خريطة الإبادة العابرة للزمن.. كيف حوَّل الصهاينة فلسطين إلى إسرائيل؟
تاريخ النشر: 8th, December 2023 GMT
"لقد تحوَّل الإرهاب الصهيوني إلى عمليات عسكرية إسرائيلية. والفلسطينيون، الذين كانوا يحاولون العيش في بيوتهم وعلى أراضيهم، تحوَّلوا إلى متسللين. بينما أصبح آلاف اليهود، الذين نُقِلوا على عجل إلى بيوت مسروقة، مواطنين".
توماس سواريز، من كتاب "دولة الإرهاب: كيف قامت إسرائيل الحديثة على الإرهاب"
في أعقاب عملية "طوفان الأقصى" يوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول، التي شنَّتها المقاومة الفلسطينية على مستوطنات غلاف غزة، أجرى التلفزيون الإسرائيلي حوارا مع إحدى المستوطِنات بمستوطنة "كفار عزة" الواقعة بالغلاف، حيث قدَّمت المرأة شهادتها حول اقتحام المقاتلين منزلها قائلة: "دخلوا وقلت لهم: لديّ طفلان هنا.
كانت تلك إجابات المستوطِنة الصهيونية عن سؤال محاورها، وقد أبدت في طياتها ذهولا من وجود مقاتلين يتصرفون بهذه الأخلاق في حالة حرب. ولكن السؤال الذي لم يسأله المحاور، وربما لم تكن المتحدثة لتجيب عنه، هو: ما الذي فعله مقاتلو الصهيونية وعصاباتها حين دخلوا القرى الفلسطينية قبل أكثر من 75 عاما وأنشأوا كيانهم على أنقاضها وفوق رفات أهلها؟ ذلك الكيان الذي يُشكِّل كلٌّ من المحاور وضيفته في ذلك اللقاء جزءا منه وامتدادا لاحتلاله لأرض فلسطينية اغتُصِبَت على مرأى ومسمع من العالم، وتُشكِّل فكرة الإبادة والانتهاكات الإنسانية جزءا لا يتجزَّأ من وجوده، على عكس الدعاية الصهيونية التي تدَّعي بأن العنف الإسرائيلي ليس سوى رد فعل على عمليات المقاومة التي تصفها تل أبيب بالإرهاب.
عقيدة الإبادة.. بلا نهاية
"إن الأرض ليست لأولئك الذين يملكون مساحات شاسعة زائدة، بل لأولئك الذين لا يملكون شيئا. إنها العدالة البسيطة: أن تأخذ جزءا من أرضهم من أجل توفير مكان للجوء شعب مُشرَّد ومتجول. وإذا قاومت هذه الأمة التي تملك أراضي واسعة -وهو أمر طبيعي جدا- فيجب إرغامها على ذلك بالقوة".
زَئيف جابوتينسكي، أحد قادة الحركة الصهيونية التوسُّعية (Revisionist Zionism)
في موسوعته السياسية، يعرِّف لنا المؤرخ والمفكر الفلسطيني "عبد الرحمن الكيالي"[1] الاستعمار بأنه نزوع الدول الكبرى إلى نهب وسلب مُنظم لثروات البلدان الأخرى، وتدمير تراثها الحضاري والثقافي. وعادة ما يكون هذا الاستعمار استعمارا استغلاليا، تحتل فيه الدولة المُستعمِرة الدولة المُستعمَرة عسكريا وإداريا؛ لأهداف اقتصادية (نهب ثرواتها وتسخير عمالتها)، أو أهداف إستراتيجية (الاستفادة من موقعها الجغرافي لأغراض مختلفة). ومثال ذلك الاستعمار الغربي في صوره المتعددة للدول الأفريقية والآسيوية طيلة القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين[2].
في مقابل هذا النمط الاستعماري يأتي النمط الآخر الاستيطاني الذي لا تكتفي فيه القوى العسكرية باحتلال البلاد وإدارتها ونهبها، بل تمتد سطوتها إلى الحصول على الأرض نفسها وإنهاء الوجود المادي والقومي والثقافي لأهلها، قبل أن تدعو القوى الاستعمارية مواطنيها للاستيطان في الأرض المُفرَّغة واعتبارهم شعبها الجديد[3]، ومثال ذلك ما حدث في الأميركتين وأستراليا اللتين حلَّ السكان الأوروبيون محل الكثير من سكانها الأصليين، وباتوا هم أصحاب الأرض.
وبين النمطين، يأتي نمط ثالث دمج كلًّا منهما وأنتج ما يصفه الباحث "إسلام شحدة العالول"[2] بالكيان الاستعماري الجديد ممثَّلا في إسرائيل. ونتج هذا النمط بالاعتماد أساسا "على التراث العنصري الغربي الذي حوَّل العالم إلى مادة استعمارية لصالح الإنسان الغربي صاحب القوة"، ما يعني رغبة القوى الاستعمارية الصهيونية في نهب ثروات فلسطين وتسخير أهلها لخدمة الاحتلال. وفي الوقت نفسه، جرى اختلاق شرعية "أرض الميعاد" ونزع الشرعية عن الوجود العربي في فلسطين، واعتبار الفلسطينيين غزاة محتلين يجب إجلاؤهم عن أرض إسرائيل المقدسة، ما يستلزم استيطان الأرض وسلب أكبر قدر ممكن منها، أي إن الاستعمار الصهيوني كان استعمارا واستيطانا في الوقت نفسه، وهو استيطان مستمر وليس حدثا منفصلا، فكل ما يبتلعه من أراضٍ حِل له، دون النظر إلى أي حدود جغرافية أو قوانين دولية[2].
