هل يكون أثر المعصية أفضل من أثر الطاعة؟ سؤال أجابته دار الإفتاء المصرية من خلال موقعها الرسمي. 

معصية أورثت ذلا وافتقارا خير من طاعة أورثت عزا واستكبارا

يقول السائل: ما معنى قول ابن عطاء الله في "الحِكَم": "معصية أورثت ذلا وافتقارا خير من طاعة أورثت عزا واستكبارا"؟ وهل هي موافقة لأصول الشرع والدين، أم أن فيها امتداحًا للمعصية والعياذ بالله؟

الجواب


حِكَمُ الإمام ابن عطاء الله السكندري رضي الله عنه من أنفع ما كُتِبَ في حقائقِ التوحيد، ووصفِ طريق سلوك العبد إلى ربه؛ يقول أحد شراحها سيدي الشيخ أحمد عزب الشرنوبي في "شرحه على الحكم" (ص: 3، ط.

مكتبة القاهرة): [حِكَم السيد السَّرِي، العارف بالله تعالى سيدي أحمد بن محمد بن عبد الكريم بن عطاء الله السكندري، من أنفع ما يتوصل به المريدُ إلى معرفة طريق العارفين الموصلة إلى ذي العرش المجيد؛ لاشتمالها على دقائق التوحيد المنيفة، مع اختصار عبارتها الرائقة اللطيفة] اهـ.

أما بشأن الطاعة والمعصية، فقد أمر الله سبحانه وتعالى بطاعته، وجعل الطاعة سببًا في الفوز برضاه وجنته، وسببًا في مرافقة الأنبياء عليهم السلام والصديقين والشهداء؛ قال تعالى: ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ [النساء: 13]، وقال سبحانه: ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا﴾ [النساء: 69]، وقال سبحانه وتعالى: ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ﴾ [النور: 52]، وقال تعالى: ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب: 71].

ونهى ربنا عن المعصية، وجعلها سببًا في الوقوع في غضبه وسخطه، وفي التعرض للعذاب في الآخرة، وجعلها علامة على الضلال المبين؛ قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾ [النساء: 14]، وقال سبحانه: ﴿وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا﴾ [الأحزاب: 36].

وجعل ربُنا سبحانه وتعالى القلبَ هو الأساس وعليه التعويل في القرب إليه سبحانه وتعالى؛ فقال تعالى: ﴿فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾ [الحج: 46]، وقال سبحانه: ﴿وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾ [الحج: 32]. وقال سبحانه وتعالى: ﴿وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ [آل عمران: 154].

ذكر نبوي يساعد على الطاعة ويمتع بـ 4 نعم ويغفله كثيرون ما مصير ثواب الطاعة للصغار قبل البلوغ والتكليف؟ .. الإفتاء تجيب

وقال صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّ اللهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ» أخرجه الإمام مسلم في "صحيحه".

وقال صلى الله عليه وآله وسلم: «أَلَا وَإِنَّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً؛ إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ القَلْبُ» متفق عليه.

وإنما كانت المعصية التي توجب الانكسار أفضل من الطاعة التي توجب الاستكبار؛ لأن المقصود من الطاعة هو الخضوع والخشوع والانقياد والتذلل والانكسار، وفي الحديث: «أَنَا عِنْدَ الْمُنْكَسِرَةِ قُلُوبُهُمْ» رواه أبو نعيم في "الحلية" موقوفًا.

فثمرة الطاعة الذل والانكسار، وثمرة المعصية القسوة والاستكبار، فإذا انقلبت الثمرات انقلبت الحقائق وصارت الطاعة معصية والمعصية طاعة.

فإذا خلت الطاعة من هذه المعاني واتصفت بأضدادها فالمعصية التي توجب هذه المعاني أفضل منها؛ إذ لا عبرة بصورة الطاعة ولا بصورة المعصية، وإنما العبرة بما ينتج عنهما في القلب؛ قال تعالى: ﴿يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ ۞ إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ [الشعراء: 88-89].

فمعاصي القلب أكثر خطورة من معاصي الجوارح، كما أن معاصي الجوارح مُظْهِرة لأمراض في القلب يجب علاجها؛ لذا فبسلامة القلب تسلم الجوارح، وقد تُحدِث الطاعة الظاهرة من الجوارح معاصي شديدة الخطورة في القلب إذا لم يتنبه الإنسان ويخلص في طاعته، في حين أن المعصية قد يعقبها طاعات نافعة إذا فطن الإنسان وأناب إلى ربه.

ففي الحديث الشريف عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللهُ بِكُمْ، وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ فَيَسْتَغْفِرُونَ اللهَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ» رواه مسلم.

وقول الإمام ابن عطاء الله السكندري: "معصية أورثت ذلًّا وافتقارًا خير من طاعة أورثت عزًّا واستكبارًا" حكمةٌ عظيمةٌ، وفائدةٌ جليلةٌ، لا تُفْهَم على الوجه الصحيح الأكمل إلا بضمها للحكمة السابقة لها؛ حيث قال الإمام ابن عطاء الله السكندري في الحكمة السابقة: "ربما فتح لك باب الطاعة وما فتح لك باب القبول، وربما قضى عليك بالذنب فكان سببًا في الوصول".

