لجريدة عمان:
2024-11-05@11:26:42 GMT

من مرطبان المخلل حتى السجاد الفاخر

تاريخ النشر: 7th, December 2023 GMT

من مرطبان المخلل حتى السجاد الفاخر

لن أنسى جد صديقي أحمد وهو يروي أمامنا حكايات ضياع بيته، ونهب ممتلكاته في يافا: تسللت لبيتي بعد النكبة بأيام: (كل إشي كان منهوب: بلاط الأرضية والكتب والستائر والكنبات والشموع والصحون والطناجر). انهار جد صديقي وهو يتحدث، وتذكرت على الفور الكاتبة الفلسطينية الثمانينية غادة الكرمي المقيمة في لندن وهي تتحدث في مذكراتها (البحث عن فاطمة) عن نهب بيت الأهل في حي القطمون بالقدس: (عشت في هذا المنزل حتى سن الثامنة، حين أجبرنا على الرحيل في العام 1948.

. كنت أفضل دخول المنزل، والقيام بجولة فيه من الداخل، لكن مالكه الإسرائيلي الحالي، إن جازت تسميته مالكا، لم يعطني الإذن بذلك.

كان والدي جامعا للكتب من فرط حبّه لها، وكان قد بدأ بتأليف معجم إنجليزي عربي.. قد يبدو الأمر عاديا اليوم، لكنه لم يكن عاديا في ذلك الوقت، فقلة قليلة هم من كانوا ينكبّون على تأليف المعجمات، فكل من حاول أن يفعل شيئا من هذا كان عليه أن يدرك حجم الجهد الكبير الذي سيبذله لتحقيق إنجازه.. كان قد قطع شوطا في تأليف ذلك المعجم، ويعلم الله ماذا كان سيعنيه ذلك بالنسبة له، حين تركناه في العام 1948.. ترك كتبه، وترك المعجم الذي لم يكمله، كما تركنا كل شيء).

ثم تتذكر غادة مرطبانات المخلل والمربى التي كانت تتقنها أمها وتتساءل عن مصيرها وتبدي استغرابها: هل ممكن أن يأكل اللص من طعام البيت المسروق دون أي أحساس بذنب أو عار؟ وتتساءل عن مصير ألعابها، ودفاترها وأقلامها وكلبها الوفي (روكس) الذي تركوه هناك.

النكبة هي سرقة البيت، جملة لن أنساها، قالها عمي محمود وهو يتحدث عن البيت كقاعدة للحياة وأساس التنفس، والإحساس بالأمان، لا وطن دون بيت، هُجّر عمي محمود من قريته بيت نبالا قضاء الرملة مع أهل القرية، الذين تفرقوا في قرى الضفة الغربية، عاد عمي متسللا عبر الجبال إلى بيته في القرية مع العديد من المتسللين، ليحضر بعضا من الحبوب التي تركت في البيت: (كان عنا اشوالات قمح وشعير وفريكة وذرة وسمسم، كله كان مسروق، والغنمات مسروقات، وبيارات البرتقال والليمون تبعتنا كانت منهوبة، ومخربة، عاد عمي خالي الوفاض، إلى مكان لجوئه في قرية أبو شخيدم – قضاء رام الله.

ولعل خليل السكاكيني المربي والكاتب والمناضل الفلسطيني هو الذي لخّص ألم فقد الأغراض الشخصية في حمى نكبة فلسطين حين كتب في مذكراته في وداع مكتبته الغنية، والتي سلبت من قبل الجيش الإسرائيلي إبان النكبة عام 1948، من داره في حي القطمون في القدس: «الوداع يا مكتبتي يا دار الحكمة، يا رواق الفلسفة يا معهد العلم ويا ندوة الأدب، الوداع يا كتبي لست أدري ما حل بك بعد رحيلنا، أحرقت، أنقلت معززة مكرمة إلى مكتبة عامة أو خاصة، أصرت إلى دكاكين البقالين يلف بأوراقك البصل؟ يعز علي أن أحرم منك وقد كنت غذائي الروحي وكنت ولا أزال شرها إلى هذا الغذاء، لقد كنت ألازمك في ليلي ونهاري، ولم يزرني أحد في الليل أو النهار إلا وجدني منكبا على كتبي".