في توصيف هذا الاستعمار الاستيطاني المُدمج يقول المفكر الفرنسي "جيل دولوز"[4] إن "إسرائيل لم تُخفِ يوما -منذ نشأتها- هدفها الأساسي لتفريغ الأرض الفلسطينية، ومحاولة إظهارها أرضا فارغة مخصصة للصهاينة"، واصفا تلك الممارسة الاستعمارية بأنها ممارسة إفراغية (تفرغ الأرض) مختلفة عن نظيرتها الأوروبية المتمثلة في استغلال السكان مع تحويل ما تبقى لديها من هؤلاء السكان إلى مادة استعمالية تسخرها وتستغلها بوصفها يدا عاملة رخيصة، ولا تمحوها بالضرورة. يعني ذلك أن النظام الصهيوني بات حالة استثنائية تجمع بين النمطين الاستعماري والاستيطاني، فهو استيطان يستخدم أدوات الاستعمار، لكنه لم يفلح في محو السكان الأصليين كما حدث في الولايات المتحدة، نظرا لما يمتلكونه من مقومات ثقافية استعصت على عملية الاستعمار.
بعبارة أخرى، فإن العمق الثقافي والحضاري لفلسطين، والامتداد العربي الإسلامي لشعبها، كانا مفاجأة لم يتوقعها المستعمر الصهيوني الذي ظن أن تجارب أوروبا في أميركا وأستراليا ستتكرر معه[2]، ولهذا فإن الاحتلال يجد نفسه دائما في حالة تعطش دائمة للإبادة العِرقية والمكانية والهوياتية للشعب الفلسطيني حتى يتمكن من إعلان كيانه دولة طبيعية يفرضها على العالم بصورة نهائية ولا تخشى على نفسها من أي مقاومة بعدها. ولهذا فإن الإبادة لم -ولن- تتوقف.
التطهير العرقي.. الخُطة "أبْجَدْ"
"لا بد أن يكون واضحا لنا عدم وجود متَّسَع لشعبين يعيشان معا في هذه البلاد، ولا وسيلة لذلك سوى نقل العرب من هنا إلى البلدان المجاورة، نَقْلِهم جميعا، ويجب ألا تبقى قرية واحدة أو قبيلة واحدة".
القيادي الصهيوني يوسف فايتس في يومياته.
في أحد أيام أبريل/نيسان 1948، دخلت مجموعة من جنود "الهاغاناه" قرية دير ياسين الواقعة بإحدى ضواحي القدس، ووجدوا طرقاتها مزدحمة بعشرات الجثث التي لم تُدفَن، وبينها جثث أطفال ورُضَّع ونساء وشيوخ، وجثث أخرى مقطوعة الرأس أو مبقورة البطن، فضلا عن عشرات النساء اللواتي وجدوهن مقتولات داخل منازلهن. وما إن رأى الجنود المتورطون في مجازر متعددة بحق الفلسطينيين هذا المشهد حتى أُغشي على بعضهم من هول ما رأوه[6]. للمفارقة، نقل تلك الشهادة الصحفي الصهيوني "عاموس بن فيرد" عن جنود صهاينة تعليقا على بشاعة ما ارتكبه إخوانهم في عصابتَيْ "إرغون" و"شتيرن" بحق المدنيين الفلسطينيين في مجزرة دير ياسين الشهيرة، التي استمرت نحو 13 ساعة وراح ضحيتها 254 فلسطينيا وفقا للصليب الأحمر، بينهم 52 طفلا ورضيعا، و25 امرأة حاملا، وشيوخ من الجنسين تجاوزوا الثمانين والتسعين من أعمارهم[7].
وبحسب روايات الناجين من المذبحة للسلطات البريطانية -التي كانت لا تزال مسيطرة على فلسطين- فإن الصهاينة أوقفوا عائلات بأكملها بجوار الحائط قبل أن يفتحوا عليهم النار بلا تمييز، أما النساء فقد تعرض عدد منهن للاغتصاب المتلو بالذبح، فضلا عن بقر بطون الحوامل منهن، وسرقة حُليهن جميعا بعد التمثيل بجثثهن[8]. ولعل إحدى أشهر الشهادات شهادة "فهيم زيدان"، الذي كان في الثانية عشرة من عمره وقت المذبحة، حيث قال: "أخرجونا واحدا تلو الآخر، قتلوا رجلا عجوزا بالرصاص، وعندما بكت إحدى بناته قتلوها هي أيضا، ثم استدعوا شقيقي محمد وقتلوه أمامنا، وعندما صرخت أمي باكية وهي محنية فوقه -وبين ذراعيها أختي الرضيعة خضرة- قتلوها هي أيضا"[9]. في الأخير، أطلق الجنود النار على زيدان نفسه قبل أن يغادروا ويتركوه مع جروح -لحُسن حظه- لم تقتله.
لم تكن المذبحة خطأ فرديا في مسيرة الاحتلال الصهيوني عقب قرار التقسيم، وإنما مفخرة تباهى بها منفذوها الذين أصبحوا قادة للكيان لاحقا، ومنهم "مناحم بيغن" قائد إرغون، الذي شغل منصب رئيس الوزراء وحاز جائزة نوبل للسلام عام 1978، الذي قال مفاخرا إن الحملة الإعلامية التي تبعت "دير ياسين" أثمرت "نتائج كبيرة غير متوقعة؛ إذ أصيب العرب بهلع قوي لا حدود له، فأخذوا بالفرار للنجاة بأرواحهم"[10]. ولم يكن هذا الهلع نتيجة عشوائية، بل كان هدفا مخططا له قبل ضغطة الزناد الأولى، إذ اعترف منفذو المذبحة من إرغون برغبتهم في ارتكاب مجزرة تنكسر بها معنويات العرب.
بحسب شهادة القائد "يهودا لابيدوت"، كان الاقتراح المقدم للاقتحام هو "تصفية سكان القرية بعد احتلالها لإفهام العرب ما قد يحدث حين يشترك إرغون وشتيرن في عملية ما"[11]. وبالفعل، كانت تلك المجزرة، كما يذكر الأكاديمي والمؤرخ الفلسطيني "نور الدين مصالحة"[11]، أحد العوامل التي دفعت الفلسطينيين نحو الهجرة من أراضيهم، ولهذا قال بيغن إنه لولا دير ياسين لما كانت هناك "إسرائيل". وقد احتفى الكيان الصهيوني بتلك المذبحة أيَّما احتفال، لدرجة أن حكومته أطلقت أسماء العصابات الصهيونية المشاركة فيها وفي غيرها من مذابح على الشوارع في مستوطنة "جعفات شاؤول" المُقامة على أنقاض القرية الذبيحة[12].
