الكلمة الشعرية والسياسية طلقتان ضروريتان في معركة غزة
تاريخ النشر: 8th, December 2023 GMT
ديسمبر 8, 2023آخر تحديث: ديسمبر 8, 2023
رامي الشاعر
غزة- لوحة بانورامية شعرية تستنهض أساطير الحياة: “الفينيق وتموز” ورموز مقاومة الشر اسطوريا وواقعيا: “الخضر، وحمزة بن عبد المطلب”
قبل أن أتحدث عن هذا العمل النوعي الذي أرسله لي صديقي الشاعر أيمن أبو الشعر الذي يتواصل معي بشكل شبه يومي للحديث عن غزة ومصابها، أود أن أشير إلى أنه كان ملتهباً هذا اليوم وهو يتساءل أيعقل أنه لا يوجد سبيل لوقف قتل النساء والأطفال بهذه الآلة الجهنمية الحاقدة، هل يعقل أن يكون العالم، كل العالم وما نسميه إنسانيا المجتمع الدولي عاجزا عن إيقاف هذه المجزرة.
شعرت من نبرات صوته أنه يغص من الألم وتكاد كلماته أن تتبلل بدموع الروح لاستمرار هذا الذبح على مرأى من العالم لدرجة أنني تساءلت بحرقة أيضا وكأنه نقل لي عدوى تهدج الصوت، بالفعل ما قيمة ما أكتبه كمحلل سياسي إن لم نستطع إيقاف هذه المأساة، فأعاد توازن صوته وقال لي بحزم: لا يا صديقي ما تكتبه ضروري جدا خاصة أنه موجه للناس عموما وللسياسيين وأصحاب القرار على وجه الخصوص، الكلمة الشعرية والسياسية طلقتان ضروريتان في هذه المعركة، ولكل منا دوره في هذا الطريق… وتذكرت حديثا كان قد نقله لي الشاعر الفلسطيني الكبير معين بسيسو أنقله هنا لكم، إذ يبدو أن أيمن بنتاجاته لا يكتفي بأنه يثير مشاعرنا حتى الحد الأقصى، بل ويستنهض العديد من الذكريات الهامة.
الشاعر أيمن أبو الشعرأكاد أن أقول أن أيمن أبو الشعر هو ابن غزة لمدى تعاطفه الوجداني مع أحداثها، حتى أن صديقه الشاعر الكبير معين بسيسو نقل لي ببهجة أنه حين زار أيمن أبو الشعر في بيته في دمشق مع الناقد محي الدين صبحي، قال له كنا نظن أنك فلسطيني- كذلك كان يظن محمود درويش وسميح القاسم- فأجابه كما أجابهما: “أنا شامي المولد فلسطيني الهوى”، وأضاف موجها كلامه لمعين بسيسو: ” وقلبي من غزة”، ليكرس الود والتفاعل النضالي لأنه يعرف أن معين بسيسو من غزة، وهي عموما لفتة نبيهة تسجل لأيمن أبو الشعر. ولكن هناك أمران أحب أن أوضحهما، الأول أنني سأسعى من خلال صداقتي مع أيمن أبو الشعر أن أقدم من نتاجاته كل ما له علاقة بقضايانا المشتركة بين حين وآخر، والثاني أنني أتمنى على الكتاب والأدباء والنقاد والباحثين والصحفيين أن يدرسوا مثل هذه الأعمال النوعية، كقصيدة غزة هذه، ويوضحوا بعض جوانبها الفنية لتتكرس في عمق الذائقة الجمالية الجماهيرية، فأنا لست مختصا بالشؤون الشعرية والأدبية، وأعلق كمتذوق ومتابع، وكسياسي كما هو الحال في هذه السطور القادمة. ولكن من المفيد جدا أن تتوحد نتاجات الشاعر والسياسي وكأنما يدفعان معا كتفا بكتف عربة الصمود لتمضي إلى الأمام… والآن لأتحدث قليلا عن القصيدة “غزة ” قصيدة مذهلة مضمونا وفنيا لشاعر الطوفان أيمن أبو الشعر،
