صحيفة الاتحاد:
2024-07-08@04:00:45 GMT

الكتابة الخضراء.. الفلسفة والبيئة!

تاريخ النشر: 8th, December 2023 GMT

ساسي جبيل (تونس)

أخبار ذات صلة «الدار» تبيع المرحلة الأولى بأول مشاريعها في رأس الخيمة «إياتا» تتوقع نمواً قوياً بقطاع الطيران في الإمارات خلال 2024 مؤتمر الأطراف «COP28» تابع التغطية كاملة

يقول الكاتب الأميركيّ ريتشارد لوف: «بوسع طفل أن يحدّثكم اليوم عن الغابة الأمازونيّة المداريّة، ولكن ليس عن آخر مرّة اكتشف فيها أجمة لوحده، أو أنّه استلقى في حقل ليصغي إلى الرّياح وهو يرى حركة الغيوم».

إنّ تقلص المعارف الخبْريّة التي كانت تُحصَّل سابقاً في الحياة اليومية وسط مظاهر الطبيعة والبيئة نجم عنه نوع من الانبتات القاسي، بالمعنى الفعليّ كما بالمعنى الاستعاريّ، لأجيال من سكّان أصليّين كثر في أصقاع كثيرة من العالَم، فلم تعد لهم حياة بين الأشجار والبيئة الطبيعية التي عاش فيها أسلافهم، ولعل هذا أحد أسباب قصور تمثل التحديات البيئية الراهنة.
إنّها إحدى مفارقات عصرنا، الذي يواجه اليوم مشكلات البيئة وتغير المناخ، ففي الجهة المواجهة لمسرح حياتنا قد تقصر أبصارنا عن رؤية كائنات حيّة كالأشجار والحيوانات وكثير من مظاهر الحياة الفطرية التي تشاركنا الحياة على هذا الكوكب الأزرق. وقد لا يكون ثمّة أجدر من الفلسفة للاهتمام بما قد تفرضه الحياة وتحديات البيئة والطبيعة بصفة عامة من مفارقات. وهنا نحاول أن نجوب قروناً من علاقة الفلسفة بالبيئة وإن كنا لا نجد أحياناً غير عدم الاكتراث واللاّمبالاة أمام عالم النّبات إلاّ في ما ندر من شذرات مبتورة، أو من فلاسفة فتحوا أبصارهم على عالم النّبات ضمن آفاق معرفيّة صديقة للبيئة. وغير ذلك ليس لنا إلاّ معارف حديثة مستمدة من أنصار البيئة وعلماء النّبات قد يتلقّفها بعض الفلاسفة الجدد أحياناً ليستأنفوا التّفكير في المحيط الحيويّ والظرف البيئي والطبيعي المحيط بالإنسان.

مسائل جمالية
وعلى سبيل المثال لا الحصر، ففي إطار الحماس الطّاغي لعلوم الحياة في بريطانيا خلال الحقبة الفكتوريّة، كان الفيلسوف وعالم البيولوجيا توماس هكسليْ (1825-1895) قد قال منذ 150 سنة: «بالنّسبة إلى شخص غير متكوِّن في مجال التّاريخ الطّبيعيّ، فإنّ جولة في الرّيف هي جولة حول رواق عامر بالآثار الفنّية البديعة»! وسواء أعجب هذا أو لم يعجب البعض، فإنّ كلّ الكل يذكرون أنّه ليس بالضّرورة أن يكون المرء متضلّعاً في علوم الحياة والأرض حتّى يستسيغ بساطاً من البنفسج البرّيّ!
وفي المقابل، فلا خلاف على أن أزهار الحقول والنّباتات البريّة، والأشجار الغريبة والأراضي المشجَّرة، ليست لا أعمالاً فنّية ولا هي عناصر تزويق مسرح مشيّد حسب مقاييس مضبوطة! ولكن ثمّة كائنات حيّة تطرح فعلاً على الإنسان مسائل جمالية، وحتّى ميتافيزيقيّة. وقد يتساءل بعض الطبيعيين: هل ثمّة استمرار من النّبات إلى الحيوان؟ وإذا كانت ثمّة حياة للنّباتات، فهل لها «أسلوب عيش» كما تتساءل الفيلسوفة الفرنسيّة فلورنس بيرغات؟ لكن كيف نعرّف مفهوم «العيش» نفسه؟ فثمة كثير من الأسئلة التي تُطرح على أطفال الأدغال كما على الفلاسفة الذين يحبّون القفز من غصن إلى غصن، حسب تعبيرها.