ولأجل ما تمتلكه دير ياسين من رمزية للإجرام الصهيوني لا يكاد يخلو أي مرجع تأريخي لمجازر الصهيونية من ذكرها، يجب أن ندرك أن تلك المذبحة المروعة لم تكن نتاج تخطيط مرحلي مؤقت يستهدف إخافة الفلسطينيين فحسب، وإنما هي قطعة من لوحة أكبر رسمتها الصهيونية واجتهدت في تنفيذها حتى تبتلع فلسطين بسرعة البرق. لقد كانت "دير ياسين" وأخواتها ضمن خطط "أبجد" التطهيرية المصممة لإفراغ أكبر قدر ممكن من أراضي فلسطين، فبعد تصميم الخطة (أ) والخطة (ب)، أتت الخطة (ج) في مايو/أيار 1946 تطويرا نهائيا لخطة التطهير التي انتهجتها العصابات الصهيونية قبل خروج الانتداب البريطاني، وكانت تقضي بتدمير المواصلات العربية في فلسطين وتفجير البيوت التي يستخدمها المقاومون العرب وطرد سكانها من أجل احتلال الأراضي العربية الواقعة بين المستعمرات اليهودية المعزولة عن بعضها[11].
بموجب الخطة، جرى توجيه نحو 90 ضربة هجومية نحو القرى والبلدات الفلسطينية[11]، حتى إنه مع حلول شهر أبريل/نيسان 1947 كانت العصابات الصهيونية قد أخلت منطقة السهل الساحلي الواقعة بين مستوطنة "زخروف يعكوف" وتل أبيب، بالإضافة إلى إبادة 30 قرية فلسطينية ومسحها من الوجود لمنع سكانها المُهجَّرين من العودة إليها مرة أخرى. وتسبَّبت الخطة (ج) في ترحيل قرابة 30 ألف فلسطيني[2]، ثم أفسحت المجال لأختها التالية: الخطة (د)، وهي العملية الأضخم لتطهير فلسطين عِرقيا، واستمرت بين أبريل/نيسان 1948 ومايو/أيار 1949، وكانت تقضي بالاستيلاء على النقاط الرئيسية والطرق قبل رحيل البريطانيين"[13]. وبناء على ذلك اعتمدت الخطة توسيع الدولة اليهودية إلى أبعد من حدود التقسيم، ونسف وحرق وتدمير القرى العربية، وطرد السكان العرب المحليين إلى خارج الحدود"[11]. هذا وبلغت المجازر الموثقة نحو 77 مجزرة موثقة في الفترة التي سبقت حرب 1948 فقط[14].
طيهور – لهشميد
"من خزانة مصنوعة من خشب المهاغوني صنعنا قنا للدجاج، وكنا نكنس القمامة بطبق من الفضة. كان هناك أدوات خزفية مزخرفة بالذهب، وكنا نفرش على الطاولة ملاية عليها أدوات خزفية ومذهبة. وبينما كانت القدس تختنق بسبب نقص كل شيء كنا نزداد وزنا. فقد أكلنا الفراخ والطيبات التي نقرأ عنها في الكتب".
جانب من شهادات المستوطنين اليهود على سرقة البيوت الفلسطينية[15]
انتهت الحرب وانتصر الكيان، وأقيمت على خطوط الهدنة دولته الغاصبة التي فاقت حدودها حدود تقسيم الأمم المتحدة عام 1947 بنحو مرة ونصف، ولذا تغيَّرت الأوامر العسكرية، فلم تعُد هناك حاجة الآن إلى تضييع الوقت في المجازر، ومع ذلك لم تكن ثمة محاسبة على ارتكابها[2]. وقد أُعيد تلخيص الإستراتيجية الاستعمارية بكلمتين شديدتَيْ الوضوح "طيهور"، وتعني بالعبرية "تطهير" وترمز إلى طرد السكان من بيوتهم، و"لهشميد"، وتعني "دَمِّروا" وتأمر الجنود بنسف البيوت بعد تطهيرها وزرع الألغام بين ركامها حتى لا يعود أهلها[2]. وبهاتين الكلمتين ابتدأت سرقة الأرض والمال بعد سرقة الأرواح والجثث.
في كتابه "نهب الممتلكات العربية في حرب 1948″، يفضح المؤرخ الإسرائيلي "آدم راز" تاريخ السلب والسرقات التي قام بها اليهود عقب تمكنهم من البيوت الفلسطينية التي هُجِّر أهلها، إلى درجة دفعت مؤسس دولة الاحتلال "بن غوريون" نفسه إلى أن يقول في إحدى جلسات مركز "مباي": "لقد تبيَّن أن معظم اليهود لصوص. أقول ذلك بصورة متعمدة وببساطة، لأن هذه هي الحقيقة للأسف"[14]. فمن طبرية في الشمال وحتى بئر السبع في الجنوب، ومن يافا وحتى القدس، مرورا بمساجد وكنائس وقرى منتشرة بين المستوطنات، كل ذلك كان عُرضة للسرقة والنهب كما يقول آدم راز.
وقد بلغت عمليات السرقة والنهب درجة من الانتشار، حتى إنها شملت جميع طبقات المجتمع الصهيوني المستوطن بفلسطين. يقول الكاتب اليهودي "موشيه سميلانسكي"[14] إن الشعب اليهودي أصيب بسعار النهب، أفرادا وجماعات، رجالا ونساء وأطفالا، كلهم انقضوا كالطيور الجارحة على الغنائم. ويورد آدم راز شهادة عن الضابط "حاييم كرامر"، وهو من لواء النقب في عصابات "البالماخ" المسلحة، إذ قال: "مثل الجراد، انقض سكان طبريا على البيوت. اضطررنا الى استخدام القوة، وضربهم لإجبارهم على ترك الأشياء على الأرض"[15].