هذه القصيدة وهي موجودة في ديوانه “سلاما مواعيد قلبي دمشق” وتتحدث عن تلاحق المآسي التي تتعرض لها غزة، سبق أن ألقاها الشاعر في عدد من أمسياته لكنه اختارها اليوم وأداها بصوته، وبثها على قناته في تيليغرام واليوتيوب لتصل إلى الآخرين، ويتناقلونها الآن كما حدث مع أنشودة الحصار، موقنا أن الفيسبوك سيحاصرها، ويقلص عدد المشاهدين كالعادة حين يتناول القضية الفلسطينية، يبدو لي أن أيمن أبو الشعر لم يختر أسطورة الفينيق -أو الفينيكس -العنقاء عند العرب- اعتباطا كرمز للشعب الفلسطيني، فهذا الطائر الأسطوري حين يموت يحترق، وسرعان ما ينبعث من رماده، وقد استفتح قصيدته بتلك اللحظة التي يجدد الفينيق حياته بشرارة تبرق من بين الرماد، ويشدد على أنه الفينيق- الشعب الفلسطيني الذي يتوقد تعطشا للنصر، “ذاك المطلق الآتي” ولماذا هذا التأكيد والثقة؟ لأن الثكالى في طريق نضال الشعب الفلسطيني لا تتفجع رغم الألم الشديد، بل تودع شهداءها بالزغاريد، فتنبعث النجوم في ليل غزة رمزا للسمو والشموخ والتفاؤل بآن معا. وكما ينهض الفينيق من رماده تنهض غزة من تحت الدمار والقصف لأنها معزوفة التاريخ، كانت قبل الاحتلال في عمق التاريخ وستتألق بعد رحيله، وهي لا تنهض وحسب، بل تنهض سعيدة فرحة تشبه الألحان التي يغنيها الرعاة والفلاحين إبان الحصاد منذ السومريين، ولهذا يستنهض الشاعر اسطورة تموز “دموزي”، والذي يعتبر إله الخصب حيث تنبعث الحياة في الأرض حين يعود إليها بعد موت الشتاء والصقيع، إن الشاعر مؤمن بانتصار الحياة ” الفلسطينيين” على الموت “الصهاينة”، ولهذا فإن العطر يتحول وساما لهذه الحياة، ويصك العطر نقشه فيه، هل هناك كناية أقوى للتعبير عن الإيمان بالنصر والتفاؤل؟ ثم ينعطف ليشرح أنه يتحدث عن الواقع مستفيدا من الأساطير، فهذا البرق الذي أحيا الفينيق، ثم استرشاده بتموز لم يأت هكذا مجانا، بل كتعبير عن أن تموز انبثق عبر نضال مرير حقيقي يشبه الأسطورة، لهذا يستنهض اسطورة ثالثة مستعينا هذه المرة بسيدنا الخضر وهو عند المسيحيين مارجرجس الذي يقتل التنين وهو بالمناسبة وحش كان يظهر من البحر المتوسط ليفتك بالبشر حتى اضطروا لتقديم فتاة فدية، ويُتبع هذا المشهد بأحد أشهر المقاتلين ضد “الكفار”، وهو صائد الأسود حمزة بن عبد المطلب، ليمزج الأسطورة بالواقع، لأن العدوان الساحق الذي يتعرض له الشعب الفلسطيني واقعي جهنمي والصمود الذي يبديه هذا الشعب اسطوري وواقعي بأن معا وكل ذلك على مرأى من التاريخ.
ثم يرسم لوحة تفاعلية مدهشة موضحا أن طريق النضال واحد من أرزة لبنان حتى جنوب الناصرة، أي كل فلسطين، إنه يستنهض عبر هذه اللوحة الذاكرة الدامية ليفضح الصامتين والمتآمرين، والذين باعوا ضميرهم، وكمفارقة بينهم وبين الأشقاء الحقيقين يُظهر كيف تنادى أصحاب القضية المشتركة في الوقت المناسب كالطبيب الجرّاح، ليضمدوا الجِراح، غرزة في إثر غرزة، ويشبه الذين فضلوا الصمت أمام هذه المشاهد الدموية بجلد التماسيح يثلم حتى الرماح إن حاولت اختراقه، وشبه الأنذال الذين تعودوا مسح الجوخ والتزلف للأعداء بلاعقي النعال الذين فقدت ألسنتهم النطق…
رغم هذه اللوحة المتشعبة الأليمة والمريرة كانت خيوط الضياء هي التي تشكل لحمتها الرئيسية، وتنبثق من بين سطورها، فمقابل لوحات الألم والنزيف والمعاناة تنهض أربعة رموز إيجابية اثنان اسطوريان لانتصار الحياة الفينيق وتموز واثنان مقاتلان واحد اسطوري هو الخضر، والآخر واقعي هو حمزة ولعمري أن اختيار الشاعر لحمزة لم يكن عفويا فحمزة صياد الأسود هو رمز للفدائيين الفلسطينيين صيادي دبابات الميركافا.
