من الإسكندرية إلى إيطاليا.. الباحثة المصرية منار فؤاد تروي لـ "الفجر" قصة نجاحها
تاريخ النشر: 7th, December 2023 GMT
انتقلت بين المدارس الحكومية في تعليمها الأساسي، وكانت تحصل على أعلى الدرجات، ورغم أنها لم تلتحق بإحدى كليات القمة، ولكنها تأهلت لما هو أكثر من ذلك بسبب طموحها الذي لم يتوقف، فأصبحت ضمن أوائل خريجي قسم الكيمياء الخاصة في "علوم الإسكندرية"، وبعد التخرج من الكلية بتقدير امتياز مع مرتبة الشرف حصلت على ميدالية التفوق العلمي، كما حصلت على المنحة الكاملة لدراسة الدكتوراة من جامعة ميلانو، وجائزة خلال دراستها للدكتوراه من جامعة كاميرينو إحدى الجامعات الإيطالية، وتم منح مشروعها أفضل عرض تقديمي، مسيرتها في الكيمياء ليست بقليلة، ومشوارها يستحق السرد والتعلم منه، في حوار خاص لـ "الفجر" مع الباحثة منار أحمد فؤاد مدرس الكيمياء بكلية العلوم بجامعة الإسكندرية، وباحثة الدكتوراة بقسم الكيمياء جامعة ميلانو بإيطاليا.
إلى نص الحوار...
ما المدرسة التي التحقتِ بها في تعليمك الأساسي؟
تلقيت تعليمي الأساسي في إحدى المدارس الحكومية بالمملكة العربية السعودية حتى المرحلة الإعدادية. أما الثانوية العامة فحصلتُ عليها من إحدى المدارس الحكومية في مصر بالإسكندرية.
كيف كانت الجامعة واختصاصك الذي اخترته؟
بعد حصولي على مجموع 97% بالثانوية العامة، شُعبة عِلمي علوم، لم يؤهلني مجموعي للالتحاق بإحدى كليات القمة. فقد انضممت إلى كلية العلوم في جامعة الإسكندرية. في العام الثاني، انجذبت بشدة لتخصص الكيمياء، واخترته كتخصص رئيسي وثانوي، لأصبح من أوائل خريجي قسم الكيمياء في جامعة الإسكندرية، التي خرجت منها علامات بارزة مثل الدكتور أحمد زويل.
ما الصعوبات التي واجهتك أثناء التعليم الجامعي؟
نظرًا لدراستي في مدارس عربية وجهلي حينها بأن الدراسة بكلية العلوم كانت باللغة الإنجليزية، كان ذلك تحديًا كبيرًا بالنسبة لي في العام الأول. ومع ذلك، تغلبت على تلك المشكلة بقراءة الكثير من الكتب باللغة الإنجليزية، مما زاد من إلمامي بها ومساعدني في التفوق في العام الأول والأعوام التالية.
بعد التخرُج، ما الصعوبات التي تواجهينها الآن؟
نعاني من فقر الإمكانيات والبيروقراطية المميتة في مجال البحث العلمي، حيث يُصعب الوصول إلى بعض الأجهزة الأساسية. ورغم أن بعض المشكلات تم حلها، فإن افتقارنا لبعض الإمكانيات الهامة لا يزال قائمًا، ونأمل في إيجاد حلًا جذريًا في المستقبل.
ما هو دور الأسرة في رحلتك ودعمهم لك؟
لن أستطيع إنكار دور والديّ وأختي في رحلتي. كل شيء دون دعواتهم وصلواتهم هو ببساطة مستحيل. قدمت لي عائلتي دعمًا كبيرًا روحيًا ومعنويًا وأخلاقيًا، وأنا ممتنة لهم دائمًا من أجل ذلك الدعم الرائع وكل ما قدموه لي.