ومع ذلك، لم تقتصر السرقة على عامة المهاجرين والمستوطنين فحسب، بل إن الضباط والجنود شاركوا فيها أيضا بإسهامات لا تُغفَل، إذ يذكر المؤرخ الفلسطيني "سلمان أبو ستة" أنهم نهبوا المنازل بما فيها من أموال ومجوهرات ومقتنيات ثمينة، فضلا عن نهب المخازن والورش والمعدات الزراعية الثقيلة وقطعان الماشية[14]. ويذكر وزير الشرطة الصهيوني آنذاك "باخور شالوم شطريت" أن "الجيش أخرج من اللُد وحدها 1800 شاحنة محملة بالممتلكات"[16]، وهو ما تؤكده شهادة بن غوريون في مذكراته حين قال: "شاهدت ثروة لا يصدقها عقل، يجب حمايتها قبل فوات الأوان".
يورد المؤرخ الإسرائيلي "إيلان بابيه" شهادة أحد العيان على تلك الجريمة قائلا إن "جنود الاحتلال وضعوا حواجز على جميع الطرق المتجهة شرقا، التي وُجِّه إليها سكان المدينة، حيث كان الجنود الواقفون على تلك الحواجز يفتشون النازحين، وخصوصا النساء، ويسلبون مصاغهن من صدورهن ومن أيديهن ومن داخل أجسامهن حيث كنَّ يخفينها، بالإضافة إلى النقود وكل شيء خفيف الحمل وغالي الثمن"[8]. وقد امتدت السرقات إلى كبار المسؤولين أنفسهم، حيث تنافس كلٌّ منهم للاستيلاء على أفضل المنازل بالقدس المحتلة[14]، مثل "جولدا مائير" التي استولت على قصر الثري الفلسطيني "حنا بشارات" قبل أن تصرح لوسائل الإعلام: "لم يكن هناك ما يسمى بالفلسطينيين"[2].
أدَّى تطور سلوك النهب لدى القادة إلى تمريره إلى الحكومة نفسها، فقد أصدرت في يونيو/حزيران 1948 لائحة خاصة بما سمَّتها "المناطق المهجورة"، وهي الأراضي التي هُجِّر منها أهلها، وتنص على أن "الممتلكات العائدة للاجئين الفلسطينيين هي ممتلكات متروكة"[2]، وبهذا عُهِد لوزير المالية بتنفيذ أحكام الاستيلاء عليها. ثم عُيِّن في الشهر التالي قَيِّما عاما على أملاك الغائبين، وأُعطي الحق لوزير الزراعة في أكتوبر/تشرين الأول بتأجير الممتلكات باسم الحكومة. ثم صدر قرار آخر في ديسمبر/كانون الأول مُنِحَ على إثره القيِّم العام سلطة واسعة تحصِّن قراراته تجاه أملاك الغائبين من أي استئناف، وتخوله الحق في توصيف أي ممتلكات على أنها ممتلكات غائبين يحق للحكومة الاستيلاء عليها، وبناء على ذلك خضعت 300 قرية فلسطينية مُهجَّرة أو شبه مُهجَّرة لملكية القيِّم العام، ومن ثم الحكومة الصهيونية.
وقد استولت الحكومة أيضا على ما يفوق ربع مليون دونم (250 كلم2) من أراضي الفلسطينيين الذين بقوا داخل الأراضي المحتلة (عرب 48)، فضلا عن سلب 25 ألف بناء بأكثر من 57 ألف مسكن، و10 آلاف محل تجاري أو صناعي، وتحويلهم إلى عهدة شركة عميدار من أجل تسكين المهاجرين اليهود فيها[17]. ولكن إن انتهى النهب والسرقة بتأسيس الكيان واعتراف العالم به دولةً، فإن تلك الدولة المزعومة لم تكن لتتوقف عن تحويل فلسطين إلى بلد آخر، لا تمتلك فقط أرضه، وإنما تسلب تاريخه وتحاصر مستقبله.
اختراع إسرائيل
"من إيلات -العقبة- عبر فضاءات وادي عربة، من عين حصب إلى عين وهبه، علينا أن نعطي أسماء عبرية لهذه الأماكن، أسماء تاريخية، وإن لم توجد فلتكن أسماء جديدة".
ديفيد بن غوريون[18]
لم تكد الصهيونية تُحكِم قبضتها على أغلب الأراضي الفلسطينية حتى أتت الخطوة الثانية التي لم تقِل أهمية عن إبادة العِرق وسلب المال والممتلكات: إبادة المكان. فوفقا للباحث "إبراهيم عبد الكريم"[17] المتخصص في الشؤون الإسرائيلية، فإن المشروع الصهيوني قائم بالأساس على فكرة أن أرض فلسطين يهودية، ولسد الثغرات الجغرافية لهذه السردية، كان من الطبيعي أن يعمد الكيان الصهيوني إلى تهويد الجغرافيا بمجرد الاستيلاء عليها. ورأى "عبد الكريم" أن عملية الاستبدال أو التهويد تلك تنطوي على مسعى محموم لامتلاك البلاد وحرمان العرب من الانتساب إليها، وهو ما تعبر عنه بوضوح مقولة بن غوريون الشهيرة: "علينا أن نفعل كل شيء لضمان ألا يعود الفلسطينيون أبدا. كبار السن سيموتون، والصغار سينسون"[18].
ووفقا لما يذكره المؤرخ الفلسطيني "عصام سخنيني"[18]، فإن إرهاصات هذا التهويد بدأت في فترة سابقة على النكبة، وتحديدا في عام 1931 عندما أصدر الانتداب البريطاني قائمة بالأسماء الجغرافية لأراضي فلسطين، حيث تقدَّم حينها "إسحاق بن تسفي" رئيس اللجنة التنفيذية بالمجلس القومي الصهيوني بمذكرة تفصيلية للسلطة البريطانية تتضمن تعديلات تهويدية للأسماء المعلنة. ورغم تجاهل الانتداب البريطاني للأمر، خشية تفاقم السخط العربي المتأجج بفعل هجرة اليهود، فإن هذا المسعى بُعِث من جديد، دون أن يعترضه أي حائل، مع إعلان دولة الاحتلال وتشكيل بن غوريون اللجنة الحكومية للأسماء، التي أوكِلت إليها مهمة "عبرنة" جغرافيا فلسطين العربية والإسلامية، أو بكلمات أخرى: تحويل فلسطين إلى إسرائيل[19].