ولهذا يختتم الشاعر قصيدته بهذه الصورة المذهلة حقا، والتي أعتقد أنه لم يسبقه أحد إليها، وهي نظرة الأطفال المتألمة الحزينة الجريحة في غزة، تلك التي هزت قلوب الكون عبر حملات التعاطف والتظاهر في كل مكان، وأن هذا الوميض في أحداق الطفلة “غزة” لم يكن خارجيا ولم يكن نتيجة انعكاس أضواء شمس أو قمر أو كهرباء، بل كان الضوء من جوهرها، كالهالة التي ترتسم فوق رؤوس القديسين، بل كالفوسوفور الذي قصفت به لكنها تقمصته في نظراتها المتفائلة لأن ضوءه من ذاته وبالتالي يكرس ميلاد الطهر في أحداق غزة.
قصيدة #شاعر_الطوفان أيمن ابو الشعر :
غزة
شعر: أيمن أبو الشعر
يورِق الفينيقُ برقاً مِنْ رمادِ المجدِ عِزّةْ
لم يَمُتْ في نخوَةِ الجمرِ اتقادُ المُطلقِ الآتي
لأنَّ النارَ إذ تشتدُّ تشدو
بالزغاريدِ التي تحكي أهازيجَ الثكالى
في وداعِ الراحلينْ
كنجومٍ لألأتْ في ليلِ غزةْ
إنها معزوفةُ التاريخِ والأسطورةُ الأشهى شموساً
تستفيقُ اليومَ مِن تحتِ الدمارِ القصفِ
ألحاناً تعيدُ الخصبَ إذ تـُحيي
رؤى تموزَ مُذ يُعلي انتصاراتِ الحياةْ
كالندى ينسابُ في جيدِ المواتْ
ويصكُّ العطرُ رَمْزَهْ
يوغلُ البرقُ انتماءً يستعيدُ الومضُ حِرزَهْ
من دماءٍ وإباءٍ ونداءٍ لحصانٍ تورقُ الأزمانُ لكزَهْ
صهوةٌ تستلهمُ الخُضْرَ احتمالاتٍ
برمحٍ يطعنُ التنينَ زهواً
أو بسيفٍ بارقٍ في كفِّ حمزة ْ
في رُبى لبنانَ أرزة ْ
أوغلتْ في تربةِ الأصداءِ جذراً
نحو نطقِ الذاكرةْ
من جنوبِ القلبِ نبضاً لجنوبِ الناصرةْ
شرَّشَتْ تحتَ الأراضي المُستـَفـَزَّةْ
حينَ جرحُ الروحِ أحداقٌ شظايا
حشدُ أشلاءٍ ضحايا
صمتُ خلانٍ مرايا حزَّ جوفَ الجرحِ حَزَّهْ
برقُ تموزَ الذي ينساحُ مِن أغصانِ أرزةْ
كان جرّاحاً يلـُمُّ الشرخَ في عنقِ الزمانْ
غرزةً في إثرِ غرزةْ
وضميرٌ مِن جليدٍ يثلمُ الأرماحَ صلداً إنْ تغزَّهْ
ولسانٌ أتقنَ اللعقَ فأنساهُ الكلامْ
وحصارٌ خاطَ باسمِ الأمنِ للأطفالِ بزَّة ْ
من فتاتِ اللحمِ تهشيمِ العِظامْ
خلفَ أسوارِ الظلامْ
نظرةٌ من طِفلةٍ أدْمَتْ قلوبَ الكونِ
حتى باتَ وقعُ النبض ِ وخْزةْ
ببريقٍ يرسمُ الفوسوفورُ كِنزَه ْ
شعَّ ميلاداً وميضَ الطهرِ في أحداقِ غزَّةْ
المصدر: وكالة الصحافة المستقلة
كلمات دلالية: أیمن أبو الشعر
إقرأ أيضاً:
الجانب الإنساني في شعر عقيل بن ناجي المسكين
د. جمال فودة **
إن تكثيف بنية دلالية ما في نص شعري يوحى بأنها ظاهرة متميزة ينسجها الشاعر في حالة وجدانية خاصة، حيث تنصهر هذه الدلالة في سياق التجربة، وبفعل إبداعية اللغة داخل النص تحمل إيحاءات ثرية تضفي على النص حيوية متجددة، وحضوراً لا يبلغه النص بدون هذا الترابط بين مبناه ومعناه، وتلك إحدى ميزات العمل الفني الناجح.
وهذا ما نجده عند الشاعر (عقيل المسكين) عندما يوظف الشعر الاجتماعي في كتاباته؛ إذ يستقي المعاني والموضوعات من محيطه الشخصي والاجتماعي، ويعتمد في تصويره على الخيال والملاحظة على نحو يستطيع من خلاله إبراز الدلالة الكامنة وراء الألفاظ، ويتمتع شعراء الشعر الاجتماعي بملكات نفسية يستطيعون من خلالها التعبير عن المواقف الاجتماعية المتفاوتة بل والمتناقضة.
