كيف اعتنى المصريون بالنيل عبر العصور؟
تاريخ النشر: 8th, December 2023 GMT
يُعّد نهر النيل هو شريان الحياة في مصر، ولا توجد مياه للمياه العذبة سوى النيل ومياه الأمطار، وبعض الآبار التي هي في الأغلب آتية من النهر أو من تجمعات مياه الأمطار، ولندرة المطر في مصر يعتبر النيل هو المصدر الرئيس والأساسي للحياة في مصر.
والنيل عند قدماء المصريين يدعى "أر" أو "إل"، وفي الديموطيقية صار اسمه "ن-إل-و"، النون أداة التعريف للجمع المذكر و«إل» معناها النهر والواو علامة للجمع، فكانت كلمة نيلو والتي منها تم اشتقاق الكلمة اليونانية Neilos، والصاد في نيلوص تطابق الحرف 16 من الأبجدية اليونانية.
تقديسه في المجتمع المصري
أدرك قدماء المصريون أهمية نهر النيل وبجلوه وقدسوه واعتنوا به أشد العناية، وقد بدأ ذلك قبل آلاف السنين.
وحسب ما جاء في موسوعة الدكتور سليم حسن "مصر القديمة"، فإن الإنسان المصري القديم وقبل آلاف الأعوام كان يستوطن غابات الصحراء الغربية، قبل أن يصيبها التصحر وتجف، فما تحولت إلى صحراء قاحلة بسبب تغير المناخ. ثم هبط الإنسان المصري إلى وادي النيل، وبدأ يتعلم الزراعة، ويستقر حول ضفاف النهر، والاستقرار نتج عنه بناء المجتمع.
وبدأ المجتمع المصري في النمو، وبدأت تتكون القرى والمدن والتي اتحدت في قطرين كبيرين الشمال والجنوب، ثم جرت محاولات توحيدهما حتى نجح في ذلك "نعرمر"، وهو الملك الشهير بـ "الملك مينا" موحد القطرين.
أدرك المصريون القدماء من بعد وحدة بلادهم مدى أهمية النيل، ومدى ما يمثل من قوة استراتيجية اقتصادية هائلة، فهو الطريق السريع الرابط بين البلاد من الشمال وحتى أقصى الجنوب، وأتقن المصريون ركوب النهر ونقلوا عبره البضائع والأفراد وكان بالنسبة لهم أسهل من التنقل البري.
الصيد والبردي
النيل أيضًا كان مصدرًا غنيًا للأسماك، واحترف أهل مصر على ضفتي النيل الصيد بالشباك والرماح.
كما كان النيل هو مصدر أوراق البردي، وهو النبات الذي استخلص منه المصريون الأوراق التي استخدموها في تسجيل ما يريدون. وكان ورق البردي فتحًا في الحضارة المصرية، حيث أصبحت الكتابة عليه أيسر وأسهل من النقش على الأحجار، ومن الكتابة على العظام وشقف الفخار.
الفيضان والزراعة
المؤثر الأول لنهر النيل كان الزراعة، فهو المصدر الأوحد للمياه اللازمة للزراعة، وكان الفيضان والذي قال له المصريين «آخت».
وكان المصريين ينتظرون قدوم الفيضان، ويعتبروا قدومه هو قدوم الإله "حابي"، وكانت "ميهيت" و"ريت" هي آلهة الفيضان، ومعناها الفيضان العظيم، وكان الفيضان هو السبب الرئيسي في خصوبة الأراضي المصرية.
النيل والموت
اعتقد المصريون أن النيل هو الممر بين الحياة والموت، لذلك دومًا نجد أن المدن على الضفة الشرقية للنيل وفي الضفة الغربية نجد المقابر من أول الجيزة وحتى وادي الملوك والملكات في الأقصر، فكان يتم ركوب النهر بالمتوفي لكي يُدفن في الجانب الغربي.
الفيضان
اعتبر قدماء المصريون الفيضان رمز للخير والنماء، واعتادوا على أوقاته، وأعطوه اسمًا مميزًا وهو "آخت".
