من مرطبان المخلل حتى السجاد الفاخر
تاريخ النشر: 7th, December 2023 GMT
لن أنسى جد صديقي أحمد وهو يروي أمامنا حكايات ضياع بيته، ونهب ممتلكاته في يافا: تسللت لبيتي بعد النكبة بأيام: (كل إشي كان منهوب: بلاط الأرضية والكتب والستائر والكنبات والشموع والصحون والطناجر). انهار جد صديقي وهو يتحدث، وتذكرت على الفور الكاتبة الفلسطينية الثمانينية غادة الكرمي المقيمة في لندن وهي تتحدث في مذكراتها (البحث عن فاطمة) عن نهب بيت الأهل في حي القطمون بالقدس: (عشت في هذا المنزل حتى سن الثامنة، حين أجبرنا على الرحيل في العام 1948.
كان والدي جامعا للكتب من فرط حبّه لها، وكان قد بدأ بتأليف معجم إنجليزي عربي.. قد يبدو الأمر عاديا اليوم، لكنه لم يكن عاديا في ذلك الوقت، فقلة قليلة هم من كانوا ينكبّون على تأليف المعجمات، فكل من حاول أن يفعل شيئا من هذا كان عليه أن يدرك حجم الجهد الكبير الذي سيبذله لتحقيق إنجازه.. كان قد قطع شوطا في تأليف ذلك المعجم، ويعلم الله ماذا كان سيعنيه ذلك بالنسبة له، حين تركناه في العام 1948.. ترك كتبه، وترك المعجم الذي لم يكمله، كما تركنا كل شيء).
ثم تتذكر غادة مرطبانات المخلل والمربى التي كانت تتقنها أمها وتتساءل عن مصيرها وتبدي استغرابها: هل ممكن أن يأكل اللص من طعام البيت المسروق دون أي أحساس بذنب أو عار؟ وتتساءل عن مصير ألعابها، ودفاترها وأقلامها وكلبها الوفي (روكس) الذي تركوه هناك.
النكبة هي سرقة البيت، جملة لن أنساها، قالها عمي محمود وهو يتحدث عن البيت كقاعدة للحياة وأساس التنفس، والإحساس بالأمان، لا وطن دون بيت، هُجّر عمي محمود من قريته بيت نبالا قضاء الرملة مع أهل القرية، الذين تفرقوا في قرى الضفة الغربية، عاد عمي متسللا عبر الجبال إلى بيته في القرية مع العديد من المتسللين، ليحضر بعضا من الحبوب التي تركت في البيت: (كان عنا اشوالات قمح وشعير وفريكة وذرة وسمسم، كله كان مسروق، والغنمات مسروقات، وبيارات البرتقال والليمون تبعتنا كانت منهوبة، ومخربة، عاد عمي خالي الوفاض، إلى مكان لجوئه في قرية أبو شخيدم – قضاء رام الله.
ولعل خليل السكاكيني المربي والكاتب والمناضل الفلسطيني هو الذي لخّص ألم فقد الأغراض الشخصية في حمى نكبة فلسطين حين كتب في مذكراته في وداع مكتبته الغنية، والتي سلبت من قبل الجيش الإسرائيلي إبان النكبة عام 1948، من داره في حي القطمون في القدس: «الوداع يا مكتبتي يا دار الحكمة، يا رواق الفلسفة يا معهد العلم ويا ندوة الأدب، الوداع يا كتبي لست أدري ما حل بك بعد رحيلنا، أحرقت، أنقلت معززة مكرمة إلى مكتبة عامة أو خاصة، أصرت إلى دكاكين البقالين يلف بأوراقك البصل؟ يعز علي أن أحرم منك وقد كنت غذائي الروحي وكنت ولا أزال شرها إلى هذا الغذاء، لقد كنت ألازمك في ليلي ونهاري، ولم يزرني أحد في الليل أو النهار إلا وجدني منكبا على كتبي".