يقول الشيخ العلامة ابن عباد النفزي الرَّنْدِي في شرح هذه الحكمة في "شرحه على الحكم" (1/ 74، ط. مصطفى البابي الحلبي): [وذلك أن الطاعة قد تقارنها آفات قادحة في الإخلاص فيها؛ كالإعجاب بها، والاعتماد عليها، واحتقار مَنْ لَمْ يفعلها، وذلك مانع من قبولها، والذنب قد يقارنه الالتجاء إلى الله والاعتذار إليه واحتقار نفسه، وتعظيم من لم يفعله فيكون ذلك سببًا في مغفرة الله له، ووصوله إليه؛ فينبغي أن لا ينظر العبد إلى صور الأشياء بل إلى حقائقها] اهـ.

ثم أكد الإمام ابن عطاء الله رحمه الله هذا المعنى بهذه الحكمة التي هي محل السؤال: "معصية أورثت ذلا وافتقارًا خير من طاعة أورثت عزًّا واستكبارًا".

يقول الشارح العلامة الرندي رحمه الله في "شرحه على الحكم" (1/ 47): [ولا شك أن الذلَّ والافتقار من أوصاف العبودية، فالتحقق بهما مقتضٍ للوصول إلى حضرة الرب، والعز والاستكبار من أوصاف الربوبية، فالتحقق بهما مُقتضٍ للخذلان وعدم القبول، قال أبو مدين قُدّس سرّه: انكسار العاصي خير من صولة المطيع] اهـ.

وعليه: فإن حكمة الإمام ابن عطاء الله السكندري رضي الله عنه موافقة لأصولِ الدين ومقاصدِ الشرع الشريف ودقائقِ السلوك القويم؛ فهي حكمة لا يتعارض معناها مع هذا كله، بل تعضده وتؤكده، وليس بها ثناء على المعصية وذم للطاعة من قريب أو بعيد، وإنما هي تُنَبِّه على مراقبة القلب، وتجنب الإعجاب بعد الطاعة، كما تُنَبِّه على الإخبات والتوبة بعد الوقوع في الذنب، نسأل الله السلامة من ذلك كله.

المصدر: صدى البلد

كلمات دلالية: طاعة المعصية الإفتاء سلامة القلب سبحانه وتعالى وقال سبحانه قال تعالى ر س ول ه سبب ا فی الله ع ى الله

إقرأ أيضاً:

الإفتاء تكشف حكم التهنئة بالسنة الهجرية الجديدة

تُعد التهنئة بالعام الهجري الجديد تقليدًا مهمًا بين المسلمين، حيث يحتفلون ببداية سنة هجرية جديدة بتبادل التهاني والتبريكات بين الأهل والأصدقاء والزملاء، ويرمز اليوم إلى هجرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة، وهو حدث تاريخي عظيم في الإسلام.

السنة الهجرية الجديدة

وفي هذه المناسبة، أوضحت دار الإفتاء المصرية عبر موقعها الرسمي، أن حكم التهنئة بالسنة الهجرية الجديدة هو استحضار للعديد من المعاني التي يجوز شرعًا التهنئة عليها؛ ومنها: الامتثال للأمر القرآني بتذكر أيام الله تعالى، وما فيها من نعم وعبر وآيات؛ قال تعالى: ﴿وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ﴾ [إبراهيم: 5]، والهجرة يوم عظيم من أيام الله تعالى، ينبغي أن يتذكره ويسعد به البشر كلهم؛ لأن الهجرة كانت البداية الحقيقية لإرساء قوانين العدالة الاجتماعية، والمساواة بين البشر، وإقرار مبدأ المواطنة بين أبناء الوطن الواحد مع اختلاف العقائد، والتعايش والسلام ونبذ العنف.

الانتقال إلى المدينة والدعوة

وأشارت الإفتاء إلى أن تذكر نصر الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم في الهجرة على مشركي مكة، بأن يسر له أمر الانتقال إلى المدينة والدعوة إلى الله فيها وحفظه من إيذاء المشركين، وانتقل بذلك من مرحلة الدعوة إلى مرحلة الدولة، مما كان سببًا لنصرة الإسلام وسيادته؛ قال تعالى: ﴿إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا﴾ [التوبة: 40]، وقد تقرر أن التهنئة إنما تكون بما هو محل للسرور، ولا شيء يسر به المسلم قدر سروره بيومِ نصرِ الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم.

الرد على دعوى أن التهنئة بالعام الهجري الجديد بدعة

وأكدت دار الافتاء أن الادعاء بأن التهنئة بالسنة الهجرية الجديدة لا تصح فهو مردود بأن التهنئة لا تقتصر على الأعياد، فهي مشروعة عند حدوث النعم، واندفاع النقم، ولا يخفى ما في بداية العام من تجدد نعمة الحياة على كل إنسان، ثم إن بداية العام تتكرر؛ فهي عيدٌ في المعنى.

مقالات مشابهة

  • دار الإفتاء توضح فضل صيام يوم عاشوراء
  • «الإفتاء» توضح فضل صيام عاشوراء وتاسوعاء بأدلة من السنة النبوية
  • هل يجوز صيام شهر المحرم كاملًا؟.. دار الإفتاء تجيب
  • حكم صيام أول محرم.. «الإفتاء» تحسم الجدل
  • فضل شهر محرم.. دار الإفتاء توضح التفاصيل
  • محافظ الشرقية الجديد يؤدي صلاة الجمعة بمسجد الفتح بالزقازيق
  • بعيداً عن السياسة
  • دار الإفتاء توضح كفارة الكذب وشرط مهم للتوبة (فيديو)
  • الإفتاء تكشف حكم التهنئة بالسنة الهجرية الجديدة
  • حدود التعامل بين الرجل والمرأة وضوابطه.. الإفتاء توضح