التّاريخ الأخضر
ولكن من المحاذير التي ينبغي الانتباه لها ونحن نغوص في «التّاريخ الأخضر» للفلسفة ألاّ نقع أيضاً في ضرب من الأنثرومورفيا (النّزعة الإحيائيّة التي تخلع على النّبات خصائص الإنسان)، فقد يكون ذلك وارداً في الأدب والفنّ، ولكن الأمر في الفلسفة يتعلّق بتأويل مغاير، وطريقة تفكير مختلفة.
وعندما نراجع الفلاسفة ما قبل سقراط، فإنّ الشّذرات التي وصلتنا منهم لا تتناول مباشرة عالَم النّبات رغم وصفهم، إجمالاً، بأنّهم أوائل الطّبيعيّين. ولكن بعض هذه الشّذرات توفّر ملخّصاً لرؤية ما في الموضوع. فأمبيدوقليس (ق. الخامس ق.م.) يصرّح بأنّ الأشجار هي «الكائنات الحيّة الأولى التي خرجت من الأرض». وقد رأى أناكسوغوراس (القرن الخامس ق. م.)، وديمقريطس (القرن. الرّابع ق. م.) أنّ للأشجار فكراً وفطنة!
أمّا بالنّسبة لسقراط، كما في ورد في الصّيغة الأفلاطونيّة، فإنّ «الحقول والأغاني ليس لها ما تعلّمني، ولا أجد ما أغنم إلاّ لدى البشر، في المدينة» (محاورة «فيدون» لأفلاطون). فالنّباتات، من هذا المنظور، لا تشارك في الانتساب إلى العقل. وإنّما هي تكتفي بأن «تصلح غذاءً» للجسم، وليس للرّوح. وكما يتمّ التّشديد على ذلك في محاورة «تيماوس» لأفلاطون، فإنّ هذا النّوع من النّفْس هو دائماً سلبيّ ولم تزوّده الطّبيعة عند نشأته بملكة المعرفة ولم توكل إليه أن يتعقّل شيئاً، فهذا النّوع وإن كان يحيا فإنّه لا يكون أكثر من كائن حيّ، ورغم ذلك فإنّه عاجز عن الحركة بذاته.

تراتبيّة الوجود
صحيح أنّ النّبات، مع أرسطو، سيُدرج ضمن تراتبيّة الوجود، وذلك في انسجام مع براديغم التّصنيف الذي يسم المدوّنة الأرسطيّة، ولكن ذلك لا يعني أيضاً ارتقاءَه إلى مكانة إيجابيّة في سلّم الوجود. فلقد ظلّت النّبتة في الدّرجة الدّنيا « فبعد جنس الكائنات الجامدة يأتي مباشرة جنس النّباتات» (أرسطو، تاريخ الحيوانات). فالنّبتة تحيا إذن، طالما أنّ الحياة هي «الخاصّية التي تتغذّى بذاتها، وتنمو، وتتلف» (كما يرد في كتاب النّفس)، ويضيف أرسطو أنّ النّبات، وهو متناوَل في مجمله، إذا ما قارنّاه بالأجسام المادّية الأخرى، فإنّه يبدو تقريباً حيّاً، لكن بالمقارنة مع الحيوان يبدو جامداً. فالنّباتات وإن كانت تتوفّر على نفْس، فهي نفْس «غذائيّة» مجرّدة من القدرة على الإحساس، وعلى التّفكير لا محالة.
على أنّ عدم الاعتراف فلسفيّاً للنّبتة بحظوة في الوجود لا يعني أيضاً عدم استحضارها كلّياً، فيكفي أن ننتبه إلى حضورها الاستعاري على نحو ما نلاحظ ذلك مع ديكارت وهو يلوذ باستعارة الشّجرة من أجل أن يرسم لنا بورتريه الفلسفة «كلّ الفلسفة مثل شجرة، جذورها هي الميتافيزيقا، والجذع هو الفيزياء، والأغصان التي تتفرّع من هذا الجذع هي العلوم الأخرى» (مبادئ الفلسفة).