هذا كتاب مرعب (نهب الممتلكات العربية في حرب 1948) للمؤرخ الإسرائيلي آدم راز، ترجمة أمير مخول، صادر حديثا، عن المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية (مدار) في هذا الكتاب تتوضح أبعاد الجريمة بلسان أحد أهم مؤرخيهم الذي بحث ونقب في أرشيف الدولة، عن أصغر سرقة إلى أضخمها، هو كتاب خطير وقاس، قراءته تشوش نبضات القلب ويسبب تقليب صفحاته تشنجات في الأيدي، كل سطر شوكة في الحلق، كل فاصلة طعنة، كل صفحة موجة نار وحشية تكوي العينين، هذا كتاب الطعنات والنار والشوك، الذي يغامر ويقرؤه عليه أن يتحمل دما كثيرا ينزفه من الفم، منذ فترة طويلة (بعد انكشاف تفاصيل نهب المكتبات العربية في المدن الفلسطينية المحتلة عبر أفلام وكتب صدرت)، وأنا أنتظر انكشاف تفاصيل نهب البيوت، خاصة الأغراض الشخصية جدا، مثل أغراض المطبخ البسيطة التي بذلت أمهاتنا ساعات في ترتيبها والعناية بها بالعينين الحريصتين والحب الكثير، الأشياء نفسها التي لا تتحمل أمهاتنا أن يعبث بها أو حتى يغير موقعها أحد من أفراد البيت، وها هو الكتاب الدامي الذي أنتظره، بين يدي، مغلقا على طاولتي أتهيب الاقتراب منه وفتحه، قرأت كثيرا في سير المهجرين من مثقفي فلسطين كغادة كرمي وخليل السكاكيني وغيرهما الذين تحدثوا بالتفصيل عما تركوه في البيت في آخر لحظات الرحيل، حزنت جدا وأنا أقرأ عن أغراض غالية على أصحابها، مثل السجاد الفارسي وآلات الكتابة، وصنابير المياه وبلاطات المطبخ والأوراق النقدية والآلات الموسيقية والملابس وشراشف الطاولات والأواني الخزفية، وغيرها.
منذ الكلمة الأولى في الكتاب شعرت بأنني أمام قصص اعتداء همجية من فرط صراحتها، وكأنها قادمة من كوابيس، وتشبه خيال المرضى، حتى الخيال المريض نفسه لا أظنه صدق ما حدث.
وما حدث ليس فقط احتلالا للبيوت والحدائق والساحات والمؤسسات، إنه نهب دنيء شخصي وعلى مستوى الأوامر العسكرية ومنظومة تفكير الدولة وتوجهاتها، جحافل من الجنود والمستوطنين اجتاحوا كالجراد مدن يافا وحيفا وعكا والقدس والسبع وطبريا والرملة واللد وغيرها مقتحمين البيوت ليسرقوا تفاصيل ليلنا ونهارنا.
الكتاب سجل سرقة حقيقية، يجب ترجمته لكل لغات العالم وهو يروي قصص أحط أنواع الدناءة البشرية، دون أي إحساس بالذنب، ودون ربط ما يجري بما جرى للصوص فلسطين أنفسهم وهم يتعرضون للقتل والسرقة والنهب والسحل على أيدي النازيين في أوروبا.
كتاب قاتل، قراءته مجزرة نفسية للفلسطيني، ابن المدن المنهوبة، لكنه ضروري جدا، للمعرفة، معرفة الأبعاد المختلفة لبنية الاحتلال، أسوأ ما في الكتاب ليس فقط عمليات النهب ذاتها، وليس عدم شعور الناهبين بالذنب، وليس مشاركة كبار ضباط الجيش الإسرائيلي في عمليات النهب بشكل مباشر أو غير مباشر، بل هو خروج بعض الأصوات المنافقة التي كانت تدين عمليات النهب، أصوات لم تفعل أي شيء آخر غير الإدانة، أصوات سكنت في بيوت المنهوبين، واستعملت أغراضهم، ونهبت في آخر المطاف بعد أن تبين أن لا أحد لم يسرق.
في كل عائلة فلسطينية ذاكرة نهب، حتى على مستوى بسيط، قال لي صديق شاعر نقلا عن جدته في آخر أيامها على مائدة صينية دجاج محمر في مخيم الدهيشة: "كان عنا عشرين دجاجة يا ستي، لما اجو اليهود هربنا وخليناهم، يا الله يا ستي لو احنا ذبحناهم وأكلناهم مش احسن ما يوخذوهم اليهود؟
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
حين تُزهِر الكلمة.. "معرض الكتاب" بوابة نحو وعيٍ جديد
نور المعشنية
في كل عام، حين تفتح أبواب معرض مسقط الدولي للكتاب، لا نكون على موعد مع حدث ثقافي اعتيادي، بل مع لحظة احتفاء بالإنسان، بفكره، وبحثه، وحنينه الذي لا ينتهي إلى المعنى. كأنما المعرض لا يُقام في مركز المعارض فحسب، بل يُقام في أعماق كل من مرّ ذات يوم بكتاب غيّر نظرته للحياة، أو سطرٍ مسح عن قلبه غبار التعب.
