عن ذهنية ألمانية: من ذنب الهولوكوست إلى ذنبية غزة
تاريخ النشر: 8th, December 2023 GMT
في مثل هذه الأيام، ولكن قبل نحو عام وبصدد الاجتياح الروسي في أوكرانيا، كانت أورسولا فون دير لاين، رئيسة المفوضية الأوروبية، قد غردت هكذا على تويتر: «قطع الكهرباء عن أوكرانيا جريمة حرب. الهجمات الروسية ضدّ البنية التحتية المدنية، خاصة الكهرباء، جرائم حرب. منع الرجال والنساء والأطفال من الماء، والكهرباء، والتدفئة في الشتاء المقبل، هذه أفعال إرهاب صريح.
ليست هكذا، في ناظر فون دير لاين، حين تمارس دولة الاحتلال هذه الانتهاكات، وأسوأ منها بكثير وأشدّ وحشية وهمجية، ضدّ المدنيين من أطفال ونساء وشيوخ في قطاع غزّة. أكثر من ذلك، فإنّ وزيرة الدفاع الألمانية الأسبق، والطبيبة التي أقسمت يمين أبقراط، زارت مستوطنات غلاف غزّة (من دون تكليف مباشر، أو حتى غير مباشر، من البرلمان الأوروبي الذي يفوّضها وتُحاسب أمامه) فأصغت بكلّ جوارحها إلى ضباط جيش استعماري استيطاني عنصري كانت ساعات قليلة فقط قد سبقت تصريح وزير دفاع ذلك الجيش بأنه يحارب «حيوانات بشرية»؛ متناسية (إذْ كيف لها أن تنسى !) مفردة «الجرذان» التي استخدمها الخطاب النازي في وصف اليهود.
صحيح، بالطبع، أنها لا تشغل أيّ موقع رسمي في الحكومة الألمانية الراهنة، ولكن يصعب في المقابل ألا تكون تصريحاتها ومواقفها، ثمّ مكاييلها المتغايرة المتقلبة بصدد الانتهاكات المتماثلة، مرآة صادقة تعكس ذهنية ألمانية عريضة الانتشار، لا تترسخ في نزوع الساسة القائمين على رأس السلطة أو السابقين منهم، فحسب؛ بل تشمل نطاقاً عريضاً من المسؤولين في حقول الاقتصاد والاجتماع والثقافة. هنا تُترجم عقدة الذنب الألمانية بصدد الهولوكوست إلى اصطفاف أعمى خلف دولة الاحتلال، وتبرير طراز جرائم الحرب الأسوأ من تلك التي صنع معظمها مأساة ملايين اليهود في ألمانيا وأوروبا خلال الحقبة النازية.
في وسع فون دير لاين أن تغلق، عن سابق عمد وتصميم، أدراج الذاكرة التي تذكّر بعشرات الوقائع حول الصلات التي ربطت بين عدد غير قليل من الصهاينة، فكراً وممارسة، من جهة أولى؛ ورجالات المشروع النازي ودولة الرايخ الثالث، فكراً وممارسة، من جهة ثانية. في محفوظات التاريخ، من جانبها، محال أن تُطمس وقائع مثل تعاون تيودور هرتزل مع أكثر الساسة والصحافيين والكتّاب عداءً صريحاً للسامية في فرنسا، وتوسيع دوائرها إلى ألمانيا. أو كسر الوعد الصهيوني بمقاطعة ألمانيا النازية والانتقال، على العكس، إلى «اتفاقية هافارا» سنة 1933 بين الرابطة الصهيونية الألمانية والمصرف الأنكلو – فلسطيني (تحت إدارة الوكالة اليهودية) والسلطات الاقتصادية في ألمانيا النازية. أو التعاون المباشر بين أجهزة الغستابو وبعض المنظمات والقيادات الصهيونية، لمقايضة سماح الألمان بالهجرة اليهودية إلى فلسطين، مقابل التواطؤ على هذا او ذاك من ملفات ترحيل يهود أوروبا إلى معسكرات الاعتقال.