استعارة مفهوميّة
لكن نيتشه في «العلم المرح» يذهب بهذه الاستعارة مذهباً آخَر «إنّنا نكبر مثل الأشجار[...] نكبر ليس في موقع واحد، وإنّما في كلّ مكان، ليس في اتّجاه واحد، وإنّما إلى أعلى وإلى أسفل، إلى الدّاخل كما إلى الخارج. فقوّتنا تنمو في الوقت نفسه في الجذع، والأغصان، والجذور، فليس لنا أن نقوم بشيء ما على حدة».
أمّا بالنّسبة إلى هيغل، فإنّ النّبتة تحضر كاستعارة مفهوميّة يوضّح من خلالها جزءاً من منظوره الجدليّ للوجود، فنبتة ما هي بالذات تراكم مركَّب من تعدّد من الأفراد. فالنّبات ليس مسكوناً بمبدأ التّقابل بين الذّات والآخَر، التّقابل الذي يتّخذ لدى الحيوان شكل الاختلاف في النوع «فمستوى الاختلاف الذي تبلغه النّبتة، الذي هو بين ذاتيْن نباتيّتيْن تستعجلان التّماثل الواحدة مع الأخرى(...) هو فقط شبيه بالاختلاف النوعي».

علاقة دهشة
على أنّ نافذة أخرى يمكن أن نفتحها على هذا «التّاريخ الأخضر» للفلسفة فنطلّ على علاقة بعض الفلاسفة في حياتهم بعالَم النّبات من أشجار وغابات. وهي علاقة متنوّعة يشقّها التّباين على نحو ما توحي بذلك مقارنة بسيطة بين «شوبنهاور» و«باشلار». فالأوّل تصله بالغابة حالة من الهلع، فهو يرى في شهادة له أن «النّباتات أكثر شراسة من البشر، فلا أستطيع أن أجتاز الغابات من دون ذعر»! فعلى عكس أحلام اليقظة الشّعريّة التي تجعل من الغابة ملاذاً، فإنّ هذا الفيلسوف الألماني يرتعب من الغابة حيث يهيمن، حسب رؤيته، صراع من شجرة إلى أخرى من أجل سحب الهواء، والضّوء، والأرض. وهو رعب يتقاسمه مع كُتّاب وفلاسفة آخرين قد يكون سارتر على رأسهم حيث يستعجل، في ستّينيات القرن الماضي، مغامراته في الغابات ليتّجه مسرعاً إلى مقهى «الفلور».. ولكن في الضّفة المقابلة تلوح أيضاً صداقة بين بعض الفلاسفة والغابة حيث يمكن أن نستحضر عزلة هيدجر في «الغابة السّوداء» (ولاية بادن فورتنبيرغ بألمانيا)، ولكن بالأساس علاقة دهشة نظير ما نصادف في تلك الصّفحة اليتيمة والملغزة والإيحائيّة التي أفردها «باشلار» للغابة وهو يستنبتها مجدّداً في خانة «العظمة الحميمة»، فيقول: «لنختبر عن قرب ما الذي تلائمه عظمة الغابة. إنّ هذه العظمة لتولَد من جسم ذي مشاعر لا تكشف حقّاً عن معلومات عالم جغرافيا. فما من حاجة ليكون المرء مطوّلاً في الأدغال ليعرف الشّعور الطّفيف بالقلق بالتوغّل في عالَم بلا حدّ. فسريعاً، ندرك أنّنا إن كنّا لا نعرف إلى أين نذهب، فإنّنا لا نعرف أين نحن». ويستخلص من ذلك أن: «الغابة حالة للنّفْس».

ذكاء النبات
إن المقاربة الفلسفيّة، الرّاهنة على وجه الخصوص، تتلقّف من العلوم كثيراً من المعطيات لتتدبّرها حسب ما تتأوّله منها استناداً إلى الملكة الأثيرة في الفلسفة، أي «الفكر». وهو ما يسوّغ هذا السّؤال: هل تتمتّع النّباتات بالذّكاء؟ نعم إذا كنّا نعني بالذّكاء القدرة على حلّ المشاكل. وهذا ما يفترض -والبحوث المتأخّرة تقول ذلك- أنّ في النّبات «ملكات» تعلّم، وتذكّر، ولكن أيضاً مشاركة وتواصل! فهل يعني هذا أنّ هناك استمراريّة حياة تسري من الطّحلب إلى الحيوان؟ كلّ ذلك مشروط، في واقع الأمر، بما نعنيه بمفهوم «الحياة».