هذا كتاب مرعب (نهب الممتلكات العربية في حرب 1948) للمؤرخ الإسرائيلي آدم راز، ترجمة أمير مخول، صادر حديثا، عن المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية (مدار) في هذا الكتاب تتوضح أبعاد الجريمة بلسان أحد أهم مؤرخيهم الذي بحث ونقب في أرشيف الدولة، عن أصغر سرقة إلى أضخمها، هو كتاب خطير وقاس، قراءته تشوش نبضات القلب ويسبب تقليب صفحاته تشنجات في الأيدي، كل سطر شوكة في الحلق، كل فاصلة طعنة، كل صفحة موجة نار وحشية تكوي العينين، هذا كتاب الطعنات والنار والشوك، الذي يغامر ويقرؤه عليه أن يتحمل دما كثيرا ينزفه من الفم، منذ فترة طويلة (بعد انكشاف تفاصيل نهب المكتبات العربية في المدن الفلسطينية المحتلة عبر أفلام وكتب صدرت)، وأنا أنتظر انكشاف تفاصيل نهب البيوت، خاصة الأغراض الشخصية جدا، مثل أغراض المطبخ البسيطة التي بذلت أمهاتنا ساعات في ترتيبها والعناية بها بالعينين الحريصتين والحب الكثير، الأشياء نفسها التي لا تتحمل أمهاتنا أن يعبث بها أو حتى يغير موقعها أحد من أفراد البيت، وها هو الكتاب الدامي الذي أنتظره، بين يدي، مغلقا على طاولتي أتهيب الاقتراب منه وفتحه، قرأت كثيرا في سير المهجرين من مثقفي فلسطين كغادة كرمي وخليل السكاكيني وغيرهما الذين تحدثوا بالتفصيل عما تركوه في البيت في آخر لحظات الرحيل، حزنت جدا وأنا أقرأ عن أغراض غالية على أصحابها، مثل السجاد الفارسي وآلات الكتابة، وصنابير المياه وبلاطات المطبخ والأوراق النقدية والآلات الموسيقية والملابس وشراشف الطاولات والأواني الخزفية، وغيرها.

منذ الكلمة الأولى في الكتاب شعرت بأنني أمام قصص اعتداء همجية من فرط صراحتها، وكأنها قادمة من كوابيس، وتشبه خيال المرضى، حتى الخيال المريض نفسه لا أظنه صدق ما حدث.

وما حدث ليس فقط احتلالا للبيوت والحدائق والساحات والمؤسسات، إنه نهب دنيء شخصي وعلى مستوى الأوامر العسكرية ومنظومة تفكير الدولة وتوجهاتها، جحافل من الجنود والمستوطنين اجتاحوا كالجراد مدن يافا وحيفا وعكا والقدس والسبع وطبريا والرملة واللد وغيرها مقتحمين البيوت ليسرقوا تفاصيل ليلنا ونهارنا.

الكتاب سجل سرقة حقيقية، يجب ترجمته لكل لغات العالم وهو يروي قصص أحط أنواع الدناءة البشرية، دون أي إحساس بالذنب، ودون ربط ما يجري بما جرى للصوص فلسطين أنفسهم وهم يتعرضون للقتل والسرقة والنهب والسحل على أيدي النازيين في أوروبا.

كتاب قاتل، قراءته مجزرة نفسية للفلسطيني، ابن المدن المنهوبة، لكنه ضروري جدا، للمعرفة، معرفة الأبعاد المختلفة لبنية الاحتلال، أسوأ ما في الكتاب ليس فقط عمليات النهب ذاتها، وليس عدم شعور الناهبين بالذنب، وليس مشاركة كبار ضباط الجيش الإسرائيلي في عمليات النهب بشكل مباشر أو غير مباشر، بل هو خروج بعض الأصوات المنافقة التي كانت تدين عمليات النهب، أصوات لم تفعل أي شيء آخر غير الإدانة، أصوات سكنت في بيوت المنهوبين، واستعملت أغراضهم، ونهبت في آخر المطاف بعد أن تبين أن لا أحد لم يسرق.

في كل عائلة فلسطينية ذاكرة نهب، حتى على مستوى بسيط، قال لي صديق شاعر نقلا عن جدته في آخر أيامها على مائدة صينية دجاج محمر في مخيم الدهيشة: "كان عنا عشرين دجاجة يا ستي، لما اجو اليهود هربنا وخليناهم، يا الله يا ستي لو احنا ذبحناهم وأكلناهم مش احسن ما يوخذوهم اليهود؟

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

«الثقافة» تصدر «قضايا الوجود والمعرفة والأخلاق» بهيئة الكتاب

أصدرت وزارة الثقافة، من خلال الهيئة المصرية العامة للكتاب، برئاسة الدكتور أحمد بهي الدين، كتاب «قضايا الوجود والمعرفة والأخلاق لدى فلاسفة الإسلام»، للدكتور الصاوي الصاوي أحمد.

وأوضحت هيئة الكتاب أن قضية الوجود والمعرفة والأخلاق من أهم القضايا التي شغلت الإنسانية بكل مستوياتها وطبقاتها منذ الخليقة حتى عصرنا، فلا يوجد إنسان في أي عصر من العصور لم تشغله قضية وجوده وعلاقته بوجود الآخر، وكيف يعرف وجوده ووجود الله على حقيقته، والسلوك الخلقي الذي يجب أن يتحلى به الإنسان في كل أمور حياته، ونعني هنا بالوجود وجود الله والعالم بما هو موجود في الظاهر والباطن، وكيفية معرفة كل ما يتعلق بهذا الوجود وأسراره.