فإذا شاء المرء طيّ صفحات الماضي والانتقال إلى الحاضر، ففي الوسع العودة إلى خطبة شمعون بيريس أمام البرلمان الألماني حين كان رئيساً للكيان، وكيف وُصفت بـ«التاريخية» لأسباب شتى، فعلية أو ملفقة؛ في طليعتها أنّ تلك الممارسة كانت الأولى من نوعها في تاريخ العلاقات الألمانية ـ الإسرائيلية. من جانب دولة الاحتلال في الواقع، لأنّ المستشارة الألمانية السابقة أنغلا ميركل تحدّثت من سدّة الكنيست الإسرائيلي، أواخر آذار (مارس) 2007؛ وسبقها إلى هذا الرئيس الألماني الأسبق يوهانس راو، سنة 2000، حين طلب العفو والمغفرة عن الجرائم التي ارتكبتها ألمانيا النازية بحقّ اليهود. لكنّ خطبة بيريس اعتُبرت «تاريخية» لسبب آخر، لغوي وثقافي صرف هذه المرّة، هو أنه تحدّث بالعبرية فلم ينسحب من قاعة البوندستاغ أيّ نائب ألماني، من باب الاحتجاج؛ كما فعلت حفنة نوّاب إسرائيليين رفضوا الإصغاء إلى ميركل باللغة الألمانية، وطالبوها باستخدام اللغة العبرية!
ورغم أنّ ميركل ذهبت في أقوالها إلى ما لم يتجاسر على الذهاب إليه أيّ صديق غربي لدولة الاحتلال، بمَنْ فيهم ساسة الولايات المتحدة الأمريكية، حين اعتبرت أنّ تهديد وجود إسرائيل يُعدّ تهديداً لوجود ألمانيا؛ فإنّ عضو الكنيست أرييه إلداد صرّح بأنّ «الألمانية كانت آخر لغة استمع إليها جدّي وجدّتي قبل مقتلهما، وأمر الإعدام صدر باللغة الألمانية، ولست مستعداً لسماعها داخل قاعة الكنيست». كذلك لم يشفع للمستشارة الألمانية أنها، خلال الزيارة ذاتها، ألحقت الإهانة تلو الإهانة بالفلسطينيين، شعباً وحكومة؛ وجعلت اجتماعها مع الرئيس الفلسطيني محمود عباس يتمحور حول البند الأهمّ في نظرها: إطلاق سراح الجندي الإسرائيلي الأسير جلعاد شاليت.
ولأنّ خطبته تلك كانت تصادف اليوم العالمي لاستذكار الهولوكوست، فقد شاء بيريس التشديد على ضرورة قيام الألمان بواجبهم في مطاردة جميع «المجرمين النازيين» الذين ما يزالون طلقاء، هنا وهناك في العالم؛ لأنّ الذكرى لا تخصّ الضحايا فحسب، بل يتوجب أن تكون «نذيراً» للعواقب المأساوية التي تنجم عن عدم التحرّك ضدّ ارتكاب الفظائع. وتقديم أولئك المجرمين إلى العدالة ليس فعل انتقام، في نظره، بل هو «درس تربوي» للأجيال الراهنة من الشباب: «كي يتذكروا، ولا ينسوا أبداً، أنّ عليهم معرفة ما جرى، وأن لا يساورهم، أبداً، أدنى شكّ بعدم وجود خيار آخر سوى السلام والمصالحة والحبّ»…
وانظروا مَنْ الناطق بهذه الدعوة، الرقيقة الحانية العطوفة: رئيس الدولة ذاتها التي كانت قد ارتكبت، قبل عام واحد فقط من تلك الخطبة، عشرات المجازر البربرية في قطاع غزّة، مستخدمة أسلحة دمار وحشية يندى لها جبين أشدّ عتاة النازية تعطشاً للدماء! ليس هذا فحسب، بل إنّ بيريس نفسه كان رئيس وزراء الكيان حين ارتكبت البربرية الإسرائيلية مجزرة بلدة قانا اللبنانية الجنوبية، سنة 1996؛ وأسفرت عن 106 شهداء مدنيين، بين شيخ وامرأة وطفل، و350 جريحاً، رغم أنّ الضحايا كانوا في ملجأ مدني رسمي تابع للأمم المتحدة.