قدرات مدهشة
الحال أن النّباتات تكشف، بحسب دراسات مستجدّة، عن قدرات مدهشة. وعن أشكال أخرى من الذّكاء بحسب عالِم النّباتات الإيطالي ستيفانو ماتغيزو، المختصّ في علم الأعصاب النّباتيّ، فالنّبتة ليست حمقاء! هذا إذا عرّفنا الذّكاء على أنّه القدرة على حلّ المشاكل، حيث يقول: «إن النّباتات قادرة على تلقّي إشارات من وسطها المحيط» نظير الضّوء والرّطوبة والخطورة، فتتّخذ قرارات حيويّة تتعلّق بغذائها وبالتّصدّي للتّهديد كذلك الذي تطلقه الحشرات القارضة أو حتّى أعشاب مناوئة. وهذا لا يعني أنّ علينا أن نبحث عن نظائر لها لدى الكائنات التي تتمتّع بدماغ مركزيّ. فالتّكافؤ بين جهاز عصبيّ مركزيّ وحياة ذكيّة، مستلهَمة من النّموذج الحيوانيّ، هو تكافؤ مغلوط، كما يلاحظ ماتغيزو. فالنّبتة تتعهّد شؤونها دونما دماغ، ولذلك يربكنا ذكاؤها السّاري في كلّ أجزائها والموزّع فيها بانتظام، كما يلاحظ هذا العالِم. فلا وجود لبرج مراقبة لدى النّباتات، والمعلومات التي تتلقّاها لا تحتاج إلى أن تسلك نفس الدّروب حتّى تبلغ الموقع الجيّد في اللّحظة المناسبة. فلدى النّباتات الوظائف الدماغيّة ليست مفصولة عن الوظائف الجسميّة، بل هي تتعايش في كلّ خليّة.

مسألة وجودية
إن استرجاع النّبات إلى دائرة القول الفلسفي يجري في سياق من الحوار، بل السّجال أحياناً نظراً إلى أنّ طرح هذه المسألة يصطدم بتقاليد مفهوميّة راسخة في الفكر الفلسفيّ نفسه. فالفيلسوفة الفرنسيّة المشار إليها من قبل «فلورنس بيرغات» تنتقد، مع تشديدها على أنّ ذلك يتمّ دونما استخفاف بجمال المملكة النّباتيّة، الميلَ إلى محو الحدود بأيّ ثمن مع المملكة الحيوانيّة. إنّها مسألة وجودية، كما تؤكّد هي، فالنّبتة لا يمكن التّفكير فيها على أنّها فرد. ولذلك ترى هذه الفيلسوفة أنّ شعور «الاحترام» الذي نكنّه عادة للأشجار إنّما يعود بالأساس إلى عظمتها وإلى امتداد أعمارها، وإلى تجدّد الميلاد الذي تهبه للأبصار وهي تكتسي زينة متنوّعة طيلة السّنة. ومن ثَمّ فإن علينا أن نلاحظ أنّنا حين نستحضر الأشجار، فهي تلك التي تكون عادة مهيبة ومسنّة. وهذا الشّعور قلّما يعتري المرء عندما يتعلّق الأمر بشجيرات واهنة وفتيّة حتّى أنّه قد لا يتردّد في اقتلاعها لسبب أو لآخَر. وفي الجملة، فإنّنا نُفتن بجمال عالَم النّبات وبخلوّه من الانفعاليّة لأنّ ظروف وجودنا ككائنات فانية هي عكس ظروف وجودها.