كانت اللجنة دؤوبة في عملها لدرجة أنها هوَّدت في عام واحد، وفي النقب وحدها، أكثر من 560 مَعلَما جغرافيا[20]، فيما أصدرت وزارة الدفاع الإسرائيلية تقريرها بتغيير هوية 500 موقع إسلامي تقريبا واعتبارهم مواقع يهودية مقدسة[21]، لكن عملية التهويد كانت تدريجية ومرحلية، نظرا لما تطلبته من جهد[17]. وعبر 10 آليات لتهويد الأسماء (أسماء تناخية، توراتية، تلمودية، إلخ) أتت المحصلة بتهويد قرابة 7000 موقع جغرافي بفلسطين، فضلا عن تهويد أكثر من 5000 موقع تحمل أسماء تاريخية، وإنشاء نحو ألف مستوطنة بأسماء عبرية على أنقاض القرى العربية المُهجَّرة[22].
وجدير بالذكر أن الاحتلال لم يغفل دور الهندسة والمعمار في تعميق استيطانه ومحاولاته المستميتة لتهويد ما تبقى من أرض فلسطين. فبحسب المعماري الأكاديمي الإسرائيلي "إيال وايزمان"[23]، كانت العمارة إحدى الوسائل المباشرة لبسط سلطة الاحتلال على الضفة الغربية وغزة قبل الانسحاب منها عام 2005. ولعل أبرز الأمثلة على ذلك ما صنعته اللجنة العسكرية عقب احتلال القدس الشرقية عام 1967، حيث صممت مخططات معمارية لضم أكبر قدر ممكن من أراضيها، عبر تشييد 12 حيا صهيونيا لتطويق الأحياء والقرى الفلسطينية وعزلها عن بعضها، فضلا عن تشييد حلقة واسعة من المستوطنات على حدودها من أجل فصل شمال الضفة عن جنوبها[24]. وإمعانا في تهويد المدينة، عمد الاحتلال لاستخدام حجارة موحدة (سميت بحجر القدس) لبناء الواجهات الخارجية لمنازل اليهود الجديدة، أو تغليف واجهات البنايات التي يصعب هدمها، ومن ثم خلع الصفة اليهودية على المدينة بتهويد بناياتها، خاصة أن الحجر المستخدم له رمزية توراتية[25].
تلك السياسة المعمارية التي انتهجها الاحتلال وطفق يمررها على أراضي الضفة بأكملها، حولت الكتلة الجغرافية الفلسطينية إلى ما سمّاه "وايزمان" بأرخبيل أراضي، أي إن القرى والأحياء الفلسطينية بالضفة تحوَّلت بفعل المستوطنات إلى نحو 200 جزيرة منعزلة، لا يفصلها الماء وإنما هندسة الاحتلال التي تعوق التئام الشعب الفلسطيني وتمحو هويته عن بلدته بالتدريج. وتقدم لنا السياسة الهندسية والجغرافية للاحتلال نمطا آخر من الإبادة التي لا تتوقف بحق الشعب الفلسطيني، كاشفة عن العقيدة الصهيونية المؤمنة بأن وجود دولتها يعتمد في جوهره على محو شعب آخر من الوجود جغرافيًّا وتاريخيًّا وثقافيًّا، ولذا فإن الاحتلال مستمر في "ممارسة التطهير العرقي وكل الممارسات الإجرامية الأخرى الممكنة ضد الشعب الفلسطيني لمسحه من وطنه، ومن الذاكرة الجمعية للعالم"[2]، ما يحدث في غزة اليوم ليس سوى الحلقة الأحدث في تلك السلسلة الطويلة من الانتهاكات التي لا يمكن أن يوجد المشروع الصهيوني بدونها.