ولاحظ المصريون أن الفيضان يأتي في أوقات مناسبة على نحو دقيق، فيفيض في الصيف وقت احتياج الأرض للماء، فيجدد خصوبتها، وينحسر في الأوقات المناسبة للزراعة، فهنا يقوم المزارع ببذر البذور، وكانت بداية اهتداء المصري القديم للتقويم.
تقديس النيل
مجّد القدماء النيل واعتبروه إله الخصب والنماء، ومانع الجدب والقحط، وكانوا قدمون القرابين في المعابد إن تأخر الفيضان، وقالوا عن النيل أنه هو ابن الإله "رع".
وسجلت إحدى البرديات عن النيل: «إنك أيها الراحل فى مقام الخلود، سيفيض عليك النيل فى مضجعك الأخير أثرًا من بركاته لأن ماءَه آتٍ من أسوان».
وأطلقوا على النهر "إيتِ نترو" أى أبو الآلهة. وقال هيرودوت: "إن النيل تُعرف بدايته بعد سفر أربعة أشهر، سواء كان ذلك برًّا أو بحرًا"، وهي المدة التى كان يستغرقها المسافر فى وصوله إلى أسوان.
وكان لكل إقليم نيله الخاص، فأطلقوا على نيل الصعيد "حعبي رسيت/ نيل الجنوب"، ونيل الدلتا "حعبي محيت/ نيل الشمال"، وكان لكل نيل صورة في مخيلتهم، فنيل الدلتا رجل ضخم يرتدي رداء عليه ثمار النيل في الصعيد ولونها أزرق، ونيل الصعيد رجل يرتدي رداء عليه ثمار الشمال.
مقاييس النيل
كان لقدماء المصريين فنيون يجيدون حساب وقت الفيضان ووقته، وكانوا هم المرجعية بالنسبة للناس والمزارعين والحكام.
وكان هناك مقاييس لقياس ارتفاع وانخفاض مستوى النهر، وهو عبارة عن بئر تتوازن فيه درجة المياه ارتفاعًا وانخفاضًا على مقدار مياه النهر، وقد نقشوا في جوانب البئر إشارات تدلُّ على درجات الفيضان في كل عام
وقد عثر علماء الآثار على مدينة بيلاق وزاره جومار مؤرخ الحملة الفرنسية قبل ترميمه، وقال في وصفه: "يتألف هذا المقياس من سطح مربع، ومنه ينزل بسلم إلى 85 درجة، وينقسم سطحه إلى ثلاثة أجزاء، وفيه باب يفتح إلى النيل لا يمكن النظر إليه إلا وقت انخفاض المياه، وجدرانه المتطرفة مبنية بقطع أفقية من الحجر الجرانيت".
وفي المتحف البريطاني يوجد نص هيروغليفي محفوظ يثبت أن الملك سنوسرت الثالث صُنع في السنة الثامنة من حكمه بعد إصلاحات في مقياس بيلاق، ويقول النص: "في السنة الثامنة من الشهر الثالث من فصل الفيضان في عهد ملك الوجهين البحري والقبلي سنوسرت الثالث المحبوب من ساتيت "معبودة مدينة بيلاق" الخالد الذكر، قد أمر وزيره أمني بعمل باب من مباني مقياس بيلاق".
السدود
وكما اهتم المصريون القدماء ببناء المقاييس أيضًا بنوا السدود، ويعد أشهرها وأقدمها على الإطلاق سد قوشيه، ويعد من أقدم السدود في العالم أجمع، وبناه الملك نعرمر موحد القطرين، حيث أسسه تم تأسيسه قبل 2900 عامًا قبل الميلاد، وقد بناه نعرمر لحماية المباني في ممفيس من الفيضانات، وكان ارتفاعه يبلغ 15 مترًا.
مقياس النيل في العصر الإسلامي
في العصر الإسلامي شهد النيل اهتمامًا كبيرًا للغاية تمثل أكثر ما يكون في بناء المقاييس والقناطر والسدود للحفاظ على مياهه وترشيد استهلاكها والاستفادة منها في شكلها الأمثل.