حالة نفسية شجيّة
وهذه الملاحظة الأخيرة ليست تعبيراً عن حالة نفسية شجيّة مرتبطة بهشاشة وجود الإنسان، وإنّما هي استتباع لموقف رافض للقول بوجود ضرب من الاستمراريّة، بل وبانعدام التّمييز بين أشكال الحياة. وهذا الموقف الرّافض يستند إلى الإقرار بغيريّة جذريّة بين العالميْن. فالدّراسة التّاريخيّة والمعرفية للمسألة النّباتيّة، إذا جاز أن نصوغها على غرار المسألة الحيوانيّة، إنّما تُبين، حسب فلورنس بيرغات، على نحو مغاير انعدام التّمييز راهناً بين مختلف صور الحياة. ولكن، في تقديرها، أن انعدام التّمييز هذا إمّا أنه يستند إلى ضرب من التّماثلات عادة ما يتمّ اعتبارها تجانسات (النّباتات تتنفّس وتحتاج مثلنا إلى الماء، مثلاً)، وإمّا إلى استساغة الاستمراريّة على صعيد ما هو صغير للغاية (على الصّعيد الجزيئيّ، كلّ العضويّات تتشابه، فهي تستجيب لنفس المتطلّبات الوظيفيّة). وقد يعود هذا إلى الهيمنة الرّاهنة للبيولوجيا التي أضحت حقلاً معرفيّاً أكثر اختصاصاً وأكثر صلابة، ولكن التي أخلتْ أحياناً بُعدَ التّجربة المعيشة رغم أهميته. وربّما لعب الذّكاء الاصطناعيّ أيضاً دوراً في هذا العزوف.

تعدد الأنواع
وفي ردّها على ما يتضمّنه القول بالاستمراريّة بين عالَم النّبات وعالميْ الحيوان والإنسان تلجأ «فلورنس بيرغات» إلى منهج الظاهراتية، وخاصة إلى الفيلسوف الألماني «هلموت بلنسر» لتستعير منه التّمييز بين الحياة وأسلوب العيش. إنّ فكرة التّجربة المعيشة، المركزيّة ضمن المسار الظاهراتي، الذي تتبّناه «فلورنس بيرغات»، تبلور أساس الاختلاف الوجودي الجذريّ بين الصّيغتيْن الكبرييْن للحياة. فالأمر يتعلّق، مع الأخذ في الاعتبار بالتّعدد الهائل للأنواع، باستيعاب أنماط وجود من وجهة نظر ماهيتها. وها هنا تكمن مهمّة العمل الفلسفيّ.
فأسلوب العيش هو نمط وجود تأمّليّ «بضمير المتكلّم»، أي أنه يتعلّق بوجود جهاز عضويّ نفسي، هو الذّات، في حين أنّ الحياة هي هذه القوّة المدفوعة التي تزوّد الأجهزة العضويّة بالأعصاب دونما فرديّة ودونما ذاتيّة. وإجمالاً، يمكن القول إنّه لا يوجَد ما كان يسمّيه الفلاسفة الرّواقيّون «الواكيوسيس»، أي «نسب قرابة» نباتيّة. ولا يوجَد إذن ما يحول دون أن تمرّ النّبتة إلى جانب وجودها.
وهذا الخيار الرّواقيّ الذي يمكن تعريفه، على أنّه انتساب النّبتة إلى ذاتها هو مربط الفرس، إذن، وهو أنّه لا يوجَد وعي ذاتي نباتيّ، كما لا يوجَد أيضاً وعي ذاتي حيوانيّ. بيد أنّ الحيوان يتحرّك من نفسه، في حين أنّ النّبات يتحرّك بمفعول محرِّك خارجيّ.

تمثُّل ذهنيّ
يقرن علماء البيولوجيا والفلاسفة الملكات بالجهاز العصبيّ المركزيّ وبالدّماغ. فمن أجل الحصول على تمثّل ذهنيّ لابدّ من عقل « وإن كان هذا ما زالت الفلسفة مطالَبة بالبرهنة عليه». وعلى أيّة حال هو خيار نظريّ مقبول كما يلاحظ الباحث في الفلسفة والمختصّ في المسائل النّباتيّة، الفرنسيّ «كانتن هييرنو» Quentin Hiernaux، ولكنّه ليس الخيار الوحيد. فالأمر يتعلّق بعدَ كلّ شيء بمصادرة، ليس لها على أيّ حال أن تنفي إمكان العكس المتمثّل في أنّه يمكن أن يكون هناك حس أو فكرة من دون تمثّل. فالنّباتات ليس لها دماغ، لكن ذلك لا يمنعها أيضاً من أن تدرك محيطها.