————————————————————————
المصادر عبد الوهاب الكيالي، الموسوعة السياسية، الجزء الأول. إسلام شحدة العالول، التطهير العرقي ضد الشعب الفلسطيني.. فعل استعمار استيطاني صهيوني محوري ومستمر. وليد حباس، مفهوم الاستعمار الاستيطاني نحو إطار نظري. أباهر السقا، نحو إعادة التفكير في الأطر المفاهيمية لتحليل السياق الفلسطيني الاستعماري. عزمي بشارة، استعمار استيطاني أم نظام أبارتهايد: هل علينا أن نختار؟ بن-فيرد، هآرتس، 7/4/1989، ورد في: نور الدين مصالحة، طرد الفلسطينيين.. مفهوم الترانسفير في الفكر والتخطيط الصهيوني 1882-1948. من هم الإرهابيون؟ حقائق عن الإرهاب الصهيوني والإسرائيلي – مؤسسة الدراسات الفلسطينية. إيلان بابيه، التطهير العرقي في فلسطين. Daniel Mcgowan and Matthew C. Hogan, The Saga of Deir Yassin: Massacre, Revisionism, and Reality. Menachem Begin, The Revolt.. The Story of The Irgun. نور الدين مصالحة، طرد الفلسطينيين.. مفهوم الترانسفير في الفكر والتخطيط الصهيوني 1882-1948 عبد الوهاب المسيري، الصهيونية والعنف من بداية الاستيطان إلى انتفاضة الأقصى. L.R. Banks, Torn Country: An Oral History of The Israel War of Independence. سلمان أبو ستة، فلسطين.. الحقوق لا تزول. آدم راز، نهب الممتلكات العربية في حرب 1948. توم سيغف، الإسرائيليون الأوائل عام 1949. إبراهيم عبد الكريم، تهويد الأرض وأسماء المعالم الفلسطينية. عصام سخنيني، الجريمة المقدسة.. الإبادة الجماعية من أيديولوجيا الكتاب العبري إلى المشروع الصهيوني. Nur Masalha, «Remembering the: Palestinian Nakba: Commemoration, Oral History and Narratives of Memory,)) Holy Land Studies. Nadia Abu El-Haj, Facts on the Ground: Archaeological Practice and Territorial Self- Fashioning in Israeli Society (Chicago: University of Chicago Press, 2001), p. 95. Meron Benvenisti, Sacred Landscape: The Buried History of the Holy Land Since 1948. وسائل تهويد مدينة القدس – وكالة الأنباء والمعلومات الفلسطينية. إيال وايزمان، أرض جوفاء.. الهندسة المعمارية للاحتلال الإسرائيلي. Avia Hashimoshoni, Yoseph Schweid and Zion Hashimoshon, Masterplan for the city of Jerusalem. إيال وايزمان، الهندسة المعمارية الديموغرافية في القدس.المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: الشعب الفلسطینی التطهیر العرقی أرض فلسطین العربیة فی دیر یاسین بن غوریون من أراضی فی الوقت فضلا عن على ذلک حرب 1948 على أن من أجل إلى ما لم تکن قبل أن
إقرأ أيضاً:
لماذا لا يمكن للسلطة الفلسطينية وقف التنسيق الأمني مع إسرائيل واختيار المقاومة؟
قالت مجموعة الأزمات الدولية إن الأزمة الوجودية الحادة التي تعاني منها السلطة الفلسطينية تفاقمت، ويلومها الفلسطينيون إما لضعفها في مواجهة عدوان الاحتلال أو بسبب تنسيقها الأمني معه. في حين تتهمها إسرائيل بعدم الفعالية في قمع المسلحين الفلسطينيين، وفرض الأمن على عناصر المقاومة بالضفة الغربية.
جاء ذلك في تقرير نُشر الأسبوع الماضي لكبير محللي فلسطين في مجموعة الأزمات الباحثة تهاني مصطفى بعنوان "توغلات إسرائيل في الضفة الغربية تسلط الضوء على معضلات السياسة الفلسطينية".
وقد بدأت إسرائيل عملية "الجدار الحديدي" في 21 يناير/كانون الثاني الماضي، بعد يومين فقط من دخول اتفاق وقف إطلاق النار في غزة حيّز التنفيذ، مما أدى إلى تصعيد عسكري واسع النطاق لقمع المقاومة المسلحة الفلسطينية في الضفة.
وتسببت عمليات الاحتلال في دمار واسع للمخيمات والمناطق الحضرية المجاورة لها بالضفة، حيث وصف السكان أحياءهم بأنها "غزة مصغرة". وأدى هذا الدمار إلى تشريد ما لا يقل عن 40 ألف شخص، في وقت يؤكد فيه الإسرائيليون أنهم لن يسمحوا بعودة هؤلاء إلى مخيماتهم، حسب ما جاء في التقرير.
الجزيرة نت حاورت محللين وباحثين مختصين في الشؤون الفلسطينية لتسليط مزيد من الضوء على هذه القضية، وخلاصة ما وصلوا إليه يمكن إجمالها في النقاط التالية:
إعلان السلطة الفلسطينية تتحمل الجزء الأكبر مما يحدث في الضفة الغربية. السلطة لم تقدم البدائل الحقيقية لتحقيق تطلعات الشعب الفلسطيني، وخلقت حالة من الترهل داخل المنظومة السياسية الفلسطينية. السلطة مسؤولة عن انسداد الأفق السياسي واستمرار الانقسام الداخلي بوصفها السلطة الحاكمة والمسؤولة عن إدارة البيت الفلسطيني. تخلي السلطة عن مسؤوليتها الوطنية في قيادة الشعب نحو التحرير وإقامة الدولة يدفع الشعب نحو قوى وطنية أخرى أقدر وأجدر على حمل تطلعاته الوطنية. السلطة لا تعتمد على الشعب الفلسطيني في البقاء، فهي لا تحتاج إليه ماليا أو سياسيا، بل تحتاج إلى دعم كل من الولايات المتحدة وإسرائيل. لا يوجد في الواقع أي بديل حاليا للسلطة الفلسطينية، ورغم الاستياء الشعبي من أدائها الذي تعكسه استطلاعات الرأي فليس هناك دافع للإصلاح. السلطة واقعيا أشبه بإدارة مدنية تُعنى بشؤون الفلسطينيين تحت الاحتلال حيث توفر الخدمات البلدية والصحية والتعليمية والاقتصادية. السلطة لا تملك أي رؤية سياسية بديلة عن اتفاق أوسلو، بعد أن فقدت أوراق المفاوضات، في وقت يعمل فيه الاحتلال الإسرائيلي منهجيا على نزع الصفة السياسية عنها وتقليص دورها. السلطة ما زالت تعوّل على اتفاق أوسلو رغم أنه انتهى سياسيا وواقعيا، وهناك قرارات من الكنيست تمنع تطبيق بنوده. السلطة تتحمل مسؤولية انهيار المنظومة الأمنية أمام توحش الاحتلال وتنكيله بالفلسطينيين، وعدم الاعتراض على ذلك. السلطة تخشى مواجهة الاحتلال أو غض الطرف عن نشاط المقاومين في الضفة خوفا من فقدانها الامتيازات المادية والسلطة المكتسبة عبر ديمومة التنسيق الأمني. الوجود العسكري الإسرائيلي المتكرر في الضفة حوّل السلطة إلى شبه بلدية تتحمل الأعباء الصحية والتعليمية الثقيلة، وباقي الملفات المصيرية ذهبت لإدارة الاحتلال العسكرية. إسرائيل تنوي تحويل المخيمات في الضفة الغربية إلى "غزة مصغرة"، أي تدميرها بالكامل. ليس من الصحيح أن السلطة الفلسطينية كانت تحتكر السيطرة في الضفة، فمنذ نشأتها وهي تواجه صعوبة في فرض إرادتها على كامل الضفة، فهي كيان نشأ في الخارج أولا ثم فُرض على الفلسطينيين. يجب على السلطة أن تأخذ قرارا حاسما بوقف التنسيق الأمني مع الاحتلال وأن تتحول إلى مربع النضال والثورة ضد الاحتلال. يجب فصل السلطة الفلسطينية التي تقدم الخدمات للمواطنين عن منظمة التحرير الفلسطينية المعنية بتحقيق تقرير المصير.