ما الفرق بين دراستك في مصر والخارج؟
إذا كُنا سنتحدث عن الفروق في المناهج العلمية والتعليمية، فيجب أن نقارن ببساطة جامعة الإسكندرية بأي جامعة عريقة بالخارج من حيث جودة التعليم النظري فيما يخُص العلوم. أما عن الدروس العملية، فيجب القول إن الفرق هنا يتسع اتساعًا عظيمًا يجب أن ندرسه بعناية لنجد طريقة فعالة تُمكِنُنا من معالجته. وكما شرحتُ سابقًا حَجم المعامل التعليمية والبحثية صغير للغاية، وكذلك الإمكانات المُتاحة من أجل تدريب الطُلاب على تجارب أو أجهزة معملية معينة هو أمر بالغ الصعوبة.
ولكن أحد الفروق الغريبة هي أن أعضاء هيئة التدريس بالخارج (من أساتذة الجامعات) لديهم مكاتب خاصة بهم يستطيعون مباشرة عملهم من خلالها، وهو يا للأسف الشديد لا يتوفر لمعظم أعضاء هيئة التدريس (أتحدث هنا عن قسم الكيمياء بعلوم الإسكندرية)، وهو أمر استشعر غرابة وحسرة وحرجًا عندما أذكره! فعضو هيئة التدريس الذي خدم الجامعة منذ أن كان معيدًا بها (لمدة تصل في المتوسط قرابة ال 40 عام) لا يجد مكانا مناسبا بعض الأحيان لتصحيح أوراقه الامتحانية أو حتى إقامة امتحان شفوي لطلابه أو حتى عمل اجتماع مع مجموعته البحثية (ولنضع جميعا في الاعتبار أن المعمل البحثي ليس المكان المناسب لهذه الأنشطة في أي دولة في العالم الشرقي والغربي).
أحد الفروق الهامة أيضًا هو نظام إدارة المخلفات بالجامعات والأنظمة البيئية يتم إدارتها بشكل فعال للغاية من أجل تحقيق أقصى مستويات السلامة للجميع داخل المؤسسة التعليمية أو خارجها، مما يضعنا في مصر أمام فرق أخرى تشجعنا على دراستها لتحقيق أهداف التنمية المستدامة.
ما التحديات التي واجهتِك في الخارج من تعليم ومعيشة؟
قد يعتقد البعض أن الحياة في دول أوروبا هي جنة الله على الأرض، ولكن البيروقراطية الأوروبية متخصصة في خلق الكثير من العقبات أمام المغتربين، وبالأخص إذا كان هؤلاء المغتربين ين
تمون إلى خلفية ثقافية ودينية مختلفة.
1- البيروقراطية: دعينا نبدأ بأول شيء يسعى المغترب للحصول عليه وهو تصريح الإقامة، كطالبة دكتوراة كنت أعتقد أن الحصول عليه أمر سهل، ولكن صُدمت عندما قدمت طلبًا للحصول على تصريح الإقامة، وفوجئت بأنه عليّ الانتظار ستة أشهر حتى الحصول على ذلك الموعد، وهذا كان يحدث تقريبا في كل مرة أحاول فيها تجديد تصريح الإقامة. كما فوجئت من قبل أحد الزملاء المغتربين أنه تعين عليه الانتظار لأكثر من عام لتحديد موعد في المكتب الحكومي المخصص لتصاريح الإقامة، ويظل المرء حبيسًا داخل بلد الإقامة ولا يستطيع حتى زيارة ذويه حتى صدور تصريح الإقامة الخاص به.
2- عائق اللغة: اعتقدت في البداية أن جميع مواطني الاتحاد الأوروبي يتحدثون الإنجليزية، ولكني فوجئت بأن معظمهم لا يتحدث سوى لغة بلده، ويرفضون التحدث بغيرها! كانت هذه من أهم العقبات التي واجهتني، فلا يوجد أسوأ من التواجد في مكان لا تستطيعين فيه فهم لغة أهله، مما دفعني لتعلم اللغة المحلية حتى استطعت التحدث بها وفهمها واستخدامها في المراسلات اليومية، وهو من الأمور التي أفخر بإنجازها.