وجاء اعتماد (المسكين) على هذه السمة الدلالية في قصائده، كأداة تعبيرية تسهم في كشف رؤيته لواقعه هذا من ناحية، كما تعين المتلقي على استكشاف أبعاد التجربة واستنطاق الدلالة من ناحية أخرى، وقد استطاع "المسكين" استغلال هذه البنية الدلالية استغلالاً أضحى واضحاً في إبداعه، وأصبح من الملامح الأسلوبية التي تشكل بنية النص في شعره.
فتبدو قصائده حافلة برموز إيحائية ودلالات نفسية، واستبطان لخلجات الوجدان وومضات الفكر، ذلك أن الشاعر مادامت قد أصبحت له رؤية خاصة في إطار تجربته، ومادام يستعين باللغة الإيحائية وليس باللغة المعجمية وسيلة للكشف والتعبير، فإن اللفظة تتجاوز معناها المعجمي إلى دلالة خاصة تتسق ورؤية الشاعر.
إن ما يسميه البعض بـ (شعر المناسبات) كما هو عند (المسكين) ليس مجرد خطرات فكرية اهتدى إليها بتأملاته وتجاربه، بل وعاء انصهرت فيه ثقافته وشخصيته، فكانت خير منهل ارتوى منه وصدر عنه إنتاجه الشعري، فعبر عنها تعبيراً إنسانياً من الناحية الفكرية والأدبية، حيث كان يزاوج بين العقل والحس، وتميزت قصائده بكونها وليدة الوجدان والفكر معاً، فهي تزخر بالمعاني الدقيقة، وتنضج بالعاطفة، وتزدهي بالإيقاع الموسيقي المنتظم، الأمر الذي جعلها تجمع بين قوة الإقناع وجمال الامتاع.
ولسنا ممن يُؤيد رأي بعض النقاد في اتهام الشعر الاجتماعي بالسطحية والتكلف، وأن عناصر وحيه وقف على مواقف يحددها الزمان والمكان، فلا يأتي عفوًا، ولا من فيض الخاطر، في ظننا أن هذا تجنٍ واضحٌ، وظلمُ فادحُ؛ لأن ما يقوله الشاعر من فيض إحساسه بعد معايشة موقفٍ أثرفي نفسه، وأثار وجدانه وفكره، فنظم فيه شعره مثل قصيدة (وُلد الهدى) في مدح النبي - صلى الله عليه وسلم- لأحمد شوقي، و مثل رثاء (ابن الرومي) لابنه، ورثاء (الخنساء) لأخيها، ورثاء (نزار قباني) لزوجته بلقيس ... هذه كلها وغيرها الكثير من شعر المناسبات، لكنها تجسد تجربة ناجحة ؛ لأنها صادقة، لم يُجبر قائلها على نظمها؛ فقد قالها من فيض خاطره ورهافة مشاعره، وصدق احساسه، وهذا ما ألفيناه جلياً عند ( المسكين).
فمثلاً قصيدته (شيخ المكارم) في مدح الدكتور المهندس (عبد الله السيهاتي) التي نرى الشاعر فيها حريصاً على ذكر مناقب الممدوح من نبلٍ وكرم، ومكارم، وحسن خلق وغير ذلك من الصفات الإنسانية، فإن قصائده امتازت بدقة التفكير، وبعد الخيال، هذا إلى جانب صدق العاطفة بعيداً عن المغالاة والتملق، ففي مدحه تحس نبض قلبه يخفق حباً وتقديراً واحتراماً لمن هو لذاك أهل .
يقول:
شيخ المكارم والندى والجود
شيخ تألق في ذراه نشيدي
وحدود حب الأصدقاء أخوة
والشعر إخوته بغير حـدود
أرضيت ربك طاعة وأمـانة
والربح يبقى جـنة المـعبود
وفي الختام نقول: إن (عقيل المسكين) شاعر لا يُعرف وإنما يُتعرف عليه، من خلال رصد الدلالات التي يبثها في بنية النص الشعري؛كتقنية أسلوبية تشير إلى استرفاد الشاعر من ينابيع ثقافية متباينة؛ سعياً إلى تشكيل الدلالة النصية التي تتكون لبناتها من جمل وتعابير دلالية خاصة، تنتظم في سياق التجربة الشعرية وتنصهر في بوتقتها.
** عضو الاتحاد العالمي للغة العربية