.
كانت السرقات النازية تتم بطريقة نظامية عند كل احتلال لإقليم جديد، فمع دخول القوات النازية للنمسا وضمها لألمانيا في الثاني عشر من مارس من العام 1938، صودرت لوحات لأثرياء يهود ونُقلت إلى برلين. ويتكرَّر الأمر نفسُه عند الاحتلال اللاحق، فتَكرَّر الحدث في مارس 1938 عند دخول تشيكوسلوفاكيا، وفي سبتمبر من العام نفسه عند دخول بولندا، وفي يونيو من العام 1940 عند دخول فرنسا، وفي صيف 1941 عند دخول الاتحاد السوفييتي وسرقة ما يُقدَّر بمليون قطعة فنية من متحف هيرميتاج في سان بطرسبرج، ولهذا الحدث أثره البالغ؛ إذ لم يعثر على العديد من اللوحات المنهوبة منه والتي تعود لكبار الفنانين السوفييت حتى الآن. ويُظْهر التاريخ من خلال مصادرة هذه اللوحات حرص هتلر الشديد على جلب اللوحات التي رسمها فنانون ألمان، وعلى الأخص تلك المرسومة في القرون الخامس عشر والسادس عشر والسابع عشر.
وتُعَدّ فرقة EER من أشهر الفرق النازية التي تقوم بالسرقة والنهب بتوجيهات عليا من برلين. وابتدأت بمصادرة الكتب واللوحات وكل ما له قيمة فنية تاريخية في فرنسا وبلجيكا. وعند تعيينHermann Göring رئيسًا لهذه الوحدة، خصَّصها لمصادرة مقتنيات اليهود فقط على اختلافها. وسافر هرمان أكثر من عشرين مرة لفرنسا ما بين العام 1940 و1942 لاختيار ما يروق له ولهتلر من هذه المقتنيات، وحصل على 594 منها. ووصل هرمان إلى حد الطغيان الفني، وخَصَّصَ منزلًا كاملاً ليعرضَ فيه هذه اللوحات والمقتنيات، ولا سيَّما اليهودية، بعد تعليماته لوَحْدته بهذا الشأن.
وبعد انتصار الحلفاء، عادتْ تظهر مرّة أخرى هذه اللوحاتُ التي صودرت. والمشكلة التي ثارت بعد انتهاء الحرب وسقوط النازية هي انتقال هذه اللوحات من يد إلى يد على مدار أكثر من عقد. فبمجرد انتهاء الحرب، وُجد العديدُ من الوثائق والكتب واللوحات ومقتنيات شخصية على وجه الشيوع في المخازن النازية، والموجودات تفوق المليون قطعة، منها ما لا يقل عن (100000) لوحة مُصادَرة. بعضُ اللوحات استَرَدَّتْها قوّاتُ الحلفاء بعد الحرب مباشرة، وبعضها الآخر استُرِدّ بعد سنوات، وبعضها لم يظهر بعد الحرب، ومجموعة أخرى لم يطالب بها مالك وأصبحت ملكيتها للدولة تعرضها في متاحفها ومحافلها الدَّوْلية، وذلك إلى أنْ يُطالَبَ بها. وجُمع ما يمكن جمعه منها، ووُضع في أحد المباني في ميونخ كمركز لجَمْع هذه اللوحات الفنية وغيرها من الكتب والمقتنيات التي صودِرَتْ، كل ذلك تحت إشراف الحلفاء حتى يتمَّ استردادُها.
وبعيدًا عن تسلسل الأحداث، قد يثور تساؤل في محله: ما فلسفةُ أدولف هتلر في مصادرة هذه اللوحات؟ لا يخفى على أحد أنّه يتبنى بوضوح ما قاله نيكولا ماكيافيللي صاحب كتاب الأمير، والذي نظر إلى الناس بما جبلوا عليه من شهوات ورذائل مع وضع ظروف عصره الواقعية المَلْأى بالتَّعَس والشقاء. ولاحظ هتلر، كما لاحظ ماكيافييلي، أن المجتمع يتطور بأساليب طبيعية، والقوى المحركة لهذه الأساليب في التاريخ هي المصالح المادية. ومن كان يتحكم بالمصالح المادية في عصر هتلر؟ اليهود، فوجودهم وسيطرتهم على الحياة التجارية معناه أن زمام الأمور تحت أيديهم، فلا عجب في مصادرة كل ما يملكون وخصوصًا الرموز الفنية كاللوحات والمجسمات الخالدة. والأكثر من ذلك أنّ تأثّر هتلر كان واضحًا بتطبيقه لمقولات ماكيافيللي.
وبعد مرور عدة سنوات على الحرب العالمية الثانية، ومع بدء استقرار الأوضاع، عادت مطالباتُ مُلّاكِ أو ورثةِ اللوحات المُصادَرَة تظهر، وأصبح لها صوتٌ مسموع؛ فبَيْعُ وشراء اللوحات وعَرْضُها في المعارض الفنية التي تُقام، وبشكل خاص في العواصم الأوروبية والولايات المتحدة الأمريكية - أَظْهَر مُلّاكًا محتَمَلين من الورثة لها، ونَظّمت الجمعيات والمنظمات اليهودية المؤتمرات لمناقشة المصادرات النازية للوحات الفنية المملوكة لليهود، وما احتمالاتُ طلبِ الردّ على الرغم من مرور فترة زمنية طويلة على الحرب، وتحديات محتَمَلة منها صعوبةُ إثبات الملكية وبشكل خاص من ورثة اليهود الهاربين من ألمانيا النازية إلى الولايات المتحدة الأمريكية.
وساعد على ذلك الشبكة العنكبوتية، إذ نشر مُتَخصِّصونَ في هذا المجال صورًا لآلاف اللوحات المصادَرَة، وأدّت الجهود إلى إلزام حكومات بعض الدول بتشريع قانون خاص للردّ، وذلك فيما يتعلق بنهب الممتلكات في فترة الرايخ، فظهر أول قانون لذلك في ألمانيا الغربية عام 1953 لتعويض ضحايا النازية وردّ ما يمكنهم ردّه إليهم، لكنَّ الواقع يفرض نفسه، فسقوط الرايخ أدّى إلى انفلات أمني وفراغ سياسي لفترة من الزمن، حدثت أيضًا خلالها عمليات نهب واسعة لهذه الآثار، وجرى عليها كافة التصرفات من بيع وشراء ومقايضة، زِدْ على ذلك احتمالَ عبورها القارة الأوروبية؛ فساعد القانون على التعويض فقط دون الردّ في أغلب الأحيان.
وفي عام 1998، أصدرت النمسا قانونًا فيدراليًّا يُلزِم المتاحف النمساوية بردّ جميع التحف واللوحات والآثار الفنية لمالكيها الفعليين، وساعد هذا القانون ملاك وورثة أصحاب القطع الأصلية على الحصول عليها واسترجاعها من حكومة النمسا وَفْقًا لإجراءات معينة، وصدر تقرير لجنة الردّ في عام 2009، وافتَتَح مقدمته بنجاح هذه العملية التي أدت إلى ردّ ما يقارب أكثر من (200000) إرث فني من لوحات وكتب وأجراس ذهبية وتحف فخارية وبرونزية لمستحقيها.
انتهت الأمور إلى وجود هذه اللوحات لدى أفراد وقعت بين أيديهم نتيجة تصرفات معينة، أو تحت يد حكومات الدول التي غالبًا ما تكون هذه اللوحات جزءًا من ثروات منشآتها الثقافية كالمتاحف. وجود هذه اللوحات يمثل واقعة قانونية وليس تصرفًا قانونيًّا، فالأفراد أو الحكومات قد أثرَوا على حساب ملاك اللوحات الفعليين دون سبب، فنحن أمام إثراء مدين، وافتقار دائن، وانعدام وجود سبب قانوني لهذا الإثراء. والإثراء بصورته التقليدية قد يعني فرقًا ماليًّا ودفع أقل القيمتين. ومن المُتصوَّر أن تكون واقعة الإثراء على حساب سلعة أو منقول مادي.
ولا بد من ذكر بعض القضايا الشهيرة الخاصة بطلب ردّ اللوحات الفنية. وقبل الدخول في التفاصيل، نشير إلى أن عمليات طلب الردّ غالبًا ما تكون معقدة جدًّا، وتتطلب الكثير من الوقت، وتكلّف ضعف ذلك من المال، وذلك يعود لاستكشاف المالك أو ورثته لهذه اللوحات بشكل متأخر، إمّا من خلال البحث المضني وإمّا من خلال المصادفات المحضة. وكثيرًا ما يصطدم راغبو الردّ بعقبات قانونية وواقعية لا حصر لها، قد تقود بعضَهم إلى وقف إجراءات طلب الاسترداد نتيجة لها، وقد لا يُحْكم لصالح طالبي الردّ نتيجةَ مبرّرات معينة. وكل ذلك ما سنتناوله في الحلقة القادمة من هذا المقال.