المصدر: صحيفة الاتحاد

كلمات دلالية: لا یوج د الذ کاء باتی ة التی ت على أن یتعل ق ة التی وإن ما

إقرأ أيضاً:

حول رواية أشلاء.. تأملات عابرة

 

حول رواية أشلاء.. تأملات عابرة

السر السيد

الرواية من تأليف الكاتب السوداني محمدأحمد الفيلابي، الذي يعد واحدا من الكتاب الذين فتحوا نفاجا بين التنمية المجتمعية واسئلتها وبين الفن والادب دون ما تغوٌل على أي من الحقلين، كما في نصوصه للراديو ونصوصه المسرحية ونصوصه القصصية. من كتبه المنشورة نذكر “مدنياااو”/ “استدراك- نحكى ويتساءلون” والمجموعة القصصية “الموت أكثر من مرة”.

صدرت الرواية التى صمم غلاف الجزء الثانى منها أشرف الأزهرى ولوحة الغلافين للتشكيلي عصام عبد الحفيظ وكتب مقدمتها الناقد أبوطالب محمد، صدرت في طبعتها الأولى في العام 2024.. (الجزء الاول)، صدر عن خطوط وظلال للنشر والتوزيع بالاردن والجزء الثاني، صدر عن مكتبة الطليعة العلمية بالاردن.

تتكون الرواية من جزأين، الاول بعنوان: (سبعون يوما من العبث) وعدد صفحاته 142 صفحة من القطع المتوسط والثاني بعنوان: (هستيريا الخوف) وعدد صفحاته 169 صفحة من القطع المتوسط.

على المستوى الهيكلي أو المعماري الذي قامت عليه الرواية بجزأيها، قام الجزء الاول على تقنية “العناوين” وعددها ثمانية، نذكر منها (الشلة/ أشلاء ومخاوف/ الجنرال في نقاهته/ الخروج من العتمة)، بينما قام الجزء الثاني على تقنية الفصول وعددها عشرة وعبر تآزر التقنيتين الهيكليتين تدفٌق السرد الذى تنوعت فيه التقنيات ونهض على اسلوب زاوج بين اللغة كثيفة الجمال حتى حدود الشاعرية واللغة التقريرية مستخدما تقنيات الصوت المفرد “صوت الراوي” والأصوات المتعددة “أصوات شخصيات الرواية”، كأن تحكي شخصية ما ذكرياتها ويومياتها، أو المونتاج كاستدعاء نص من النصوص، لكاتب ما نشره في صحيفة أو في أو في كتاب أو في راديو أو في فضائية أو في وسائط التواصل الاجتماعي، كان هذا النص مقالا أو قصيدة أو تقريرا اخباريا أو تحليلا سياسيا أو مقولة فلسقية او فكرية.

في موضعة النص وتنسيبه:

جاء في الرواية ص 25/26 الجزء الاول: (… بين الصراخ والعويل تبين ان جسما ناريا سقط على غرفة الضيوف، فدكها دكا.. ووقعت عينها على زوجها الساقط ارضا والدم يغطى كامل جسده..غامت الدنيا في وجهها ولم تعد ترى سوى الظلام ولا تسمع شيئا، وهوت ارضا). وجاء في الجزء الثانى من اوراق الشابة وصال،ص 148: ( نوقن ان حالنا أفضل ممن قتلن او اغتصبن او وقعن في ايدى من يتاجرون بنا.فالحرب في كل الاحوال شر بلا حدود.تسحق من يقف امامها.تطحن حيوات الجميع، والنساء بشكل اخص تصبح اجسادهن ساحة حرب..فى الحروب يرتفع سلاح الاذلال والمهانة لهن ولمن لا يسمح بالمساس بهن..).انتهى.