تقول تهاني مصطفى -في مقابلة مع الجزيرة نت- إن السلطة الفلسطينية تتحمل جزءًا من المسؤولية عما حدث، إما من خلال تقديم بدائل محدودة جدًا لمعظم الفلسطينيين في الضفة الغربية، مثل فرص اقتصادية ضعيفة، وتدهور مستويات المعيشة، وعدم القيام بأي شيء لمحاولة التخفيف من حدة العنف في الضفة الغربية من قبل المستوطنين والجنود الإسرائيليين، وعدم الدفاع عن الفلسطينيين بشكل صحيح سياسيًا على الساحة الدولية.
إعلانلا أعتقد أن السلطة الفلسطينية تعتمد على الفلسطينيين للبقاء، فهي لا تحتاجهم ماليًا أو سياسيًا، إنها تحتاج دعم الولايات المتحدة وإسرائيل، فهما الكيانان القويان اللذان يحددان بقاء السلطة، وهي تعرف ذلك، ورغم الاستياء الشعبي الكبير الذي عبرت عنه استطلاعات الرأي مرارًا وتكرارًا فليس لديها أي دافع للإصلاح.
ما دامت الولايات المتحدة مستمرة في توفير البقاء للسلطة، وتستمر أوروبا في تقديم الدعم، وإسرائيل تسمح لها بالبقاء، فإنها ستبقى. وهذا شيء كان واضحًا جدًا خلال 16 شهرا الماضية، فالسلطة الفلسطينية لا تريد التعامل إلا مع الأميركيين والأوروبيين.
لم يحاول قادة السلطة حتى القيام بالكثير فيما يتعلق بما يحدث في قطاع غزة أو حتى في الضفة الغربية، حتى أن الوسطاء الإقليميين مثل قطر كانوا يقولون إن المشكلة ليست أن السلطة الفلسطينية لم تُدعَ إلى طاولة المفاوضات لوقف إطلاق النار، بل لأنها ترفض الحضور.
طبيعة الاحتلال قد تغيرت، فإسرائيل لن تتحمل أي مسؤولية تجاه 5 ملايين فلسطيني يعيشون في الضفة الغربية من حيث توفير الخدمات، والمجتمع الدولي لن يتمكن من القيام بذلك مباشرة، وليس هناك بديل حقيقي للسلطة الفلسطينية.
حتى الفلسطينيين لا يستطيعون تصور بديل الآن، وهو ما يعد أكبر إنقاذ للسلطة الفلسطينية، فبقاؤها بالكامل يعتمد على التنسيق الأمني، وحتى (حركة المقاومة الإسلامية) حماس تدرك أنه يجب أن يكون هناك هذا التنسيق.
السلطة الفلسطينية بشكل عام بدأت تفقد قبضتها منذ فترة طويلة، وهذا ليس لأن الفلسطينيين لا يريدونها أو لأنهم يرون بدائل، ولكن لأنها من الناحية المالية مقيدة جدًا نتيجة ممارسات الاحتلال، بالإضافة إلى الفساد الداخلي للسلطة الفلسطينية الذي يسهم في أن تفقد السلطة قبضتها.
السلطة الفلسطينية لم تكن تحتكر السيطرة على الضفة الغربية طوال الوقت، فعملها كان شاقا للغاية منذ نشأتها، فهي لم تكن كيانًا طبيعيًا نشأ في الضفة الغربية، لقد كانت شيئًا مفروضًا على الفلسطينيين من الخارج.
السلطة الفلسطينية تتحمّل مسؤولية كبيرة عن انهيار المنظومة الأمنية الحامية للفلسطينيين أمام توحّش الاحتلال وتنكيله بالفلسطينيين في عموم الضفة الغربية، ويعود ذلك لعدة أسباب منها:
إعلان التزامات اتفاقية أوسلو التي جعلت الأجهزة الأمنية والأمن الوطني أداة لحماية المستوطنين، وملاحقة النشطاء والمقاومين للاحتلال، بذريعة محاربة الأعمال "الإرهابية" الضارّة بالسلام ومسار المفاوضات المتوقّف منذ عام 2014. مع أن اتفاقية أوسلو انتهت سياسيا وواقعيا، فإن السلطة الفلسطينية تخشى مواجهة الاحتلال وانتهاكاته أو غض النظر عن النشطاء والمقاومين، وذلك خوفا من فقدانها الامتيازات المادية والسلطوية المكتسبة عبر ديمومة التنسيق الأمني الذي يشكّل حاجة إسرائيلية مدعومة من الولايات المتحدّة. استخدام الولاء المطلق لمنتسبي الأجهزة الأمنية في تصفية الحسابات مع المعارضين السياسيين عبر الاعتقال أو الحرمان الوظيفي أو التحييد كما حصل مع المعارض نزار بنات ابن مدينة الخليل الذي توفي بعد ساعات من اعتقاله لدى أجهزة أمن السلطة في يونيو/حزيران 2021.خطورة ذلك أن السلطة الفلسطينية ستفقد شرعيتها في عين المواطن الفلسطيني الذي ينتظر منها الحماية أمام انتهاكات الاحتلال وعبث المستوطنين الذين وصلت بهم الجرأة إلى سرقة الأغنام وقطع أشجار الزيتون وحرق المركبات والبيوت، كما حصل في قرية حوّارة جنوب نابلس في فبراير/شباط 2023، دون أي حراك من السلطة أو دفاع من أجهزتها الأمنية.