وكان أول من أنشأ مقياسًا للنيل في العصر الإسلامي هو عمرو بن العاص والي مصر في خلافة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، وقد أنشأ مقاييس أسوان، ودندرة.
كما أنشأ الخليفة معاوية بن أبي سفيان مقياس أنصنا، ثم شيد عبد العزيز بن مروان مقياسًا في حلوان عام 80 هـ 699 م. كما بنى أسامة بن زيد التنوخي عامل الخراج على مصر مقياسًا في خلافة الوليد بن عبد الملك عام 92هـ 711م، ومقياسًا آخر عام 97هـ 715م.
ثم بنى الحليفة المتوكل على الله عام 247هـ 861م، مقياسًا في جزيرة منيل الروضة، وعرف بـ "المقياس الهاشمي"، أو "مقياس الروضة"، وقد بناه المهندس العراقي محمد بن كثير الفرغاني. وقيل إن مهندسه أحمد بن محمد الحاسب. لكن الغموض يكتنف شخصية مهندس المقياس.
وتمت العناية بالمقياس على مر العصور، فقد رممه أحمد بن طولون، وكذلك السلطان الظاهر بيبرس البندقداري وأضاف له قبة؛ كما اعتنى به السلطان الأشرف قايتباي، وكذلك اعتنى به السلطان العثماني سليم الأول.
وظلت العناية مستمرة بهذا المقياس من تنظيف وصيانة وترميم حتى انتفت الحاجة إليه بتشييد السد العالي، حيث أصبحت بحيرة ناصر هي التي تقيس مستوى منسوب مياه النيل.
وكان المقياس عبارة عن بئر عميقة في وسطها عمود من الرخام مقسم إلى أذرع وقراريط، تدخل مياه النيل إلى هذا البئر عن طريق مسارب «أنفاق»، فإذا بلغ ارتفاع مياه النهر في بئر المقياس 16 ذراعًا فيعد هذا بشيرًا بوفاء النيل وتعم الاحتفالات ربوع مصر.
قناطر الباشا
من أبرز مظاهر العناية بالنيل في العصور المصرية المتعاقبة هي قناطر محمد علي باشا الشهيرة، وهي تمثل مشروعًا متكاملًا جعل زراعة أراضي الوجه البحري تستمر طوال العام حيث كانت الزراعة قبل القناطر في الوجه البحري تقتصر على المحاصيل الشتوية، والمحاصيل الصيفية لا تُزرع إلا على شواطئ النيل أو الترع القليلة المتفرعة منه.
وبدأ محمد علي في تغيير هذا النظام بشكل تدريجي، فشق الترع وطهرها وأقام الجسور على شاطئ النيل ليضمن توفير مياه الري في معظم أيام السنة، وصارت الترع تروي الأراضي في غير أوقات الفيضان وخصيصًا بعد إقامة القناطر عليها.
وتوج محمد علي باشا أعماله في مجال الري بإنشاء القناطر الخيرية، وهي عماد نظام الري الصيفي في الوجه البحري، فاعتزم ضبط مياه النيل للانتفاع بها زمن التحاريق ولإحياء الزراعة الصيفية في الدلتا، وذلك بإنشاء قناطر كبرى في نقطة انفراج فرعي النيل وهي المنطقة المعروفة ببطن البقرة والمشهورة حاليًا بالقناطر الخيرية.
وعهد محمد علي بدراسة هذا المشروع الى جماعة من كبار المهندسين، منهم المسيو لينان دي بلفون لينان باشا كبير مهندسيه، فوضع له تصميما وشرع في العمل وفقًا لهذا التصميم سنة 1834م، ثم استرشد بمهندس فرنسي آخر وهو المسيو موجيل بك وعهد إليه وضع تصميم إقامة القناطر الخيرية.
وعاون مسيو موجيل في هذا المشروع مصطفى بهجت باشا ومظهر باشا، والمشروع عبارة عن قنطرتين كبيرتين على فرعي النيل يوصل بينهما رصيف ضخم.