3- الخلفية الثقافية والدينية: في الحقيقة، لا يمكن أن يستعصي على المصري أن يتأقلم في أي مجتمع ما دام لديكي القدرة على اختيار ما هو إيجابي وما هو سلبي ولا يتماشى مع اخلاقنا وثقافتنا الشرقية. ولكن يمكن أن تمثل تلك الخلفية مشكلة عند بعض الأوربيين، كالحجاب، أو محاولة المحافظة على أداء الصلاة في مكان العمل، أو صيام رمضان، وعدم شرب الكحول، وغيرها، مما يثير حيرة البعض والأسئلة الكثيرة التي ما دام كنت سعيدة بإيضاح تلك النقاط لهم. وأسعدني كذلك تفهم أغلبيتهم لثقافتنا في النهاية، وتبني الكثير منها كمنهج يومي جديد في حياتهم!
كيف كانت رحلتك مع الكيمياء؟ هل كنتِ تطمحين إلى ما وصلتِ إليه الآن؟
الحقيقة، لم تكن رحلتي مع الكيمياء مملة أبدًا! بل كانت مليئة بالعجائب. كان كافيًا أن يحصل الدكتور أحمد زويل على جائزة نوبل في الكيمياء في عام 1999، وكنت أبلغ من العمر 5 سنوات فقط! أن يجعلني وأنا طفلة أتساءل من هو؟ ولماذا ربح تلك الجائزة؟ وماذا فعل وكيف وصل لما وصل إليه؟ وكم هو عظيم أن ترى جزيئات كيميائية تتحرك أمامك وتتراقص ذراتها في تناغم عجيب يجعلك تفكرين في عظمة الخالق أولا وفي جمال هذا العلم ثانيا ونمو هائل للعديد من التساؤلات. الكيمياء هي نقطة التقاء كل العلوم ونقطة بداية لكل شيء نراه في هذا الكون الذي لا نهاية له. فكيف بعد كل هذا لا أقع في غرامها؟!
لطالما كنت مشغولة بهذا العلم، واحقاقًا للحق، كنت أدرسه حبًا فيما أفعله كل يوم في معملي الذي أقضي فيه وقتًا أكثر مما أقضيه في بيتي.
ما هو الموضوع الذي قدمتِه خلال دراستك للدكتوراه وحصلتِ من خلاله على جائزة؟
كانت رسالة الدكتوراة الخاصة بي تتحدث عن تشييد مركبات حلقية غير متجانسة، وهي القلب النابض للعديد من الأدوية والعقاقير الطبية والعديد من الأغراض الصناعية. وقد قمت بهذا عن طريق تفاعل من خطوة واحدة فقط واستخدمت غاز أول أكسيد الكربون كعامل مختزل. ولكن نظرًا للسمية الشديدة لهذا الغاز، أصبحت هذه التفاعلات ذات انتشار محدود في الأوساط العلمية. ولذا، قمنا بفكرة استخدام مركبات كيميائية لديها القدرة على إطلاق هذا الغاز داخل التفاعل فقط، مما يجعلها آمنة طوال الوقت ما لم توضع في ظروف التفاعل الكيميائي المرغوب فيه.
حدثينا أكثر عن تفاصيل الجائزة التي حصلتِ عليها؟
تقام في جامعة كاميرينو مدرسة علمية كل عامين تقريبًا، متخصصة في مجال الكيمياء العضوية الفلزية، وهي فرع من فروع الكيمياء التي تهتم بدراسة اتحاد بعض المركبات العضوية بذرات الفلزات المختلفة. كنت قد قدمت مشروع البحث الخاص بي للحصول على فرصة للحديث عنه، وقامت الجامعة باختياري للتحدث عن مشروعي مع مجموعة أخرى من طلاب الدكتوراة من جميع أنحاء العالم. بعدها تم الإعلان أنه سيتم منح جائزة لأفضل عرض تقديمي، وبالتالي سيكون أفضل مشروع بحثي تم تقديمه ذلك العام هو الفائز بالجائزة بعد اختيار لجنة تحكيم أوروبية للمشاريع البحثية المقدمة. في المؤتمر الدولي الثالث عشر للكيمياء العضوية الفلزية، مثلت مصر وإيطاليا في أكثر من 10 مؤتمرات دولية.