المصدر: صحيفة الأيام البحرينية

كلمات دلالية: فيروس كورونا فيروس كورونا فيروس كورونا الحرب العالمیة الثانیة اللوحات الفنیة هذه اللوحات اللوحات ا من العام عند دخول التی ت

إقرأ أيضاً:

خطوة عاجلة قامت بها ألمانيا في لبنان... ماذا فعلت؟

كشفت وكالة "رويترز" أنّ الحكومة الألمانية قامت بإجلاء بعض الموظفين غير الأساسيين وأسر العاملين في السفارة الألمانيّة في لبنان.     وأضافت أنّ الحكومة الألمانيّة أجلت أيضاً عددا من المواطنين الألمان من لبنان.      

مقالات مشابهة

  • المعهد الديمقراطي: ندوب الحرب التي دامت عقد من الزمان لا تزال تلازم كل جوانب الحياة في اليمن
  • البرلمان يستعد لإقرار "أهم" قانون لاسترداد أموال الدولة من الفاسدين
  • و أنت عائد إلى بيتك فكر في تلك المدينة الصامدة التي غيرت مجرى الحرب
  • الحرب و السياسة و المتغيرات التي أحدثتها
  • توكل كرمان من لاهاي أمام تجمع عالمي: العالم يواجه الآن خطراً خطيراً يتمثل في الحرب السيبرانية التي قد تؤدي إلى تقويض الأمن والخصوصية
  • أردوغان محذرا إسرائيل: اجتياح لبنان لن يشبه احتلالاتكم السابقة
  • عن كثب.. ما هي جرائم الحرب التي ارتكبتها اسرائيل؟
  • بسبب الحرب.. نجوم لبنان يؤجلون ارتباطاتهم الفنية
  • حكاية عرين الذئب ونجاة هتلر من محاولة اغتيال يرويها نجل حارس نازي
  • خطوة عاجلة قامت بها ألمانيا في لبنان... ماذا فعلت؟