كما تم شق ترع كبرى تتفرع عن النيل فيما وراء القناطر لتغذية الدلتا، وهي الرياحات الثلاثة المعروفة، رياح المنوفية ورياح البحيرة ورياح الشرقية الذي عُرف بالرياح التوفيقي، لأنه أنشئ في عهد الخديوي توفيق.
ووضع محمد علي حجر أساس القناطر الخيرية في احتفال فخم يوم الجمعة 23 ربيع الثاني سنة 1263 (سنة 1847)، وتوقف العمل بعد وفاته وأثناء فترة حكم عباس الأول بحجة أن حالة الخزانة لا تسمح ببذل النفقات الطائلة التي يتكلفها إنفاذ المشروع، ثم بدأ يتسارع العمل على فترات حتى تم بناء القناطر وأنشئ رياح المنوفية في عهد سعيد باشا.
ويقول المسيو شيلو عن القناطر الخيرية، إن مشروع القناطر كان يُعد في ذلك العهد أنه أكبر أعمال الري في العالم قاطبة، لأن فن بناء القناطر على الأنهار لم يكن بلغ من التقدم ما بلغه اليوم، فإقامة القناطر الخيرية بوضعها وضخامتها كان يُعد إقداما يُداخله شئ من المجازفة".
المصدر: البوابة نيوز
كلمات دلالية: الحياة في مصر نهر النيل قدماء المصريين سليم حسن القناطر الخیریة النیل فی محمد علی مقیاس ا
إقرأ أيضاً:
«السفاحون» يلهمون صناع الدراما عبر العصور.. «ساعته وتاريخه» آخر «مسلسلات الجريمة» في 2024
تنويه: "الأحداث الواردة في هذا العمل من وحي خيال المؤلف، وأي تشابه بينها، وبين الواقع فهو من قبيل الصدفة"، تنويه آخر: "الأحداث تستند إلى وقائع حقيقية، مع إضافة شخصيات، وأحداث خيالية اقتضتها الضرورة الدرامية"، عبارات نطالعها في بدايات تترات أعمال فنية سواء أفلامًا، أو مسلسلات، يكتبها صناع العمل، لتحقيق أهداف مختلفة، سواء الحماية من المسؤوليات القانونية، أو الهرب من ملاحقة الورثة، أو حتى "كف الأذى" عن أصحاب القصص الحقيقيين، وبمجرد كتابة "أكلاشيه التبرئة"، لا يمكن أن يرجع أحد على مؤلفي الدراما، ليظل مصطلح "حرية الإبداع" ثوبًا فضفاضًا يرتديه كل ممسك بقلم، وسط بعثرة النوايا، وإن كان النجاح الجماهيري قد تحقق من قبل في عدة أعمال، أشهرها مسلسل "الراية البيضا" الذي يعرف الجمهور شخصياته الحقيقية، بينما كانت العبارة التي كتبها المؤلف أسامة أنور عكاشة كفيلة بـ"إخراس ألسنة المغرضين"، حين قال: "تم تغيير أسماء الشخصيات ولكن أحداث المسلسل حقيقية حدثت، ولا زالت تحدث"!
ويتابع الجمهور هذه الأيام، عرض مسلسل جديد (من واقع ملفات المحاكم)، بعنوان "ساعته وتاريخه"، مستوحى من كتابَي "يوميات قاضٍ"، و"حكايات قضائية" للمستشار الأديب بهاء المري، رئيس محكمة الجنايات (صاحب مجموعة من الروايات والقصص)، بينما كتب السيناريو والحوار للمسلسل مجموعة من مؤلفي الدراما، في حلقات منفصلة، تدور كل حلقة حول جريمة وقعت بالفعل، وتنتهي كل حلقة بـ"منطوق الحكم على المتهم كما ورد في ملف قضيته"، وبدأ المسلسل بعرض حلقة مثيرة تشابهت أحداثها (إلى حد التطابق) مع قضية فتاة المنصورة "نيرة أشرف" التي ذبحها زميلها في الشارع (يونيو 2022)، وتم الحكم عليه بالإعدام، وتنفيذ الحكم (يونيو 2023)، في حادثة ضجت بها السوشيال ميديا، وبرغم تغيير اسم البطلة، وإضافة شخصيات خيالية (كان بعضها أثرى دراميًّا من شخصية البطلة نفسها)، وبرغم التسطيح الدرامي لشخصية القاتل، على غير العادة، إلا أن الجمهور فهم المغزى، أو على الأقل أدرك الفروق الواضحة بين الواقع ومحاكاته.