هل هناك منح أو جوائز أخرى حصلتي عليها؟
بعد التخرج من كلية العلوم جامعة الإسكندرية بتقدير امتياز مع مرتبة الشرف من قسم الكيمياء الخاصة، تم تقليدي ميدالية التفوق العلمي من معالي رئيس الجامعة ومعالي النواب وكذلك عميد كلية العلوم والسادة الوكلاء. ثم حصلت على المنحة الكاملة لدراسة الدكتوراة من جامعة ميلانو، ومحليًا التحقت بمنحة الأكاديمية الوطنية للتدريب ببرنامج المصريات بالخارج.
بعد حصولك على الجائزة.. ما المكسب من ورائها داخل الأوساط العلمية؟
نظرًا للاتجاهات الدولية لدعم الشباب الباحثين، تم دعوتي للمشاركة كمحاضر شاب في عدة مؤتمرات دولية بعد حصولي على الجائزة ونشر بعض نتائج المشروع الفائز في بحثين دوليين. وذلك كبداية في ذلك الوقت، وشجعت تلك الفعاليات جامعة ميلانو على إرسالي بمنحة خاصة لمدة أسبوع لمدينة جارانيانو الإيطالية لمحاضرة مجموعة من طلاب الدكتوراة وتدريبهم على مهارات العرض وإعداد المشاريع البحثية.
وما هي رسالة الدكتوراه؟ وهل ستقومين بنشرها في مجلة علمية أجنبية أم مصرية؟
تتكون رسالة الدكتوراه الخاصة بي من ثلاث فصول في أكثر من 300 صفحة، وتم نشر نتائجها في أكثر من 5 أبحاث دولية. سيتم نشرها على هيئة كتاب صادر عن الجامعة الإيطالية.
ما خطواتك بعد حصولك على الدكتوراه؟
ستكون الخطوة الأولى هي نقل المعرفة والتجارب من الخارج إلى مصر. بعد ذلك، سأشارك في بداية جديدة لمجموعة من الأبحاث العلمية مع زملائي في مصر، مستغلًا العلاقات التي كونتها في الخارج لتحقيق أبحاث مشتركة مستقبلًا. وبالطبع، السعي دائمًا لتطوير الذات لتحقيق الأفضل.
ما رسالتك للشباب الدارسين للكيمياء؟
إذا كنت قد اخترت دراسة الكيمياء بمحض إرادتك فمرحبًا بك في عالم لا ينتهي من المتعة! النصيحة الأهم بعد صم الأذان عن تصنيف المجتمع لبعض الفئات أو الكليات بإنها قمة أو قاع هي أن تفتش عن الكيمياء بعيدًا عن الكتب. إذا كنت بالفعل شغوفًا بما تدرسه، ستستطيع أن ترى الكيمياء في كل شيء في حياتك. قد تكون هذه النصيحة القديمة، ولكنها تحمل الكثير من الحكمة.
المصدر: بوابة الفجر
كلمات دلالية: باحثة مصرية الكيمياء جوائز أبحاث جامعة الإسکندریة تصریح الإقامة قسم الکیمیاء الکثیر من أکثر من فی مصر
إقرأ أيضاً:
جامعة السلطان قابوس في عيون الأكاديميين المصريين
تحلّ عُمان هذا العام ضيفًا عزيزًا كريمًا على مصر باعتبارها «ضيف شرف» معرض القاهرة الدولي للكتاب.