ليس غريبًا أن يشعر زوّاره بشيء يشبه الحنين، حتى قبل أن يدخلوا قاعاته. فالمعرض لا يُشبه سواه، له مذاقٌ خاص، يشبه أول كتاب وقعنا في حبه، وأول جملةٍ لم ننساها منذ الطفولة، له رائحة الصفحات القديمة التي احتضنت قلوبنا ذات يوم.
في هذا المكان، لا تُعرض الكتب فحسب؛ بل تُعرض الأحلام المؤجلة، والأسئلة التي لم تجد جوابًا بعد، وتُعرض الأرواح الباحثة عن ذاتها في سطورٍ قد تكون كُتبت في بلدٍ بعيد، لكنّها - لسببٍ لا نعرفه - تحدّثنا نحن، تمسّنا، تفتح فينا نوافذ كانت مغلقة.
الطفل الذي يركض نحو ركن القصص لا يبحث فقط عن حكاية، بل عن بدايةٍ جديدة لعالمه، الشاب الذي يفتّش عن عنوان قرأ عنه ذات مساء لا يبحث عن كتاب، بل عن صوتٍ يشبهه، والسيدة التي تشتري كتابًا لصديقتها لا تشتري غلافًا؛ بل تهديها ما قد يُحدث الفرق في يومها. كل هؤلاء، وكلنا، نأتي إلى المعرض لا لنقتني فقط، بل لنكتشف ما لم نكن نعرف أننا نحتاجه.
إنه طقس سنويّ يعيد إلينا شعور الانتماء، ويذكّرنا أن القراءة ليست ترفًا، ولا عادة نُخبوية، بل ممارسة وجودية. نقرأ لأننا نبحث عن أنفسنا، عن إجاباتنا، عن طرق جديدة لنفهم بها العالم. نقرأ لنبقى أحياء من الداخل.
ووسط الزحام، يحدث أن يتوقف الزمن. رفٌ معيّن يشدّك، عنوانٌ يستوقفك، تقرأ أول صفحة... فتبتسم. لأنك ببساطة، وجدت نفسك هناك. وجدت إجابة غامضة لسؤال ظلّ معلقًا فيك. وهذه أعظم هدية يمكن لكتاب أن يمنحها لك: أن يُعرّفك إلى ذاتك من جديد.
معرض الكتاب ليس فقط مكانًا للكتب، بل هو أيضًا مساحة لقاء: لا بين الكُتاب والقرّاء فقط، بل بين الأرواح. هنا، تتحدّث العناوين بلغاتٍ شتّى، لكنها تتفق جميعًا على محبة الإنسان، وشغفه الأزليّ بالحكاية، ورغبته العميقة في الفهم والانتماء.
كل دار نشرٍ تحمل لونًا من ألوان الثقافة، وكل مؤلفٍ يحمل حكاية، وكل قارئٍ يحمل حلمًا يبحث له عن مرآة. هذه ليست مجرد رفوف؛ إنها مساحات للعبور نحو وعيٍ جديد.
ولعل أجمل ما في هذا الحدث، أنه يذكّرنا أن الكلمة لا تزال بخير. وأن الكتاب، رغم تسارع الزمن، وتحوّل الشاشات إلى نوافذ يومية، لا يزال النافذة الأجمل... لا فقط إلى العالم، بل إلى دواخلنا.
فلنمشِ هذا العام بين الأرفف وقلوبنا مفتوحة. لعلنا نجد كتابًا يُربّت على أرواحنا المتعبة، أو عبارة تُعيد ترتيب فوضانا الداخلية، أو لقاء يُشبه الوعد بأننا لسنا وحدنا في هذا الدرب الطويل.
ولنحفظ لهذا المعرض مكانته، لا كمهرجانٍ موسمي، بل كحالة وعي. كنقطة ضوء في زمنٍ كثرت فيه العتمة. ولتُزهر الكلمة، كل عام، فينا من جديد... تعلّمنا كيف نُنصت، لا فقط لما يُقال؛ بل لما يسكننا بصمت.