وبالتزامن مع عرض "ساعته وتاريخه"، تواترت أخبار تحضير اثنين من المسلسلات المستوحاة من جرائم حقيقية، أولها بعنوان "سفاح التجمع"، يقوم ببطولته الفنان أحمد الفيشاوي، استلهم أحداثه من قضية معروفة إعلاميًا بنفس الاسم، بطلها الحقيقي "كريم" مدرس اللغات المتهم بقتل مجموعة من السيدات، وإلقاء جثثهن في الصحراء، وهي نفس القصة التي تصارع عليها من قبل مجموعة أخرى من صناع الدراما، أما المسلسل الثاني فيحمل اسم "القصة الكاملة"، تم اقتباسه من حكايات اليوتيوبر سامح سند، وهو صانع محتوى على السوشيال ميديا، له قرابة "2.5" مليون متابع لصفحاته عبر "يوتيوب"، و"فيسبوك"، و"تيك توك"، نشر خلالها فيديوهات عن جرائم وقعت في شتى ربوع مصر، بين حوادث قتل، وأحداث غامضة، ومرعبة ارتبطت بالجن والعفاريت، استهوت تلك الحكايات المنتج مجدي الهواري، ليعلن تدشين مشروع ضخم لتنفيذ أكثر من "150" حلقة درامية تدور حول القصص التي سردها "سند" عبر السوشيال ميديا، مع إسناد كتابتها درامياً لنخبة من مؤلفي الدراما المحترفين، قام بعضهم بـ"تشويق الجمهور" باقتراب عرض الحلقات عبر منصات إلكترونية كبرى.
وكان آخر مسلسل مستوحى من قصة حقيقية، عُرض العام الماضي، سفاح الجيزة، فيه أبدع الفنان أحمد فهمي بتجسيد شخصية السفاح "قذافي فراج" الذي قتل صديقه وثلاث سيدات في غضون أعوام (2015ـ2017)، وصدر بحقه حكم الإعدام، في 2021، والطريف أن المسلسل (الذي قام بتغيير أسماء الشخصيات)، بدأ عرضه في أغسطس 2023، بينما كان السفاح الحقيقي يترنح بين أحكام الإعدام، التي رفضت محكمة النقض الطعن عليها في فبراير العام الجاري، ليصبح حكم القصاص نافذاً ونهائياً، وتزامن مع عرض "سفاح الجيزة"، مسلسل "حدث بالفعل"، لمجموعة من النجوم، منهم غادة عبد الرازق، ودينا الشربيني، وشيرين رضا، وآية سماحة، وكان مستوحى من جرائم حقيقية ارتكبها "مرضى نفسيون".