وقد أعدت وزارة الثقافة والرياضة والشباب العمانية لهذه المناسبة برنامجًا ثقافيًّا حافلًا شارك فيه الكثير من الأساتذة المصريين والعُمانيين، ولقد تلقيت دعوة كريمة للمشاركة في فعاليات هذا البرنامج من وزارة الثقافة والرياضة والشباب العمانية، ومن سعادة عبدالله الرحبي سفير سلطنة عُمان لدى جمهورية مصر العربية الذي بذل جهدًا كبيرًا في الإعداد لهذه الفعاليات والإشراف على كل تفاصيلها.
وعلى الرغم من اعتذاري عن المشاركة في ندوات عديدة بالمعرض (نظرًا لانشغالاتي العلمية)، إلا أنني لا أستطيع الاعتذار عن أية فعالية تخص عُمان تحديدًا (نظرًا لمكانتها العزيزة في نفسي مثلما هي في نفوس كل من عرفها أرضًا وشعبًا). دعم هذه الفعاليات وشارك في احتفالياتها معالي الدكتور عبدالله الحراصي وزير الإعلام ووزير الإعلام السابق د.عبد المنعم الحسني ومعالي وزير الثقافة المصري د.أحمد هَنو، ووزير الثقافة الأسبق د.صابر عرب، فضلًا عن العديد من السفراء والمسؤولين والشخصيات العامة وكبار المثقفين.
عنوان الندوة التي دُعيت للمشاركة فيها - بصحبة أساتذة مرموقين من العاملين بجامعة السلطان قابوس منذ سنوات طويلة - هو: «عُمان في عيون الأكاديميين المصريين»؛ وقد ذكر أحد الأساتذة المشاركين أن عنوان الندوة كان أوْلَى أن يكون «جامعة السلطان قابوس في قلوب الأكاديميين المصريين»، باعتبار أن كل من عمل في هذه الجامعة قد ارتبط بها وجدانيًّا قبل أن يرتبط بها عقليًّا ومعرفيًّا، وهو محق في قوله؛ لأن أول ما يستولي عليك عندما تطأ أرض عُمان وتتعامل مع أهلها هو مشاعر التعلق والإعجاب بسحر طبيعتها الفريدة، وبأخلاق أهلها الرفيعة التي تتجلى أول ما تتجلى في الطيبة والتواضع وهدوء الطبع، وهذا ما عرفته وعايشته من واقع عملي بجامعة السلطان قابوس، ومن خلال خبرتي في التعامل مع المسؤولين والطلبة والمواطنين.
كنت من الجيل الأول الذي عمل بهذه الجامعة بصحبة رفاق من الأساتذة بكليتي الآداب والتربية، أذكر منهم على سبيل المثال (مع حفظ الألقاب): صابر عرب وأحمد درويش، وشاكر عبد الحميد وهاني مطاوع (رحمهما الله). كان العاملون بهيئة التدريس من العمانيين قلة قليلة، وكان أغلبهم من المصريين، ولم يكن هناك من الأجانب سوى أولئك الذين عملوا بقسم اللغة الإنجليزية خاصةً، بينما كانوا كثيرين في الكليات العملية.
وقد كان هذا الوضع طبيعيًا آنذاك، فقد كانت الجامعة في بدايات نشأتها؛ أما الآن فقد أصبحت الجامعة عامرة بكوادر علمية من العمانيين.
تمتاز جامعة السلطان قابوس ببنية أساسية قوية من حيث المباني السكنية والمنشآت الجامعية والمرافق التابعة، فضلًا عن الخدمات والوسائط التعليمية. توفر الجامعة للأساتذة والطلبة سكنًا مريحًا ولائقًا داخل الحرم الجامعي الواسع، وتوفر لهم وسائط المعرفة، فضلًا عن وسائل التعليم والتدريس المتنوعة.