فإذا انتقل المرء من الساسة إلى أفراد المجتمع المدني، فلعلّ ذاكرة فون دير لاين وأضرابها لا تملك إغفال حملة الترهيب الفكري والقانوني الشرسة التي قادها دانييل جوناه غولدهاغن ضدّ نورمان فنكلستين (المؤرخ، والأكاديمي الأمريكي المرموق، واليهودي سليل أسرة ناجية من المحرقة)؛ وضدّ روث بتينا بيرن (المؤرخة الكندية، والباحثة المسؤولة عن ملفات الجرائم بحقّ الإنسانية في وزارة العدل الكندية). وغولدهاغن، لمَنْ لا يعرفونه، مؤلف مجلد في 619 صفحة، عنوانه «جلاّدو هتلر المتطوّعون: الألمان العاديون والهولوكوست» تنهض أطروحته الوحيدة على هذا الجزم الرهيب القاطع: ألمانيا بأسرها، بلداً وشعباً وثقافة، مسؤولة عن الهولوكوست؛ و«الأمّة الألمانية هي الهولوكوست، ولولا هذه الأمّة لما كان الهولوكوست». وأمّا جريمة فنكلستين وبيرن فقد كانت تفنيد أطروحة غولدهاغن، على نحو علمي هادئ، وفي دورية فكرية رصينة هي «المجلة التاريخية» التي تصدر عن جامعة كامبرج؛ التي كانت قد اتصلت به كي يردّ، فاختار أن يفعل عن طريق مكتب محاماة!
ولعلها مفارقة مزدوجة الدلالة أنّ الأمريكي وليام غغليمو نيدرلاند (1904-1993) الذي كان رائداً في دراسة العواقب النفسية للناجين من الهولوكوست على صعيد الإحساس بالذنب، كان لاجئاً من أصل بروسي، وكان يهودي الديانة وابن حاخام. ولقد قُيّض له أن يتفحص، أيضاً، بعض أطوار انقلاب سليل الجلاد السابق إلى مذنب لاحق، أو… إلى ذَنَب يلهث خلف ضحية سابقة، انقلبت إلى مجرم حرب!
(القدس العربي)
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه الاحتلال الهولوكوست المانيا غزة الاحتلال الهولوكوست مقالات مقالات مقالات رياضة سياسة سياسة سياسة صحافة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة فون دیر لاین ة الألمانیة
إقرأ أيضاً:
"يونيبر" الألمانية للطاقة تُحقق ارباحا تقل قليلا عن 1.3 مليار يورو
الاقتصاد نيوز - متابعة
حققت شركة "يونيبر" الألمانية للطاقة أرباحا تقل قليلا عن 1.3 مليار يورو في الأشهر التسعة الأولى من هذا العام من أعمالها في توليد الكهرباء وتجارة الغاز.
وأعلنت الشركة في دوسلدورف الثلاثاء أن النتيجة الصافية المعدلة جاءت - كما كان متوقعا - أقل بكثير من رقم العام السابق البالغ 3.7 مليار يورو. وكانت أسباب الربح المرتفع في عام 2023 - من بين أمور أخرى - ارتفاع أرباح التداول وانخفاض أسعار شراء الغاز.
وأكدت الشركة، التي تم إنقاذها بمليارات اليورو من أموال الدولة خلال أزمة الطاقة، توقعاتها للعام الحالي ككل. وتتوقع "يونيبر" تحقيق أرباح صافية تتراوح بين 1.1 مليار و1.5 مليار يورو لعام 2024. والشركة مملوكة حاليا بصورة مؤقتة للدولة الألمانية منذ أزمة الطاقة في عام 2022.
وقالت المديرة المالية للشركة، يوتا دونجيس، إن التطور التشغيلي للشركة كان مستقرا في بيئة سوق تعود إلى طبيعتها على نحو متزايد، موضحة أنه تم لذلك تأكيد التوقعات لعام 2024.
وأضافت: "بوجه عام يعد هذا تطورا إيجابيا - حتى لو كان هذا المستوى من النتائج لن يتكرر في السنوات المقبلة".
وشددت دونجيس على أن الشركة تحرز تقدما نحو أن تصبح "أكثر مراعاة للبيئة"، وقالت: "ما يقرب من 50 بالمئة من كمية الكهرباء التي أنتجناها حتى الآن في عام 2024 خالية من ثاني أكسيد الكربون، ونحن ننفذ بمثابرة التخلص التدريجي من الفحم".