السفاح، أو القاتل المتسلسل، ظلت شخصية ملهمة لصناع الدراما في أحيان كثيرة، حيث سبقت "الجيزة"، و"التجمع" منطقة أخرى هي "المهندسين"، ظهر فيها شاب ثري يدعى أحمد حلمي المسيري، هزت جرائمه الرأي العام في 1991، عقب قتله رجل أعمال وزوجته وخادمته، وصدر بحقه حكم بالإعدام في 1994، واستفزت قصته الفنان خالد الصاوي، ليكتب سيناريو وحوار فيلم "السفاح"، قام ببطولته الفنان هاني سلامة، 2009، وقبلها بنصف قرن، وبالتحديد 1962، استوحى أديب نوبل نجيب محفوظ، قضية سفاح يدعى "محمود أمين سليمان" ارتكب "8" جرائم قتل في خمسينيات القرن الماضي، وانتهت أسطورته بمصرعه في مغارة بجبل حلوان، على أيدي رجال الشرطة، فقام "محفوظ" بتحويلها إلى قصة فيلم "اللص والكلاب" المصنف رقم "15" في قائمة أفضل مائة فيلم في تاريخ السينما المصرية، وجسد خلاله النجم شكري سرحان شخصية المجرم الذي تم تغيير اسمه إلى "سعيد مهران"، والغريب أن نفس النجم، شكري سرحان جسد شخصية شاب تورط في تنفيذ جريمة قتل صاحب "بار"، ضمن أحداث فيلم "إحنا التلامذة"، 1959، وهي قصة حقيقية لأحد الشباب قضى عقوبة السجن "10" سنوات، وخرج ليعمل بالتمثيل وأصبح "كوميدياناً شهيراً"، وعلى مدار جزأين، ظهرت في عامي (2007، و2014) ملحمة فيلم "الجزيرة" للمخرج شريف عرفة، وجسّد خلالها الفنان أحمد السقا شخصية "منصور الحفني" تاجر المخدرات في الصعيد، وللهرب من الربط بينها وبين "امبراطور النخيلة" الذي تم إعدامه في 2006، جاءت جملة "تمويه" حوارية على لسان أحد القيادات الأمنية بالفيلم: "مش عايزين نشوف عزت حنفي تاني"، مثلما أصرّ صناع مسلسل "ابن حلال" للفنان محمد رمضان، لدى عرضه في 2014، أن أحداثه تشابهت بـ"الصدفة"، مع جريمة قتل ابنة المطربة المغربية ليلى غفران، التي هزت الرأي العام في 2008.
أما السفاحة "المرأة"، فكان لها نصيب من استلهام الدراما، بدأت بأشهر سفاحتين في تاريخ مصر، ريا وسكينة، اللتين قتلتا عشرات النساء بالإسكندرية مطلع القرن الماضي، وتم تنفيذ حكم إعدامهما في ديسمبر 1921، هذه القصة ألهمت "بديعة مصابني" لتجسيدها على خشبة المسرح في العام التالي لإعدامهما، ثم عالجتها عشرات الأعمال الفنية بين المسرح والسينما والتليفزيون، وجسدتها العديد من النجمات، آخرهن عبلة كامل وسمية الخشاب، في مسلسل عرض عام 2005، وفي السينما تقمصت نبيلة عبيد (تحت اسم مستعار)، شخصية "ناهد القفاص" التي قتلت زوجها وقطعت جثته بالساطور، في 1989، والتي صدر بحقها حكم بالسجن المؤبد، وعُرض فيلم "المرأة والساطور" في 1997، لينهي المخرج سعيد مرزوق الأحداث بعبارة: "ليس كل قاتل مذنباً، وليس كل قتيل بريئاً".
وعلى مدار سنوات، ألهمت عشرات الجرائم صناع الدراما، لتبقى دعاوى النقاد بـ"الترفق" بالجمهور، وعدم الضغط عليهم سواء بتكرار مشاهد الدم، أو الاستغراق في "التخطيط المتقن للجريمة"، أو تقديم مشاهد "مبتكرة" للقتل، حتى لا تلهب خيال المراهقين، مع تحليل شخصيات المجرمين نفسياً، وتعظيم القيم الإيجابية، وضرورة التركيز على "التطهير" كـ"مصير حتمي لكل من تسول له نفسه ارتكاب الجريمة"، وتبقى الحقوق الإنسانية" مصطلحاً "مائعاً" وسط تساؤلات الجمهور، حول مدى الاقتراب أو الابتعاد عن شخصيات حقيقية من لحم ودم، عاشت بيننا، بل واهتز لضجيجها الرأي العام، وربما اعتلت "قمة التريند" في وقت ما.
اقرأ أيضاًمن ملفات المحاكم المصرية.. مواعيد عرض مسلسل ساعته وتاريخه والقنوات الناقلة
«الدكتور» يسرق بأساليب مبتكرة.. تفاصيل الحلقة 4 من مسلسل «ساعته وتاريخه»