قد لا أختلف كثيرا مع النقاد والقراء الذين يصنفون هذا النص بأنه (رواية)، ولهم الحق في ذلك بالطبع، لكني وبالنظر لموضوع “النص” والذي هو حرب الخامس عشر من ابريل 2023 بين القوات المسلحة والدعم السريع والكيفية التى اشتغل عليها النص فيها،أجدنى لا انفى عنها بشكل مطلق وصف انها “رواية” لكني أميل أكثر إلى تصنيفها بأنها كتابة مغايرة “جسد ابداعي ماكر” يكر على تخوم الكتابة الروائية ولا يبقى فيها ويفر عن تخومها ولا يغادرها لهذا وصفته بالكتابة المغايرة وبما انه يسعى لانتاج صورة أو صورا عن هذه الحرب وما نتج عنها من تقتيل ونهب للمتلكات الخاصة والعامة ومن تدمير للبنى التحتية ومن نزوح ولجوء ومن نشر وتكريس للعنصرية والجهوية، في مدى زمني ومكاني يبدأ من اليوم الاول للحرب 15 أبريل 2023 وينتهى في اليوم ال 200 للحرب نوفمبر 2023 ” وفي مدى مكاني يبدأ من الخرطوم والقرية التي نزحت لها شلة الاصدقاء مرورا بقوز يعقوب واشارات لاماكن اخرى وليس انتهاء بمراكز الايواء. تكمن مغايرتها أى هذه الكتابة او هذا النص في انها تأسست على نزوع بحثى واضح يجمع بينما هو ثقافى واخبارى وسياسي وحقوقى تتجلى فيه خبرة الفاعل المدني الذى يتوفر على معرفة بالقوانين الدولية والوطنية ذات الصلة بالحرب وبمعرفة على ثقافة المناصرة والرصد بل على معرفة بكل ما يرتبط بقاموس الحرب من اقتصاديات ومن نزوح ولجوء ونوعية الانتهاكات وتكيفيها من اغتصاب وتقتيل وتشريد وتدمير وتفاوض وغيره، لذلك فهى كتابة ذات طابع سياسي تنهل من كل تلك الحقول التى اشرت لها وهى اذ تفعل هذا تكون قد مارست (مكرها)، الذى (يبدعن) هذا الطابع السياسي_من ابداع_ ويمنحه “انحرافا ومفارقة” عن اليومى ويضعه على تخوم الكتابة الادبية والفنية كرا وفرا ويمنحه رصيدا من الاخيلة والجمال لذلك لا غرابة ان يوصف هذا النص او هذه الكتابة بأنها رواية،سيما انه يتوسل بعضا من تقنيات السرد وينهض على اسلوب مشحون بالجمال والاخيلة ومن ذلك مثلا تبادل الادوار او التناوب في الحكى بين الراوى شخصيات الرواية أو في التداعى الحر لبعض الشخصيات أو في الحوار أو في قطع تسلسل الحكى من حين لآخر عبر تدخلات الراوى وكل هذه المستويات للحكي كما هو معروف تعد من تقنيات السرد وللتأكيد على ما ذهبت اليه في ما يخص تبادل الادوار اشير إلى ما كتبَته شخصيات شلة القرية من يوميات ووقائع كلها على صلة بالحرب بصورة مباشرة أو غير مباشر وهى شخصية المهندس سعيد وشخصية نورى ضابط الجيش الذى أحيل للمعاش وشخصية المثقف والفاعل السياسي عبدو وشخصية الشابة وصال التى نزحت مع اختيها وامها وسكنت في مركز الايواء بالقرية وفيما يخص قطع تسلسل الحكي وتواصل الاحداث أشير إلى النصوص المأخوذة من سياقات اخرى واقحامها في متن النص كبعض المقالات او التصريحات المنشورة لكتاب وصحافيين معروفين أو إيراد معلومة أو مقولة لمؤرخ او مفكر أو مسئول حكومى أو بيان لفاعل مدنى كأيراد بعضا مما ذكره ابراهيم فوزى باشا في مذكراته عما فعله الانصار عند تحرير الخرطوم في العام 1885 ابان الثورة المهدية أو الخطاب الذى وجه لمدير الغابات بشأن ما يحدث في “غابة امبارونا بولاية الجزيرة من عمل متعمد لازالتها او ذلك التقرير عن النهب والسرقة لصحافى بريطانى، اضافة للاستشهادات الكثيرة بمقولات وافكار لمفكرين وسياسيين وفلاسفة، فقد احتشد هذا النص او هذه الكتابة المغايرة الماكرة بأسماء كثيرة من هؤلاء كالشيخ بابكر بدري وابن خلدون وغوستاف وعبدالمجيد عابدين وآل غور وغيرهم،اما فيما يخص الحوار فأشير إلى الحوار الذى كان مكانه بورتسودان ودار بين عبدو الذى غادر القرية إلى هناك لتنفيذ دورة تدريبية وزميل دراسته التاجر الجشع، فمن بعض ما يكشفه هذا الحوار نظرة بعض الناس للحرب من خلال اوضاعهم الخاصة.