التخلي عن المسؤولية الوطنية يُفقد السلطة أهليتها السياسية في قيادة الشعب الفلسطيني نحو التحرير وإقامة الدولة الفلسطينية، مما يدفع الشعب الفلسطيني إلى الاتجاه نحو قوى وطنية أخرى أقدر وأجدر على حمل تطلعاته الوطنية.
فكرة التنسيق الأمني مع الاحتلال تعد خطيئة من حيث البدء، وكان من المفترض ألا تكون، فمن غير المنطقي أن تعمل سلطة فلسطينية وأجهزتها الأمنية لصالح الاحتلال أو تمنحه معلومات عن النشطاء والسياسيين والعاملين في الحقل الوطني.
الاحتلال تنصّل سياسيا من التزامات اتفاقيات أوسلو، وتبنّى الكنيست الإسرائيلي تشريعا في يوليو/تموز 2024 يرفض فيه قيام دولة فلسطينية بوصفها خطرا وجوديا على دولة إسرائيل ومواطنيها.
إعلانأصبح من الضرورات السياسية والوطنية أن تأخذ السلطة الفلسطينية قرارا حاسما بوقف التنسيق الأمني مع الاحتلال الإسرائيلي، وأن تتحوّل إلى مربع النضال والثورة ضد الاحتلال بكافة الوسائل وأشكال المقاومة.
واقعيا، السلطة الآن أشبه بإدارة مدنية تُعنى بشؤون الفلسطينيين تحت الاحتلال عبر توفير الخدمات البلدية والصحية والتعليمية والاقتصادية، وبجودة منخفضة، بسبب الفساد الإداري والعجز المالي وغياب معايير الشفافية.
السلطة لا تملك أي رؤية سياسية بديلة عن اتفاق أوسلو بعد أن فقدت ورقة المفاوضات، في وقت يعمل فيه الاحتلال الإسرائيلي منهجيا على نزع الصفة السياسية عنها، وتقليص دورها حتى الإداري بسحب العديد من صلاحياتها التي من المفترض أن تطلع بها، لا سيّما في المناطق المصنّفة "إي" حسب تقسيمات اتفاقيات أوسلو لأراضي الضفة الغربية.
الرئيس محمود عباس يفقد بالتدريج قدرته على السيطرة، ولو على أجزاء من الضفة الغربية، وسيحوّله الاحتلال واقعيا وفي وقت قريب إلى رئيس لسلطة مدنية محلية تحت السيادة الإسرائيلية، إن بقيت السلطة على هذه الشاكلة من دون استدراك عاجل على دورها السياسي والوطني.
لا يختلف اثنان من الفلسطينيين حتى ممن ينتمون لحركة فتح التي انبثقت منها السلطة الفلسطينية على أنها تتحمل الجزء الأكبر من المسؤولية عما حل في الضفة الغربية، نظرا لعدد من الأسباب:
السلطة تتحمل الجزء الأكبر فيما يتعلق باستمرار الانقسام الفلسطيني لأنها في النهاية السلطة الحاكمة والمسؤولة. عدم قدرتها على تجديد الوجوه مما خلق حالة من الترهل داخل أجسام السلطة في كافة المستويات، وهذا الأمر انعكس على رؤية السلطة السياسية نتيجة الاتكاء على فرضية أن الولايات المتحدة معنية بحل الدولتين، وبالتالي لا حاجة لاستحداث وسائل أخرى. السلطة لم تخلق أي رؤية إستراتيجية واكتفت بخط سياسي غير موجود عمليا، مع وجود حالة من البحث عن المصالح الشخصية الضيقة، وبالتالي وصلنا إلى هذا الوضع المتردي أمنيا وسياسيا واقتصاديا، وبالتالي السلطة الفلسطينية تتحمل الجانب الأهم في ذلك. إعلانجزء من الفلسطينيين يرى أن السلطة عقبة أمام القدرة على مواجهة الاحتلال، وكذلك هناك من يرى أن وجودها بات عبئا على الفلسطينيين كون سلاحها مستخدما ضد الفلسطينيين بشكل أو بآخر.
هذه الحالة من التخلي عن البعد السياسي وقبول البعد الإداري فقط يترتب عليها ما يلي:
السلطة الفلسطينية ستتحول إلى جهاز إداري فقط يتحمل جزءا من أعباء الفلسطينيين لكنه في الوقت نفسه سيستميت من أجل الدفاع عن نفسه. سنكون أمام حالة من السلطة التي وافقت على تحديد صلاحياتها وتقزيم نفسها، لكنها لن تقبل التخلي عن أي دور. سيولد ذلك حالة من اصطدام داخلي إن لم يكن هناك حراك داخلي فلسطيني باتجاه ترسيخ حلول داخلية ووحدة فلسطينية وإنتاج مظلة جديدة تجمع الكل الفلسطيني.
السلطة الفلسطينية يجب أن تتخلى عن التنسيق الأمني منذ سنوات طويلة، وكانت هناك قرارات من المجلس المركزي الفلسطيني نفسه طالب السلطة بضرورة التخلي عن التنسيق الأمني.
في الفترة الأخيرة، لم تعد إسرائيل تكترث بالتنسيق الأمني كثيرا مع السلطة، لأن إسرائيل عمليا باتت تسيطر أمنيا على الضفة الغربية بشكل كبير.
السلطة الفلسطينية فقدت أوراق السيطرة على ما تبقى من الضفة الغربية، فهي اليوم ترمى في زاوية تحمل أعباء الفلسطينيين الصحية والتعليمية وغيرها، وباقي الملفات تسحب منها شيئا فشيئا وتذهب لإدارة الاحتلال العسكرية.
السلطة بذلك تحولت إلى شبه بلدية في الضفة الغربية، وهذا لا يرجع فقط للاجتياح المتكرر لمناطق الضفة، بل لأنها قبلت على نفسها مع مرور الوقت الانحناء كثيرا تحت عنوان "الصبر الإستراتيجي" و"الحكمة في التعاطي"، وتحت عناوين مختلفة ومتنوعة ومتعددة.