وحسب بيان هيئة الكتاب: أما الأخلاق فتعنى بها السلوك الواجب الالتزام به في معرفة الوجود على الحقيقة وكيفية التعامل معه بما يجب، ولهذا كان شغل الفلاسفة على مر العصور هو البحث في حقيقة هذا الوجود «وجود الله والعالم»، وكيفية معرفة حقيقته، وما القيم الأخلاقية الواجب الالتزام بها لمعرفة سر هذا الوجود والتعامل معه.

فلاسفة البحث في الوجود

ويعد نصير الدين الطوسي وابن سينا وفخر الدين الرازي والشهرستاني من هؤلاء الفلاسفة الذين شغلهم البحث في الوجود، فقد حاولوا البحث في كثير من معالم الوجود وطرق الوصول إلى معرفة حقيقته، كما اهتموا بمعظم العلوم التي تتعلق بالوجود من فلك ورياضيات ورصد وفلسفة ونفس ومنطق وأخلاق وغيرها، وخلفوا لنا تراثًا في كل هذه العلوم لم يتم حصره حتى الآن، ولم يكشف عن جميعه على الرغم من جهود الباحثين في محاولة إبراز أهمية تراث هؤلاء في الفكر الإسلامي والكشف عن بعض كنوزهم الدفينة.

معلومات عن الطوسي

والطوسي كعالم وفيلسوف نشأ في عصر ركود الفلسفة وانحطاطها على يد أبو حامد الغزالي وغيره، وفي عصر حرم فيه التفكير الفلسفي مثل عصرنا العربي الحالي، وقد شغله هذا الهجوم على الفلسفة والفلاسفة فاطلع على تراث الفلاسفة وأعدائها وأخذ في الدفاع عنها، وهذا دفعه إلى تحليل فكر الشيخ الرئيس ابن سينا الفلسفي، وشرحه كأشهر فلاسفة الإسلام للدفاع عنه أمام أعدائه ومنهم الرازي والشهرستاني وغيرهما، لهذا انعكف الطوسي فترة من الزمن في قلاع الإسماعيلية للبحث عن قضايا الوجود والمعرفة والأخلاق في مؤلفات ابن سينا وشرحها، واتهامات فخر الدين الرازي والشهرستاني له بالكفر وخرج من هذا بإنتاج أعظم مؤلفاته في الوجود والمعرفة والأخلاق، ومنها شرحه «للإشارات والتنبيهات» لابن سينا وتعليق الرازي عليها، وكذا شرح محصل أفكار المتقدمين للرازي، وألف كتابا آخر للرد على الشهرستاني «مصارع المصارع» وبهذا نمت ملكة النقد الفلسفي لدى الطوسي.

كما نجح في محاولته التوفيق بين الفلسفة وعلم الكلام، لهذا عده البعض مؤسس المنهج الفلسفي في البحث في علم الكلام، وقد اكتسب الطوسي هذا من خلال مناقشاته ومحاوراته بين المتكلمين والفلاسفة، وهو كمسلم لم يعارض علم الكلام ولا الفكر الإسلامي بل العكس يُعد من المدافعين عنه، ونظرًا لأن هذه القضية تشغل كل إنسان فقد قام بدور بارز في التوفيق بين رؤى الفلاسفة في قضية الوجود والمعرفة ممثلة في ابن سينا، وموقف علماء الكلام منها ممثلا في فخر الدين الرازي والشهرستاني.

 

مقالات مشابهة

  • المرتضى في كتاب إلى الأمين العام للأمم المتحدة : شكراً
  • وضّاح خنفر وقراءته السياسية والاستراتيجية في السيرة النبوية.. كتاب ومسار
  • بعد إحراق 100 ألف كتاب فيها: شعراء وكتاب يحيون روح الموصل (صور)
  • «قضايا الوجود والمعرفة والأخلاق» أحدث إصدارات هيئة الكتاب
  • «الثقافة» تصدر «قضايا الوجود والمعرفة والأخلاق» بهيئة الكتاب
  • «قضايا الوجود والمعرفة والأخلاق» إصدار جديد بهيئة الكتاب
  • الثقافة تصدر «قضايا الوجود والمعرفة والأخلاق» بهيئة الكتاب
  • لهجاتنا” كتاب جديد للباحث الدكتور إبراهيم طلحة
  • دار الإفتاء: لا مانع شرعا من الدعاء بألفاظ لم ترد في الكتاب والسنة
  • في نص ساعة.. طريقة عمل خيار مخلل جاهز للأكل