اخيرا اشير إلى ان هذه “الرواية” أو هذ النص أو هذه “الكتابة المغايرة الماكرة”، التي اعتبرها المبادرة الأولى الجامعة لتوثيق حرب الخامس عشر من أبريل، مما يعني وبلا حذر وضعها ضمن ما يعرف (بروايات الحرب) كما اشار الناقد ابوطالب محمد في مقدمته.. أشير إلى أنها قد جسدت وبجدارة طقسا “حداثيا” لاشتباك الناس والامكنة والنصوص والذاكرة والتاريخ والماضي والحاضر مع الحرب في مدى زمني محدد وهى لما تنتهى بعد ، بأمل عريض ومقاومة خلاقة،

فبينما تسعى الحرب ليحوز أحد طرفيها او أطرافها كل “السلطة” بمفهومها الأشمل،عملت هذه الكتابة المغايرة الماكرة وهى تجسد طقسها الحداثى هذا على تفتيت السلطة أو بالحرى (توزيعها)، فهناك تعدد في الاصوات فالكل يحكى، فقد سمعنا صوت الراوى وصوت الكاتب نفسه وسمعنا أصوات شلة القرية وأصوات النازحين في مراكز الايواء وسمعنا صوت “حارنة” وصوت “نعمة” وصوت “سكينة بت يعقوب” وسمعنا أصوات المتحاربين، وسمعنا أصوات الفاعلين المدنيين والمفكرين والمؤرخين، وهناك تعدد وتنوع في النصوص فقد وقفنا على سوق من النصوص نهضت عليه هذه الكتابة…إعادة التوزيع للسلطه هذه تجعلنى أستطيع أن أضع هذه الكتابة في قلب المجرى الأساس للمقاومة الثقافية ليس فقط فيما قدمته من شهادة فصيحة لبشاعة الحرب وقبحها ومن شهادة عن صمود ومقاومة المتضررين منها وانما أيضا على مستوى علاقات بنائها “شكلها”، الذى يصدٌر ولو بشكل خفى حالة شعورية يحس عبرها القارئ والقارئة بجمال التنوع والتعدد والاختلاف والذى بسبب غيابه أو تغييبه في حياتنا السياسية واليومية شكل البنية التحتية لهذه الحرب وما سبقها من حروب في السودان.

ان كان من خاتمة لهذه التأملات العابرة فهي هذه المقولة التى جاءت في الحزء الثاني ص18:

(الحكي هو الشفاء الوحيد من حالة الانتظار الممل.. تنغسل بفضله الاوجاع وتندمل الجراح أو تنفتح بعد التئامها).

وكيف لا وقد استطاعت هذه الكتابة المغايرة أو هذا النص أو هذه الرواية ان تجعل من الحكي قوة كما يذهب إلى ذلك ادوارد سعيد.

 

الوسومادب الحرب الرواية السودانية الفايلابي رواية

مقالات مشابهة

  • إجابات امتحان علوم الأرض والبيئة توجيهي 2024 الأردن
  • وزيرة البيئة تعلن عن ختام مسابقة "كلنا فايزين" لفصل المخلفات
  • واتساب يغير شارة التحقق الخضراء للون الأزرق لهؤلاء المستخدمين.. تفاصيل
  • حول رواية أشلاء.. تأملات عابرة
  • المركز المسيحي الإسلامي يُنظم ورشة للكتابة الصحفية
  • انطلاق فعاليات مهرجان الإسكندرية للسينما الخضراء
  • علامة التحقق الخضراء على واتساب تتحول قريبًا إلى اللون الأزرق.. كيف تفيد المستخدمين
  • افتتاح مهرجان الإسكندرية للسينما الخضراء.. 30 فيلما من 4 دول
  • بـ 30 فيلما من 4 دول عربية.. انطلاق فعاليات مهرجان الإسكندرية للسينما الخضراء
  • الكتابة في زمن الحرب (28):  التغيير الفعال