أول ما لفت نظري هو أن قاعات الدروس كانت تضم الطلبة إلى جانب الطالبات، على العكس مما هو شائع في جامعات الخليج (على الأقل آنذاك)؛ وهذا يدل على أنه كانت هناك رؤية منفتحة مبكرة في فهم العملية التعليمية. ومما لفت نظري بمرور الوقت أن الطلبة العُمانيين نابهون ومتطلعون إلى المعرفة بشغف، وقد لمست ذلك أيضًا من خلال خبرتي التدريسية بالخليج عمومًا.
ولا شك في أن جامعة السلطان قابوس قد ازدهرت وتطورت بمرور السنين، حتى أصبحت تحتل مكانًا مرموقًا بين الجامعات العربية. ومع ذلك، فإن هذه الجامعة قد عانت مثلما عانت بعض الجامعات العربية من بعض التوجهات الضارة بالعملية التعليمية في مجملها. وسوف أكتفي هنا برصد مسألتين أساسيتين في هذا الصدد:
المسألة الأولى تتمثل في غلبة التوجه الإحصائي أو ما يُعرف بالمنهج الكمي quantitative method في عملية البحث والتدريس، وفي عملية التقييم أو قياس العملية التعليمية (أو ما يُعرَف باسم «الجودة»). وبذلك يتم إهمال ما يُعرَف بالمنهج الكيفي qualitative method الذي يهتم بمحتوى أو مضمون ما يتم تقييمه؛ لأن ما يُقاس ليس مجرد أعداد وأرقام وبنية شكلية لاستمارات يتم استيفاؤها. وفضلًا عن ذلك فإن المنهج الكمي في تدريس العلوم الإنسانية قد يكون غير كافٍ أحيانًا، بل إنه لا يكون ملائمًا لدراسة الظواهر التي تدرسها بعض العلوم الإنسانية.
المسألة الثانية أكثر خصوصية، ولكنها لا تقل أهمية؛ لأنها تتعلق بخطورة تهميش مكانة الفلسفة وأهميتها بالنسبة للعلوم الإنسانية والعلوم العملية أيضًا.
حينما كنت أعمل بكلية الآداب، كان هناك قسمان تابعان لقسم الفلسفة، أحدهما بكلية الآداب والآخر بكلية التربية؛ ولكن بعد أن غادرت عُمان بسنوات عديدة تم إغلاق قسم الفلسفة، واقتصر حضور الفلسفة على القليل جدًا من مقررات الفلسفة. وهذا يعني أن الصورة الذهنية عن الفلسفة هي صورة سلبية تغفل ضرورة الفلسفة بالنسبة إلى العلوم الإنسانية كافةً، ويكفي القول هنا بأن مقرر مثل «علم الجمال» يُعد ضروريًّا لسائر الأقسام التي تدرس الآداب والفنون والنقد.
وعلى نفس النحو ينبغي أن ننظر إلى مقرر مثل «مناهج البحث الفلسفي» الذي يمتد تأثيره المباشر إلى سائر العلوم الإنسانية، وإلى مقرر مثل «التفكير الناقد» الذي ينبغي أن يدرسه كل طالب جامعي.
ولذلك فإن ضرورة الفلسفة تمتد أيضًا إلى كثير من العلوم العملية، ويتمثل ذلك في مقررات عديدة، من قبيل: «فلسفة البيئة» من حيث جمالياتها وأخلاقياتها، و«علم أخلاق الطب»، و«علم أخلاق المهنة» و«أخلاقيات التكنولوجيا»، و«علم جمال المعمار»، إلخ. ولذلك، فإني أتمنى من إدارة الجامعة والقائمين على العملية التعليمية إعادة النظر في أمر الفلسفة.
وأنا لا أقول ذلك كله إلا بدافع محبتي لهذه الجامعة التي أحمل لها ذكريات ومشاعرَ عميقة، ورغبةً مني في أن تواصل هذه الجامعة ازدهارها وتألقها بين الجامعات العربية.